المنعطفات الغريبة في قضية اختفاء جوليو ريجيني في القاهرة
هدف الشرطة المصرية، في ذلك اليوم من نوفمبر 2015، كان الباعة الجائلين ممن يبيعون الجوارب، النظارات الشمسية الرخيصة، والمجوهرات المزيفة، وقد تجمعوا تحت أروقة مباني هيليوبوليس القديمة، إحدى ضواحي القاهرة. مثل هذه المداهمات روتينية، لكن هؤلاء الباعة شغلوا موقعاً حساساً بشكل خاص. على بعد 100 متر فقط، يقع القصر المنمق الذي يستقبل فيه الرئيس المصري، الرجل العسكري القوي عبد الفتاح السيسي، الشخصيات الأجنبية البارزة. في حين كان الرجال يستعدون على عجل للملمة بضائعهم من الحصير والمداخل، انضم إليهم مساعد غير تقليدي؛ طالب دكتوراة إيطالي يُدعى جوليو ريجيني.
لقد وصل إلى القاهرة قبل بضعة أشهر لإجراء بحوثه الخاصة بالدكتوراة في جامعة كامبريدج. مترعرعاً في قرية صغيرة بالقرب من ترييستي لأب يعمل مديراً للمبيعات وأم تعمل مدرسة، كان ريجيني، اليساري ذو الثمانية والعشرون ربيعاً، مأسوراً بالروح الثورية للربيع العربي. حين اندلعت المظاهرات في ميدان التحرير عام 2011 والتي أدت إلى خلع الرئيس حسني مبارك، كان هو ينهي دراسته للغة العربية والعلوم السياسية في جامعة ليدز. وفي عام 2013، حضر إلى القاهرة ليعمل متدرباً لصالح وكالة الأمم المتحدة، حيث أدت موجة ثورية ثانية إلى قيام العسكر بالإطاحة بالرئيس الإسلامي المنتخب جديداً، محمد مرسي، وتعيين السيسي مكانه. وككثير من المصريين المعادين لحكومة مرسي الصاعدة، أيدَ ريجيني هذه التطورات. «إنه جزء من سير العملية الثورية» كتب إلى صديقه الإنجليزي بيرنارد غويدر في أغسطس. وبعد أقل من أسبوعين، قامت أجهزة الأمن التابعة للسيسي بقتل 800 من أنصار مرسي في يوم واحد؛ وهي أحد أروع المجازر، برعاية الدولة، في تاريخ مصر. كانت هذه المجزرة مقدمة لدوامات طويلة من القمع. سافر ريجيني بعدها إلى إنجلترا حيث بدأ عملاً مع أكسفورد أنالاتيكال «Oxford Analytical»، وهي شركة أبحاث تجارية.
عن بعد، تابع ريجيني تطورات حكومة السيسي عن كثب حيث كتب عدة تقارير عن شمال أفريقيا، محللاً الإتجاهات السياسية والإقتصادية فيها. وبعد سنة، كان قد ادخر المال الكافي لبدء أطروحة الدكتوراة في دراسات التنمية بجامعة كامبريدج. قرر ريجيني التركيز على النقابات المصرية المستقلة، حيث مهدت إضراباتهم غير المسبوقة عام 2006 للثورة ضد مبارك. والآن، مع تمزق الربيع العربي، نظر ريجيني إلى هذه النقابات باعتبارها أملاً هشاً للديمقراطية المضطربة في مصر. بعد 2011، تفجرت أعداد النقابات، متضاعفة من أربعة إلى الآلاف. توجد نقابات لكل شيء؛ الجزارون، عمال المسارح، الحفارون، عمال المناجم، محصلوا فواتير الغاز، والكومبارس في المسلسلات التلفزيونية الرديئة التي تعرض في شهر رمضان. بل وتوجد نقابة عمالية مستقلة للأقزام. وبتوجيه مشرفته، وهي أكاديمية بارزة في جامعة كامبريدج معروفة بنقدها للسيسي، اختار ريجيني دراسة الباعة الجائلين؛ وهم شباب من قرى بعيدة يقاسون ضراوة العيش لكسب قوت يومهم على أرصفة القاهرة. انغمر ريجيني في عالمهم، على أمل مساعدة نقابتهم في التغيير السياسي والإجتماعي الذي ينشدونه.
لكن وبحلول عام 2015، لم يعد هذا النوع من الغمر الثقافي، المحبذ من هواة المستعربين، أمراً سهلاً؛ سحابة من الشكوك غطت القاهرة، وكممت أفواه الصحافة، وتعرض المحامون والصحفيون إلى المضايقات المستمرة، ومُلأت مقاهي وسط القاهرة بالمخبرين. داهمت الشرطة المكتب التي عقد فيه ريجيني مقابلاته، وكانت الحكايات الوحشية عن المؤامرات الأجنبية تذاع ليل نهار على قنوات التلفاز الحكومية.
لم يكن هذا ليردع ريجيني. متقناً خمسة لغات، كان محباً للإطلاع بنهم وصاحب سحر جذب إليه دائرة واسعة من الأصدقاء. في عمر 12 إلى 14، شغل منصب العمدة الصغير لقريته فيوميتشلو. كان فخوراً بنفسه لقدرته على التنقل بين الثقافات المختلفة، ومستمتعاً كذلك بحياة الشارع الجامحة في القاهرة؛ مقاهي الدخان، الصخب الذي لا ينتهي، وحفلات المراكب الملونة التي تغمر النيل ليلاً. سجل جوليو نفسه بصفته باحثاً زائراً بالجامعة الأمريكية في القاهرة، وعثر على شقة في الدقي؛ وهي ضاحية تعاني من الاختناق المروري تقع بين الأهرامات والنيل، حيث تشارك السكن مع اثنين من المهنيين، هما جولين شوكي التي تُدَّرِس الألمانية، ومحمد الصياد الذي يعمل محامياً بأحد أقدم مكاتب المحاماة في القاهرة.
لم تكن الدقي مكاناً عصرياً، لكنها كانت على بعد محطتين فقط من مترو الأنفاق إلى وسط القاهرة حيث متاهات الفنادق الرخيصة، نوادي الغوص، والكتل السكنية المتلاصقة التي تطوق ميدان التحرير. سرعان ما صادق ريجيني الكتاب والرسامين وحسَّن لغته العربية في أبو طارق، وهو محل من أربعة أدوار مضاءة بالنيون وأحد أشهر أماكن أكلة الكشري في القاهرة.
ريجيني بصحبة أخته إيرينا في يوليو 2014.
أمضى ريجيني الساعات في لقاء الباعة الجائلين في هيليوبوليس وفي محل صغير بالقرب من محطة قطار رمسيس. لكسب ثقتهم، أكل ريجيني من نفس أكلهم برغم تحذيرات مشرفته له من خطر التسمم الغذائي. لكن ريجيني لم يبالي؛ كان يجول شوارع القاهرة واضعاً نصب عينيه هدفاً سامياً.
