يتميز المفهوم الاشتراكي للعملية الثورية بخاصيتين أساسيتين لخصهما رومان رولاند في شعاره: “تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة”.
أنطونيو غرامشي، “النظام الجديد” (1920)
يعطينا فرانز فانون، الطبيب النفسي المارتينكي الذي خدم في مستشفى جزائري خلال الحرب الفرنسية الجزائرية، في كتابه “السنة الخامسة من الثورة الجزائرية” (1959) دراسة عن كيف يمكن لجماعة “السكان الأصليين” التي تسعى إلى الاستقلال أن تستحوذ على العناصر والممارسات التي كانت تستخدمها السلطة الاستعمارية في السابق. ويصف كيف استحوذ الجزائريون على الأجهزة التي بدأت كأدوات للقمع الفرنسي، مثل الراديو أو العيادات الطبية أو الأجهزة المعنية بإنفاذ القانون، وحولوها لخدمتهم في الحرب ضد الفرنسيين. وعندما تلاعبت أو استغلت القوى الاستعمارية الصيغ داخل الثقافة المحلية، مثل عادات النساء بارتداء الحجاب أو الهيكل الأبوي للأسرة الجزائرية، كان الجزائريون قادرين على إعادة تعريف معناها وممارستها بشكل مختلف، من أجل أن يجعلوا أنفسهم أقل ضعفاً أمام الحكم الفرنسي ويناضلوا بشكل أكثر فعالية ضد الاستعمار الفرنسي.[1] ويشرح فانون على سبيل المثال أنه حتى عام 1945، كان الراديو يمثل صوت المحتل – فرنسيون يتحدثون إلى فرنسيين – نظام من الإشارات يقصي تماماً الجزائريين. إلا أنه مع تطور النضال الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي، بدأ الجزائريون بالاستماع إلى التقارير الإخبارية الفرنسية من أجل معرفة تقدم الثورة. ومن بين محاولات التلفيق والتشويه من جانب الإذاعات الفرنسية، كان الجزائريون قادرين على قراءة إلى أي مدى يشعر المحتلون بالتهديد. وأصبح الراديو وسيلة لقياس “الاستعمار المحتضر”؛ وأصبح من الضروري على الجزائريين أن يبقوا على إطلاع على كل من الخسائر الفرنسية وخسائرهم. وبحلول عام 1956، كان الجزائريون من جميع المستويات الاقتصادية يشترون أجهزة استقبال الراديو؛ وفي الواقع أصبح الاستماع إلى الراديو – حتى عندما تم التشويش على الأطوال الموجية التي اعتمد عليها الجزائريون، وكان من المستحيل سماع أي شيء غير السكون – مؤشر على الالتزام الجزائري بالثورة نفسها.
حددت في الفصول السابقة لحظات التقاطع والصراع وتعددية القيم والتنافر التي تعكس تباين التضاريس الاستشراقية. وكان رأيي طوال ذلك أن هذه اللحظات تمثل ضعف التكوينات الاستشراقية. وعلى الرغم من أن هذه القراءات للحظات الاستشراق غير المستقرة توفر نقطة انطلاق لصياغة المقاومة، إلا أن المرء يجد من بين منظري خطاب إنهاء الاستعمار والتبعية والنسوية والأقليات مناقشات أكثر وضوحاً وإيحاءاً لاحتمالات معارضة الهيمنة الثقافية وتحويلها. من خلال إبرازه لمواقع الانشقاق والمساحات الناشئة للمضطهدين، يقدم نص فانون أمر صريح بطريقة لا تقدمها فكرة فوكو عن الهيتروتوبيا (الانتباذ الفضائي)؛ أي أن سرده يجعل من الواضح مساحات الغيرية في التضاريس الاجتماعية التي يمكن منها صياغة التدخلات التحويلية. ويؤسس وصف فانون للتحليل الأدبي والنظري من خلال التركيز على ممارسات الانشقاق الصريحة التي تؤدي إلى تغييرات كبيرة في الهيمنة الاستعمارية القائمة، ومن خلال التأكيد كذلك على أن المواقع الاجتماعية والخطابية للانشقاق ذات أهمية قصوى في تفكيك الاستعمار. ويوضّح وصف التكييف الجزائري للراديو بشكل ملحوظ المبدأ الذي ناقشناه طوال ذلك، وهو أنه يمكن تحقيق التحولات الثقافية من خلال الاستحواذ على العناصر أو الممارسات الثقافية القائمة