مقدمة المترجم: أوزفالد شبنجلر (1880 – 1936) مُؤرخ وفيلسوف ألماني, ولد في بلاكنبرج بألمانيا, ومات في منشن (ميونخ). تأثر بنيتشه والأديب الكبير جوته. من رواد المدرسة الدائرية في قراءة التاريخ, وهي المدرسة التي تعارض قراءة التاريخ من منظور خطي متصاعد يؤمن بتقدم الإنسانية كما فعل فلاسفة التنوير. تضمنت أفكار شبنجلر نزعة موسوعية تتجاوز التأريخ وتتجه نحو فلسفة التاريخ, فشملت الفنون والآداب والعلوم والفلسفات في قراءة تسعى للتماسك النسقي والبلورَة النظرية. يرى شبنجلر الحضارات البشرية كائنات حية, تنطبق عليها مواصفات الكائن الحي من وحدة عضوية وتمرحل عُمري يبدأ مع الطفولة والشباب للثقافة ويتدهور في كهولة الحضارة وشيخوختها ثم موتها, كما تتميز الحضارة الحية بتبعية الأطراف للمركز, ويجد في الفنون والآداب والعمارة وحتى العلوم والأديان استجابة تلقائية لروح هذه الحضارة أو تلك, وأنها ليست مجالات قائمة بذاتها كما يزعم الوضعيون. شهدت أفكاره انتشاراً هائلاً في فترة ما بين الحربين العالميتين بعد إصداره لكتاب (تدهور الحضارة الغربية) لكن انحسرت أفكاره بعد الحرب العالمية الثانية, ثم عاودت الظهور أواخر القرن العشرين.
مُؤلفات أوزفلد شبنجلر بالعربية:
-تَرجم له كتاب (تدهور الحضارة الغربية) أحمد الشيباني
-وتَرجم له كتاب (الأعوام الحاسمة) على حسن الهاكع
-وأصدر عنه عبدالرحمن بدوي كتاب (أشبنجلر) عام 1945 وهو أهم ما كُتب عن شبنجلر بالعربية حتى الآن.
نص المقالة بقلم: ديفيد مكناوتون
هذه المقالة مستقاة من عمل شبنجلر الأساسي (تدهور الحضارة الغربية) وأعمال أخرى, بالإضافة إلى كتاباته الشخصية ومراسلاته. ومع أن أطروحة شبنجلر عَادةً ما تُفهم في سياق الحربين العالميتين, فإن هذه المُقاربة تسعى لإدراك أهمية أفكاره اليَوم.
خلال الحرب العالمية الأولى أخرج مُؤرخ ألماني كتاباً ذا دويٍّ صاخب بين المثقفين في كل أنحاء العالم. جمَعَ هذا الكتاب أحداثاً تاريخية من ثقافات وحضارات مُختلفة, أراد من خلالها أن يملأ شبنجلر فراغات التاريخ, وأن يُؤسس لمُمكنات المُستقبل – باعترافه – عبر تعميمات كُلية وواسعة.
لقد كان هذا الطموح والوعد من شبنجلر ذا جموحٍ بالغ, ثم شهدت أفكاره بعد الحرب العالمية الثانية كساداً وبواراً لأسبابٍ سياسية بحتة. مع ذلك, فإن كتاب شبنجلر وليد دراسة هائلة, يُناقش فيه, وبتضلع قل مثيله, مسائل متنوعة في الرياضيات والمُوسيقى والعمارة والرسم واللاهوت والمال, علاوةً على كتابات موجزة ونظر ثاقب في مجالات أخرى كالقانون والكيمياء واللغويات والنظرية النسبية وأيضاً الأدب, جامعاً بين هذه المجالات في فلسفة موحدة ومُتماسكة.
ثمان كائنات حية، أو تزيد
تجد الغالبية العظمى من الناس صعوبة في قبول أطروحة شبنجلر الأساسية, وهي أن الحضارات والثقافات كائنات حية ذات طابع خاص, فهي كالنباتات والحيوانات والبشر, لكن ضمن ذات تعقيد حيوي أعلى. كل ثقافة لها روحها المُميزة التي تعبر عنها بصيغ فنية (جمالية) وعلمية وسياسية واقتصادية وحتى دينية.