بطريق المصادفة، حضرت فاليريا فيتينسكا، وهي أوكرانية التقاها ريجيني في برلين قبل أربعة سنوات، إلى القاهرة للعمل. اجتمعا مرة أخرى. «بدت أكثر جمالاً عما توقعته»، كتب ريجيني إلى صديقه. ذهبا معاً في رحلة إلى البحر الأحمر، وعندما عادت هي إلى عملها في كييف، استمرت علاقتهما عبر سكيب. «كانت علاقتهما قوية للغاية وجميلة»، تخبرني صديقة ريجيني باز زارات. «بدا في غاية السرور، مليئاً بالأمل للمستقبل».
مع ذلك، كان ريجني واعياً بأخطار القاهرة. «الأمر كئيب للغاية» كتب إلى غويدر بعد شهر من قدومه. «الكل واعي جداً باللعبة التي تحدث». وفي ديسمبر، حضر اجتماعاً لنشطاء النقابات العمالية في وسط القاهرة وكتب عنه، باسم مستعار، لصحيفة إخبارية إيطالية ]«في مصر، فرصة ثانية للنقابات العمالية المستقلة» – أ. ش[. خلال الإجتماع، أخبر ريجيني صديقاً له أنه لمحَ امرأة محجبة تصوره بهاتفها النقال. بدا الأمر مقلقاً. وقد شكى ريجيني لأصدقاءه أن بعض الباعة الجائلين قد صار يزعجه بطلباته،كأن يطلب منه هاتفاً نقالاً جديداً. ثم، بدأت علاقته مع اتصاله الرئيسي محمد عبد الله، وهو رجل قوي البنية في الأربعينيات من عمره، تتخذ منحاً غريباً.
كان عبد الله، الذي عمل لعقد كامل في توزيع الصحف المحلية قبل صعوده لأعلى سلم نقابة الباعة الجائلين، مرشداً لريجيني؛ يقدم له النصائح ويعرفه بالرجال الذين يستطيع إجراء المقابلات معهم. وفي ليلة من ليالي يناير الماضي، اجتمع الإثنان في قهوة بالقرب من محطة قطار رمسيس. أثناء شرب الشاي، ناقشا منحة علمية بقيمة 10 آلاف يورو تقدمها مجموعة بريطانية غير ربحية تُدعى “مؤسسة أنتيبود” «Antipode Foundation». عرض عليه ريجيني أن يقدم له للحصول على المنحة. أما عبد الله، فكانت لديه أفكار أخرى. هل يمكن استخدامها لصالح «مشاريع الحرية»؛ أي النشاط السياسي ضد الحكومة المصرية؟ لا، لا يمكن، أجاب ريجيني بحزم. غير عبد الله مساره. تحتاج ابنته إلى إجراء عملية جراحية وتعاني زوجته من مرض السرطان. وهو مستعد «للقفز على أي شيء» للحصول على المال. أما ريجيني، فقد ازداد استياءه واومأ، تعبيرياً، بالرفض حيث إنه قد وصل إلى أقصى ما تسمح به لغته العربية. «مش ممكن». لا يمكن، «مش بروفشنال».
بعد أسبوعين، خلال الذكرى الخامسة لاحتجاجات 2011، كانت القاهرة محصنة بالكامل. كان ميدان التحرير مهجوراً باستثناء 100 من أنصار الحكومة الذين انخرطوا بتلويح لافتات السيسي وإلتقاط الصور الشخصية مع شرطة مكافحة الشغب. في حين كانت أجهزة الأمن تلقي القبض على المتظاهرين المتحتملين قبلها بأسابيع، وتداهم شقق ومقاهي وسط البلد. ومثل معظم القاهريين، أمضى ريجيني يومه داخل شقته، يعمل ويستمع إلى الموسيقى. وبمجرد حلول الظلام، اعتقد أن النزول من الشقة قد صار آمناً؛ دعاه صديق إيطالي إلى حضور حفلة عيد ميلاد يساري مصري. وقد اتفقوا على الإجتماع في قهوة بالقرب من ميدان التحرير.
قبل خروجه، استمع ريجيني إلى أغنية فرقة “كولدبلاي” «اندفاع الدم إلى الرأس» A Rush of Blood to the Head وأرسل رسالة نصية إلى صديقته فيتينسكا. «أنا خارج»كتبها في الساعة 7:14 مساءً. كانت المسافة قصيرة إلى محطة الميترو، لكن وبحلول الساعة 8:17 مساءً لم يكن ريجيني قد وصل. بدأ صديقه الإيطالي بمحاولة الإتصال به، أولاً عن طريق الرسائل النصية ثم بالمكالمات المسعورة.
كان الأمل بتفكيك جهاز الأمن البغيض من بين أكثر الوعود المسكرة للربيع العربي. في مارس عام 2011، أي في الأشهر الأولى للاحتجاجات، اقتحم المصريون المباني الرئيسية لأمن الدولة، الذراع الأول للقمع في عهد مبارك، وخرجوا بقوائم المخبرين، ونسخ من صور المراقبة، ونصوص المكالمات الهاتفية التي تم اعتراضها. بعضهم وجد صوراً لنفسه. كانت هناك دعوات لإجراء إصلاحات جذرية للقطاع الأمني. لكن ما أن انزلقت البلاد في إضطراب ما بعد الثورة حتى توقف الحديث عن الإصلاح. وبعد وصول السيسي للسلطة عام 2013، بدا جلياً أن القليل قد تغير فعلياً.
أعيد تسمية جهاز أمن الدولة وكالة الأمن الوطني، لكنه ظل تحت سيطرة وزارة الداخلية القوية؛ التي يعتقد أنها توظف ما لا يقل عن 1.5 مليون ضابط شرطة، ضابط أمن، ومخبر. أعيد الضباط المفصولون، وفتحت غرف التعذيب مرة ثانية. وهرب زعماء المعارضة، خشية الإعتقال، من البلاد. وبدأ مراقبوا حقوق الإنسان بحساب أعداد “المختفين” – أي المعارضين الذين اختفوا في الاحتجاز الحكومي دون اعتقال أو محاكمة – حتى اختفى المراقبون أنفسهم.
واليوم، يمكن القول أن مصر باتت أقسىى مما كانت عليه زمن مبارك. بعد انتزاع السلطة، أنتخب السيسي رئيساً عام 2014 بنسبة 97% من أصوات الناخبين. صار البرلمان مكتظاً بأنصاره والسجون ملئة بخصومة؛ 40 ألف شخص بحسب أكثر الإحصائات، معظمهم من جماعة الإخوان المسلمين المحظورة؛ وهي منظمة إسلامية تأسست عام 1928، ومنهم أيضاً محامون، وصحفيون، وعمال إغاثة. يبرر السيسي هذه التدابير بالإشارة إلى الخطر المتدفق للمتطرفين، حيث تقاتل ميليشا الدولة الإسلامية الجنود المصريين في سيناء منذ عام 2014، وقد قاموا هذا العام بإرسال إنتحارييهم إلى الكنائس القبطية، قاتلين العشرات. هناك عدد لا بأس به من المصريين يشعرون بالقلق من أنه وبدون وجود أيدي حازمة، فإن بلادهم، التي يبلغ عدد سكانها 93 مليون نسمة، يمكن أن تصبح سوريا أو ليبيا أو العراق القادمة. معظم النُخَب المصرية، خوفاً من الإضطرابات التي أعقبت الربيع العربي، يقفون مع السيسي بشدة. ويعترف معظم المثقفين، الذين فُزعوا من تجربتهم قصيرة الأمد مع الديمقراطية، بأنهم خلو من الأفكار.
