من الممكن معالجة الاكتئاب ولكنه يتطلب الإختصاص
عندما إنتحر الفنان رالف بارتون سنة ١٩٣١ ترك رسالة وضح فيها سبب إنتحاره، في منتصف حياة كانت على مايبدو جيدة، أختار بارتون الموت.
“كل من عرفني و يسمع عن موتي، سوف يختلق فرضيات مختلفة ليفسر سبب إقدامي على الإنتحار ، في الواقع جميع هذه الفرضيات ستكون مأساويه وخاطئة تماما. أي طبيب مُدرك سوف يعرف بأن أسباب الإنتحار دائما نفسية. إن الأزمات في الحياة هي مجرد تعجيل للموت، و الإنتحار الصادق من نوعه يُنتج بنفسه الصعوبات خاصته. بالنسبة لي لم تكن لدي الكثير من الأزمات، بل على العكس تماما حظيت بحياة ساحرة وجميلة، بالإضافة إلى أن حصتي من العاطفة والتقدير كانتا أكثر مما أعطيت. إن أكثر الأشخاص جاذبية وذكاء وأهمية ممن عرفتهم أُعجبوا بي، أما قائمة أعدائي فهم مجاملين جداً لي. و صحتي كانت دائما ممتازة. لكن منذ طفولتي عانيت من الملنخوليا (السوداوية)، وفي الخمس سنوات الماضية بدأت تظهر أعراض مؤكدة لجنون الهوس الاكتئابي. منعني هذا المرض من الحصول على أي شيئ مثل إظهار قيمة موهبتي بشكل كامل، وفي الثلاث سنوات الماضية أصبح مجرد العمل أمر تعذيبي بالنسبة لي. لقد جعل من المستحيل بالنسبة لي الإستمتاع بمتع الحياة البسيطة التي يحصل عليها الآخرون . قمت بالفرار من زوجة إلى زوجة، ومن منزل إلى منزل، ومن دولة إلى أخرى بجهد مثير للسخرية كان الهدف منه هو أن أهرب من نفسي. نتيجة لتخبطي هذا، أنا خائف جدا من أنني قد نشرت قدر كبير من التعاسة بين الأشخاص الذين أحبوني بصدق. “*
تنبأ بارتون بأن معظم التفسيرات التي تتعلق بمشاكله الحياتيه سوف تكون خاطئه تماماً. ” لم تكن لدي الكثير من الأزمات ” هذا ما قاله ، و” بالإضافة إلى أن حصتي من العاطفة والتقدير كانتا أكثر مما أعطيت “. بيد أن عمله أصبح عذابا وأصبح يشعر بأنه سبب في تعاسة الآخرين. ” قمت بالفرار من زوجة إلى زوجة، ومن منزل إلى منزل، ومن دولة إلى أخرى بجهد مثير للسخرية كان الهدف منه هو أن أهرب من نفسي.” لقد أفصح عن سبب انتحاره وهو مرض الملنخوليا (السوداوية) الذي تفاقم بعد ذلك إلى” أعراض مؤكدة لجنون الهوس الاكتئابي”
لقد كان مُحق بشأن ردات فعل الآخرين، من الأسهل غالبا أن ننسب الإنتحار لأسباب خارجية مثل أمور تتعلق بمشاكل الزواج أو العمل، أو أمراض جسدية، أو ضغوط مالية أو حتى مشاكل قانونية عوضا عن إسناده لأمراض عقلية.
الضغوطات بالتأكيد عامل مهم وغالبا ما تتفاعل بشكل خطير مع الاكتئاب. لكن العامل الأكثر خطورة المؤدي للإنتحار هو الأمراض العقلية، خاصة الاكتئاب و إضطراب ثنائي القطب (المعروف أيضاً بذهان الهوس الاكتئابي). عندما يكون الاكتئاب مصحوبا بالإدمان على الكحول أو المخدرات -هذا ما يحصل عادة- تزيد إحتمالية الانتحار بطريقة بالغة الخطورة.
الإنتحار الاكتئابي يتضمن نوعا من الألم وفقدان الأمل من المستحيل شرحه، لقد حاولت. أنا أُدرس الطب النفسي وسبق أن كتبت عن مرضي ثنائي القطب، لكن تعجز الكلمات في أن تصفه بطريقة عادلة، كيف يمكنك أن تصف شعور الانتقال من شخص يحب الحياة إلى آخر كل ما يتمناه هو الموت ؟
الإنتحار الاكتئابي هو حالة من البرود، الهلع الاهتياجي، بالإضافة إلى اليأس الشديد. حيث ترشح أكثر الأشياء التي تحبها في الحياة من بين يديك، وكل شيء يتطلب جهدا، طوال النهار وخلال الليل. لا أمل، لا هدف، لا شيء.
العِبْء الذي تعلم بأنك تُشكله للآخرين لا يُطاق، بالإضافة أيضا إلى حاله الإهتياج من الهوس الذي من الممكن أن يتطور ضمن اكتئاب ما، لا يوجد هنالك سبيل للنجاة والطريق الذي أمامك لا نهاية له.عندما يكون أحدهم في هذا الوضع، من الممكن أن يبدو الإنتحار خيارا سيئا ولكنه الوحيد.
