يا “إلهي، ما أروع هذا القرن الذي أراه ينفتح
أمامنا،كم أتمنى فيه لو يعود إلي شبابي… !”.[1]
إنـها صيحة إعجاب بالقرن الجديد أطلقها المفكر الإنساني الهولندي إرازم (Erasme, 1469-1536)، في مستهل القرن السادس عشر. وهي تعـبّر بوضوح عن مدى افتتان المفكرين في عصر النهضة بعصرهم وشعورهم بأنـهم يشاركون بالفعل في مغامرة مثيرة وفريدة من نوعها تقدم عليها البشرية بفضل ما تحقق من تقدم آنذاك على صعيد الفكر والفن والثقافة والمعارف. ترى هل يستقبل المفكرون والفلاسفة اليوم تباشير القـرن الجديـد الذي ينفتح أمامنا بنفس الحماس والإعجاب والتفاؤل ؟
ولا نظن أن حالة إرازم تشكل حالة استثنائية فقد وجد في جميع العصور مفكرون وفلاسفة آمنوا بأن حكمة جديدة ستنبثق في الفكر الفلسفي للمستقبل، وتنبأوا باحتمال حدوث “انطلاقة جديدة” للفكر وللفلسفة استنادا على ما حدسوه من خلال استقراء وتشخيص نقدي لحـال الفلسفة في عصورهم، ذلك الحال الذي غالبا ما يكون من ثوابته بداية ظهور علامات تصدع في المنظومات الفلسفية الكبرى المهيمنة. ويمكن أن نذكر في هـذا السياق مثلا الفيلسوف الألماني لودفيج فويرباخ (1804 ـ 1872) الذي كتب سنة 1843 “مبادئ فلسفة المستقبل”، ويتعلق الأمر بكتاب يضم خلاصة مصاغة على شكل مبادئ لأهم المآخذ والإنتقادات التي وجهت إلى المذهب الفلسفي المثالي عند هيجل، وكانت قد بدأت تظهر عليه أعراض التفكك. والفكرة الناظمة للكتاب هي أن الفلسفة الجديدة ستجدد المذهب المادي وتغنيه؛ وستجعل من الإنسان والطبيعة الموضوع الوحيد والكلي والأسمى للفلسفة؛ وإنـها ستنظر إلى الإنسان لا باعتباره كائنا عاقلا ومفكرا فحسب بل باعتباره أيضا كائنا طبيعيا وحسيا ؛ كما أنـها ستعلي من قيمة المحبة والمشاعر والعواطف الإنسانية وستكون نزعة إنسانية جديدة.[2]
وفي السنة الأولى من القرن العشرين (1901) كتب الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون متنبئا:”إن المهمة الرئيسية لعلم النفس في هذا القرن الجديد الذي ينفتح أمامنا ستكون هي اكتشاف اللاشعور والعمل على سبر أغوار النفس بواسطة مناهج خاصة وملائمة، ولا أشك في أن هناك اكتشافات رائعة تنتظره، وقد لا تقل أهمية عن تلك التي تحققت في القرون الماضية في ميادين العلوم الفيزيائية والطبيعية”.
وبالفعل فمن جملة ما يتميز به قرننا الحالي الذي نودعه، وفي ميدان العلوم الإنسانية بصفة خاصة، أنه اعتبر القرن الذي هيمنت فيه نظرية التحليل النفسي أصولا وفروعا وتأويلات معاصرة، بحيث عم توظيف عناصرها وتطبيقها كما غزت مفاهيمها ميادين معرفية متعددة ومن بينها الفلسفة بالذات التي ازدهرت فيها خلال الستينات “القراءات” الجديدة للنصوص وللخطابات الفلسفية.[3]
ماذا يمكن أن نقول بدورنا عن ملامح الفكر الفلسفي في مطالع القرن المقبل ونحن على وشك توديع القرن العشرين ؟
كمحاولة للإجابة عن هذا السؤال سنجازف في الصفحات التالية باقتراح مجموعة من الأفكار والعناصر في شكل ملاحظات وتساؤلات وافتراضات، لا ندعي فيها بأية حال من الأحوال أنـها صياغة لأجوبة نـهائية… بل نعتبرها بالأحرى استخلاصات مؤقتة تتلمس طريقها إلى الوضوح بقدر الإمكان.