يستمد السيسي، غير المنتسب إلى حزب سياسي، قوته من طوائف الدولة؛ وهم فئات الجنرالات والقضاة وقواد الأمن الذين يزدادون قوة يوماً بعد يوم. إن المبدأ التوجيهي الأولي لهذه الدولة البوليسية هو منع تكرار أحداث 2011، كما قال لي أحد سفراء الدول الغربية، وقد طلب عدم ذكر اسمه لأنه غير مخول بالحديث حول هذا الموضوع، أثناء لقائي به في حديقته الشتاء الماضي. في العقد الأخير من حكمه، قدم مبارك عدداً من التنازلات التي أدت إلى حصول الإخوان المسلمون على خُمس مقاعد البرلمان؛ تمتع الصحافة بقدر من الحرية؛ والسماح ببعض الإضرابات العمالية. ولكن أياً من ذلك لم يحمي مبارك. في الواقع، وبحسب مسؤولين تابعين للسيسي، فقد سارع تراخي مبارك في زواله. كان الدرس واضحاً: «إن التنازل عن بوصة واحدة، يُعد خطأ» كمال قال لي السفير الغربي معدداً خصائص نظام السيسي؛ «السرية، جنون الريبة، والشعور بأنك توكد السلطة بأن تظهر نفسك قوياً فلا تُظهر ضعفاً ولا تبني جسراً».
لقد صار كشف الأعمال الداخلية للوكالات الأمنية الثلاث الرئيسية لغزاً للمراقبين المصريين. «إنه أمر مبهم جداً، مثل الصندوق الأسود» قال لي مايكل وحيد حنا من مؤسسة القرن، وهو معهد للسياسات مقره نيويورك. «ولكن توجد دلائل».
الوكالات الأمنية موالية للسيسي، يقول حنا، لكنهم دائماً ما يتسابقون على المناصب. إذ يُعتقد أن جهاز الأمن الوطني، الذي لديه ما يربو على 100 ألف موظف وعلى الأقل، العديد من المخبرين، لا يزال هو الأكثر بروزاً. ومنافسه الناشئ هو المخابرات العسكرية، الذين ابتعدوا عن السياسة، ولكنهم توسعوا كثيراً تحت ظل السيسي الذي قاد الوكالة في الفترة من عام 2010 إلى عام 2012. أما جهاز المخابرات العامة فهو معادل للسي آي إيه، حيث قوت شوكته في عهد مبارك. أما اليوم، فينظر إليه على أنه تضائل إلى حد ما.
تتمتع هذه الوكالات بنفوذ مفرط. إنهم يتملكون المحطات التلفزيونية، ويسيطرون على الكتل البرلمانية، ويشتغلون في الأعمال التجارية، ويقوم عملائهم بدوريات الشوارع ومراقبة الإنترنت. وهم أيضاً الذين يرسمون الخطوط الحمراء لما يجوز وما لا يجوز فعله في المجتمع المصري. وهذا يجعل من مصر مكاناً محفوفاً بالمخاطر للمعارضين، فقد تؤدي حركة خاطئة أو نكتة أسيء تفسيرها (سجن مصريون بسبب مشاراكاتهم على الفيس بوك) إلى السجن أو المنع من مغادرة البلاد. وتقول منظمة العفو الدولية أن عدد المختفين قسرياً يصل إلى 1700 شخص، وتضيف أن الإعدامات خارج القانون شائعة.
عندما وصل ريجيني إلى مصر عام 2015، كان يُعتقد وقتها أن الأجانب يعاملون وفق قوانين خاصة. ومن الصحيح أن بعضهم تعرض لمشاكل. ففي أوائل ذلك العام، أطلق سراح صحفي الجزيرة بيتر غريست بعد 13 شهراً قضاها في السجن بتهمة “الإضرار بالأمن الوطني”، وطرد طالب فرنسي بسبب إجراء مقابلات مع نشطاء ديمقراطيين. وقد قام مشرفوا ريجيني بتحذيره من إجراء إتصالات مع أعضاء جماعة الإخوان المسلمين. «الوضع هنا ليس سهلاً» كتب ريجيني إلى صديق له بعد شهر من وصوله. لكن وبشكل عام فإن جوليو، كما أخبرتني مشرفته لاحقاً، اعتقد أن جواز سفره الأجنبي سيحميه. كان تخوفه الوحيد أن يُرحَّل إلى كامبريدج قبل أن يتمكن من إنهاء بحثه.
بعد أسبوع من اختفاء ريجيني، استولى على سفير إيطاليا في القاهرة، موريزيو ماساري، شعورٌ بالتشاؤم. كان ماساري، ذي الشعر الرمادي والجاذبية الساحرة، لاعباً أساسياً بسرك الدبلوماسية في القاهرة. كان يحب استضافة تجمعات الأكاديميين والسياسيين المصريين، ومشاهدة مباريات كرة القدم، في عطلة الأسبوع، مع نظيره السفير الأمريكي ر. ستيفن بيكروفت. اليوم، هو يسير بخطى لا تهدئ نحو الممرات الرخامية الطويلة للسفارة الإيطالية المطلة على النيل.
لقد عمت أخبار اختفاء ريجيني ربوع القاهرة. وأطلق أصدقاءه حملة إلكترونية على الإنترنت للبحث عنه تحت وسم #whereisgiulio «أين جوليو؟». وسافر والداه إلى القاهرة وجلسا ينتظران في شقته بالدقي. انتشرت الشائعات عن أن ريجيني أختطف من قبل متطرفين إسلاميين، وهو احتمال مرعب، حيث قام مقاتلوا تنظيم الدولة الإسلامية قبلها بستة أشهر، بقطع رأس مهندس كرواتي بعد اختطافه من أطراف القاهرة. ومما زاد من مخاوف السفير الإيطالي ردود أفعال المسؤوليين المصريين. لم يكن لمحطة الإستخبارات الإيطالية في السفارة أي قيادة، لذا فقد سعى ماساري وراء وزارة الخارجية؛ وزارة الإنتاج الحربي؛ ومستشارة السيسي للأمن القومي فايزة أبو النجا. وجميعهم ادعى أنه لا يعرف شيئاً عن اختفاء ريجيني. كان اللقاء الأكثر إثارة للقلق مع وزير الداخلية مجدي عبد الغفار، الذي استغرق ستة أيام للموافقة على عقد إجتماع، فحسب، مع الدبلوماسيين الإيطاليين الذين طلبوا المساعدة. وتُرك ماساري في حيرة من أمره؛ يمتلك عبد الغفار، وهو من مخضرمي الأجهزة الأمنية لمدة 40 عاماً، جيشاً من المخبرين في شوارع القاهرة، فأنى له أن يكون في العتمة؟
بدأت الشرطة تحقيقاً حول اختفاء ريجيني ويبدو أنهم تتبعوا خيوطاً غريبة في مسار التحقيق. عندما قابل أحد المحققين عمرو، وهو أستاذ جامعي يساري وصديق لريجيني طلب عدم نشر اسمه الأخير خشية الانتقام، كرر عليه السؤال عما إذا كان ريجيني مثلياً. «أخبرتهم أن لديه حبيبة»، يقول لي عمرو عندما اجتماعنا لشرب القهوة بالقرب من منزله بضاحية المعادي. «ثم قال المحقق الآخر: «هل أنت متأكد أنه سوي؟ ربما يكون أحد هؤلاء من مزدوجي الميول الجنسية». “قلت لهم: «عليكم أن تجدوه فحسب».”