لقد مضى وقت طويل منذ أن عرفت الإنتحار الاكتئابي، أنا واحدة من الملايين الذين تم علاجهم من الاكتئاب وتحسنت حالتهم. لقد كنت محظوظة لأن طبيبي النفسي أجاد إستخدام الليثيوم و أمتلك المعلومات الكافية عن مرضي، بالإضافة إلى مهارته في العلاج النفسي.
يمكن للتفريق بين الاكتئاب الثنائي القطب و الاكتئاب الرئيسي أن يكون صعبا، والأخطاء شائعة. يمكن للتشخيص الخاطئ أن يكون قاتلا لأن الأدوية التي تعمل جيدا مع بعض أنواع الاكتئاب تسبب هيجانا في الأخرى. كما نتوقع دواء معلوما لمرض السرطان أو القلب، فإن الكتئاب لا يقل عن ذلك أهمية.
تجربتي مع الأسف قد لا تكون ذاتها التي يعيشها الجميع، العديد من المختصين يعالجون الاكتئاب، بالإضافة إلى أطباء الأسرة و أخصائيين الطب الباطني و أطباء النساء والممرضين و الباحثين الإجتماعيين. وهذا يؤدي إلى مستويات متباينه من الكفاءة. العديد ممن يعالجون الإكتئاب ليسوا مُدربين بشكل كافٍ على تمييز كافة أنواع الاكتئاب الأخرى، ولا يوجد هناك أي معايير محددة للتعلم عن التشخيص.
نحن نعلم بأن بأن الليثيوم يقلل من خطر الانتحار بشكل كبير عند المرضى الذين يعانون من اضطرابات المزاج، كما هو الحال مع مرض ثنائي القطب، لكن في كثير من الأحيان يكون آخر الحلول المستخدمة. نحن نعلم أيضا، بأن الدواء الذي يتضمن معه العلاج النفسي قد يكون أكثر فعالية للاكتئاب المتوسط إلى الشديد من أي علاج آخر يستخدم بمفرده. غير أن يستمر العديد من الأطباء في نصب خيمهم حصريا إما في معسكر علم النفس الدوائي* أو العلاج النفسي. ونعلم أن العديد ممن يعانون من الاكتئاب الانتحاري سيستجيبون جيدا للعلاج بالصدمات الكهربائية (ECT) إلا أن التحيز ضد هذا العلاج -عوضا عن العلم- يحجم عنها في كثير من المستشفيات والمماراسات السريرية.
يجب على المصابين بالاكتئاب الشديد أن يخوضوا مع أفراد عائلتهم نقاش عن الإنتحار متى أمكن ذلك. إن الاكتئاب عادة يُبلد قدرة الشخص على التفكير والتذكر، لذلك يجب إعطاء المرضى معلومات مكتوبة عن مرضهم وعلاجه، بالإضافة إلى أعراض محددة تتعلق بخطر الإنتحار مثل الهيجان، الأرق أو الإندفاع . عندما يتعافى مريض الإنتحار الاكتئابي، سيكون من الجيد للطبيب والمريض بالإضافة إلى أفراد الأسرة الحديث عن أكثر العلاجات فعالية و مالذي يجب فعله في حال أصبح لدى الشخص رغبة بالانتحار مرة أخرى.
ليس من السهل مرافقة الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب أو التواصل معهم. الاكتئاب والاندفاع واليأس قد يكون معديا، لذلك من الأفضل وضع خطط مع المريض عندما يكون بحال جيد. إن التوجيه المُسبق الذي يحدد الرغبات التي تتعلق بالعلاج المستقبلي والترتيبات القانونية قد يكون مفيدا، بالنسبة لي -على سبيل المثال- فقد حددت مسبقا موافقتي على العلاج بالصدمات الكهربائية(ECT) إذا ما أعتقد طبيبي المعالج و زوجي الذي هو أيضا طبيب معالج بأن هذا أفضل علاج بالنسبة لي.
وبما أني أُدرس وأكتب عن الاكتئاب ومرض ثنائي القطب فإني عادة ما أُسئل عن العامل الأكثر أهمية في معالجة اضطراب ثنائي القطب، جوابي هو كالتالي: الكفاءة. إن التعاطف مهم ولكن الكفاءة أمر أساسي.
لقد كنت محظوظة لأن طبيبي النفسي أمتلك كلا الأمرين. رجعت إلى الحياة بعد رحلة طويلة كدت قريبة من الموت حينها بسبب محاولتي الإنتحار . لكنه كان معي، في الواقع كان يسبقني مع كل خطوة بطيئة كنت أحذوها في طريقي.
كي ريدفيلد جاميسون، أستاذة الطب النفسي في كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز. لديها العديد من المؤلفات مثل “عقل غير هادئ: سيرة ذاتية عن الهوس والاكتئاب والجنون”، و كتاب الظلام يتهاوى متتابعاً: مدخل إلى فهم الإنتحار .
*-لم تكن رسالة إنتحار رالف بارتون موجودة في المقالة الأصلية، بل أضيفت من قبل المترجم.
*-“يدرس هذا العلم أنواع العقاقير العصبية والنفسية وتصنيفاتها وآلية عمل تلك العاقير على الجهاز العصبي وكيف يمكن لها أن تؤثر على الجانب النفسي” Psychopharmacology