1 ـ علاقة “أزمات” الفلسفة بالتحولات السريعة وبالتقدم العلمي والتكنولوجي
نعتقد أن ما تمر به الفلسفة في بعض الفترات الخاصة من “أزمات” يكون في جل الأحيان تعبيرا عن عجز الفكر الفلسفي عن ملاحقة التطور السريع للواقع وعن فهم واستيعاب ما يستجد من اكتشافات في ميادين العلم. وتتأيد هذه الفكرة بما بات الجميع يعرفه : إن العقد الأخير من القـرن العشرين يشهد نـهاية حقبة هامة من تاريخ الإنسانية امتدت زهاء قرنين، كانت بحق حقبة الثورات والتحولات الكبرى سواء على مستوى التوجهات الجديدة التي عرفتها المجتمعات البشرية أو على مستوى صيرورة الفكر والمعارف والعلوم.
وغدا من البين أن التحولات العالمية المتسارعة في السنوات الأخيرة، والوثيرة السريعة التي يخطو بـها التقدم العلمي والتكنولوجي في الفترة الراهنة، وسقوط النظرية الشيوعية وانهيار الدول التي كانت تؤمن بضرورة تطبيقها؛ إن كل هذه العوامل الحاسمة ستطرح على الفكر الإنساني ضرورة إعادة النظر في كثير من قيمه السياسية والأخلاقيـة والإبستمولوجية التي كانت سائدة حتى الآن. كيف لا وقد أضحت فكرة “اليقين” نفسها فكرة غير يقينية بعدما انهارت مجموعة من الحقائق والقيم العليا التي طالما قيل عنها أنها قيم ثابتة ودائمة وتصلح للإنسان من حيث هـو إنسان بغض النظر عن مكانه وزمانه ومواقفه ومشكلاته ؟
وقد ثبت أن الفلسفة التي لا تكثرت بمجرى التحولات الكبرى في عصرها والتي تتجاهل الحركة العلمية ولا تتفاعل معها مقضي عليها بالجمود التدريجي وبالتالي بالتلاشي. وتلك فكرة يمكن اعتبارها بمثابة مسلمة لا يفتـأ تاريخ الفلسفة يؤكدها، وعلى ضوئهـا سنتبنى التعريف التالي للفلسفة : “الفلسفة حكمة مؤسسة على المعرفة”؛ أي حكمة تستلهم من علوم ومعارف عصرها وتستند إليها.[4]
بإمكاننا أن نقدم مجموعة من العناصر لتعزيز هذا التعريف: فمن ناحية أولى يزكيه أن كثيرا من عظماء الفلاسفة كانوا في نفس الوقت علماء مرموقين في عصرهم. ومن ناحية أخرى ليس بالـخافي أن الأمر يختلف اليوم تماما بالنسبة للفلاسفة المعاصرين إذ أن جلهم ليسوا علماء بالمرة، بل ولم تعد تربطهم بالعلوم في غالب الأحيان إلا صلات ضعيفة وذات طبيعة تأملية ونقدية وتنحصر في تقييم ما يمكن أن يترتب عن تطورها من نتائج على الفكر وعلى القيم السائدة بصفة عامة ؛ إنـها صلات تحدد في محاولـة استخلاص “حكمة” ما يمكن أن تتبلور في مواقف عملية وفي ردود فعل معينة. ومن الواضح أن اضطراب الفلاسفة إلى استخلاص “حكمة” معينة من علوم ومعارف العصر، له كذلك علاقة بالمضمون الذي يشير إليـه التعريف السابق.
