مجلة حكمة

الثقافة النقدية: ماذا ندين لعصر الأنوار؟ – يعقوب سول / ترجمة: حمد السمرين


مهما نظرنا للدوائر الأكاديمية اليوم، فإن الباحثين يسارعون في الدفاع عن أفكار عصر الأنوار السياسية والحرية الفردية وحقوق الانسان، والايمان بالأسباب العلمية، والعلمانية، وحرية النقاش العلمي. لماذا القلق إذن؟ هذه الافكار بعد ذلك نص عليها في دستور الولايات المتحدة الامريكية. ولازلنا نسمع حتى الان بالمدافعين عن عصر الانوار، كما لو كانوا تحت الهجوم. لا يوجد نقص في الاعداء من الملالي والمحافظين المحبين حتى منكري العلم والجناح اليساري وتيار ما بعد الحداثة.

أصبح الدفاع عن عصر الأنوار مصنع أكاديمي صغير (ورشة اكاديمية منزلية) مع مخيمات متنوعة متمترسين خلف تفسيراتهم الخاصة (في اجود صياغة اكاديمية) لمهاجمة الاخرين. ولكن حاليا يرى الباحثون القياديون أنه من الضروري اظهار دفاعهم بشكل واسع للجماهير. يعد كتاب ليون هنت (تاريخ إنشاء حقوق الانسان. ٢٠٠٧) باكورة عمل في هذا الباب، فقد قدمت حججها في قضية قيم عصر الانوار و”القوة الانسانية الناعمة” في موضوع استخدام أساليب التعذيب من قبل الحكومة الأمريكية، ولكنها ضمنيا قصدت القوى العظمى الصاعدة كالصين، والتي رفضت بوضوح حقوق الانسان بينما تتبنى التقدم العلمي. في كتاب (عصر الانوار: ولماذا مهم الى الان؟ ٢٠١٣) قام انثوني باجدو بتتبع تاريخ الفلسفة في عصر الأنوار، مدافعا عنه من “الكهنوت” و”مخلفات اليمين المسيحي” والذين يتنكرون بمساهمته للتقدم العلمي والحرية السياسية و”العدالة الدولية”.

هذه الكتب “وهي اجمالا دفاعية” تمتلك بعض المنطقية على الرغم من حقيقة أن الدستور ومشروع قانون حقوق الانسان استمد من أفكار عصر الأنوار، فالكثير من الامريكيين لم يتضح لهم الرابط بين عصر الانوار وهذه المستندات. فالكثير من الربوبين “المؤمنون بوظيفة أفكار العصر التنويري” الاله الطبيعي المسيحي المتحرك، كما هم الاباء المؤسسون كتومس جفرسون وتومس باين وإيثن ألن، والذين من المحتمل أن يعانوا من انتخاب معظم الولايات هذه الايام من قبل المنظمات الدينية. تعد قضية إلغاء عقوبة التعذيب، والاعدام (والتي يراها جون آدمز وجفرسون مركزية في المجتمع المستنير) حساسة في معظم الولايات المتحدة. حتى التفسير العلمي للظواهر الطبيعية بشكل عام رفض أو تم تجاهله، رغم أن ٤٠٪ فقط من الأمريكيين يرون ان الاحتباس الحراري من صنع الانسان. عندما انتخب جورج بوش الابن بانتخابات عام ٢٠٠٤،اعتبر قري ولز هذا النصر أنه “تخلص من عصر الأنوار”. إن أفكار عصر الأنوار تمر بأزمة في بلد ولدت من رحمها.

