مجلة حكمة

أسفار التحليل النفسي – يوسف عدنان


إلى غاية عصرنا الحالي لا زال هناك من ينعت التحليل النفسي بالعلم البرجوازي ومزاوليه سواء على المستوى التنظيري أو الاكلينيكي بالطائفة المحتكرة للمعرفة، إن لم نقل شامانيون حِقبتهم، وهناك من ينظر إليه بعين الريبة والحيطة بل وعدم القبول غالبا بنتائجه واستخلاصاته، خاصة تلك المتعلقة بالإكسير الجنسي، كما هناك من يُستعصى عليهم فهم لغته المجوّفة مدفوعين بالمقاومة الذاتية لا الفقر المعرفي، وهناك من يحشرُه في خانة الالحاد وتحطيم الثابت الديني – بمعنى قتل الإله ومعادله الرمزي الأب – وهناك من الأنتلجنسيا المثقفة من يكتفون بمطالعته دون أدنى تفاعل مع رسائله، وهناك من يربطه بالجانب الباثولوجي – المرضي واتّهامه بتسويق صورة مشوهة حول الإنسان وإمطاره بوابل من الجروح النرجسية، وهناك من ينعته بالعلم الثوري الذي يُشرِعن الاباحة {الايروتيك} من حيث كونه أقام اعتبارا للغريزة على أوهام اللوغوس، وهناك من يدّعي أنّ التحليل النفسي نفت سمومه على مجموعة من الميادين وتطاول عليها دون إذن: كالأدب والدين والشعر والإنتاج الفني {…}، إلى غير ذلك من الانطباعات المتسرّعة والأحكام المعيبة التي لا تحاكم في واقع الأمر سوى جهلها، مفوّتة على مداركها معنى مقولة النفس في غرابتها وطبقاتها ومكنوناتها وأشكال تمسرحها. نقول في كلمة، سامحهم من في السماء وعاتبهم سُلطان اللاشعور.

 إنّ كلّ هذه الأحكام الضّالة تجاه فحوى التحليل النفسي وجدواه، لا تعدو أن تكون سوى أحكام نكوصية مرتكسة على أعقابها، شيء ما من الجهل المقدس تعشق الذوات أن تتمرّغ في وحلِه. كما يمكن أن تكون هذه الأحكام مهيّجة ومدفوعة بعقدة قتل التحليل النفسي بدءا بعرابه سيغموند فرويد، كما يذهب هوى البعض، من بينهم صاحب كتاب عقدة فرويد، الذي نعتبره لطخة سوداء في حقّ أهم شخصية شهدها القرن العشرين {1}.

إنّ هدف التحليل النفسي هو عقلاني بالأساس على خلاف ما قد يبدو أو يستنتج، فهو لا يسعى قطعا إلى نفي العقل وإنّما تحطيم أوهامه التي تُحاك في غُفلة من وعيه وإرادته حتى يتأتى له عقلنة الموضوع وإخراجه إلى حقل المعنى. فالإنسان يُعتبر مهما بدى منه من وضوح نص غير شفاف، ولا هو خال من الغياهب والدهاليز السحيقة الأغوار، تتراوح حقيقته المنُفلتة بين الظّلي والمستور، الرمزي والمخيول، التّداوليّات والدّلاليّات {…} الخ {2}. بحيث هناك من الأفعال ظلّت تحت وطأة الوعي مُستعصية على الفهم وظلّ معها الإنسان لغزا يتمنّع عن الانكشاف ما لم نعترف بما يسعى الوعي إلى إخفائه والتستّر عليه، اعترافا يشي بتحوّل المخفي إلى أساس والظاهر إلى عارض {3}. ففي نهاية القرن 19 ومطلع القرن العشرين، لم يعد هناك واحد من مجالات الحياة النفسية، لا يجعل المرء يستشعر أنه فيما بعد حدّ الشعور المعروف والمراقب، قطاع واسع، غير معروف جيدا ولا قابل للرقابة: “إنها إمبراطورية اللاشعور” {4}.