يقرر شبنجلر أن هناك حضارات عليا, عددها ثمانية. ثلاثة منها؛ أي البابلية والمصرية القديمة والكلاسيكية الرومانية/ اليونانية, قد تلاشت منذ زمن طويل, وأن أراضيها قد احتُلت فيما بعد من قبل ثقافات أخرى (ولو كان شبنجلر حياً اليوم لأضاف حضارة وادي السند المُكتشفة حديثاً). أما الحضارات الأخرى, فثلاثة منها وهي الهندية والصينية والعربية الفارسية قد ولجت مرحلة الشيخوخة منذ قرون خلت, وهي وإن تحجرت في كثير من جوانبها فإنها لم تمت تماماً. وثمة حضارة سابعة نضجت في المكسيك وجواتيمالا, لتعاني بعدئذٍ من موت مفاجئ وعنيف على يد الغزاة الإسبان, ولاتزال ومضات من شعلاتها الوقادة موجودة إلى اليوم. ولعل حضارة البيرو هي الأخرى مرشحة لتدخل في قائمة شبنجلر للحضارات المغدور بها.
أما حضارتنا الغربية فلم تنته بعد من إتمام دورتها الحياتية, مع أنها بالفعل بلغت سن الكهولة بالنظر لعنوان الكتاب الموسوم بتدهور الحضارة الغربية. يقترح شبنجلر أن ثقافة عُليا أخذت تطل برأسها في روسيا. وأيما كان الأمر فإنها لازالت حديثة السن, وهذه الثقافة قد أُعيق تطورها عندما حاولت اقتباس أفكار دخيلة عليها من ثقافة أقدم وأعلى منها وهي الثقافة الغربية.
ثمة مثال آخر على ظاهرة “التشكل الحضاري الكاذب” في الثقافة المجوسية التي ترعرعت في ظلال حضارات أقدم منها (كالكلاسيكية اليونانية والرومانية) تسببت في تشوهها وتشظيها فيما بعد إلى ثقافات عربية وزرادشتية وبيزنطية وعبرية وقبطية وأرمينية ومُكونات شتى. ومع صعود الإسلام استطاعت أن تتحرر من قيد التشكل الكاذب لتجد روحها الأصيلة.
هناك ظاهرة أخرى يسهل شرحها فيما يتعلق بالحضارات العُليا ذات الوحدة العضوية, وهي زيادة معدلات النسل الذكري لتعويض النقص جراء وفيات الحروب الكبرى. ويعترف شبنجلر أن هذه الشواهد قد تكون خاطئة بسبب ضعف البيانات عن تلك الفترات, لكن هذا المثال على كل الأقل يُساعد على إيضاح مفهومه عن دور الحضارة العُليا ومدى وعيها بإرادتها.
مثل أفراد الناس, فإن الحضارات العُليا تختلف في شخصياتها, وقدراتها, ومواهبها. لذا فإن التفاضل والتكامل ونظرية الوظائف الرياضية وكاثدرائيات القوط الشاهقة وموسيقى التأليف الفوغي كلها تعبر عن خصائص الوجدان الغربي, الذي ينزع إلى الجموح نحو المساحات الشاسعة والاهتمام الكثيف بالماضي القديم والمُستقبل البعيد معاً.
أما ما يناقض ذلك كله, فهو الهندسة والإحصاء والنحت, فهي جميعها تعبيرات إبداعية جاءت من عقل مهووس بالجسد ولحظة ” الآن وهُنا ” التي أنتجتها الثقافة اليونانية القديمة. وبشكل مماثل فإن الجبر والكيمياء والأرابسك ليست سوى تمظهرات لثقافة فريدة ذات شخصية استثنائية (الحضارة العربية- المترجم). ولنقل مثل ذلك عن العلاج بالإبر, والطاوية, والفن الصيني, والعالَم الهندوسي واليوغا وأنواع الرقص التي حافظت على تعقيدها الخاص الذي لم يتكرر في أي مكان آخر.