ومما زاد من تفاقم الأزمة وصول وفد تجاري إيطالي رفيع المستوى إلى القاهرة. منذ عام 1914 وإيطاليا تحافظ على علاقاتها الدبلوماسية مع مصر، ودعمتها حتى عندما أدارت بلدان أخرى ظهرها لها. إيطاليا هي أكبر شريك إقتصادي لمصر في أوربا، بما يقارب 6 مليار دولار في عام 2015، وتفتخر روما بعلاقتها الوثيقة بالقاهرة. وفي عام 2014، أصبح ماتيو رينزي، رئيس الوزراء الإيطالي آنذاك، أول رئيس غربي يرحب بالسيسي في العاصمة روما، واستمرت إيطاليا في بيع الأسلحة وأنظمة المراقبة لمصر رغم ظهور أدلة بانتهاك حقوق الإنسان في مصر.
في اليوم التالي لاجتماع ماساري مع وزير الداخلية المصري، سافرت وزيرة الإستثمار الإيطالية، فيدريكا جودي، إلى القاهرة برفقة 30 مسؤولاً تنفيذياً إيطالياً لعقد صفقات تجارية في حقول البناء، الطاقة، والتسليح. الآن، أصبحت قضية ريجيني على رأس جدول الأعمال. توجهت المجموعة إلى الإتحادية، حيث القصر الرئاسي، وهو نفس المكان الذي ساعد فيه ريجيني الباعة الجائلين أثناء مداهمة الشرطة لهم من الأبواب الخلفية. عقد ماساري وجودي إجتماعاً خاصاً مع السيسي، الذي استمع بجدية لمخاوف الإيطاليين. لكنه، ومثل البقية، لم يقدم سوى التعاطف.
في تلك الليلة، أعد ماساري استقبالاً للوفد التجاري الإيطالي ولرجال الأعمال المصريين في السفارة، حيث اجتمع حوالي 200 شخصاً في قاعة الإستقبال؛ يحتسون النبيذ أثناء انتظارهم لطعام العشاء. كان من بينهم مساعد وزير الخارجية، حسام زكي، الذي اندفع وسط الحشود باتجاه ماساري، وبدأ حديثه بطريقة غامضة.
«ألم تعلم؟» قال زكي.
«أعلم ماذا؟» رد ماساري.
«تم العثور على جثة».
ففي صباح ذلك اليوم، لاحظ سائق حافلة ركاب، على طريق الإسكندرية الصحراوي المزدحم غرب القاهرة، شيئاً ما على جانب الطريق. وعندما خرج لتفقد الأمر، وجد جثة؛ عارية من جهة الخصر إلى الأسفل وملطخة بالدماء. لقد كانت جثة ريجيني.
هرول ماساري إلى فندق الفصول الأربعة حيث تقيم جودي، ومعاً هاتفا رينزي ووزير الخارجية باولو جنتليوني. ألغي الإستقبال في السفارة الإيطالية وأرجع الضيوف إلى منازلهم دون تقديم تفسير. ثم توجه ماساري وجودي إلى شقة ريجيني في الدقي حيث يقيم والداه. وعندما احتضن السفير والدة ريجيني، باولا ديفندي، تأكدت أسوء مخاوفها. «انتهى كل شيء» كما أخبرت الصحافة فيما بعد. «كانت لحظات السعادة في أسرتنا قصيرة للغاية».
وصل ماساري إلى مشرحة زينهم، في وسط القاهرة، بعد منتصف الليل. وقد صحبه فريق صغير من السفارة الإيطالية، من بينهم رجل شرطة. في البداية، منعهم مسؤولوا المشرحة من الدخول. «افتح الباب!» صرخ ماساري، منفعلاً بشكل واضح. وأقتيد ماساري، أخيراً، إلى غرفة مبردة حيث يستلقي جسد ريجيني على طاولة معدنية.
كان فك ريجيني مفتوحاً وشعره ملَّبداً بالدماء. أحد أسنانه الأمامية مفقود، والعديد من أسنانه إما مقصوصة أو مكسورة، كأنها طرقت بآلة حادة. ملأت أعقاب السجائر جسده، وتوجد جروح غائرة على ظهره. وقُطعت شحمة أذنه اليمنى، وتحطمت عظام معصميه وكتفه وقدمه. غمرت ماساري موجة من الغثيان. ويظهر أن ريجيني قد تعرض للتعذيب على نطاق واسع. بعد أيام، أكد تشريح إيطالي للجثة حجم إصاباته؛ تعرض ريجيني للضرب، الحرق، والطعن وعلى الأرجح الجلد على باطن قدميه على مدى أربعة أيام متتالية. وقد توفي نتيجة كسور في عنقه.
يقع مكتب أحمد ناجي، النائب العام ]رئيس نيابة حوادث جنوب الجيزة[ الذي أشرف مبدئياً على التحقيق في جريمة مقتل ريجيني، في الطابق السابع من مبنى محكمة الجيزة المتهالك، على بعد أميال قليلة من ميدان التحرير. وكأي يوم عادي، يعبر مئات الناس من خلال الممرات الضيقة للمحكمة؛ محامون، ومعتقلون مصفدة أيديهم مع أسرهم. عندما حضرت لمقابلته بعد أسابيع قليلة من مقتل ريجني، كان ناجي، وهو مدخن شره، يجلس خلف مكتبه الشبيه بمكتب لويس الرابع عشر وأمامه أوراق متكدسة وفناجين قهوة لم تشرب بأكملها.
في الساعات الأولى للتحقيق، تحدث ناجي بصراحة مدهشة. لقد أخبر الصحفيين أن ريجيني عانى «موتاً بطيئاً» ولم يستعبد احتمالية تورط الشرطة. «نحن لا نستبعد ذلك». لكن وبعد فترة وجيزة، صرح رئيس مباحث ]قسم الجيزة[ أن ريجيني توفي نتيجة حادث مروري. لتظهر، بعد ذلك، نظريات بشعة في الصحف وقنوات التلفاز؛ كان ريجيني مثلياً وقتل من قبل عاشق غيور.. كان مدمناً للمخدرات أو على صلة بجماعة الإخوان المسلمين.. كان جاسوساً. وأشارت عدة تقارير إلى حيثيات عمله في شركة أكسفورد أنالاتيكال، التي أسسها مسؤول سابق في إدارة نيكسون،كدليل على أنشطته الاستخباراتية المحتملة لصالح السي آي إيه أو جهاز الإستخبارات البريطاني. وفي مؤتمر صحفي، رفض وزير الداخلية مجدي عبد الغفار، احتمالية قيام قوات الأمن المصري باحتجاز ريجيني. «بالطبع لا!» قال. «هذا هو القول الفصل في المسألة: هذا لم يحدث».