كل هذا دفع فينتشنزو فروني لترجمة كتاب (عصر الأنوار: تاريخ الفكرة. ويزعم فروني باقتناع إن أهمية عصر الأنوار لا تكمن في عظمة الإنجاز، بل في مركزية الحوار العام. يعتقد فروني (وهو الايطالي مؤرخ التاريخ الفلسفي ومتخصص في الهامات اسحاق نيوتن) لابد من الدفاع عن عصر الانوار ليس لأنه فقط علماني الفكر السياسي، بل وهو الاهم كما يقول فروني عادة “الافكار الناقدة”. يعرف إيمانول كانط عصر الانوار: “عملية تقدم البشرية نحو التطور” من خلال “حرية جعل الناس يستعملون العقل في كل أمر.” ويزعم فروني أن العملية النقدية هي التي جعلت الرأي العام والسياسية تمنحنا لغة حقوق الانسان والتسامح والحرية الفردية. إن الانخراط الفلسفي الطويل مع أفكار عصر الأنوار، من فولتير في القرن الثامن عشر إلى وقتنا المعاصر، بالنسبة لفروني، يعد أحد أعظم الأفكار الموروثة من عصر الأنوار نفسه. لقد سمح لنا أي فولتير بإمكانية مسائلة سيادة العلم والعلمانية وليس الجدل النقدي. كثير من الشخصيات العظيمة الفلسفية والذين يعدون نقاد لعصر الأنوار، هم يعتبرون في الحقيقة، كما فروني يجادل، مدافعون عن تقاليد عصر الأنوار.

لم يبدأ عصر الأنوار مع الكتب والكتيبات فقط، بل مع زلزال. ففي عام ١٧٥٥، دمر زلزال مدينة لشبونة، واشتعلت النيران، وتسبب هذا الزلزال بتسونامي عظيم جعل نهر تاجوس يجتاح المدينة، ويقتل ما يزيد عن ٤٠٠٠٠. زعم المؤلهون أن الكارثة كانت عقوبة إلاهية بسبب المعاصي والركون للدنيا.

يعترض الفيلسوف الفرنسي قائلا بأن ما حدث من تحرك لقشرة الأرض هو ببساطة بسبب نظام الطبيعة. وانتقد زعم الكنيسة الكاثوليكية بأن الله هو من وراء هذه الكارثة وليس الترميم الطبيعي في النظام الطبيعي. وقاد رأي فولتير إلى الجدل الدولي الشهير والذي ساعده على تحريك الرأي العام من التفسيرات الصوفية للظواهر الطبيعية إلى السلطة العلمية.

نموذج فروني لتقاليد عصر الأنوار أخذ مباشرة من فولتير هو من اوائل من لاحظ أن عصر الأنوار هو حركة متميزة. لقد استعمل كلمة (أضواء) لوصف الفلاسفة الذين يتتبعون مسيرتهم من خلال النقد، ويزعم أن “الأدباء” كانوا باحثون عظماء “كأنهم موسوعات” حققوا أعلى المعارف في الفنون والعلوم وفوق ذلك الأدب. هذه الاضواء كان لها تأثير عظيم على المجتمع من ناحية نقد تحت اسم عملية التقدم. لخص كانط فكرة فولتير عندما قال: “عصرنا هو عصر النقدية والذي يجب أن يكون موضوعيا” كان الهدف الاعلى للنقدية هو تفعيل دور العقل لتحسين المجتمع، وهذه العقلانية تقوم “كاختبار للحرية وفحص للمجتمع” كما قال لكانط.

على الاقل في مستوى خلق التقيد النقدي، نجح مشروع عصر الأنوار. فالكتب والكتيبات والدوريات والاوراق تكاثرت في قرن الانوار، والحوار العام بدوره خلق رأيا عام والذي بدأ كمعارض لتوجيهات الملوك والقيادات الدينية والدول. والفلاسفة العظماء الذين اتوا بعد فولتير وكانط، كهيجل ونيتشه بالتحديد، قد يكون لديهما اسئلة عن العلمانية وسلطة العلم والوكالة البشرية ولكنهما يدافعان دائما عن النقدية.

إن الكتابة في بداية القرن التاسع عشر، ادخلت هيجل في صراع مع عصر الأنوار كناقد وليس كمؤيد. إن فكرة التقدم الانساني العلماني، كما حذر هيجل، أسيء توجيهها في محاولة جلب “جنة الخلد” إلى الأرض. شعر هيجل أنها غطرسة بالإضافة الى خسارة كل الاخلاق المسيحية والايمان بأن البشرية يمكنهم بناء جنة علمانية، عندما تطرق للحديث عن ارهاب الثورة الفرنسية. ولكنه ما زال يرى أن عصر الانوار يشكل النقطة المحورية في البحث الفلسفي الغارق في الشكوكية والايمان الثابت في النقدية. عندما يقوم أحدهم بدراسة التاريخ الانساني، كما حذر هيجل، فلن يكون “سلبي” بالنسية “لمعايير” المؤرخين المحددة سلفا. فقط من خلال النقد الموضوعي المستمر والحجج الجديلة قد تواجه البشرية عدة تحديات ارضية عقلية كانت او علمية. إنها الشكوكية والطريقة النقدية لعصر الانوار نفسه بزعم فروني أن هذا ما جعل هيجل ناقد للتقدم والعلمانية كمفكر تنويري.