مراحل التطور
تماما مثل الكائن البشري الذي يصل مرحلة البلوغ المُكتملة في العقد الثالث من حياته, فإن الثقافة هي الأخرى تمر بسلسلة من المراحل الحتمية المؤكدة في النمو, ولا تختلف مدتها كثيرا بين حضارة عليا وأخرى. فموسم الربيع يتميز بالإيمان الديني القوي, الذي يُمهد الطريق ببطء أمام النضوج الفكري والمادي. أما صيف الحضارة فهو عهد النشاط الأعظم؛ فأوروبا شهدت في صيفها تبلور مفهوم التفاضل والتكامل عبر أفكار رجلين مستقلين تمام الاستقلال عن بعضهما وهما نيوتن وليبنتز. وفي نفس القرون هذه, ازدهر الرسم الزيتي ونضجت الموسيقى بشكل لم يعهده التاريخ قبل الثقافة الغربية.
وفي موسم الخريف تصبح الحياة مخنوقة بالمادية والفكر العقلاني الجاف, يستخدم شبنجلر مصطلح الحضارة للدلالة على هذا الموسم بالتحديد. تنشأ الحرب الشرسة بين الأمم المؤسسة للثقافة, ويظهر التوتر البالغ بين الطبقات الاجتماعية إلى درجة الانفجار. في النهاية تتسيد دولة واحدة على الجميع بفضل قوتها وتقهر الجميع وتبتلعهم؛ فارضةَ عليهم سُلطة إمبريالية. في العالم الكلاسيكي القديم كان هذا ما فعله الرومان, وفي البيرو فعلته الإنكا. أما في أمريكا الوسطى فالأزتيك توحدوا بفضل انتصاراتهم قبل اجتياح الإسبان الغربيين, وفي شرق آسيا كانت دولة الصين هي القوة التي سيطرت على بقية الأقاليم وأطلقت اسمها على الإمبراطوية مانحةً إياه لكافة الأقاليم الموحَّدَة.
ربما من المهم القول بأن القوة الدافعة خلف التوحيد عادةً ما تأتي من أهداب الثقافة الأصلية, وليست من النواة. فعلى سبيل المثال, كانت روما بعيدة عن اليونان, وكوين في الصين الواقعة أقصى شمال غرب الصين حيث القوة الكبرى في الصين القديمة, والأزتيك المهاجرين إلى المكسيك من مكان ناء في الشمال, وفي العالم الإسلامي كان السلاجقة أتراكاً غزاة وفدوا من الشمال الشرقي قبل إقامتهم للأمبراطورية التي ضمت بلاد فارس والعراق وسوريا والأناضول, والأمر كذلك عند البابليين حيث وحدهم الأموريون المنحدرين من أقصى جهات الغرب, وفي أمريكا الجنوبية كان مركز الثقافة العظمى هو دولة تشيمو على الساحل البيروفي, لكن خضعوا لاحقاً لشعب الإنكا المتحدر من الهضبة العليا. أما الإمبراطورية الهندية فتشكلت من مملكة ماجادها, وهي مملكة منحصرة في بادئ أمرها في أقصى الساحل الشرقي لشبه القارة الهندية, وهي اليوم مدينة بيهار وعاصمتها القديمة باتاليبوترا. إن السبب الذي يجعل الغزاة وافدين على الدوام من طرف الثقافة وليس مركزها, لعله يتلخص بكون أهالي الأطراف أقل معاناة وإرهاقاً من أهالي المركز, وهم الذين أريقت دمائهم في الحروب لقرون طويلة إبان مُكنتِهِم وسيطرتهم.
يُدرك الناس في عصر الإمبراطورية حدود رؤيتهم الذهنية للكون, فيعود الدين للواجهة من جديد, مبنية على إيمان القرون السالفة, لكن مع تجربة مختفلة تأثرت بنمط أكثر تقدماً من أساليب الحياة.