وإعادة صياغتها، لأن هذه العناصر والممارسات تقدم مدلولات مختلفة اعتماداً على السياق الاجتماعي وعلى ما إذا كان يتم صياغتها من خلال علاقات التمثيل السائدة أو الناشئة. وعلاوة على ذلك، فإن إدخال عنصر إلى ممارسة جديدة لا يؤدي ببساطة إلى تغيير معنى العنصر، مثل كون الراديو يدل في البداية على وجود المستعمرين الفرنسيين وفي النهاية على وجود الالتزام الجزائري بالثورة. حولت أيضاً ممارسة الجزائريين الاستماع إلى الراديو بناء المعنى نفسه في ظل الاستعمار الفرنسي، والطرق التي كان يرتبط بها المعنى بالعناصر؛ أي أنها زعزعت الاتصال الآمن سابقاً بين العناصر الفرنسية والحكم الفرنسي. ويقدم فانون مثال عملي وتاريخي عن كيف يشكل النضال من أجل المعنى في الخطاب جزءاً لا يتجزأ من النضال من أجل الهيمنة. ويمكن للمرء أن يرى كيف تجسد الحوارات بين الباحثين الهنود والأنجلو-أمريكيين التي ناقشناها في الفصل الرابع نضالاً مماثلاً بنيوياً، وإن لم يكن مادياً، من أجل المعنى. ومن خلال إدعاءاتهم المختلفة بالحق في تفسير رواية فورستر، وأخيراً في تحديد أهمية الهند، فإن الباحثين الهنود يستحوذون على العناصر والممارسات في الخطاب الاستعماري ويعيدون صياغة نظام من الإشارات كانت يستبعدهم في السابق.
مثل فانون، فإن مجموعة دراسات التابع، وهي مجموعة من المؤرخين الهنود المعاصرين، تهتم أيضاً بالموضعية أو مسألة من أين تتم التدخلات في السرديات “الرسمية”، ومن هذا المنطلق فإنهم يمدون المناقشة الحالية للاستشراق على أنها تضاريس خطابية متباينة. ومع ذلك يدور اهتمام مجموعة دراسات التابع بمشكلة التبعية في ساحة أكثر نصية من فانون من حيث كون مشروعهم تأريخي. بعد أن تناولوا مفهوم غرامشي للتبعية بوصفها الطبقات التي لا يمكن تحديد ممارساتها إلا عند النظر إليها من خلال الإدراك التاريخي المتأخر، استهدفوا الطريقة ووجهة النظر والمواد التي يتم بها رواية تاريخ الاستقلال الهندي كحلبة للاعتراض. وفي سياق تأريخ القومية والاستقلال الهنديين، اعتبروا أن “التبعية” تعني ليس فقط أوضاع الهنود في مواجهة الإمبرياليين البريطانيين، لكنها بشكل أكثر تحديداً، تعني دور جماهير الفلاحين وفقراء المدن الهنود، الذين لم تحظى مظاهراتهم في المقاومة بنفس الاحتفاء الذي حظيت به تلك التي قامت بها النخبة الهندية، والذين كانت وسائلهم في صياغة المقاومة ضد الحكم البريطاني في الواقع مختلفة تماماً عن وسائل الملاك والقوميين البرجوازيين الهنود. مشروع مجموعة دراسات التابع هو إعادة كتابة تاريخ استقلال الهند من وجهة نظر هذه الجماهير المتمردة التي لا صوت لها في تحدي للسرديات التاريخية التي تضع إما النخب الهندية أو المستعمرين البريطانيين كموضوعات أساسية للتاريخ. تروي تواريخ المجموعة لحركات تمرد الفلاحين وثورات العمال بعضاً مما ينقصنا في التاريخ الرسمي. فهم يطعنون في السلطة الكلية لتواريخ النخبة ويؤكدون، كما يؤكد ديبيش شاكرابارتي، على أنه “يمكن قراءة وثائق الطبقة الحاكمة التي كثيراً ما تُستخدم لإعادة البناء التاريخي لظروف الطبقة العاملة من أجل ما تقوله ومن أجل ’ما تصمت عنه‘ “[2]. وهكذا يعيدون تكوين نسخ أخرى من التاريخ من جوانب “الصمت” هذه، وكذلك من خلال إعادة قراءة المواد التاريخية مثل الرسائل أو محفوظات الدولة أو تقارير الصحة العامة أو كتيبات المقاطعات أو ملفات وزارة العمل بطرق تسترشد بالانتباه إلى جوانب الصمت هذه. وتعمل مداخلاتهم على كشف وإزاحة الأيديولوجية الاستعمارية من السرد التاريخي الرسمي.
