الكاتب | جولسين سيزاري |
مراجعة الكتاب | شريا بريكة |
ترجمة | ريم العامري |
أدى الاستياء الذي تسببت به الأحزاب الإسلاميّة في مختلف البلدان عَقِب الثورة الإيرانيّة عام 1979، ومن ثم فشلها في ثورة الربيع العربي الأخيرة في مصر في عام 2013، إلى تكهنات بتراجع الإسلام السياسي. ولقد ذهب بعض المراقبون للأحداث عن كثب كأوليفييه روا (1998) وآصف بيات (2013) إلى حد الإعلان بأننا نشهد «فشل الإسلام السياسي»، أو بأننا نعيش حقبة «ما بعد الإسلامويّة», مع تراجع لأهميّة الإسلام السياسي. لكن بالنسبة لجوسلين سيزاري ، فإن الإسلام السياسي باعتباره «مجموعة من الهويات السياسيّة متعددة الأشكال ومتناقضة» ما يزال أساسًا في علاقة الدولة بالدين وكذلك مع في علاقة الدولة مع مواطنيها (191). لفهم مضمون وسياق نشأته، ينطلق الكتاب بدايةً في تحليل بنيوي وتاريخي للإسلام السياسي.
ما هو الإسلام السياسي؟
صدر كتاب سيزاري: «ما هو الإسلام السياسي؟» في الوقت المناسب. حيث ترى سيزاري الإسلام السياسي باعتباره قوميّة دينيّة «تجسدت بسبب الخصوصيات الثقافيّة والسياسيّة للدولة القوميّة المبنيّة على انقاض الامبراطوريّة العثمانيّة» (2). وفقًا لسيزاري، كان دمج الشرق الأوسط في النظام الوستفالي في القرن التاسع عشر أمرًا جديدًا ويعود السبب في ذلك إلى حقيقة أنه «حتى ذلك الحين، لم تكن مفاهيم كالإقليم والدولة مفاهيم أساسيّة في تعريف النظم السياسيّة الإسلاميّة، كما كان الحال بالنسبة للدول الأوروبيّة» (16) . كان الإسلام -وما يزال- يُستخدم لبناء الأمم داخل الدول التي تم تشكيلها من أراضي الامبراطوريّة العثمانيّة.
- قراءة في كتاب سوسيولوجيا الفن
- المشكلة مع الذكاء: تاريخ قيمته المحملة ومستقبل الذكاء الصناعي
- أدب ما بعد النكبة الفلسطينية: فعل مقاومة
بالنسبة إلى سيزاري، لا ينبغي أن يُعزى مشروع بناء «الدولة – الأمة» إلى الفواعل/القوى الغربيّة وحدها، لأن هذا من شأنه أن يُقوض فاعليّة السكان المحليين في العالم الإسلامي في خلق الثقافة السياسيّة 5)) . لتعقيد هذا الخطاب المتمركز حول فاعليّة المستعمرين، تذكر سيزاري مساهمات الإصلاحيين المسلمين، أمثال المصري رفاعة الطهطاوي أو محمد عبده، في النقاش الدائر حول العلاقة بين الدولة والدين. بالنسبة لسيزاري، فإن الإسلام السياسي ليس بأي شكل من الأشكال هويّة ثابتة, بل إن الإسلام السياسي في حركة مستمرة من التكيّف مع التحديات الاجتماعيّة والسياسيّة الجديدة.
كيف يلاحظ المرء تمظهرات الإسلام السياسي؟
تجيب سيزاري على هذا التساؤل بالقول إن الإسلام السياسي كما هو موجود على الصعيديّن الوطني والعالمي يتخذ أربعة أشكال رئيسيّة : “قسري، مهيمن، مدنيّ، وعبر وطني/ عالميّ”, كل منها موضوع للفصول الرئيسية في الكتاب (7).
توظف سيزاري مفهوم فوكاوديان «الحكمانيّة/ Governmentality» لدراسة الإسلام السياسي كأسلوب للسلطة لحكم وضبط المواطنين. استخدم الدين، كما تشير سيزاري ، لإرساء الدولة ليس فقط خلال عمليّة إنشاء الدولة القوميّة في فترة ما بعد الاستعمار، ولكن أيضا استخدم الدين بفاعليّة وبتلاعب من قِبَل القوى الاستعماريّة. تصف سيزاري عمليّة هيمنة الدولة على الدين من خلال التغييرات التي حدثت في مجاليّ القانون والتعليم في ظل الحكم الاستعماري وما بعده في البلدان ذات الكثافة السكانيّة العالية من المسلمين. على سبيل المثال، تصف سيزاري ظهور «القانون الأنجلو-محمدي» في ظل الحكم البريطاني في الهند والذي جمع بين جوهر القانون البريطاني والشريعة الإسلاميّة «المدونة والجامدة» لكي تتمكن الحكومة البريطانيّة من تنظيم السلوك العام والخاص لرعاياها .(42)
بالنسبة لسيزاري، برز الإسلام السياسي أيضًا كشكل مهيمن من أشكال القوميّة الدينيّة من خلال «عمليّة مجانسة الدين/ homogenization of religion ». تم إجراء هذا التجانس من خلال «تغليب الإسلام على مؤسسات الدولة» من أجل إنتاج إسلام مهيمن (65). على سبيل المثال ، في السنوات الأخيرة، شرعت تركيا في عملية هندسة الدولة للإسلام والتي أشرف عليها مديرية الشؤون الدينية. كانت إحدى العواقب المترتبة على ذلك هو إنتاج تاريخ إسلامي مرتكز حول الأمة، وتقع تركيا في قلب هذا المركز. هذا السرد الذي تخلقه الدولة عن الدين يطمس «التنوع بين الأديان والتنوع في داخلها»، وبالتالي فإن هذه السرديّة لا تمثل المجموعات العرقيّة أو اللغويّة المتنوعة التي تعتبر نفسها أيضًا مسلمة (72).