لو كان شبنجلر على صواب في قوله إن الثقافات وحدات عضوية حية, فإن هذه التغيرات حتمية لا مفر منها, تماماً مثل إزهار الشجر ثم خروج الثمر, أو كضرورة خروج الفراشة من اليرقة في بعض الحشرات. ثمة بديل واحد فقط لهذا النمو, وهو الموت المبكر للثقافة وكيانها العُضوي الحَي.
الأهمية البالغة للحرب العالمية الثانية
ماهي المرحلة التي تعيشها الحضارة الغربية الآن وفقاً لشبنجلر؟ إن إجابته مخيفة للجميع تقريباً, فإن القرنين العشرين والحادي والعشرين هما القرنان اللذان يتجهان إلى ” عصر الانحدار الروماني ” ولكن ما منع الانهيار وعمل على تأخيره هو هزيمة ألمانيا في الحربين العالميتين. إن نمو الكائن الحي وتطوره معرضان للضمور وربما الهلاك لعوامل خارجية كما حدث مع الحضارة المكسيكية, وفي هذا السياق نبّه فرانسيس يوكي أنه لولا التدخل الروسي في الحرب العالمية الثانية لانتهت الأمور بصورة مختلفة, فحينها سيُقال بأن القيادة النازية وحدها المسؤولة عن الهزيمة. وكان بسمارك, رجل الدولة الحقيقي مُقارنة بهتلر, أذكى من أن يورط نفسه بكل هذه العداوات دفعة واحدة, دع عنك أن يتجاهل فرصة التحالف.
أشار كثير من الكتاب إلى أن الحرب العالمية الثانية كان يُمكن لها أن تتمخض عن انتصار ألماني, وكانت هزيمة الألمان تعود على الأرجح إلى قرارات الفوهرر المُضطربة والغبية. فعلى سبيل المثال, قام هتلر بغزو روسيا على خلاف ما نصحه به الكثير من الجنرالات الذين أشاروا له باجتياح الشرق الأوسط أولاً, كما إن هتلر رفض طلب الحِلف الذي قدمه إليه الأوكرانيون وأقليات روسية أخرى, ناهيك عن إعلان هتلر الحرب على الولايات المُتحدة بعد حادثة بيرل هاربلر, وهو قرار غير ضروري ومتهور لأن الأمريكان في معظمهم لم يرغبوا بالحرب على جبهتين.
ولم يكن هتلر معذوراً في إصراره عام 1944 على تحويل طائرة مسرشميت 262 إلى قاذفة صواريخ, فاتضح أنها غير فعالة, وفشلت في حماية المصانع ومخازن الوقود.
لعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا بأن أول وظيفة حقيقية أداها هتلر – دون سابق تأهيل- أنه مستشار الرايخ الثالث, وقد التقى به شبنجلر عام 1933 وعبر عن تحفظه القوي تجاه هتلر, وشكّك بأهليته لأداء هذا الدور الجسيم.
وبالرغم من ذلك كله, فإن شبنجلر يقف مع النازيين في القليل من المَحاوِر, وشيئاً فشيئاً أزال غمامة سحرهم عن ناظريه, وخالفهم في كثير من المسائل, بالأخص عدم معاداته للسامية. وبعد وصول هتلر للسلطة, نشر شبنجلر كتابه (الأعوام الحاسمة) الذي حذر فيه من أن الإمبراطورية الأوروبية الخاضعة لقبضة الجيش البروسي, ستكون تحت خطر الضياع والهزيمة بسبب قيادة النازيين المضطربة, فأصبح شبنجلر منبوذاً من النازيين بسبب ما كتبه.
أعقاب 1945 والبحث عن سبيل آخر
مات شبنجلر عام 1936 ولم يتسنى له إبداء رأيه تجاه أحداث الحرب العالمية الثانية, فماذا لو سنحت له هذه الفرصة: ما عساه أن يقول؟
مامن ريب أنه سيعقد مُقارناته المُعاصرة مع حضارات سابقة, ويُحلل قروناً غابرة معتقداً أنها تتجاوب بصورة عضوية وبيولوجية مع الراهن والمُستقبل مع مالهما من خصوصية وفرادة.