إنّ نواة النظرية التحليلية النفسية بمختلف مؤسسيها ومجدديها ومطوريها هو مفهوم اللاشعور، الذي ربّما جرى الاختلاف حول صيغ تشكلاته، لكن تّم الاتفاق على وُجُودِه ونشاطه الغزير داخل أعماق النفس البشرية، أي على صعيد الحياة النفسية اللاشعورية التي سبق ميلادها الحياة العقلية. فالوعي هو آخر جزء ينمو ويكتمل في الذات وهو أيضا نتيجة انفصاله عن “اللأنا”، موطنه الأصلي {5}. ومن المسميات التي أحيطت باللاشعور، نجد “المنطقة العمياء” أو القارة المجهولة “terra enconita”، أما هذه المجهولية فتتّخذ معنيين على الأقل: الأول ذاتي/فردي والثاني علمي/معرفي. فالذات تجهل واقعها النفسي وتتنكّر له بفعل المقاومة أو الكبت أو التسامي {الإعلاء}. أما بالنسبة للمعنى الثاني فهو قد يرتبط بالعُقم العلمي أو طمس الخبرة العلمية هذا الجانب الموغل في النفس حتى ظهور التحليل النفسي الذي حمل على عاتقه مهمة إضاءة أرجاء اللاشعور. إن فرويد بردّه البنى الفوقية إلى بنى تحتية {الغريزة أو غريزية}، أجهد نفسه ليبين أنه لا يوجد في الحياة الإنسانية ما هو “دنيئ” ولا ما هو “منحط”. لا يمكن أن نذهب بعيدا في اعتماد تفسير يستند على ما هو مُنحط {6}. بمعنى، لا توجد هناك درجة الصفر من المعنى، لكل حادث أو رمز أو استيهام أو حلم أو حتى زلّة ما، نصيب من الصحة والمعقولية ومن ثمة حاجتنا إلى فعل التأويل واستيضاح المعاني والدلالات المخبوءة خلف ستار الوعي.

يُعتبر التحليل النفسي -وبغض النظر عن جانبه العيادي والعلاجي -فنّا في التأويل أداته اللاشعور واستراتيجيته التفكيك الحريصة على فكّ شفرات النصوص والخطابات والاستيهامات في مختلف تمظهراتها. من هذا المنطلق، أخرج فرويد البحث من الإطار العيادي البحت، لكي يطال في تحليله المجالات الأخرى، من فلسفية ودينية وأدبية وفنية وأنثروپولوجية واجتماعية، دون أن يتخلَّى عن موقفه التحليلي: هدنة التفتيش عن الحقيقة في المجال العيادي، التي تتصف بخاصية علاجية، لا تحول دون التفتيش عن الحقيقة في المجالات المعرفية الأخرى. فالتحليل، في نظره، يعتمد، أولاً وآخرًا، على تحليل الخطاب، سواء كان عياديا في صيغته المرضية، أو فلسفيا أو دينيا أو حتى سياسيا. فاللاشعور، الذي ينطوي على معرفة تتحكم بنا ونجهلها في آنٍ واحد، حاضر في كلِّ خطاب لغوي {7}، ومن خلال تشعباته المتسقة، أصبح التحليل النفسي يدرس مجموع العلاقات الإنسانية. هكذا، فوظيفة هذا الاتجاه السيكولوجي هي استكشاف نفسية كلّ فرد، كما أنه يطبّق، باعتبار خصوصياته، على مجموع المعطيات الثقافية والفنية والاجتماعية {8}.

بمعنى، إذا كان التحليل النفسي بدأ خطواته الأولى في ميدان الطب، وفي دائرة ضيّقة منه هي “الأمراض العصابية”، فإن ميل فرويد إلى “التنظير” و”التفلسف” فتح أمام التحليل النفسي أكثر من أفق فكري وفلسفي، خاصة عندما عزم على وضع نظرية متكاملة في الغرائز. والنظرية عادة ما تتجاوز المعطيات التجريبية والملاحظات الإكلينيكية، إلى مستوى التعميم والتجريد الشيء الذي انتهى إلى “تجاوز حدود التحليل النفسي”. أو بمعنى آخر” عندما يتجاوز التحليل النفسي نفسه”. فمن خلال احتكاكه بميادين مختلفة والحوار مع دوائر ثقافية مباينة للميدان الطبي: أصبح لفظ التحليل النفسي ذاته لفظا مُبهما، فبعد أن كان في الأصل اسما لوسيلة علاجية خاصة، أضحى الآن فضلا عن ذلك، اسما لعلم العمليات النفسية اللاشعورية {9}.