ومع ذلك، من الجدير بالذكر أن التبعية، في وصف غرامشي، غير مغلقة ومرحلية وجاري العمل عليها؛ فالجماهير التابعة وتواريخها، بحكم التعريف، لا يمكن تثبيتها وسردها. مثل المكون المسيطر في عملية الهيمنة الذي ترتبط به ارتباطاً وثيقاً، فإن التبعية دائماً في طور النشوء وفي حالة تغير مستمر. وبقدر ما تفرض بعض سرديات هؤلاء المؤرخين الراديكاليين ذات متمردة في التاريخ بينما يرسمون تقدم الطبقة العاملة أو جماهير الفلاحين، فإنهم، مثل المؤرخين الرسميين، يخاطرون بتقليص التبعية والاستحواذ عليها. لإن علملية السرد تمحو وتستبدل حتماً الخصائص غير القابلة للتعبير عنها نصياً من المادة التاريخية للتابع. لهذا السبب بعض مؤرخي مجموعة دراسات التابع متشككون من السرديات السلسلة والموضوعات الماهوية (مثل “هندية وجهة نظر السكان الأصلييين” التي يطرحها فاسانت شاهان)، ويفضلون تقديم التاريخ على أساس النضالات والتناقضات حتى لا تستحوذ تواريخهم على عوامل صراعات التابع أو تحيدها. وﻳﻌﺘﺒﺮ ﺁﺧﺮون أن طرح ذات تابعة قد يكون إصلاحاً ضرورياً وإﺳﺘﺮاﺗﻴﺠﻴﺎً للتبعية ﻷﻏﺮاض ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ من حيث إﻃﻼق ﻧﻘﺪ للتاريخ الرسمي وبنيات الإقصاء فيه. في تحليله للرموز السيميائة للخطاب الاستعماري، “نثر مكافحة التمرد”، يبرز راناجيت غوها هذه المعضلة، موضحاً أنه حتى تاريخ التمرد، مثل التأريخ الاستعماري، “يقصي الثائر بوصفه الذات الواعية بتاريخها الخاص”، حيث يحل “تجريد يُسمى عامل-و-فلاح، في نموذج مثالي بدلاً من الشخصية التاريخية الحقيقية للمتمرد” محل القوى الثائرة المحددة، بصراعاتها وتناقضاتها.[3] ومع ذلك، فإن غوا يدافع في النهاية عن الأهمية السياسية لطرح مثل هذا النموذج المثالي، وعلى الضرورة الإستراتيجية لإدراج النموذج المثالي في تسلسل زمني مُشيد لغرض من استبدال السرد الرسمي والهيمنة الأيديولوجية التي يمثلها.
تشرح غاياتري سبيفاك بشكل أكبر “الاستخدام الاستراتيجي لماهوية إيجابية في مصلحة سياسية واضحة بدقة”. وتوضح سبيفاك أنه إذا كان تمثيل الذاتية التابعة “استراتيجياً”، وإذا كان يتم طرح مثل هذه الذاتية بينما يعترف المرء في الوقت نفسه أن التبعية من حيث التعريف دائماً غير مستقرة ومتنافرة مع المشروع السردي لأي مؤرخ، فإن هذا يحقق “تفكيكية مؤكدة”. وعلى النقيض من ذلك، إذا كان “المؤرخ ينظر إلى استرجاع موقف التابع الذاتي في التاريخ على إنه تأسيس لحقيقة نهائية للأشياء، فإن ]عملية الاسترجاع هذه[ ستسطح حتماً من وضع التابع، وتقع في مصيدة لعبة المعرفة كقوة.”[4] تٌدخل ممارسة الماهوية الاستراتيجية إذن بوصفها “تفكيكية مؤكدة” مجموعة متنوعة من الذوات المتمردة في الخطاب التاريخ، وفي نفس الخطوة تضع هذه المدخلات مجازياً ما بين قوسين وتلغيها. ومن خلال وضع التبعية-كجوهر بين قوسين وطمسها، فإن الإشارة نفسها التي من خلالها يستدعي المؤرخ الذات التابعة للوجود بدورها تضعها موضع تساؤل. وتحقق هذه الإشارة صياغة للهوية التابعة كنقطة معارضة للهيمنة الثقافية ولكنها تتجنب تقليل أو إضعاف حالة النشوء المستمر للذات التابعة. ومن خلال إدخال مجموعة من الذوات المختلفة وكتابة تواريخ نضالاتها – حركات الفلاحين وثورات العمال – تضاعف الماهوية الاستراتيجية أيضاً من تضاريس تاريخ الانشقاق، طارحةً الذوات من دون تفضيل فردية أو مركزية أي منها.