وكمثال على هذا, قد يذكرنا شبنجلر بما وقع لكاليجولا ونيرون, فكلاهما انحطّ إلى طاغية على غرار هتلر, ومع ذلك فلم تمنع تجاوزاتهما روما من أن تعيش عصرها الذهبي بقيادة تراجان وأدريان وماركوس أوريليوس. وفي الضفة الأخرى من أوراسيا, كان الإمبراطور يينج زينج هو أول من وحّد الصين, وعُرفت عنه الدكتاتورية والقسوة, وبالرغم من منجزاته الجيدة فقد أطيح به في تمرد شعبي عارم, وانتقلت السيادة إلى إمبراطورية الهان الأقل قمعاً, والتي حكمت الصين طيلة أربعة قرون لم يعكر صفوها إلا القليل. أما الفترة المُشابهة في الهند فكانت قبيل حكم الملك أشوكا, حيث عانت الهند من الصراع حتى مجيء أشوكا الذي تخلى عن الحرب بعد اعتناقه البوذية.
لم يُناقش شبنجلر التطورات اللاحقة في هذه الثقافات, وكان من الواضح أنه لولا تراث الحضارة الصينية لما كانت لعائلتي تانج وسونج أيّ نفوذ, وهما العائلتان اللتان خلفتا لنا ذخائر الفن والشعر. والأمر نفسه حدث مع عائلة جوبتا في الهند, التي عاش في عهدها الكاتب كاليداسا صاحب الروائع الدرامية والشعرية. ولا ضير لأحدهم من أن يجادل بشأن عودة الإمبراطوريات آنذاك لعصور الازدهار بالرغم من كبوتها بين فترة وأخرى, أي كما وقع مع الإمبراطوريات الصينية والرومانية والهندية والمصرية.
لا شك أن النازيين يتحملون مغبة سلوكهم الشرير الذي لا يُمكن التسامح معه, لكن لنفترض أن ثمة علم يُدعى (المورفولوجيا الثقافية) يتيح لنا أن افتراض الانتصار الألماني وأنه سيؤدي لتجنيب أوروبا ويلات الإرهاب الألماني, ومع وجود سياسيين لائقين بحكم أوروبا ولا ينتمون لألمانيا وحدها بل من دول أخرى أيضاً, ولا يُمكننا تحديد تاريخ دقيق لذلك, فالأمر كله يعتمد على الأحداث وما تحمله من عنف يصاحب نقل السلطة من رجل لآخر. في الثقافات القديمة, كان كثيراً من الأباطرة والحكام قد ذاع صيتهم في البداية كقادة عسكريين أكفاء, ولذا فمن المناسب أن نقول بأنه لو نجح الضباط المتآمرين على هتلر سنة 1944 في مخططهم للإطاحة بنظامه, لكان المارشال رومل على الأرجح حاكماً بدلاً منه للدولة, وهو الرجل الذي احترمه الأعداء والأصدقاء على السواء.
عن القرن العشرين والحادي والعشرين
ماذا لو بقي شبنجلر على قيد الحياة بضعة عقود أخر؟ ماهي الصورة التي ستتكشف له حيال النصف الثاني من القرن العشرين؟ هل سيقول بأن الولايات المُتحدة قادرة على قيادة الحضارة الغربية في مرحلتها القيصرية والأخيرة؟ من خلال قراءتنا لتعليقاته المتوفرة في كتبه, قد يرفض هذه الفكرة.
لقد ارتبط شبنجلر بما أسماه الأخلاق الاشتراكية, وهي التي تعلي من شأن الدولة على حساب الأفراد, ولا يعني ذلك اقترابه من الماركسية المُبجِّلة للعمال, كذلك فقد تحفظ كثيراً بخصوص الاقتراع العمومي الذي يُؤثر فيه رأس المال على نتائج الانتخابات. وفضلاً عن ذلك اعتقد شبنجلر بأن الديمقراطية سهلت ولوج القوى الهشة لتدبير المجتمع بلا عوائق.