وفضلا عن التبريرين السابقين فتاريخ الفلسفة لا يفتأ يكشف لنا أن الفلسفات الكبرى كانت في عصورها في علاقة وثيقة ودائمة وفي حـوار مستمر مع علم من العلوم، بل أحيانا لم تكن سوى ردود فعل أمـام ما استجد من مكتشفات وثورات في الميدان العلمي والتقنولوجـي؛ أي أمام ما اضطرها إلى مراجعة إشكالياتـها وإعادة سبك وصياغة مفاهيمها. ولقد أسفر هذا الحوار بين العلم والفلسفة، الذي لم تكن الفلسفة في أغلب الأحيان حرة في اختياره بل كان يفرض عليها فرضا، متوالية من “الحكم” أو الرؤى العقلانية للعالم متباينة ومتميزة عن بعضها البعض، كانت كل واحدة منها تستجيب وتعكس نسبيا حالة المعارف في عصر معين، وتعتبر بالتالي ضربا من التقدم الفكري. لقد قيس التقدم غالبا بمدى قدرة وفعالية العلم والفكر والنظريات على حل المشاكل في فترة تاريخية معينة. ونعتقد أنه من هذا المنظور يصح الكلام عن رؤية فلسفية جديدة للعالم باتت تنبئ بـها الحالة الراهنة للعلم وللتقنولوجيا وللمعارف الإنسانية عموما.
سنفكر في هذا التعريف الذي نقترحه للفلسفة على ضوء المعطى التالي:
إن السمة البارزة لحالة العلوم والمعارف والتقنيات في عصرنا هي التطور السريع والمدهش سواء على مستوى تنوعها أو مضامينها أو على مستوى وسائل تخزينها وتصريفها ومعالجتها ؛ وأنه قد نجم عن ذلك التطـور تعاظم في إمكانيات الإنسان من حيث المقدرة والكفاءة والفعالية وتبعا لذلك غدت تلوح في الأفق الآن مؤشرات عديدة تنبئ بأن تغيرات عميقة ستطرأ على المشهد الفلسفي للقرن المقبل الذي لم تعـد تفصلنا عنـه إلا سنوات ثلاث فقط.
2 ـ عن بعض المظاهر الحالية للتقدم العلمي والتكنولوجي
وربما يكون من الملائم أن نذكر باقتضاب ببعض الاكتشافات العلمية الحديثة التي شهدتها العقود الأخيرة من هذا القرن والتي لم يعد الفيلسوف حرا في أن يتجاهلها ويغـض الطرف عنهـا، ذلك لأن تطبيقاتـها في الوقت الحالي وفي المستقبل القريب ستحدث لا محالـة انقلابا كبيرا في أحوال الوضعية البشرية.
لقد حدثت بالفعل خلال هذا النصف الثاني من القرن العشرين، وبصفة خاصة في عقوده الأخيرة التي نوشك على توديعها، تحولات مذهلة في الكفاءات والقدرات المعرفة، وأصبحت الكلمة الأخيرة للتقنيين والمهندسين المختصين. ونمت العلاقات الدولية بشكل كبير، وتغيرت أنماط الحياة بكيفية مثيرة.
وإذا شئنا أن نعبر عن كل ذلك في عبارة وجيزة لقلنا بدون أدنى تردد أنا أصبحنا نعيش عصر ميلاد دلالة جديدة لمفهوم العالم “Le Monde” ومفهوم العولمة “La mondialisation”: إن نمو وامتداد واتساع وتداخل وتشابك العلاقات بين الدول لم يعد يتوقف في مختلف أنحاء المعمور. ويبـدو أنه لأول مرة في تاريخ البشرية أصبح العالم “Le Monde” بفضل التطور الهائل الذي عرفته تكنولوجيا الإعلام والإتصال الجديدة مجموعا منظما ومتواصلا فيما بينه بحيث غدا كل عنصر فيه، وفي أية منطقة من مناطقه، قادرا على إحداث نتائج غير متوقعة بعيدا جدا عن مكان ظهوره ولم تعد المشاكل ولا الحلول المطروحة في عصرنا منعزلة وذات طابع جهوي محض.