لا تختلف العلاقة الإشكالية لمؤرخ التابع بالتبعية عن علاقة القراء الناقدين للاستشراق بالتصنيف النقدي للغيرية، وفي الواقع مناقشة سبيفاك للماهوية الاستراتيجية منورة لمناقشتي حول إعادة بناء الاستشراق. كما أن إدراج مؤرّخ التابع لذات تابعة في السرد التاريخي يخاطر بتقليص التبعية وتحويلها إلى مصدر هوس، فإن المشكلة الخطيرة الخاصة بإزالة الغموض عن الإدارة الخطابية وإنتاجية الغيرية محفوفة بمشاكل مشابهة. لإنه إذا كانت مهمة المرء في جزء منها تحديد الغيرية المبنية، فإنه يجب أن يحرص على القيام بهذا التحديد دون أن يعيد التأكيد، في تحليل الصياغة، على أدوات الإدراة والإقصاء، ودون أن يفرط في تحديد مثل هذه الغيرية وفقاً للبنيات والقواعد نفسها التي يرغب في استبدالها. تشير ممارسة الماهوية الإستراتيجية إلى أنه من الممكن أن يطرح المرء بعض المفاهيم الماهوية المحددة تاريخياً ونصياَ للغيرية – على سبيل المثال، الشرق والمرأة والفقراء والمُستعمًرين – من أجل تحدي الخطاب الذي ينتج مثل هذه المفاهيم، بينما مع ذلك يضع مفهوم الغير قيد الشطب لضمان أن هذه الماهوية لن يتم إعادة إنتاجها ونشرها بفعل هذه المجهودات نفسها الموجهة لنقد استخدامها.
لا يمكن التقليل من أهمية أن تأتي واحدة من أهم صياغات التبعية من غاياتري سبيفاك، كونها منظّرة لا تهتم أعمالها على وجه الحصر بنقد التابع لكنها تهتم بدلاً من ذلك بتنظير ارتباط مناهضة الاستعمار والتفيكيك والماركسية والنسوية. وفي هذه اللحظة بالذات من تاريخ النظرية، أعتقد أن النظرية النسوية تحتوي أكثر التحليلات إيحائية لمشكلة الموضعية والتقاطع وتعددية القيم.[5] وأنا أشير هنا إلى المشاريع النسوية – بالإضافة إلى مشاريع سبيفاك مشاريع ترينه تي. مينه-ها أو دونا هارواي أو إيفلين ناكانو غلين – التي لا ينصب تركيزها حصرياً على مواضيع المرأة والجندر والجنسانية، لكن تتناول قضايا مثل الفقر والطبقية والعنصرية والاستعمار بوصفها قضايا نسوية بمعني أن انتقادات الاضطهاد وإقصاء العمال والرجال والنساء من ذوي البشرة الملونة والشعوب المُستعمَرة يُنظر إليها على أنها متطابقة مع انتقاد التمييز الجنسي وداخلة فيه. هذا النوع من النظرية النسوية هو الأقل تقييداً، وربما الأكثر قدرة – بين نماذج التحليل الأخرى، مثل الماركسية أو مناهضة الاستعمار أو التحليل النفسي – على تعليل وتنظير التباين بقدر ما تعتبر فئة من الفئات المميزة – الجندر – تمثيل قوي للذاتية البشرية، وفي نفس الوقت لا يمكن فصلها عن التصنيفات الأخرى مثل الطبقة أو العرق أو الجنسية.