هل الإسلام قومية جديدة؟
هل يمكن تفسير ظهور الإسلام السياسي كشكل مهيمن من القوميّة بعوامل متأصلة في الإسلام بصفته دينًا؟ بالنسبة إلى سيزاري ، فإن الإجابة هي لا. في كل من السنغال وإندونيسيا، يتواجد الإسلام المدني كممارسة دون أن يكون مهيمنًا. في إندونيسيا، تمنح الدولة الحريّة الدينيّة لجميع الأديان التي تعترف الدولة بها رسميًا (116). ومن جانب آخر، قررت السنغال إلغاء المحاكم الشرعيّة في فترة ما بعد الاستقلال وإعلان علمانيّة الدولة. التفسير السنغالي للعلمانيّة لا «يحد من التعبير العلني للدين» ويعترف بحق الجماعات الدينيّة في إقامة النظام التعليمي الخاص بها، “ما دامت تحافظ على القانون والنظام” (121).
في ما يتعلق بالإسلام السياسي العالمي والعبر وطنيّ، تقدم سيزاري أمثلة على الشبكات الإرهابيّة. قد يعتقد المرء أن الصعود المعاصر لشبكات الإرهاب مثل «تنظيم القاعدة» و«داعش» لا يمكن فهمه من خلال منظور الإسلام المسيّس والمؤمم، نظرًا للنطاق الدولي لهذه الشبكات. ومع ذلك، تجادل سيزاري، بأن هذه الشبكات لا تزال تمتلك رؤية إقليميّة للإسلام ويجب أن يُنظر إلى شعبيتها على أنها «عولمة للأنماط القوميّة للإسلام» (161). وبدلاً من الترويج لمخيال محصور بحدود الدولة، تعمل هذه الشبكات على إضفاء الطابع المثالي على مجتمع عالمي متجانس من المسلمين – الأمة.
بعد دراسة اجتماعيّة-علميّة للعلاقة بين الدين والدولة، يتساءل المرء ما إذا كانت هناك وصفة لنوع العلاقة التي يجب أن تربط بين الدين/الأديان والدولة. بدلاً من فصل الدين عن الدولة، تعتقد سيزاري أن استقلاليّة أكبر للدين عن الدولة تؤدي إلى احتماليّة أكبر لخلق مجتمع مدني أكثر شموليّة وتعدديّة (200). في مفهوم سيزاري، يختلف الفصل عن الاستقلال المقترح للدين عن الدولة, حيث أن الفصل يَفترض أن الدولة تُحدد وربما تتحكم في الحدود التي تفصل بينها وبين الدين, بينما لا يتطلب استقلال الدين عن الدولة ذات الأمر. كما توضح سيزاري، فقد أدى النموذج العلماني للانفصال في تركيا إلى استيعاب الدين في أجهزة الدولة لكسب المزيد من الهيمنة على السكان. بينما في الحالة العلمانيّة السنغاليّة، التي يبدو أنها تسمح بتعدديّة أكبر، من الممكن ملاحظة سيَادة فكرة استقلاليّة المؤسسات الدينيّة بدلاً من هيمنة الدولة على الدين. يستنتج المرء هنا أن حياديّة الدولة اتجاه الدين قد تؤدي إلى مزيد من التعدديّة.
هذا العمل واسع النطاق نظرًا لإتساع الرقعة الجغرافيّة قيّد الدراسة. ومع ذلك، فهو لا يشير إلى سبب ظهور نمط الإسلام السياسي المهيمن في بعض البلدان، بينما يتعايش الإسلام مع الدولة في بلدان اخرى ؟ ولماذا تبنت بعض الدول بنيّة تسمح للدين بأن يكون أكثر استقلاليّة عن الدولة؟
- حِكاياتُ فتحي عبد الصمد: أَقَاصِيصٌ يَابَانِيَّةٌ بعيونٍ مِصريَّةٍ
- في مديح العدسات السوسيولوجية: قراءة في كتاب “التفكير سوسيولوجيا”
- الأنماط الأفريقية في الكتابة الذاتية
ومع ذلك، إحدى المساهمات الأكثر استدامة لهذا العمل هو المنظور الاجتماعي في فهم العلاقة بين الإسلام والدولة. يضع هذا العمل الإسلام السياسي كنتيجة ناشئة عن التغيرات الاجتماعيّة والسياسيّة التي جرت في القرنين التاسع عشر والعشرين في المناطق مستعمرة سابقًا. يختلف هذا المنظور البنيوي عن «نظريات الوكالة» التي تربط التطرف والراديكاليّة المقترنيّن بالإسلام السياسي بالإرادة الفرديّة. يعْترض هذا المنظور على وجهة النظر القائلة بأن الإسلام هو دين التطرف السياسي، وهي وجهة نظر تحضى بقبول متزايد في السرديّة السياسيّة الغربيّة.
وعلى الرغم من المساهمة القيمة في هذا الحقل المعرفي بشكل عام، إلا أنه ما تزال توجد مساحة واسعة لمزيد من البحث حول هذا الموضوع. على سبيل المثال، هل يمكن تطبيق نظرية الإسلام السياسي -التسييس التاريخي و «مجانسة الدين/ homogenization of religion» لمصالح الدولة- على أديان اخرى؟ يمكن للمرء أن يفكر في صعود القوميّة الهندوسيّة في الهند أو القوميّة البوذيّة في ميانمار على أنها أوجه شبه محتملة للإسلام السياسي ، وبالتالي دحض «نظريّة استثنائيّة الإسلام».