كان مكتب ناجي بارداً ومظلماً، والستائر مغلقة بإحكام؛ تداعبها نسمات الهواء القادمة من وحدة التكييف الصاخبة. بشعر أملس مسرح إلى الخلف وابتسامة باهتة، خلق ناجي جواً من الثقة المفرطة. أما الجرأة التي أظهرها في قضية ريجيني أول مرة، فقد تبخرت. لقد أجاب على أسئلتي، مشعلاً سجارة تلو الأخرى كلما تحدث، بتهرب واضح. «هناك جرائم قتل قد تُحل»، ختم ناجي حديثه بعد 30 دقيقة غير مثمرة. «يتوجب علينا الإنتظار فحسب؛ وسوف نجني، إن شاء الله، ثمرة ذلك».
للمسؤولين المصريين سجل طويل من مواجهة الأزمات بهذه الطريقة: الإنكار ثم التشويش، تليها المماطلة، على أمل أن تتلاشى المشكلة تدريجياً. في سبتمبر عام 2015، في الشهر الذي وصل فيه ريجيني إلى القاهرة، قتلت طائرة هيليكوبتر مصرية ثمانية مكسيكيين وأربعة مصريين أثناء تخييمهم في الصحراء الغربية، ظناً منها أنهم إرهابيون. وبدلاً من تقديم الإعتذار، حاولت السلطات إلقاء اللوم على المرشدين السياحيين، ثم وعدت بتحقيق لم يخرج بأي نتائج. كانت الحكومة المكسيكية غاضبة. وبعد شهر، رفضت مصر، بداية، الاعتراف بأن قنبلة تابعة للدولة الإسلامية هي سبب سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء، مسفرة عن مقتل 224 شخصاً، على الرغم من تأكيد روسيا والدولة الإسلامية لذلك.
إذا اعتقد المسؤولون المصريون أن بإمكانهم الإفلات من قضية ريجيني بهذه الطريقة، فإنهم مخطؤون. فقد شيّع أكثر من 3000 شخص جنازة ريجيني في قريته فيوميتشلو. وتحول الحزن، في جميع أرجاء إيطاليا، إلى غضب شعبي بعد نشر تفاصيل تعذيبه المؤلمة. وفي الصحافة، غالباً ما وضعت صورة لريجيني تظهره مبتسماً وهو يحمل قطة بين ذراعيه. كما عمّت الافتات الصفراء التي تحمل شعار Verita per Giulio Regeni «الحقيقة من أجل جوليو ريجيني» القرى والمدن الإيطالية. «لن نتوقف أبداً قبل معرفة الحقيقة» قال رئيس الوزراء رينزي للصحفيين. «الحقيقة الخالصة، لا الحقيقة المريحة».
لا يستند غضب رينزي إلى الحدس المجرد. ففي الأسابيع التي تلت وفاة ريجيني، حصلت الولايات المتحدة على معلومات إستخباراتية هائلة من مصر؛ أدلة تثبت أن مسؤوليين أمنيين مصريين اختطفوا، وعذبوا، وقتلوا ريجيني. «لدينا أدلة دامغة على مسؤولية سلطات الأمن المصري»، أخبرني مسؤول في إدارة أوباما، وهو واحد من ثلاث مسؤوليين سابقين أكدوا المعلومات الإستخباراتية. «ليس ثمة شك». وبناء على توصيات من وزارة الخارجية والبيت الأبيض، مررت الولايات المتحدة هذه المعلومات إلى حكومة رينزي. ولكن، خشية تحديد المصدر، لم يشارك الأمريكيون المعلومات الإستخباراتية الأولية كما لم يحددوا اسم الجهاز الأمني الذي يعتقدون أنه المسؤول عن وفاة ريجيني. «ليس واضحاً من أصدر الأمر باختطافه وقتله المفترض» قال لي مسؤول سابق آخر. ما يعرفه الأمريكيون على وجه اليقين، وقد أبلغوا الإيطاليين به، هو أن القيادة المصرية كانت على علم تام بحيثيات مقتل ريجيني. «لم يكن لدينا أي شك من أن ذلك معروف لأعلى رتبة» قال لي المسؤول الآخر. «لا أدري إن كانوا متورطين، لكنهم كانوا يعلمون. هم يعلمون».
عامل بناء بالقرب من المكان الذي عثر فيه على جثة ريجيني على طريق الإسكندرية الصحراوي؛ على مشارف القاهرة / نيويورك تايمز
بعد أسابيع، في أوائل يناير 2016، قابل وزير الخارجية الأمريكية السابق، جون كيري، سامح شكري في اجتماع عُقد بواشنطن. كان «إجتماعاً مطولاً» كما أخبرني مسؤول سابق في إدارة أوباما. مع ذلك، لم يستطع فريق كيري تحديد ما إذا كان شكري مماطلاً أو أنه لا يعلم حقاً ما حدث. أثار هذا الإجتماع «تعجباً» داخل الإدارة الأمريكي، يقول مسؤول آخر، لأن كيري معروف بتعامله الحسن مع مصر؛ وهى نقطة ارتكاز للسياسة الخارجية الأمريكية منذ معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979.
في تلك الفترة، وصل فريق من سبعة محققين إيطاليين إلى القاهرة للمشاركة في التحقيق الذي تجريه السلطات المصرية. وقد عُرقلوا بكل وسيلة. لقد بدا أن شهود العيان قد تم تدريبهم؛ ومسحت تسجيلات كاميرات المراقبة لمحطة الميترو القريبة من شقة ريجيني؛ ورفض طلب البيانات الوصفية (metadata) لملايين المكالمات على أساس أنها سوف تضر بالحقوق الدستورية للمواطنيين المصريين. قام بعض شهود العيان الجسورين بزيارة المحققين في مكتبهم المؤقت بقبو السفارة الإيطالية. وحتى مع ذلك، لم يتوقف قلق الإيطاليين.
بعد مقتل ريجيني، ساورت ماساري شكوك حول الأمن في السفارة، فتوقف عن استخدام الهاتف والبريد الإلكتروني لمناقشة القضايا الحساسة. وبدلاً عن ذلك، لجأ لاستخدام آلة تشفير ورقية قديمة الطراز لإرسال الرسائل إلى روما. خشي المسؤولون أن يكون المصريون العاملون بالسفارة الإيطالية يسربون المعلومات إلى أجهزة الأمن المصرية. ولاحظوا أن الأضواء دائماً ما كانت مطأفة في الشقة المقابلة للسفارة؛ وهو مكان جيد لزرع مايكروفون متنقل. أصبح ماساري، الذي لا يزال يعاني صدمة من مشاهدته لإصابات ريجيني، منعزلاً ولم يعد يحضر الإجتماعات مع باقي السفراء. وقد أخذت علاقته مع المسؤولين المصريين تتدهور. فقد استشاط المسؤولون المصريون غضباً من مقابلة له على محطة تلفزيونية إيطالية؛ حملهم فيها اللوم بسبب مقتل ريجيني. «استنتجنا أنه اتخذ موقفاً بالفعل»، أخبرني مساعد وزير الخارجية حسام زكي. «كان شخصاً جدلياً. لا جدوى منه». عندما جازف بالظهور، لاحظ الناس أنه بدا منهكاً. وقال أصدقاءه أنه يعاني من استعصاء النوم.