للتّحليل النفسي طاقة تخصيبيّة مُبرمجة على انباث المعاني المُتلفة في نظيمة الاقتصاد الليبدي / الملذّاتي وتشجير التربة النفسية القاحلة، وتوفير مجال للبوح والاستماع، ففعل التّحليل يرسم خريطة للذات بغاية حتّها التعرف على واقعها حتى تستطيع إعادة تركيب القطع الغائبة عنها بمعية المحلّل، وذلك من خلال العلامات التالية:

  • كيف تقرأ اللغة المنسية والمنطوقة ذات الحين بلسان الأعراض؛

  • استنطاق الدلالات المخفية ودرك العقد النفسية اللاشعورية؛

  • كشف المعاني المضمرة والمؤجلة والمسكوبة في وعاء حياة نفسية سابقة عن ميلاد الحياة العقلية؛

  • خلق التوازن المطلوب بين الهيئات النفسية الثلاثية: الهو، الأنا، الأنا الأعلى؛

  • إعطاء فرصة للرغبات المحكوم عليها بسراح مؤقت لكي تخرج من حيز المكبوت وتتحر من قوة القمع؛

  • تعرية مواطن النفي في الجسد المتّهم مع تلطيف مفعول الغرائز التي تخترقه؛

  • تشفير الخطابات الملتوية في طوق اللغة التي تخفي أكثر مما تصرّح؛

  • تنبيه الذات إلى ملذاتها والسبل العقلانية لتحصيلها؛

  • إزاحة الفونتازم وإبداله بالحقيقة ولو كان طعمها يصعب هضمه واستساغته؛

  • ترميم المرحلة الطفلية التي يسمها سيناريو نزوي من إخراج اللاشعور يخترق في مجمله كل المراحل العمرية اللاحقة؛

  • تجاوز آثار الصدمات الملمّة بمسارات الحياة لكي يتم استثمارها على نحو إيجابي بدل أن تكون محرك للنزوعات الانسحابية والتدميرية في ازدواجيتها بين السادية والمازوشية {…} الخ.

إن التحليل النفسي وبإيجاز مفيد، هو خطاب موجه للذوات، منها وإليها ومن خلالها في سُترتها وتنرجسها في سهوتها وغُفليتها في ارتجافها وكبتها في تيهها وعماها المتّخذ شكل الخصاء والمقاومة، وما دون ذلك من النواقص التي تعتري السيكولوجيا البشرية. وإذا ما اعتبرنا التحليل النفسي هو تلك المعرفة المُستقاة من نبع اللاشعور والتي لا تسلّم نفسها إلا من وراء ستائره السميكة، فلأن هيكلته تتراص على شاكلة طبقات، مدخلها مفتوح على الظاهر هو الوعي، متوسطا إياها ما قبل الوعي، ومنحدرها اللاوعي المتواجد في باطن وسحيق النفس. {من باب التنبيه، تعّبر هذه التوصيفات المذكورة على النسخة الأولى من التقسيم الفرويدي للطوبولوجيا النفسية والتي تلتها هندسة موقعية أخرى للجهاز النفسي من طرفه، موزعة على ثلاث هيئات نفسية}.

ففي النظرية الموضعية الأولى لفرويد السابقة على 1920-كان هذا الأخير يميز بين الشعور، اللاشعور، ما قبل الشعور. لكنّه أدرك بعد ذلك أن الحدود بين هذه الأنساق الثلاثة ليست واضحة حقا، وأن الأنا لا يتناسب مع الشعور فحسب. وعليه، قدم النظرية الثانية في الجهاز النفسي {النظرية الموضعية الثانية} الهو، الأنا، الأنا الأعلى {10}، والتي يُعتبر فيها الأنا جزء من الهو تمايز عنه إثر تحولات تسبب فيها العالم الخارجي بشكل مباشر. أما الهو، فإنه اللاشعور الرئيس، خزان الدوافع. وبالتالي تكمن الطفرة الابستيمولوجية التي أحدثها فرويد في كونه استبدل علم النفس المُتمحور حول الشعور، بعلم النفس القائم على محور       اللاشعور. وهذا العمل (من قبل فرويد) يتناغم مع الأطروحات اللاعقلانية، كما يفيد أن اللاعقلاني واللاشعوري يشكلان قاعدة النفس والحياة {11}.

