الكاتب | فيليب ميريو |
ترجمة | عبد السلام اليوسفي |
تتجاوز المناقشات التي أثارها ظهور تطبيق المحادثة باستخدام الذكاء الاصطناعي شات جي بي تي ChatGPT بشكل كبير دائرة المتحمسين للرقمية اليوم. بالفعل، ففي كل مكان تقريبا، يجرب الناس هذه الأداة، ومن النادر ألا يتأثروا بالنتيجة المحققة.
ودون أن نبخس قيمة الأداء الفني أو العمل الضخم الذي سمح بتطوير برنامج المحادثة هذا، دعونا نتذكر أن هذا البرنامج يعمل وفق مبدأ بسيط نسبيا: فهو ينتج نصوصا كلمة بعد كلمة بطريقة تجعل كل كلمة من تلك الكلمات متبوعة بالتواردات السائدة إحصائيا في قاعدة البيانات العملاقة التي وضعها مصممو البرنامج (تمثل أكثر من 750 ألف مرة حجم الكتاب المقدس).
لذلك ليس من المستغرب ألا يقدم هذا البرنامج أي مرجع من المراجع. في الواقع، يحيل مرجع ما إلى خطاب شخصي تجعل منه القوة والأصالة تعبيرا متميزا، في حين أن برنامج المحادثة شات جي بي تي ChatGPT يحتسب ويستخدم (في وقت قياسي) العبارات الأكثر شيوعا في كتلة البيانات المتاحة من خلال صقل صياغتها وفقا للقواعد السائدة للاستخدام السليم.
يمكننا بالطبع الاستمتاع بإرباك برنامج المحادثة شات جي بي تي Chat GPT أو حتى إفشاله، من خلال البحث عن الأسئلة التي تنتج عن صياغتها الغامضة أو المتناقضة إجابات سخيفة. لكن، بلا أدنى شك، لن يثني هذا أي شخص عن استخدام أداة تتمتع بفعالية مذهلة فيما يتعلق بجمع المعلومات وتحريرها.
فرصة سانحة
ومن هنا يمكن لنا أن ندرك لماذا يخشى بعض الأساتذة من أن يعفي هذا البرنامج تلاميذهم أو طلابهم من أعمال البحث والكتابة، أو حتى أن يقوض إمكانية إجراء أي تقويم. وفي المقابل، يرى آخرون أن أي محاولة للحظر في هذا المجال ستبوء بالفشل، ويفضلون استخدام هذه الأداة للاشتغال مع تلاميذهم أو طلابهم. يعلمونهم طرح الأسئلة بأشكال مختلفة لمقارنة الإجابات؛ يقارنون تلك الإجابات بالإجابات التي تقدمها الكتب المدرسية والموسوعات؛ يساعدونهم على اكتشاف الانزلاقات الدلالية التي تحمل على سوء الفهم وتهدد موضوعية النص؛ يستخدمون مقترحات برنامج المحادثة ChatGPT باعتبارها مسودات يجب إكمالها وإضفاء الطابع الشخصي عليها أو ترجمتها إلى أشكال أخرى نصية أو خطية أو مرئية.
لا يلقي هؤلاء الأساتذة بالا بأن يقدم تلاميذهم أو طلابهم نصوصا صادرة عن برنامج المحادثة شات جي بي تي ChatGPT: فهم يرافقونهم بمقدار كاف في عملية كتابة النصوص كي يرونها تنبني تدريجياً أمام أعينهم. وإذا لزم الأمر، فهم قادرون تمام القدرة على التحقق، من خلال سؤال أو سؤالين شفهيين، من أنهم مؤلفو تلك النصوص بالفعل. علاوة على ذلك، فهم يرون في ظهور هذا البرنامج المعجزة فرصة عظيمة لإعادة التفكير في اختبارات التقويم من خلال منح دور أكبر للخلق والابتكار والتعبير الشخصي. وبالتالي، فإن الخطر الأكبر لـبرنامج المحادثة ChatGPT ليس في الغش الذي قد يسمح به، لكن في العلاقة بالمعرفة التي يروج لها روبوت المحادثة هذا، الذي صمم لإعطاء الانطباع بالتحدث إلى الإنسان، ويقلب تماما معنى العلاقة التربوية. بالفعل، فإن برنامج المحادثة ChatGPT، أكثر بكثير من محركات البحث التقليدية، فهو يشبع الرغبة في المعرفة ويقتلها في التعلم. يقدم إجابات فورية وموضوعية، وبالتالي يبطل دينامية التساؤل. إنه ينتج اليقينيات التي تحجر الفكر … على النقيض مما يتعين على الأستاذ القيام به: إثارة الأسئلة التي تحرر من الأحكام المسبقة. إلا أنه، وأكثر من أي وقت مضى، في عصر القصف الإشهاري والشبكات الاجتماعية والشعارات الشعبوية ونظريات المؤامرة، من المهم فتح أذهان تلاميذنا.