بدأ الضغط العالمي يتدفق على المصريين. أرسلت الصحف الإيطالية كبار صحفييها إلى القاهرة. أُطلق موقع RegeniLeaks «تسريبات ريجيني» على شبكة الإنترنت؛ ملتمساً المعلومات من المبلغين المصريين. وبدأت والدة ريجيني حملتها الخاصة للكشف عن الحقيقة، وقد ذكرت قي مؤتمر صحفي أنها لم تستطع التعرف على جثة ابنها المعذب إلا من «طرف أنفه». وقف الممثلون؛ الشخصيات التلفزيونة؛ ولاعبوا كرة القدم في صفها. أخبرها المصريون أن ابنها «قتل كما لو كان مصرياً»؛ وهو وسام شرف في مصر السيسي. وأصدر البرلمان الأوربي بياناً لاذعاً يدين فيه الحيثيات الغامضة التي أدت لمقتل ريجيني. وفي لندن، قدم ناشطون عريضة، عليها أكثر من 10 آلاف توقيع، للبرلمان؛ داعين الحكومة البريطانية لضمان «تحقيق موثوق». كما ساعدت الأف بي آي المحققين الإيطاليين، فعندما وصل صديق لريجيني إلى الولايات المتحدة، أوقفه المحققون الأمريكيون على جنب للاستجواب.
هذه المرة لن تجدي المماطلة نفعاً. «نحن في ورطة كبيرة» قال عمرو أديب، المذيع التلفزيوني، في برنامجه.
«هل تتحدث اللاتينية؟» سألني لويجي مانكوني، عضو مجلس الشيوخ الإيطالي الذي يدافع عن قضية عائلة ريجيني، عندما زرته في روما يناير الماضي. «هناك عبارة باللاتينية arcana imperii، وتعني أسرار السلطة».
قالها ثم توقف منتظراً ردة فعلي.
«هذا ما نراه في مصر. الجانب المظلم لهذه المؤسسات = الأسرار التي في قلوبهم».
كان عضو مجلس الشيوخ يشير إلى الأجهزة الأمنية المصرية. وفاته أن التحقيق في قضية ريجيني يكشف عن ثغرات مزعجة داخل الدولة الإيطالية نفسها. ثمة أولويات أخرى. فالإستخبارات الإيطالية تحتاج مساعدة مصر في مواجهة الدولة الإسلامية، احتواء الصراع في ليبيا، ورصد تدفق المهاجرين عبر البحر الأبيض المتوسط. كما أن لشركة الطاقة «الوكالة الوطنية للمحروقات (إيني)»، المدارة من قبل الدولة، حصتها الخاصة. فقبل أسابيع من مجيء ريجيني إلى القاهرة، أعلنت إيني عن اكشاف كبير؛ حقل غاز ظهر، على بعد 120 متراً من الساحل الشمالي لمصر، الذي يحتوي على ما يقدر بنحو 850 مليار متر مكعب من الغاز، وهو ما يعادل 5.5 مليار برميل من النفط.
إيطاليا هي أحد أكثر بلدان أوربا ضعفاً في مجال الطاقة. وهذا يجعل من إيني أكثر من مجرد 58 بليون دولاراً من المشاريع الضخمة في 73 دولة. إنها جزء لا يتجزأ من السياسة الخارجية الإيطالية. وقد أكد رينزي ذلك عام 2014، داعياً إيني «جزءاً أساسياً من سياستنا في مجال الطاقة، وسياستنا الخارجية، وسياستنا الإستخباراتية».
يعرف الرئيس التنفيذي لشركة إيني، كلاوديو ديسكالزي؛ وهو رجل فارع الطول قاد الاستكشافات الأخيرة في ربوع أفريقيا، رؤساء الدول، في الكثير من البلدان، أفضل من معرفة الوزراء الإيطاليين بهم.
في الوقت الذي اشتد فيه الضغط لحل قضية ريجيني، طمأن ديسكالزي، وهو زائر منتظم للقاهرة، منظمة العفو الدولية من أن السلطات المصرية «تبلغ قصارى جهدها» للعثور على قتلة ريجيني. لقد ناقش هذه القضية ثلاث مرات، على الأقل، مع السيسي. ووفقاً لأحد المسؤوليين الإيطاليين بوزارة الخارجية، فإن الدبلوماسيون قد أعربوا عن اعتقادهم بأن إيني قد انضمت إلى قوات المخابرات الإيطالية لإيجاد حل سريع للقضية. لإيني تاريخ طويل في توظيف الجواسيس المتقاعدين لتدريب وحدتهم للأمن الداخلي، كما يقول أندريا جريكو، المؤلف المشارك لكتاب «الدولة الموازية The Parallel State»؛ وهو كتاب عن شركة إيني نُشر عام 2016. «لديهم شراكات قوية» يقول. «وأنا متأكد أن لديهم يد في حل قضية ريجيني. مع ذلك، فليس من المؤكد إن كان هذا متماشياً مع مصالحهم». يقول متحدث باسم إيني أن الشركة «فزعت» بعد سماع خبر مقتل ريجيني. ومع أنها لا تملك سلطة التحقيق، فقد واصلت «متابعة القضية عن كثب» من خلال علاقاتها بالحكومة المصرية.
أصبح التعاون الملموس بين إيني وأجهزة الإستخبارات الإيطالية مصدراً للتوتر داخل الحكومة الإيطالية. وصار مسؤولوا وزارة الخارجية والإستخبارات يحمون بعضهم البعض، بحجب المعلومات أحياناً. «كنا في حالة حرب، وليس فقط مع المصريين» قال لي أحد المسؤوليين. وكان دبلوماسيون يشتبهون أن ثمة جواسيس إيطاليون، في محاولة منهم لإغلاق قضية ريجيني، قد توسطوا في مقابلة أجرتها صحيفة «لاريبوبلكا La Repubblica» الإيطالية مع السيسي بعد ستة أسابيع من وفاة ريجيني (في حين يؤكد رئيس تحرير الصحيفة الإيطالية أن طلب إجراء المقابلة جاء من الصحيفة نفسها). في اللقاء، أبدى السيسي تعاطفه مع أسرة ريجيني واصفاً موته بـ «الفضيع والمرفوض»، وتعهد بإيجاد الجناة، قائلاً «سوف نصل إلى الحقيقة».