نيتشه، مثل هيجل، كان شكاكا في ادعاءات التنوير التقدمية والكمال البشري. فمن خلال فحص عصر النهضة والاصلاح، استبدل نيتشه فكرة التقدم (والتي كان يرى ان بدائية الالمان على الاقل لا يمكن فهمها) مع مفهومه للإنسان الحديث “ارادة القوة”. إذا تبنى نيتشه فولتير ككاشف لزيف الدين، فإنه على الرغم من ذلك يرى أن العلمانية لم تقد الى تطور البشرية، بل إلى العدمية. يظهر فروني من ناحية اخرى كأحد المدافعين عن عصر الانوار. تبنى نيتشه سؤال كانط: ما هو عصر الأنوار؟ كإيحاء من فلسفته التقدمية. وحتى لو كانت العدمية تتعارض مع التفاؤلية لعصر الأنوار، فإنها ما تزال تتبنى نموذج الانسان بدل من قدر الله الملهم، ومن أجل هذا يدعي فروني أن نيتشه أبقى على “راية التنوير”. قدر البشرية مهما كان مظلما، سيكون منتجا من خلال النقدية لوهم المسحيين والاشتراكيين.

ربما كان أكبر تحدي للتنوير عقب محرقة الهولوكوست وهيروشيما كفلاسفة هو أنهم اجبروا على السؤال بشكل أعمق عن فكرة التقدم البشري. حتى هؤلاء المؤمنون بالعلم التجريبي الآن أجبروا على التعامل مع هذه الفكرة بإمكانية استخدامها كأداة. فمن الناحية الأولى، قد يجلب التنوير التقدم البشري من خلال العلم، والمناظرات العامة، والعقلانية، والحالة الاجتماعية. ومن جهة اخرى، هذه القوى الشديدة، بجانب الفكرة الملتوية عن التقدم وفكرة نيتشيه إرادة القوة، كانت القلب النابض للنازية وأفكارهم. النازيون، كما حذر الفيلسوفان اليهوديان ماكس هوركهايمر ونيودور أدورنو، “انحدروا بالانسانية” طموحات التنوير، وحولوا العلم إلى “استغلال وتحكم” وسبب في البرنامج العلمي العدمي للقتل الجماعي. التنوير، كما حذرا، قد يجلب الحرية، ولكنه أيضا يجل النظام الشمولي الحديث. ما فعله النازيون بأنهم استخدموا خطابات التنوير وجردوها من أهم عنصرها وهو النقد. فأنتجت مخرجات كارثية. فبدون الثقافة النقدية ، تبدو نظرة هيجل الشكوكية واضحة، سيسود الإرهاب.

الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو أيضا فكر في التنوير ومخاطره الخفية كعلم بشري في محاضرته الشهيرة “ما هو الانتقاد؟ الانتقاد والتنوير” في تراث نيتشيه، انتقد فوكو العلم الحديث والأعراف الاجتماعية، ليست منتج لمجتمع مفكر، ولكن كنظام قوي. من خلال دراسة المستشفيات والمصحات العقلية، والسجون، أظهر فوكو نقاط ضعف في المجتمعات المستنيرة، وكيف تتحول مؤسسات ما يسمى بالعقل الحديث إلى أدوات للقمع. بغض النظر عن الازدواجية، ما زال يشعر بالحاجة للمشاركة مع التنوير، من خلال التقليص التدريجي للنقد المستمر بلا هوادة من القوة نفسها. النقد، كما يؤكد فوكو، هو الحركة والتي يقوم الأفراد بالسؤال عن كل حقيقة، خصوصا تلك المنتجة من قوة السلطات.

