الكاتب | مبارك بوالزيت |
أشهر استعمال لكملة ‘نفاق’ كان على يد الحجاج ابن يوسف الثقفي، و الذي خرج يوما على أهل العراق فوصفهم “بأهل الشقاق و النفاق”. لكن المحللين لخطاب الحجاج فضلوا الوقوف على بلاغة المتحدث على فهم المصطلح من منطلق سوسيولوجي أو فلسفي. عموما، يستعمل العامة كلمة “منافق” للإحالة على من لا يفعل ما يقول أو على من تتعدد وجوهه، و يعتبرون هذا معيبا. و من هذا التعريف السوسيولوجي النابع من اليومي المُعاش فكلمة منافق فضفاضة و تُحيل على الكسول و الخامل والمتلون و إلى من لا يُقضى على يديه أي غرض. و الحذق من عامة الناس ألف مثلا في هذا الصدد إذ يقول : “من ألف الأخذ لا يهمُّه العطاء.” أما المنافق في الفهم الديني للكلمة فهو من أخد طريق الدين و التبليغ العقدي و لكنه يُضمر في نفسه عكس ما يظهر، فتراه يدعوا إلى شرب الماء في العلن لكنه يحتسي النبيذ في السّر، على رأي المثل الإنجليزي. ولسنا نقدح في النبيذ و لا في الماء لأن كل فرد مسؤول عن نفسه و عن اختياراته و عن أفعاله . و قد يكون كأس النبيذ لربما ‘حلال’ في صحراء قاحلة إن لم يتوفر إلا هو لروي الظمأ، و الضرورات قد تبيح المحظورات في بعض الأحيان. ولكننا لن نعطي لأنفسنا اختصاص الضبط و الفتوى في أشياء هي من اختصاص رجل الأمن و الفقيه.
و ينطبق هذا الفهم للكلمة فيما أوردناه آنفا، إن سلمنا أن النفاق قول بدون فعل، على ” المناضل السياسي” الذي يسبُّ الدولة في كل حين لكنه خادمها و عصاها الطويلة و حتى دون علمه في أحيان كثيرة. و ينطبق هذا كذلك على مناضلي قضايا الساعة الحارقة فتراه فلسطينيا مع الفلسطينيين و إيغوريا مع الإيغور لكن من وراء شاشة هاتفه فقط أو من داخل الصالونات المكيفة البهية، و كم كثر تجار القضايا هذه الأيام، إذ يستغلون القضايا الإنسانية للاغتناء و الاسترزاق أو لادعاء شرف لا يمتلكونه. و نحن طبعا لا نشير هنا إلى الشرفاء من المقاومين الذين تعرفهم وَحْدَهَا الزنازين و السجون و إنما نشير الى الطفيليين و من على شاكلتهم.
وُصف المعتزلة بالنفاق و الزندقة لأنهم قلبوا الموازين بفهمهم للدين عن طريق العقل. وُصفوا بأقدح النعوت لأنهم اعتزلوا مجالس الوعظ كما في قصة واصل ابن عطاء، و لأنهم آمنوا بأسبقية العقل على النقل. يورد الأستاذ علي بوملحم في كتابه “المناحي الفلسفية عند الجاحظ” فهما مختلفا لكلمة “الجن” مثلا. فالجاحظ لا يؤمن بالجن كما فهمه “أهل السنة” و لا بتلبس الجن بالإنس. فقد ذهب المعتزلة، و الجاحظ من كبيرهم، بالكلمة إلى اشتقاقها الأصلي في اللغة. فالجن اصطلاحا هو “الشي الغير الضاهر”، و يسمى الجنين في رحم أمه جنينا (من جن) لأنه غير ضاهر للعين المجردة . و كل ما هو غير مرئي على شاكلة الجنين فيسمى جنا عند المعتزلة، و لا يفهم منه بالضرورة مخلوق يتلبس بالإنسان أو يسحره.
يبدوا أن كلمة “منافق” انتقلت من التبليغ العقدي بين رجال الدين لتسقَط على سياقات أخرى. وقليلا ما نصادف كلمة منافق في كتب الفلسفة لأن الفيلسوف قليلا ما يلقي الكلام على عواهنه و لا يحكم على الأمور بأحكام القيمة الجاهزة أو من منطلق القيل و القال و الكلام المرسل. نتشه ربما هو أول من وقف على النفاق في “جينيا لوجيا الأخلاق” و ربطه بالحقد و الدوافع الدفينة، إذ لم يستسغ أخلاق رجال الدين في عصره و اعتبرها نفاقاً مقيتا و تزمتا فاضحا و تنفيسا عن دوافع مكبوتة لا غير. يقول نتشه ما يلي في معرض نقاشه لنفاق رجال دين عصره و محرك هذا النفاق:
“تبدأ ثورة العبيد في الأخلاق حين يصير الحقد نفسه خلاقاً ، وينتج قيماً .الحاقد تنقصه الصراحة وصفاء القلب والوفاء لنفسه، روحه غامضة وعقله يحب الخلوات ، تسحره المخارج والأبواب الخفية. يسحره كل ما يختفي ، إنه بارع في المحافظة على الصمت ، في عدم النسيان ، في الانتظار وفي الانتقاص من شأن نفسه وإذلالها… وحتى لو استولى الحقد على الرجل النبيل فإنه لا يتسمم به، ذلك أنه سرعان ما يستنزفه من خلال رد فعل سريع ، بل إن هذا الحقد لا ينفجر إطلاقاً لدى كثير من النبلاء ، أما لدى الضعفاء والعاجزين فإنه يكون شيئاً محتوماً.”