في يوم 24 مارس، بعد ثمانية أيام من ظهور المقابلة، فتحت شرطة القاهرة النار على حافلة صغيرة تحمل خمسة رجال، يحمل العديد منهم سجلاً إجرامياً أو تاريخاً من تعاطي المخدرات، أثناء مرورهم بضاحية مزدهرة. قتل الخمسة جميعاً، وأصدرت وزارة الداخلية بياناً يصفهم بأنهم عصابة من الخاطفين كانوا يستهدفون الأجانب. لاحقاً، وبعد مداهمة الشقة التي يسكنون فيها، عثرت الشرطة على متعلقات ريجيني؛ جواز سفره، بطاقته الإئتمانية، وهويته الجامعية. وسرعان ما أعلنت وسائل الإعلام الحكومية بأنه تم العثور على قتلة ريجيني. أستدعي المحققوق الإيطاليون، الذين كانوا في مطار القاهرة استعداداً للسفر لقضاء عيد القيامة، حيث شكرتهم وزارة الداخلية على تعاونهم.
أما في إيطاليا، فقد تعرضت أخبار قتل العصابة للتشكيك. عم وسم #noncicredo «لا أصدق ذلك» تويتر. وسرعان ما انهارت الرواية المصرية. قال شهود العيان للصحفيين، ومنهم أنا، أن الرجال الخمسة اعدموا بدم بارد. أحدهم أطلق عليه النار أثناء جريه، ووضعت جثته لاحقاً داخل الحافلة. «لم يعطوا أي فرصة» أخبرني أحد الرجال وهو يهز رأسه متأسفاً.
فقدت قصة علاقة الخمسة بريجيني مصداقيتها، حيث استخدم المحققون الإيطاليون سجلات الهاتف لإظهار أن قائد العصابة المفترض، طارق عبد الفتاح، كان على بعد 60 ميلاً شمال القاهرة في اليوم الذي يفترض أنه اختطف فيه ريجيني.
وفي الخريف الماضي، قال المدعي العام المصري لنظيره الإيطالي أن اثنين من الضباط وجهت إليهم تهمة قتل الخمسة. لكن يظل هناك سؤال محرج؛ إذا لم يقتل أفراد العصابة ريجيني، فكيف وصل جواز سفره إلى شقتهم؟
لمن يكن لدى الإيطاليين أدنى شك بأن القصة بأكلمها كانت بهدف التغطية الصريحة، غير المتقنة، بحيث تجعل المصريين يتهمون أنفسهم بالجريمة. ومع ذلك، فقد نجحت الخطة. غادر المحققون الإيطاليون القاهرة وتوقف التحقيق. وأستبدل ماساري بسفير جديد أمر بالبقاء في روما. في مصر، أصبح “ريجيني” كلمة يُهمس بها. «كل من يهتم بجوليو خائف» أخبرتني هدى كامل، مُنظِّمة النقابات التي ساعدت ريجيني في أبحاثه. «يبدو أن الدولة، بكل قوتها، تحاول قتل القضية».
بعد أشهر من العلاقات الدبلوماسية المتوترة، تصدّع حائط الإنكار المصري أو بدا كذلك. اعترف النائب العام نبيل صادق، في زيارته لروما في سبتمبر الماضي، أن جهاز الأمن المصري راقب ريجيني بعد اشتباهه بالتجسس. وفي سلسلة من الاجتماعات على مدى الأشهر القليلة الماضية، قدم النائب العام المصري للإيطاليين وثائق؛ سجلات الهاتف، وإفادات الشهود، وشريط فيديو يظهر تعرض ريجيني للخيانة من أشخاص مقربين منه.
كان محمد عبدالله، اتصال ريجيني في نقابة الباعة الجائلين، مخبراً لوكالة الأمن القومي. مستخدماً كاميرا خفية، سجل عبد الله حواره مع ريجيني بخصوص منحة الـ 10 آلاف يورو (تسلم الإيطاليون الشريط). وقد أدلى ببيان يصف فيه علاقته مع مدربه، العقيد شريف مجدي إبراهيم عبد العال، الذي وعده، كما يقول، بمكافأة بمجرد إغلاق قضية ريجيني.
وربما كانت هوية الشخص الثاني أكثر إثارة للدهشة. يعتقد المحققون الإيطاليون أنه في الشهر الذي اختفى فيه ريجيني، سمح زميله في السكن، المحامي محمد الصياد، لوكالة الأمن القومي بتفتيش الشقة. وفي الأسابيع التي تلت، أظهرت سجلات الهاتف تحدث الصياد مع إثنين من المسؤوليين في وكالة الأمن الوطني.
لم يستجب الصياد لطلب التعليق، لكني تحدثت مطولاً، عبر فيسبوك، مع زميلة ريجيني في السكن جولين شوكي. كان حسابها مصحوباً بأعراض مناخ الإرتياب في قاهرة السيسي. تقول شوكي أن الصياد أعرب عن شكه في ريجيني في غضون أيام من انتقاله إلى شقتهما. وتتذكر أنه قال مرة «أعتقد أن جوليو جاسوس».
بعد اختفاء ريجيني، بدأت هي أيضاً تشاطره هذا الرأي. وتكهن الإثنان بأنه يعمل لحساب الموساد (تقول شوكي أن ريجيني أخبرها أنه كانت لديه حبيبة إسرائيلية سابقة وأنه زار إسرائيل). تُرجع شوكي هذه النظرية إلى ضباط المخابرات المصرية، وتذكر أنهم «فوجئوا لأن لديهم نفس الفكرة».
بعد وفاة ريجيني، كانت شوكي تجلس مع الصياد لمشاهدة أفلام الإثارة على التلفاز، قائلة «لقد حدث الأمر بهذه الطريقة بالضبط!»؛ وهو ما «بدا سخيفاً بعض الشيء» وقتها،كما تقول. «ولكنه، قبل عام،كان منطقياً تماماً».
استخدم المحققون الإيطاليون سجلات الهاتف لإيجاد صلات أخرى، وقد اكتشفوا أن ضابط الشرط الذي ادعى عثوره على جواز السفر؛ كان على إتصال بفريق الأمن القومي الذي يتتبع ريجيني. فجأة، شعر والدا ريجيني أن ثمة أمل بظهور الحقيقة. «الشر يتكتشف ببطء مثل كرة من الصوف»، كتبا في رسالة منشورة في صحيفة «لاريبوبلكا» في الذكرى الأول لاختفاءه.
لكن، وعلى الرغم من اعتراف المصريين بمراقبتهم لريجيني، فإنهم أصروا على أنهم لم يخطفوه أو يقتلوه. وحتى لو أمكن إثبات ذلك، يبقى جوهر الغموض؛ لماذا «قُتل كما لو كان مصرياً»؟ تشير إحدى النظريات الشائعة إلى طريقة عمل الضابط المارِق. ففي وزارة الداخلية، التي تسيطر على الأمن القومي، يتمتع الضباط ذوي المستوى المنخفض بقدر كبير من الحكم الذاتي ولكنهم نادراً ما يحاسبون، وفقاً لما ذكره يزيد صايغ، أحد كبار المسؤولين في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. «قد تحصل أشياء لا يوافق عليها السيسي». ولكن هناك شيء آخر لا معنى له؛ أي مسؤول مصري هذا الذي اعتقد أن تعذيب أجنبي كان فكرة سديدة؟ لماذا ألقي جسده على الطريق السريع المزدحم بدلاً من دفنه في الصحراء بحيث لا يمكن العثور عليه؟ ولماذا أظهروا جثته أثناء زيارة وفد إيطالي رفيع المستوى إلى القاهرة؟
تقترح رسالة مجهولة أرسلت إلى السفارة الإيطالية في بيرن بنيوزيلاندا العام الماضي، ونشرت في صحيفة إيطالية، تفسيراً آخر؛ وقع ريجيني ضحية حرب غامضة بين الأمن القومي والمخابرات العسكرية، حيث سعى كل فريق لإستغلال وفاته في إحراج الآخر. وتشير تفاصيل الرسالة إلى أن كاتبها على دراية وثيقة بأجهزة الأمن المصرية، ومع ذلك، فإنه من غير المرجح أن يلم شخص واحد فقط بجميع هذه التفاصيل. وقد أخبرني مسؤولون أمريكيون كبار أن الرسالة متسقة مع تقارير استخباراتية، أوسع نطاقاً، عن الصراع الرهيب على السلطة بين الأجهزة الأمنية المتنافسة. «إنهم يحاولون استعمال هذه الحالات لإحراج بعضم البعض» يقول أحد المسؤولين.