 هناك من القرائن والأدلة والحجج الدامغة على وجود اللاشعور ما يفيض عن الذكر، ومن تم ضرورة الالتفات إلى الخطاب التحليلي النفسي الذي وحده من يمتلك مفاتيح هذا البعد الجواني والخافي في محيط الذات. فكل ما يوجد في اللاشعور من دوافع وعقد لا يموت ولا ينسى، وإنما يعيش في حالة ضغط وغليان وعدم انسجام، وهو يحاول من وقت لآخر التعبير عن نفسه، وبالتالي كان لمظاهر التعبير عن الدوافع اللاشعورية واجهات متعددة نحصرها فيما يلي دون التفصيل في دلالاتها: أحلام النوم – أحلام اليقظة – النسيان اللاشعوري للأسماء أو المواعيد أو الأحداث – زلات اللسان – أخطاء الكتابة – تكسير الأثاث – الاجتهاد في صياغة النكت – السرنمة {…} الخ. أما هذه الدوافع فهي تلجأ أحيانا للحيل اللاشعورية، ليوهم المرء نفسه أنه طبيعي مع أن سلوكه يدلّ على الشذوذ أو انحراف الهدف، نذكر منها: النكوص – الاسقاط – التبرير – التحويل – التعويض – التسامي {…} الخ {12}.

وإذ ما نظرنا إلى الخصاء مثلا، فسنجده يتلبّس معنى تأويلي عميق في سياق التحليل النفسي. فهو لا يدّل دوما على استيهامات البثر أو الاقتلاع أو نقصان أو تعطيل ما للوظيفة الجنسية أو سقوط الذات في مستنقع زنى المحارم ومباشرة المحظور. وعليه، تكمن الوظيفة التأويلية للتحليل النفسي في رفع اللبس عن هذه العقدة الملازمة لتشكيلات اللاشعور بدءا بعنقودها الطفلي. فالخصاء معناه ألا تستطيع الذات أن ترى ما ترى، وعليه يصبح حقل الرؤيا مجالا للإيهام والظّلال. ولعل أسطورة أوديب خير برهان على هذا المعطى. فعند اكتشاف أوديب حقيقة قتله أبيه ومضاجعة أمه، لم يعمد إلى بثر قضيبه وإنما قام بفتق عيناه. أي تنزيل كل اللوم والمشاعر السلبية على بصيرته وليس بصره. فانطفاء العين ذات الوظيفة البيولوجية لا يكاد يكون سوى مجرد انعكاس – نفسجسديPsychosomatique -لما يجري على مستوى دواخل النفس المحتقنة.

إن وهم الواقع المتشظّي هو من يستجدي من الذات رؤيته، لا الواقع المنحوت بلون رمادي لا يكاد يحيل على شيء. لِكون هذا الأخير ليس سوى مُجرد حلقة ضعيفة تترامى بين أطراف الخيالي والرمزي وفقا للمنظور اللاكاني *. وهنا يعود مفهوم اللاوعي ليؤكد نفسه وحضوره، ساعيا إلى قلب المعادلة ومناديا الذات بأن ترى ما لا ترى لكي تستطيع أن ترى فعلا. فهي عندما ترى ما ترى فهي لا ترى. إن ما لا نراه يسكن فيما نقول. وليس للذات من سبيل آخر لكي ترى حقيقتها سوى أن تبصر اللامرئي قبل المرئي.

وحتى نربط الخصاء من ناحية أخرى بمدلوله الجنسي، نعرج على حادثة يرويها المحلل النفسي سيغموند فرويد مع اتمامها بتحليل نفسي من لدنه. يحكي عن طفل شديد التعلق بوالدته (أوديبي كباقي أفراد جنسه) كان يراقب من خلال ثقب جد صغير يطلّ على غرفة والديه، يراقبهما وهما يزاولان الجنس، وبعد طول المدة أصيب بفقدان البصر في العين التي كان يشاهد بها والديه، طالما أن الثقب يتيح النظر فقط لعين واحدة. وهكذا فطن فرويد أن العمى (المرادف في حقل التحليل النفسي للخصاء) لم يكن بسبب خلل عضوي في شبكة العين أو ما شابه ذلك، وإنما هو نتيجة عقاب ذاتي على مشاهدة المشهد البدئي الذي ينبغي أن يبقى سجين مخيّلة الطفل ولا يجوز أن يرتفع إلى عتبة الواقع، تجنّبا لآثار الصدمة “trauma”. ومن بين مشتقات هذه العقدة النفسية الطفلية نجد ما يُدعى بالنظار التملكي “voyeurisme possessif” *.