بعض المنظرين النسويين الذين يتناولون مسألة التشكيلات الخطابية المتقاطعة يقومون بذلك من خلال مناقشة الذاتية الجندرية، أو تعددية العلاقات الاجتماعية التي يتم عبرها بناء ذات معينة أو إكسابها دلالة. ويفترض هؤلاء المنظرون فرضية أساسية مفادها أن الجندر كتصنيف اجتماعي لا ينتج بشكل منعزل؛ بل بالأحرى ترتبط صياغته أيضاً دائماً ببناءات العرق أو الطبقة أو الطائفة أو الجنسية، وما إلى ذلك. وتُنظّر تيريزا دي لوريتيس، على سبيل المثال، بأن الذاتية الجندرية هي على حد سواء بناء نشط وتفسير سياسي لتاريخ المرء يُعالج عن طريق الوساطة خطابياً.[6] بالنسبة إلى دي لوريتيس، فإن جميع الذوات إنتاجات سيميائية، نتيجة وشرط للإنتاج الاجتماعي للمعنى على حد سواء. وبناء الذاتية دائماً في طور العمل عليه، من حيث أن كل موقف للجدلية – مجموعة الممارسات التي تسميها “تجربة” ومجموعة العلاقات الاجتماعية – تتحول وتتغير مع إكتساب الذات للدلالة. في “تكنولوجيات الجندر الجنسي” (1987)، تشرح دي لوريتيس وصفها للذات الجندرية بأنها “متعدد”، كونها ذات عرقية وإثنية وتحددها الطبقة في نفس الوقت: “الفهم النسوي: أن الذات الأنثوية تكتسب جندر وتُبنى ويتم تعريفها جندرياً عبر تمثيلات متنوعة من الطبقة والعرق واللغة والعلاقات الاجتماعية؛ ولذلك فإن الاختلافات بين النساء هي اختلافات داخل النساء، وهذا هو السبب في إمكانية وجود النسوية على الرغم من أن هذه الاختلافات، بينما نبدأ للتو في فهمها، لا يمكنها أن تستمر في الوجود من دونها.”[7] الذات التي تُنظّر لها نسوية دي لوريتيس وتتصورها على أنها متنوعة، بدلاً من أن تكون مقسمة أو موحدة، ليست فقط ذات-يجري-العمل-عليها، لكن الأهم من ذلك أنها ذات تشغل مواقع اجتماعية مختلفة بشكل واضح في اللحظات المختلفة، وفي بعض الأوقات مواقع متعددة في نفس الوقت. ولإنه يجري نحتها بشكل متعدد فإن الذات التي تُنظّر لها دي لوريتيس تظل غير محددة بأي أداة خطابية واحدة؛ وبفضل تعدديتها، لا يمكن أن تتم الإحاطة بهذه الذات بشكل كامل لإنها تتجاوز التشكيلات الخطابية السائدة، وهي دائماً داخل وخارج الأدوات التي تنحت أي تصنيف معين، مثل نوعها الجنسي وعرقها وطبقتها.
هذا يشير إلى آثار سياسية تتجاوز الاهتمام الأضيق بإزالة ماهوية الهوية الأنثوية، أي أن الذوات التي يتم تصورها على أنها تُبنى بشكل متعدد قادرة على القيام بنطاق واسع من الالتزامات. قد تعمل، على سبيل المثال، في وقت من الأوقات من أجل القضايات النسوية، بينما تعمل في أوقات أخرى من أجل المجموعات العرقية أو الأثنية، أو الاتحادات العمالية، أو في النشاطات المعادية للاستعمار أو المناهضة للحرب. إن فكرة وجود ذات تمثل نقطة تقاطع لتعددية التناقضات الاجتماعية يمثل رمزياً إمكانية وجود موقع تنضوي فيه الحركات المختلفة المناهضة للهيمنة، ومن خلاله يمكن للمجموعات والقطاعات المتنوعة أن تتعاون لتشكيل “كتلة تاريخية جديدة”. وفي هذا الصدد، شرح مُنظّرو سياسة التحالف وخطاب الأقليات في أوروبا والولايات المتحدة فكرة غرامشي من أجل تعريف جدول أعمال مشترك يمكن أن يجمع بين الأقليات المتباينة – المجموعات العرقية والإثنية والنساء وشعوب ما بعد الاستعمار – الذين يعانون من التهميش السياسي والمادي فيما يتعلق بالمؤسسات المهيمنة.[8] وعلاوة على ذلك، فإن مفاهيم الذاتية الهجينة وتحالفات الأقلية لا تصيغ فقط مواضيع تباينية للمصالح المناهضة للهيمنة، لكنها تصيغ أيضاً بطريقة أكثر استراتيجية تباينية “الجبهات” المحتلفة التي تجري فيها نضالات السياسة الثقافية والنسوية ومناهضة الاستعمار – الجوار ومكان العمل والجامعة وخط الاعتصام – وضرورة عدم تمييز موقع أو نضال محدد على حساب استبعاد أو قمع المواقع أو النضالات الأخرى.