عالم النفس قد يرى في استعمال كلمة ‘منافق’ و سيلة للقدح و تنفيسا نفسيا و حصرا للمنافس و رغبة في اصباغ الشر على الآخر، لأسباب لا علاقة لها بالشخص الموصوف و لكن بالذات الواصفة.
سيغموند فرويد كان حذقا حين لاحظ “عملية التسامي” (والاسقاط) عند أصحاب الذنوب العظيمة و النفوس المريضة. فلا أفضل من تبجيل الذات و قدح الآخر و ادعاء النبل. لكن الإنسان حين لا يكتشف مساوئ نفسه يهديها له الزمان و لو بعد حين. إن ما يسميه رجل الدين المتزمت نفاقاً، إذا استحضرنا نفسية القس الذي يبيع صكوك الغفران في العصور الوسطى مثلا، و التي تصبوا إلى حصر ِردّة فرد من الجماعة، تحيل ضمنيا على حرمة تغيير الدين و الرأي. “و من شاء فليؤمن و من شاء فليكفر.”
أما بالنسبة للفيلسوف في الضفة الأخرى “فالمنافق” قد يحيل عنده الى من تتعدد طرق تعامله مع السياقات بتغير الشروط و الظروف. فالفيلسوف يرى أن “الكذبة البيضاء “حسنة إذا كانت ستكفي الفرد سيلا من المشاكل هو في غنى عنها أو عندما تقيه شر نقاشات لا تفيد أو تجمعات لا يهمها الخير بقدر ما تهما مصالحها الشخصية و استيهاماتها الذاتية، و الجماعات المنغلقة التي يجب أن يهرب منها المرء دون النظر الى الوراء في عالم اليوم لا تعد و لا تحصى. لا أظن أن هنالك من ستسول له نفسه العيش مع الآميش ولو لأسبوع من الزمن بحكم تزمت الجماعة المفرط و لاعقلانيتها البالغة، كما في عزلتها و عدم رغبتها في استعمال الكهرباء و الهاتف والسيارة وهلم جرا. و تسمية المنافق على من يهرب من هكذا جماعات، و الحق يقال، شرف ‘للمنافق’ و أرحم له من جعل نفسه سجينا في عذاب أو متسلطا على الرقاب أو داعية للجهل و الجبر و النكوص و النميمة أو متملقا لأشباه الشخوص.
كلمة ‘منافق’ ذات حمولة نفسية و تستعمل كثيرا في السياقات التي لا تتوفر فيها شروط التفكير السليم و توجه إلى الحلقات الأضعف في المجتمع قصد الحصر و الاستغلال و التأنيب المرضي و سنورد أمثلة كثيرة في هذا السياق .رجل الدين المتزمت عبر العصور، و سنأخذ رجل الدين في القرون الوسطى و من على شاكلته اليوم كمثال، يسقط النفاق على من تغيَّر تديُّنه أو تعامله أو على من قلب و جهه على فكر ما أو جماعة ما. و لا نفهم صراحة كيف يعطي الفرد لنفسه حق الاطلاع على السَّرائر فهي لله وحده وحتى حق الضبط فهو للقاضي في محكمةٍ!
و هذا الاستعمال، أي وصف الآخر المختلف بالنفاق، استعمال مؤدلج للكلمة و ليس إلا محاولة لحصر الفرد في دائرة ضيقة و جعله عبدا للكلمات الفضفاضة و سجينا للجماعة لا يُغادرها إلا لقبرِه. و العبودية على حد علمنا لله وحده و ليست للجماعات و الأفراد لكي يصير الفرد مريدا لها أو لفرد فيها يزوره ليتبرك به أو بجماعته . و لسنا نحيل على الجماعات المدنية و الجمعيات الديمقراطية المنتجة و الجماعات ذات الفهم العقلاني المعتدل و التي تحكمها عقود تحدد الأدوار و الحقوق و الواجبات .