أما الكبت”refoulement”، المفهوم المفتاح لنظرية اللاشعور، فهو قد لا يحتاج منا الكثير من التوضيح، فالكبت لا يجد سبيلا إلى مملكة الحيوان، لأن الغريزة الحيوانية لا تقوم على تأجيل الرغبات والاندفاعات وإنما تلبّيها على نحو فوري وحتى إذا لم تشبع، فهي لا تجد لها مستقرا في الحياة النفسية الباطنية حتى تتحول إلى أعراض مرضية، كما أن الوجود الحيواني غير مخترق بدوافع الرغبة وإنما فقط يستجيب إلى الحاجة البيولوجية الصرفة {الأكل، النوم، التناسل} بل حتى خاصية الدوافع اللاشعورية لا توجد لديه، بالمعنى الذي تضفيه عليها الرغبة عند الإنسان. وبذلك فهو لا يعرف معنى الفونتازم أو الأحلام أو الاسقاط أو الإزاحة وغريها. في حين يصدم الكائن العاقل واللغوي بعدّة موانع من ضمنها القانون والضمير الأخلاقي والمعايير الاجتماعية، تمنعه من اشباع متطلباته وينتج عن ذلك الألم والكبح والصراع الذاتي الداخلي. على هذا النحو يتشكل المكبوت ويجد له مكانا يؤويه داخل اللاشعور، الذي يمكن أن نرمز له هنا كقاعة انتظار.

بمعنى آخر فعملية “الكبت” تتبدى في استبعاد دافع أو فكرة أو صدمة انفعالية أو حادثة أليمة من حيز الشعور. وكبت الحوادث والصدمات يعني نسيانها. أما كبت الدافع فيعني انكار وجوده، والعزوف عن التحدث عنه أو التفكير فيه أو تذكره، والرغبة في عدم مواجهته، ورفض الاعتراف به إن أصبح واضحا في شعورنا {13}. ومادام الكبت يتطلّب مجهودا مستمرا من قبل الذات فإنه يقتضي خسرانا مستمرا للطاقة، ولذا يعتبر عملية ديناميكية {14}. أما فيما يخص دينامية الطاقة النفسية اللاشعورية التي يمرّ تصريفها عبر هذه القنوات وغيرها، فإن وجهة نظر سيغموند فرويد حيالها، تشبه وجهة نظر “الكيميائي” الذي يرجع كل مكونات المادة إلى قوة الجاذبية الكيميائية. فهو بهذا، لا ينكر الثقل وإنما يترك للفيزيائي مهمة تقييمه.

يعتمد التحليل النفسي كثيرا على فعل الكلام وإطلاق العنان للّسان .. حيث يظلّ الإنسان بحاجة ماسة إلى الكلام والبوح، بل إنه يقعد ملوما مدحورا إذا تعذّر عنه النّطق والتفوه بما يختلج في خواطره، أما الأذن المستمعة لهذا الكلام الذي يعبُر على أطراف الأصابع فيأمّنها بدون منافحة التحليل النفسي، فمفعول الكلام كأثر علاجي {العلاج بالكلام the talking cure} يكاد يكون أهم ميزة يحظى بها هذا الأخير. إذ الكلام عندما يبلغ الشفاه يغدو شفويا، من الجذر نفسه لكلمة شفاء.