أما الإحتمال الأكثر فزعاً، فهو أن موت ريجيني كان بمثابة رسالة متعمدة؛ إشارة إلى أنه، وفي ظل حكم السيسي، حتى الأجانب قد يتعرضون لأكثر طرق الإنتهاك وحشية. في روما، أخبرني أحد المسؤوليين أنه عندما تم العثور على ريجيني، كانت جثته مسندة إلى جدار؛ «هل تعمدوا كشفها؟» يسأل المسؤول. ويقول مسؤول في إدارة أوباما أنه يعتقد أن شخصاً في «المناصب العليا» للحكومة المصرية ربما أصدر الأمر بقتل ريجيني «لإرسال رسالة إلى الأجانب والحكومات الأجنبية لكي يتوقفوا عن العبث بأمن مصر».
لم يوافق أي مسؤول مصري رفيع المستوى على التحدث معي من أجل هذه المقالة. لكن حسام زكي، مساعد وزير الخارجية السابق الذي يشغل حالياً منصب مساعد الأمين العام للجامعة العربية، أخبرني أن المسؤولين المصريين يعتقدون أن قتل ريجيني كان من تخطيط «طرف ثالث» مجهول؛ يسعى إلى تخريب علاقات مصر مع إيطاليا. وأضاف «المصريون لا يعاملون الأجانب بشكل سيئ. انتهى».
مع ذلك، فقد ألقت وفاة ريجيني بظلالها على مجتمع المغتربين في القاهرة. «هناك بعض الأشياء التي هزتني بعمق»، قال لي أحد الدبلوماسيين الأوربيين. وقبل أن نتحدث، طلب مني المسؤول أن أضع هاتفي المحمول في صندوق حجب الإشارات بحيث لا يمكن مراقبة حديثنا. قال الدبلوماسي إن موت ريجيني يشير إلى سياسة مصر الأوسع نطاقاً؛ لقد سقط ريجيني ضحية لجنون الإرتياب ضد الأجانب، وهو المستشري حالياً في المجتمع المصري. فمنذ الثورة، حتى التصرفات الصغيرة يمكن أن تكون محفوفة بالمخاطر. أثناء حفل غداء في الحي الإسلامي بالقاهرة، يحكي لي المسؤول، انفعل رجل غاضب بحدة على ضيف كان يلتقط صورة لوجبة الطعام؛ وهي عبارة عن الفول والخبز والطعمية (الفلافل المصرية). ثم بدأ بالصراخ «أنت أجنبي. سوف تستخدم هذه الصورة لتظهر أننا لا نأكل سوى الفول والخبز!».
في فيوميتشلو، حيث نشأ ريجيني، ثمة لافتة مكتوب عليها Verita per Giulio Regeni معلقة على مبنى الكنيسة الرئيسي، ولكن القليل فقط يعتقدون أن الحقيقة ستظهر قريباً. وحد والدا ريجيني صفوفهم وعينوا محامياً شرساً ليتولى الدفاع عن قضية مقتله، في حين بدأوا هم تحقيقاتهم الخاصة (رفض والدا ريجيني إجراء مقابلة من أجل هذه المقالة ولكنهم أجابوا على بعض الاستفسارات عبر البريد الإلكتروني). وفي مقر قيادة مجموعة العمليات الخاصة في كارابينييري في روما، والمتخصصة في مكافحة الإرهاب وعمليات مكافحة المافيا، يصر الجنرال جيوسيبي غوفرنال على أنه لا يزال ثمة أمل في حل الجريمة. «تحبذ العقلية العربية أسلوب المماطلة حتى ينسى الجميع» قال. «لكننا لن نتوقف حتى نجد الحقيقة. نحن مدينون بذلك لأمه».
لدى الإيطاليين ما يسميه صحفي لاريبوبلكا كارلو بونيني (الذي كتب بتوسع عن قضية جوليو ريجيني) «الرصاصة الأخيرة». بموجب القانون الإيطالي، يمكنهم رفع دعوى قضائية في محكمة إيطالية ضد حفنة من مسؤولي الأمن المصريين الذين يعتقدون أنهم متورطون في قضية مقتل جوليو ريجيني. لكن هذا قد يكون انتصاراً باهض الثمن؛ مصر لن تقدم أي مجرم للمحاكمة، ويبدو أن هناك احتمالاً ضئيلاً في الضغط على السيسي لكشف الحقيقة.
اعترف المسؤولون في روما، الشهر الماضي، أن التحقيق قد أصبح الآن شكلياً؛ السياسة، لا عمل الشرطة، هي التي ستحدد النتيجة. خلال 18 شهراً منذ مقتل ريجيني، عقد السيسي عشاءً مع المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، أمام الأهرامات، وفي أبريل تلقى ترحيباً طيباً في البيت الأبيض من الرئيس ترامب. وفى 14 أغسطس، أعلنت الحكومة الإيطالية أنها تعتزم إرسال سفيرها الى القاهرة. ويسير حقل غاز ظهر على الطريق الصحيح لبدء الإنتاج في ديسمبر.
في فيوميتشلو، يرقد جسد ريجيني تحت صف من أشجار السرو. وتُكدس قبره الزهور؛ الشموع التعبدية؛ والأغلفة البلاستيكية لكتب سبينوزا وهيس، وهناك صورة صغيرة له تظهره ممسكاً بيمكروفون، وهو يتحدث إلى حشد من الناس، بوجه منشرح ذي تعابير جدية. وعلى عكس المقابر المجاورة التي تحيط به، فإن شاهد قبر ريجيني عبارة عن لوح رخامي بسيط. ونظراً لأن التحقيق لا يزال مفتوحاً، كما يوضح كاهن الأبرشية، فقد يحتاج المسؤولون إلى إخراج رفاته يوماً ما.
قبر جوليو ريجيني في إيطاليا Cristina de Middel/Magnum
([1]) Walsh, D. (2017). Why Was an Italian Graduate Student Tortured and Murdered in Egypt?. The New York Times. Retrieved from https://www.nytimes.com/2017/08/15/magazine/giulio-regeni-italian-graduate-student-tortured-murdered-egypt.html
([2]) باحث ومترجم مستقل. البريد الإلكتروني ahmedshakerr2013@yahoo.com