إلى أين يأخذ مناظرات التنوير مكانا اليوم؟ ترك فوكالت عدة أعمال نقدية للسلطة لمن قرأ أعماله التشكيكية للأفكار التنويرية التقدمية. وهذا، في المقابل، قاد لنقاشات أكاديمية جادة، مكانا أقل فأقل في حقل الرأي العام الجماعي. يعترض فروني بأن النقاشات الجامعية هي الأساس لمواصلة التقاليد عصر الانوار. لكن فورن ضخم من أهمية الأعمال التاريخية الحديثة لعصر الأنوار، مشاركتهم للتنوير لا تشكل أهمية في النقاشات العامة وفي صناعة الآراء. كانت الأفكار التنويرية هي اساس الأفكار للثورة الأمريكية. مؤخرا ماذا تفعل الحملات الانتخابية بالدفاع عن أفكار عصر الأنوار؟

لم يعد لعصر الأنوار مكانا في النقاشات العامة. والفلاسفة المستجدون والذين دخلوا في نقدية التنوير، مثل يورغن هابرماس وتشارلز تايلور، لم يصلوا الخيال الجمهور الواسع كما وصلها فوكات قبل أربعين سنة. حتى العلماء العظماء في ناسا ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، حتى لو وظفوا اسحاق نيوتن، مزودين بكم هائل من البيانات الحديثة، لم يستطيعوا أن يؤثروا على أغلبية الرأي العام الأمريكي في أن الاحتباس الحراري من صنع يد الأنسان. بدل من الفلاسفة الرئيسيين، الفنانون الهزليون مثل بيل نباوكين هام ناقشوا التطور في متحف الخلق (المتحف الذي يؤكد أن العالم أتى مثلما بتسلسل زمن كما في الكتاب المقدس)، مع العديد من المصفقين من الخلقيين من بين الجماهير.

لو كان العلم مسابقات، فسيبدو عصر الأنوار أثريا. ومؤخرا أصبح التنوير منسيا في كل مكان. لاحظ فروني أن البابا بيديكنوس السادس عشر تحدث عدة مرات على أن التنوير شكل تحدي متواصل للكنيسة الكاثوليكية. في الواقع بيديكنوس ناقش فكرة التنوير مع هابرماس في العمل المسمى “جدليات العلمانية” عندما كان يوسف راتزينغر أول بابا يجلس مع فيلسوف معاصر لمناقشة التنوير من غير المفاجئ أن بيديكنوس تأسف على العديد من القيم العلمانية والحكومة غير الدينية، مؤخرا في نفس الوقت تحدث عن أهمية التنوير في جلب الحرية للأفراد في الإيمان والتأكيد على حقوق نفس حقوق الانسان في المجتمع الدولي. هذا لا يعني أن بيديكنوس فيلسوف تنويري، ولكن يجعله شخصية عالمية مؤثرة للانخراط في الجدلية القديمة.

نحن إذن نواجه مفارقة مذهلة في تاريخ المناقشات التنويرية. بما أن التنوير ابتعد عن الوعي العام، فإن العدو الاصلي لفولتير هو الكنيسة الكاثوليكية، تتفاعل مع الفكر التنويري بشكل واضح أكثر من المفكرين العلمانيين. فروني قلق بأن هذا هو “تفكير الماء” لمناقشة التنوير لم يلحظ فروني مؤخرا التحديات والمفارقات الظاهرية التي تواجه فكر التنوير في عالم بدأ ينفض عنها.

إن أي شيء يعرضه فروني بغير قصد سواء بأن النموذج التقدمي للعلمانية فشل أو تطور في عالم يحتضن مناجاته، ولكن ليس أفكاره الرئيسية. إن كان التنوير سينجو، فإن مناصريه عليهم أن يقاتلوا بجانب العدو بلا مبالاة. يأخذ النقاش لنقاش معروف بأنه معقد وفي الغالب لا صلة له بحجج بالصحف المستنيرة. في الماضي لم يشكل أهمية لأن مؤيدي الأفكار التنويرية والنقدية قادرون على جمع تعاطف كثير من الشعوب. من الواضح بالرغم من ذلك، بأن التنوير يجتاج لأبطال عظماء كما هو بحاجة لنقاد لإحياء النقاش وهذا هو المحرك الداخلي. ولهذه اللحظة ومع نقاد التنوير الأكثر تفاعلا حواريا، يبدو أنه غير مرجح.

 

 

المصدر