يمثل كل من فانون ومجموعة دراسات التابع والمناقشة النسوية للتعددية نظريات ما بعد الاستعمار للمقاومة التي تحدد سياق معاني عدم الاستقرار الخطابي الذي تم تعريفه في الفصول السابقة من خلال تقديم أمثلة تشكل فيها تعددية القيم والتباين قواعد للتحولات المهمة في صور الهيمنة السائدة. ويكتب مُنظّري ما بعد الاستعمار من مواقع مختلفة عن السياقات الأوروبية للمنظرين فوكو وغرامشي اللذين أفتتحت مناقشتي للاستشراق بهما، وبهذا يصفون أعراض الخاصية “الهيتروتوبية” للتضاريس الخطابية. ويقدم وصف فانون للمعنى متعدد القيم للراديو خلال الحرب الفرنسية-الجزائرية مثال تاريخي ومادي حول كيف أن الاستحواذ على وإعادة صياغة العناصر والممارسات، التي ناقشناها بمصطلحات نصية في الفصول السابقة، يمكن أن يغير بنية وتوزيع القوة. فمثال الراديو يبرز أكثر أهمية المواقع السياسية والجغرافية لهذه الممارسات المعارضة. وتعددية قيم الإشارات تؤكد عليه أيضاً جماعة دراسات التابع. وتشير ممارسة الماهوية “الاستراتيجية” التي وصفها غوها وسبيفاك إلى أنه من الممكن تشكيل مؤشرات الغيرية، مثل الهندية، لغرض زعزعة الخطاب الذي يقصي الهنود بوصفهم الآخر وفي نفس الوقت كشف التناقضات والاختلالات الداخلية في “الهندية” حتى نضمن أن مؤشر الهندية لن يتم إعادة الاستحواذ عليه من خلال الجهود نفسها التي تسعى لانتقاد استخدامه. وفي ضوء المناقشة في الفصل الرابع للبناءات المختلفة للهندية التي نشرها النقاد الأنجلو-أمريكيون والهنود، يمكن اعتبار تفكيك غوها وسبيفاك “للتبعية” تأسيساً لمناقشة ثالثة أكثر معاصرة حول “الاختلاف” الهندي، وهي مناقشة تقدم تعليق نقدي على ممارسات نقاد من أمثال شاهان الذي يتدخل في الخطاب الإنجليزي تحت إشارة الهندية. وبهذا المعني يمكن للمرء رسم خريطة لسلسة من المواقع المتباينة التي تكون فيه الهندية كاختلاف مجاز مؤسس، بداية من التمثيل البريطاني للهندية كآخر خاضع ومن ثم النقاد الهنود الذي يقترحون تقليد مضاد يسمى الهندية، ومن ثم في لحظة أكثر حداثة نقاد مثل سبيفاك وغوها الذين يعترضون على وجود فكرة ماهوية للهندية.
يفترض النقاش النسوي حول تعددية القيم والموضعية أنه نظراً لأن الذوات هي مواقع لمجموعة متنوعة من العلاقات الاجتماعية، فإن الترابط والصراع بين النقوش المختلفة يقدمان فرصاً سياسية فريدة لزعزعة استقرار قوة أي نقش معين. ونظراً لأن موقع أي نص ثقافي تتقاطع فيه أيضاً تمثيلات متعددة وغير متساوية، فإن تفسيراتي ركزت على هذه المواقع المتباينة داخل الاستشراق الفرنسي والبريطاني التي زعزعت فيه استقرار بنيات الشرق كآخر التمثيلات المتقاطعة والمتضاربة في النص نفسه أو في الحوارات بين النصية أو من التكوينات الخطابية الأخرى. في كتاب “خطابات السفارة التركية” للسيدة ماري ورتلي مونتاجو، يقدم كل من خطاب نسوي يعود إلى القرن الثامن عشر وخطابية عن امتياز الطبقة الإنجليزية تحديات خطابية للتقليد السابق في كتابة الرحلات الاستشراقية التي تعود إلى القرن السابع عشر. وتتحدى تعددية البؤر لأدب الرسائل والسرديات المتضاربة حول العبيد والزوجات إطار العمل الاستشراقي في رواية مونتيسكيو “رسائل فارسية”. وتساهم المحاكاة الساخرة وتعددية القيم في أعمال فلوبيرت في القرن التاسع عشر أيضاً في نقد الاستشراق على أنه عاطفة ارتدادية في “التربية العاطفية”.