أما لفظ بمعنى تلفظ، طرح شيئا موجود بالداخل ففيه كذلك إحالة على الكلام العابر من جوف النفس وعبر مسالك وعرة الى بوابة الفاه .. هو إخراج لزحمة من الخواطر والرغبات. يعني أيضا جرح {الكلام أو الجرح}، الجرح البليغ. ففي لسان العرب: كلم، جرح والمكلوم يعادل في معناه الجريح.. أما بالنسبة إلى قول، فهو يسمح برؤية كيف أن فعل الكلام مُخترق بحركات الرغبة مثلما هو مخترق بنبضات عدوانية، لأن اللسان جارح، وهذا اللسان قاتل أيضا {مقول}. إضافة إلى ذلك، فإن القول هو بمثابة عملية إبدال لأن اقتتال تعني: أبدل: ينص لسان العرب على أن: القول معادل للفعل. ونحن نضيف بلسان المحللة النفسية حورية عبد الواحد، بأن الكلام هو سبيل الذات الذي بواسطته يمكن التنفيس أو التفريغ الانفعالي {15}. وحتى من ناحية الضبط المنهجي للتكنيك العلاجي، فتاريخ التحليل النفسي الفعلي لا يبتدئ إلاّ لحظة صياغة القاعدة الأساسية للتداعي الحرّ. إنها قاعدة العلاج الوحيدة التي تُمكِّن المريض من التعبير دونما تمييز عن كلّ الأفكار التي تراود ذهنه: “قول كلّ ما يراود الفكر دون السكوت عن شيء، خاصة إن كان لا معقولا أو صادما {فما يكون الإفصاح عنه شديد العسر، هو في الغالب الأعم، الأكثر أهمية {16}.

لقد أحدث التحليل النفسي رجّة قوية في الفكر الفلسفي المعاصر. فلا غنى لإنسان العصر الحديث عن معرفة أسسه، وخاصة نظرية مراحل التطور الليبيدي عند الطفل المُكتشف لانتمائه الجنسي {17}، التي طفحت معها الحياة الجنسية الطفلية على السطح. ومع استكشاف بيولوجيا الحياة الجنسية بوسائل السيكولوجي {18}، غدى الفرق واضح بين الجنسانية الطفلية والجنسانية التناسلية. بمعنى آخر، أصبحت الجنسانية اللاتناسلية هي الوجه الآخر لطفليّة الجنسانية. فالبشر إذن مسكونين بجنسانية لا توجههم بالضرورة نحو الموضوع الذي يضمن بقاء نوعهم. وهكذا بالنسبة للتحليل النفسي نحن في الواقع النوع الحيواني الوحيد غير مزود بغريزة التكاثر. فالمرحلة التناسلية لا تندرج في برنامجنا الجيني ليس في الإمكان الذهاب أبعد من ذلك في اتجاه الليبيرالية الجنسية {19}، وحتّى فيما يخص جنسانية الراشد فقد كشف التحليل النفسي على ما يمكن دعوته “المشاكل الكبرى للجنس” وهي تتوزع دون حصرها على: العلاقات الجنسية – الاثارة الجنسية الذاتية – الانحراف المتعدد الأشكال – فض البكارة – العجز الجنسي – البرودة الجنسية – اشتهاء نفس الجنس- الجنس والدورة الحيضية – جنسانية المرأة قبل الوضع – وغيرها من القضايا التي كانت قبل مجيء التحليل النفسي تُعتبر اضطرابات وأمراضا مستعصية على الحلّ بل وحتى شذوذا وراثيا .. هكذا تأّكد دور الجنس في فهم الحياة النفسية الجنسية وإخراجها هي الأخرى بواسطة التحليل النفسي من دوائر المُحرّم والممنوع والمسكوت عنه.


هوامش:

  1. حمودة اسماعيلي، عقدة فرويد، سيرة ذاتية لطبيب غير تاريخ الرؤية النفسية، دار الكاتب.
  2. راجع في هذا الصدد، مقالنا: تحت عنوان: التحليل النفسي ابن الظلام .. من نُتف الفلسفة النفسانية.
  3. Sigmund Freud, nouvelles conférences d’introduction à la psychanalyse,éd.Gallimard,1984,pp 104-107.
  4. موسوعة إنسان العصر الحديث وفكره، المجلد الأول، منشورات عكاظ – ايديليك فرنسا- 2016، ص 42.
  5. راجع: سيغموند فرويد، مقدمة في التحليل النفسي، ترجمة إسحاق رمزي، دار المعارف، مصر، ص – ص 55، 58.
  6. M.Merleau-ponty,signes,éd.Gallimard 1960,pp.290.
  7. http://www.charefab.com/?p=129
  8. موسوعة إنسان العصر الحديث وفكره، المجلد الأول، ص 39.
  9. الفكر الإسلامي والفلسفة الكتاب المدرسي، ص 278.
  10. موسوعة إنسان العصر الحديث وفكره، المجلد الأول، ص 56.
  11. G. Politzer (Ecrits: Les Fondements de la Psychologie) Ed. Sociales Paris 1973 P 297.
  12. معروف زريق، علم النفس العام، منشورا دار أسامة دمشق، 1985، ص – ص 41،40.