اعتقد شبنجلر بأن المال تجاوز وظيفته, فأفسد سياسة الحكومات وتحكم بها وراح الأفراد ضحية لذلك. وانتقد على وجه التخصيص الاعتماد الكبير على الديون في عالم الاقتصاد, وأن هذه السياسة لم تنتج سوى الأشباح والخيالات التي يتوهمها الرائي ذات قيمة فعلية. ولسوء الطالع فإن تحذيراته التي أطلقها قبل ثمانين عاماً كانت صحيحة, لكنها تحذيرات ذهبت أدراج الريح. فبدلاً من سماع تحذيراته, سمحت الحكومات الغربية للأمور أن تتدهور أكثر لتخرج عن نطاق السيطرة.
كيف يُمكن لشبنجلر أن يُقيم السياسات الخارجية لأمريكا وأوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين؟ نستطيع لمرة أخرى أن نستقرئ هذه الجوانب في كتابه (الأعوام الحاسمة) حين يكتب بوضوح أن النزعة السلمية ليست إلا ضُعفاً, ولا يجب أن تُشارَك مع غير الغربيين. لذا يُمكننا استنباط ردة فعله عن تراجع الغرب ومنحه لمساحات شاسعة من الأرض ومواردها لصالح الأغيار, وهو الأمر الذي حدث بالتحديد في العقود التالية للحرب العالمية الثانية.
هل من المحتمل أن يكون الاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية قد جسّد الدولة الموحدة للثقافة الغربية؟ قد يجد شبنجلر وجاهةً في اتحاد الأمم الأوروبية بشكل طوعي بعد قرون من الاقتتال. بيد أن هذا الاتحاد مبني على أسس اقتصادية, وسيحذر شبنجلر من أن هذا غير كاف وسيؤدي لمشاكل مُحتملة, لأن شبنجلر يصر على أهمية إدارة الدولة للسياسة وأن لها الأولوية على المصالح الاقتصادية.
رؤية شبنجلر للمستقبل والمهام المنوطة به
يشدد شبنجلر على مصطلح “القيصرية” الذي ابتدعه, وأنه الطريق الأوحد للغرب, بالرغم من إبداء قلقه تجاه هذا المصطلح أحياناً, فهو يعترف بأنه مصطلح سطحي وسلبي في مواضع معينة. إنه لمن المثير للاهتمام عندما يُناقش الصراع الدائر بين حضارة قديمة ومتصلبة كالكلاسيكية الرومانية, وضدها الحضارة العربية الشابة والمترددة انذاك, فإنه يتعاطف مع الحضارة العربية الجديدة. لكن عندما يتطرق للقرنين الأخيرين, فإن رؤيته تتأثر بنزعته الوطنية الألمانية.
وفي ملاحظة كتبها تشوبها الروح المتفائلة, يقرر شبنجلر بضعة مهام منوطة بالحضارة الغربية, مثل إصلاح النظام القانوني, أي كما حدث مع تدوين القانون الروماني الذي يُعتبر من منجزات الحضارة الكلاسيكية الرومانية في عهدها المُتأخر, وكما فعل حمورابي في الحضارة البابلية القديمة.
وبجانب ذلك يرى شبنجلر في القرن الحادي والعشرين فرصاً هائلة للاكتشافات التقنية والهندسية, فهذان المجالان يتمتعان بأوفر نصيب من التطور في خريف الحضارة, والعقل الغربي بالذات لديه موهبته الخاصة فيما يتعلق بالتقنية.
إنه لمن المؤسف بالفعل أن تُتجَاهل كتابات شبنجلر بسبب ما أثارته من جدل في مضامينها السياسية, فكتاب (تدهور الحضارة الغربية) بالذات, يحتوي على ثروة معرفية ومعلوماتية قادرة على تحفيز وإمتاع المُختص في كل مجالات المعرفة تقريباً.
الكاتب:
ديفيد مكناوتون, باحث من جنوب افريقيا ويحمل الجنسية البريطانية. مواليد 1941 في دوربان, جنوب إفريقيا. درس الإحصاء والحوسبة والرياضيات والأرصاد الجوية في جامعة جنوب إفريقيا وأكسفورد الإنجليزية. اهتم في كتاباته بالتقويم الإسلامي وتاريخ الحضارات والفلك والفيزياء الكونية.