تحدث لحظات التباين في الخطابات النقدية كذلك، ولقد وضحت هذه اللحظات من عدم الاستقرار الخطابي في الحوارات بين النقاد الأنجلو-أمريكيين والهنود، وكذلك في اللحظة الاستشراقية ما بعد الاستعمارية لكريستيفا وبارت ومجلة “تيل كويل”. وفي هذا المثال الأخير، تم الاستحواذ على المجازات متعددة القيم للشرق بوصفه الآخر، وإعادة صياغتها في السبعينيات من قبل اليسار الفرنسي، الذي اعتبر الصين الآخر الثوري. وعلى الرغم من أن السيميائية، والماوية الفرنسية، والتحليل النفسي قد نشروا هذا المجاز من أجل انتقاد أدوات معينة للسلطة، إلا إن استخدام التشكيل الاستشراقي أيد بالضرورة الكثير من المنطق والعلاقات التي أراد منظرو “تيل كويل” الإطاحة بها. وقد اقترحت أن هناك الكثير لتعلمه عن لحظتنا النقدية المعاصرة من هذا المثال على الخطاب الاستشراقي. ونفهم منه أن تعددية القيم أو التباين في حد ذاته لا يضمن بأي حال من الأحوال تحوُّل الوضع الراهن، وأن المنطق الاستعماري مستمر على الرغم من إنهاء الاستعمار، وعلاوة على ذلك، فإن الخطابات النظرية ليست منيعة على هذا المنطق.[9]
بهذا المعنى، يعتبر النظر في التباين والتناقض حاسماً أيضاً بالنسبة للإطار الذي يتم فيه تنظير مواقف ومسؤوليات النقاد. ويجب ألا يقتصر مفهوم العمل الفكري على استنساخ وترديد الإرث السابق للصياغة النقدية الأدبية. بدلاً من ذلك، يجب تحويل النقد الأدبي والثقافي إلى مواقع حيوية من الصراع المُنتِج والتخيلي بين الصيغ والمواقف المختلفة. وقد لا تكون البيانات الجديدة كافية، لإنه على الرغم من أن بعضها قد يغير النماذج المقبولة سابقاً، إلا أن البعض الآخر سوف يتم تحييده ولن يكون له سوى قدر ضئيل من التأثير التحويلي. لذلك، يمكن اعتبار أن قوة البيانات في تغيير ترتيبات ثقافية معينة قد لا يكون بالضرورة بسبب جودة أو مضمون متأصلين فيها، وقد لا يكون دائماً حتى النتيجة الحصرية لشكل البيان. بدلاً من ذلك، يمكن أن تكون المفردات الفردية أقل مقاومة للاستحواذ بقدر ما تكون غير مرتبطة بتحديات أخرى للسيطرة، وبقدر ما تكون النظريات المرتبطة بمجموعة متنوعة من الأفعال والممارسات أقوى من تلك غير المرتبطة. أو بعبارة أخرى، عندما يربط المفكرون بين الاهتمامات النظرية والأفعال داخل الجامعة وخارجها – عندما تُعتبر النسوية ومناهضة الاستعمار مختلفة لكن مرتبطة، وعندما لا تكون الغيرية ماهوية لكن تفسر على أنها مؤشر متعدد القيم يجعل العلاقات المختلفة للقوة ممكنة عند لحظات تاريخية مختلفة – عندها يمكن لهذا العمل النقدي أن يساهم في بناء الضغوط والمقاومة ضد الصوت الواحد وتكميم الأفواه.
المصدر: الفصل الأخير من كتاب (Critical Terrains: French and British Orientalisms)
[1] للاطلاع على تحليل نسوي لمناقشة فانون للمحاولة الفرنسية لرفع الحجاب عن النساء الجزائريات، راجع فصل وينفريد وودهل “كشف النقاب عن الجزائر”، في كتابه “الجنسان” (1991 ؛ تحت الطبع).
[2] ديبيش شاكرابارتي، “شروط لمعرفة أحوال الطبقة العاملة”، في كتاب غوها وسبيفاك “دراسات مختارة للتابع”، صفحة 179. شاكرابارتي والمؤخرون الراديكاليون الآخرون لمجموعة دراسات التابع ممثلون في هذا الكتاب.
[3] راناجيت غوها، “نثر مكافحة التمرد”، في كتاب غوها وسبيفاك “دراسات مختارة للتابع”، صفحة 77.
[4] غاياتري سبيفاك، “دراسات التبعية: تفكيك التأريخ” في كتاب “في عوالم أخرى”، الصفحات 205، 207.