وكما قال البيداغوجي فرناند أوري (Fernand Oury)[1]، “حان الوقت كي نمنح أطفال اليوم أكثر ما ينقصهم: النقص” (البيداغوجيا المؤسسية، ماتريكس، 2001). بالفعل، الكثير منهم مجهدون وغارقون في الآراء والمعتقدات التي أصبحت علامات هوية بالنسبة إليهم.
الرغبة في التعلم
من غير المجدي أن يحاول الأساتذة منافسة برنامج المحادثة شات جي بي تي ChatGPT من خلال تزويد تلاميذهم وطلابهم بالمعرفة التي يعتقدون أنهم يمتلكونها بالفعل. في أفضل الأحوال، سوف تتراكب يقينياتهم جنبا إلى جنب مع تلك التي كانت موجودة بالفعل. وفي أسوأ الأحوال، ستعاش باعتبارها تهديدات خطيرة.
الجوهري، بالأحرى، هو أن نجعلهم يكتشفون فضائل النقص حيث تنشأ الرغبة في التعلم. ولا يكون هذا الاكتشاف ممكنا إلا في اللقاء مع معرفة حية، مسكونة، في تلفظها ذاته، بمتطلبات – موسومة بالتردد من حيث التكوين-الدقة والإحكام والحقيقة. في الواقع، لا تنخرط ذات في التعلم إلا عندما تصادف معرفة لا تفرض نفسها بوصفها عقيدة، بل تهب نفسها باعتبارها سبيلا؛ سبيل يسمح بحدس الكثير من وعود الشعور بالرضا في المستقبل أكثر من يقينيات الحاضر.
بالطبع، هذه المعرفة هي معرفة الأستاذ عندما يعرف كيف يجعلها موضوع اكتشاف جماعي في الفصل الدراسي. وهي أيضا المعرفة التي يمكن أن يصادفها تلاميذنا وطلابنا لما نضعهم في وضعيات التحقيق ونرسلهم لمقابلة حرفي الحي أو موظف البلدية أو شيوخ القرية أو العلماء في الجامعات. لأن تلك الأصوات الحية ستمنحهم الجرأة على قول كلماتهم وخلق كتاباتهم الخاصة. وبالطبع، ذلك مشروط بأن نصاحبهم مصاحبة صارمة في مسارهم الدراسي، وأن نجعلهم يكتشفون النصوص، طوال فترة دراستهم، حيث يمكنهم أن يلمحوا – على بعد ألف فرسخ من المجموعات مجهولة المصدر لبرنامج المحادثة ChatGPT -هذا الأثر، القلق والمتطلب في نفس الوقت، الذي يشير إلى وجود كائن إنساني، يمكن لهم ربما أن يخاطبوه: ” يا شبيهي، يا أخي”[2].
فيليب ميريو (Philippe Meirieu)، باحث وخبير في علوم التربية، يعد واحدا من بين البيداغوجيين الأكثر شهرة وتميزا اليوم في فرنسا. أصدر مجموعة من الكتب نذكر منها:
- – معالِم لعالَم بلا معالِم (Repères pour un monde sans repères) (2002)؛
- – الرد. كي نتخلص من الأوهام (La riposte -Pour en finir avec les miroirs aux alouettes) (2018)؛
- – رسالة إلى أستاذ شاب (Lettre à un jeune professeur) (2016)؛
- – “التعلم، نعم، لكن كيف” (Apprendre… oui mais comment) (1987)؛
- – “لذة التعلم” (Le plaisir d’apprendre) بالاشتراك (2014)
- – البيداغوجيا أو واجب المقاومة (Pédagogie: le devoir de résister) (2007)؛
- – ما هو التعلم؟ (؟ C’est quoi apprendre) (2015).
- يرأس الآن “مراكز التدريب على مناهج التربية النشطة” (centres d’entraînement aux méthodes d’éducation active)