*  لا تفوتنا الإشارة في هذا النطاق، أن جاك لاكان قد اتخذ موقفا متطرفاً من الأنا الفرويدي. ففي حين كان فرويد قد أعطى للأنا وظيفة هامة تتمثّل في التفاوض مع الواقع الخارجي، فإنّ لاكان نظر إلى الأنا بوصفه نتاجاً لسوء التعرف ولإضفاء طابع موضوعي زائف في مرحلة الطفولة الأولى، فالأنا بالنسبة للاكان لا يبنى في الواقع، وإنما هو نتاج تشكيلات حدثت في السجل الخيالي، واحتفظ بها سرد الذات لتاريخها. وهو ليس بذلك الأقنوم الذي تتجذّر فيه الحقيقة، إذ للحقيقة بينة قصة خيالية (لاكان)، بل هو مجال كل وهم واستلاب يُنْكِصُ الذات إلى ماضيها المشوش.

 *لقد أسهب فرويد في توضيح مدى تعقد مشاعر –انفعالات- الطفل، وبين أن الأمر يتعلق لديه بصراعات حقيقية، وأنه يجب أن لا نرى في الرضيع مجرد جهاز يستهلك ويفرز، لأن لدية حياة ذهنية وأخرى نفسية لاواعية. وتعتبر العلاقة العشقية الأولى خير نموذج حي على التنازعات والصراعات الرهيبة التي تواجه البناء النفسي للشخصية في مراحلها وأطوارها النمائية.

  1. دكتور أحمد عزت راجح، أصول علم النفس، ط 9، 1968، ص 110.
  2. موسوعة إنسان العصر الحديث وفكره، المجلد الأول، ص 50.
  3. د. حورية عبد الواحد، اللغة والمرآة، أطروحات عربية في التحليل النفسي، تعريب حسن عودة، بدايات للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، ص 27.
  4. قد لا يخفى عن المهتم بتاريخ تطور التحليل النفسي، تلك الحالة المرضية التي عانتها “أنا أو” تلك الفتاة شديدة التعلق بأبيها، رفيعة الثقافة، حدث أن أصابها المرض أثناء عكوفها على معالجة والدها الذي كانت تحبه كثيرا {عقدة إلكترا}. وكانت آنا حالة إكلينيكية {سريرية / عيادية} ذات طابع تعدّدي: تقفّعات {تخشبات}، كف {كبح جنسي} على عدة مستويات، اختلاط ذهني. مكّنت ملاحظة غير متوقعة من طرف الطبيب “جوزيف برْوير” من إدراك أن بإمكانه تخليصا من اضطرابات الشعور تلك بتمكينها من التّعبير بالكلام عن الاستيهام العاطفي الذي كان يسيطر عليها {…} الخ. وفي يوم ما، حكت آنا للطبيب بروير عن أوّل مرّة ظهرت فيها تلك الأعراض، فاختفت هذه الأخيرة بعد ذلك فورا. واستمرت في الكلام بنفس الصورة، الأمر الذي سُمّيت هذه الطريقة بسببه “the talking cure” أو العلاج عن طريق الكلام. واعتمد بورير هذا الأسلوب العلاجي بشكل مُمنهج، وأسمى هذه التقنية “الطريقة التطهيرية” {نفس المرجع، ص – ص 43،44}.
  5. موسوعة إنسان العصر الحديث وفكره، المجلد الأول، ص 46.
  6. مصطفى صفوان، التحليل النفسي علما وعلاجا وقضية، ترجمة د. مصطفى حجازي، هيئة البحرين للثقافة والآثار، ط1، 2016، ص 224.
  7. نفس المرجع، ص 225.