تستعمل كلمة ‘منافق’ بين الأفراد لحجب حقدهم على فئة دون فئة أخرى و لو بتوفر شروط الإدانة لهما معا. فتصف من لا يصلي و هو مؤمن منافقا و لكن لا تفعل نفس الشيء مع رب العمل الفاسد و الذي قد تتوفر فيه كل الموبقات . استعمال كلمة ‘منافق’ استعمال مصلحجي إذا، و هو يفضح صاحبها أكثر مما يُسعفه لأنه يفضح ازدواجية المعايير عنده و غياب العقل النقدي و ذلك بتوجيه عقده النفسية إلى حلقة أو ذات تبدوا له أضعف، و سيكموند فرويد لاحظ هذا عند كثير من المرضى الذين زاروه في عيادته . و على سبيل الدعابة يحكى أن دودة تركت وصية لأبنائها و كانت الوصية كالتالي: “الفهود و الأسود و الضباع مخلوقات طيبة، ولكن أحذركم يا ابنائي من الدجاج و الطيور لأنها شر الخلق .” رأي يمجد الضباع و يصبغ الشر على الدجاج هو كرأي الذي يستعمل المنافق في غير السِّياق لأنه تعريف تحدده المصلحة لا غير. و على سبيل الدعابة كذلك يُقال أن من تعلَّم مبادئه من ذئب لظن غالبا أن سرقة الدجاج فضيلة .
كلمة ‘منافق’ يتقاذفها العامة و الخاصة لكنها لم تلقى البحث و التحليل الكافيين و ندعوا طلبة السوسيولوجيا و علم النفس و الفلسفة للوقوف عليها لأنها قد تكون كلمة تختفي تحتها غابة وارفة. يذهب برتراند راسل الى رأي قد يكون صادما للكثيرين، إذ يقول في كتابه “فلسفة الذهن” أن ” الإسقاطات الأخلاقية هي أكبر عدو للعقلية العلمية و يجب علينا اسقاطها إذا اردنا الوصول الى الحقيقة” (ص 18 من النسخة الإنجليزية). و يضيف كذلك ما يلي : “إن أفعال و معتقدات الفرد قد تكون عموما محكومة بنزعة لا يعيها الفرد و التي قد ينكرها عندما تُعرض عليه… و لكن يجب أن تجد هذه النزعة مخرجا لأنها تعزز لدى الفرد نظاما كاملا من المعتقدات الخاطئة و بهذا تُخفي الدوافع الحقيقية المخفية ” (صفحة 19 من النسخة الإنجليزية).
إن الاستعمال الفظ لكلمة ‘ منافق’ في السياقات التي قد تكون من مستوى أكاديمي عالي ، كما في مدرجات و حلقيَّات طلبة الجامعات في بلدان ما بعد الاستعمار مثلا، قد يكون سببه أمرين . أوَّلها أن الفرد فعلا “منافق” بالمعنى الأكاديمي للكلمة، أي أنه لا يفعل ما يقول أو يستغل الانتماء و الإيديولوجيا لأغراض شخصية، خصوصا حين لا يحترم الواجب و الضمير أو حين لا يدرس طلبته و تلامذته كما يجب، أو حين لا يبدع و هو المطالب بذلك واجباً. و هذا و إن كان صحيحا فتزجره المراسلات الإدارية و العقوبات التأديبية و النقد البناء بالدليل و كذا التكوين المستمر دون الحاجة الى استعمال مصطلح ديني في سياق مثل هذا.
الضاهر أن كلمة “منافق” تستعمل للخنق الإيديولوجي و للتنفيس النفسي و تعمل في السياقات المتزمتة التي لا يريد فيها الفرد أن يفكر خارج الصندوق أو أن يرى العالم من منظور آخر، و تحضرنا هنا مقولة مترجمة من الإنجليزية تحاكي هذا الفهم : “لا أعرف من اكتشف الماء لكني متأكد أن السمك لم يفعل ذلك”، لأن السمك، بسبب التكرار و التعوّد، ربما يظن أن المحيط هو الوجود كاملا غير منقوص، و النسر في السماء يحلق ضاحكا من هكذا فهم. و لا تعي السمكة خطأها إلا حين تكون بين مخالبه محلقة في السماء الى قبرها الأخير. هي إذا علامة على نقص الفهم و وسيلة لحصر الفكر المختلف و التضييق عليه بإنتاج مصطلحات تأخذ من الإرث الديني، الذي بالمناسبة لا يأخذ منه مستعملوه (و نحن بالطبع لا نعمم) إلا كلمة “منافق” و “رويبضة” ، أما درء الظلم و احقاق العدل و التفكُّر و السّير في الأرض و الإنتاج و الإبداع ،و هي من مُحكم التنزيل، فلا يلقي لها هؤلاء بالاً لأنهم لو فعلو لأصبحوا أكبر “المنافقين” و لتبدَّدت أوهامهم و أصبحوا كمن أشرقت الشمس على عقله فأصبح يرى و هو الذي كان أعمى–و لسنا نقلل من قيمة الأعمى بهذا الكلام. ” فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ .” صدق الله العظيم .