[5] من الواضح لأي قارئ للنظرية النسوية أن ما أشير إليه بالنسوية لا يمثل إيديولوجية أو جدول أعمال أو منهج متجانس، على الرغم من أنها تشمل – على سبيل المثال لا الحصر – النظريات والممارسات التي تتناول وضع وبناء النساء في عدد من الساحات: الاجتماعية والثقافية والأدبية والاقتصادية والتاريخية. حيث تتنوع الاهتمامات النسوية من النضال من أجل الحقوق الإنجابية، إلى مناقشات التحليل النفسي حول الاختلاف الجنسي، إلى إعادة كتابة التاريخ فيما يتعلق بكون النساء محركات للتاريخ، إلى انتقادات الجندرية الضمنية للتخصصات الأكاديمية ومجالات المعرفة، إلى نظريات الجوانب الذاتية المثلية والسحاقية، إلى دراسات المساحة المنزلية النسائية في الرواية. ومع ذلك، فإن الاهتمام النسوي موجه أيضاً نحو تأنيث الفقر، وتركيز النساء من ذوات البشرة الملونة في العمل المنزلي ووظائف الخدمات، وأوضاع النساء في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وهكذا، فإن النسوية جديرة بالملاحظة من حيث الدرجة التي نظرت بها واستوعبت أن الجندر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمضامين الطبقة والعرق والجنسية، ربما لأنه من الواضح أن العديد من النساء فقيرات وعمال ومن أعراق مختلفة ومُستعمَرين.
[6] تصف تيريزا دي لوريتيس مشروعها بهذه المصطلحات في مقالتها “جوهر المثلث أو، أخذ خطر الماهوية على محمل الجد: النظرية النسوية في إيطاليا الولايات المتحدة وبريطانيا” ، في مجلة “الاختلافات” 1، العدد 3 (صيف 1989).
[7] تيريزا دي لوريتيس، “تكنولوجيات الجندر: مقالات حول النظرية والسينما والخيال (بلومنغتون: مطبعة جامعة إنديانا، 1987) ، ص. 139.
[8] انظر ستيورات هال، “أهمية غرامشي في دراسة العرق والإثنية،” في “مجلة البحث في الاتصالات” 10 (1986): 5-27؛ وعبدول جان محمد وديفيد لويد، “مقدمة: نحو نظرية لخطاب الأقلية: ماذا يجب فعله؟” في “طبيعة وسياق خطاب الأقلية”، تحرير جان محمد ولويد (أوكسفورد: مطبعة جامعة أوكسفورد، 1990)؛ ورادهاكريشنان، “نحو مفكر مؤثر.”
للاطلاع على مناقشات الكتل التاريخية الجديدة من وجهة نظر مجتمعات أقليات محددة، انظر على سبيل المثال، جورج ليببيتز، “الإبحار حول الكتلة التاريخية: موسيقى ما بعد الحداثة والموسيقى الشعبية في شرق لوس أنجلوس” في “ممرات الزمن: الذاكرة الجماعية والثقافة الشعبية الأمريكية” (مينوسوتا: مطبعة جامعة مينوسوتا، 1990)؛ وكورنيل ويست، “النظرية الماركسية وخصوصية الاضطهاد الأفرو-أمريكي”، في “الماركسية وتفسير الثقافة”، تحرير لورنس غرسبيرغ وكاري نيلسون (أوربانا: مطبعة جامعة إلينوي، 1988)؛ وليزا لوي، “التباين والتهجن والتعددية: تمييز الاختلافات الأسيوية الأمريكية”، في “الشتات: مجلة الدراسات عبر الوطنية” 1 (سبرينغ 1991): 24-44.
[9] للاطلاع على صياغات ما بعد الاستعمار التي تنجح في تحويل التضاريس الخطابية بطرق لا يستخدمها بارت وكريستيفا وكُتّاب “تيل كويل”، من الضروري النظر إلى تدخلات كُنّاب ما بعد الاستعمار من ” السكان الأصليين” أو المغتربين الذين صاغوا نماذج متعددة البؤر لمقاومة الخطابات التي تفترض تعريفها. وفي هذا الصدد، اقترحت عدداً من منظري ما بعد الاستعمال الذين يتناولون نقدياً الخطاب الاستشراقي البريطاني، لكن يجب أن أضيف إلى هذا نقد شمال إفريقيا للاستشراق الفرنسي كما تم صياغته في روايات آسيا جبار وطاهر بن جلون وليلى سيبار، من بين آخرين، أو مقالات عبد الكبير الخطيبي.