ولا نتحدث هنا عن “العولمة” كما لو كانت أسطورة معاصرة بل كواقع تاريخي حقيقي، وبإمكاننا بطبيعة الحال جرد المساوئ والسلبيات الواقعية التي تفرزها، ولكن ما لا يجب أن يغرب عن بالنا ارتباطها الوثيق بالثورة العلمية وبالتقدم الهائل في تكنولوجيا المعرفة والاتصال. لا بد للفيلسوف أن يفهم ذلك إذا أراد أن يحضر ولادة وانبثاق العالم الجديد، عالم القرن 21!
لقد تسارعت بالفعل وتيرة التقدم العلمي والتقنولوجي واتسعت مجالات تطبيقاته كثيرا. لقد تطورت العلوم الفيزيائية فازدادت قدرات الإنسان على التجوال في الكون بل وحتى على تغيير بعض معالمه، وبالتالي على تغيير شروط وظروف حياته فيه. وها هي العلوم البيولوجية المعاصرة المنحدرة من “العلوم الطبيعية” العتيقة توجد في عنفوان شبابـها وتحقق إنجازات مذهلة فيغدو العلم بفضلها قادرا على تغيير الكائنات الحية بما فيها الإنسان ذاته!
نذكر هنا بإيجاز ببعض تلك الإنجازات. إن التقدم الكبير الحاصل في ميدان علم البيولوجيا قوى كثيرا من قدرة الإنسان على التحكم في عملية الإخصاب والإنجاب: فقد تنوعت وسائل منع الحمل وتيسرت سبلها، وبات من الممكن علاج أشكال كثيرة من العقم عن طريق الإخصاب الاصطناعي، كما التحديد الإرادي لجنس الأطفال المرغوب في إنجابـهم مسألة ممكنة، وكذلك “إنجاب” أجنة تحت الطلب في أوساط اصطناعية وخارج أي رحم نسائي. ولعل ما هو أكثر إثارة من هـذا وذاك أنه صـار باستطاعة النساء اليوم أن ينجبن أطفالا بدون أن تكون لهن أية علاقة جنسية بالرجال، شرعية كانت أم عاطفية أم ذات طابع مصلحي عابر، وذلك بفضل إمكانية “الاستفادة” من خدمات “بنك الحوينات المنوية”؛ بمعنى أنه أصبح من الممكن الآن أم يوجد صنف جديد من الأمهات بدون أباء! كمـا أن البيولوجيا الجزيئية (Biologie moléculaire) غدت تملك الآن وسائل متطورة للاحتفاظ بالحوينات المنوية وتخزينها من أجل استعمالـها في المستقبل وحتى بعد موت وانقراض أصحابـها.
ومن ناحية أخرى فهي تخطو خطوات موثوقة نحو التنبؤ الوراثي الذي يهدف إلى الكشف المبكر عن قابلية الأفراد للإصابة ببعض الأمراض. نقرا في كتاب مختص في هذا الميدان أن “… التنبؤ في أقصاه يعني أن كل فرد سوف يتمكن عمليا من أن يعرف أي الأمراض هو مستهدف للإصابة بـها. وسيكون لبرامج الفرز المختلفة تأثيرها على كل فرد حتى على الأطفال الذين لم تحملهم أمهاتهم بعد، والذين يمكن أن تحدد خصائصهم من جينات الوالدين، وستتيح هذه البرامج للناس أن يتحكموا إذا شاءوا في حياتـهم،… وربما أدت برامج الفرز إلى تغيير خواص المجتمع نفسها”.[5]
أمام هذه المعطيات الجديدة ماذا ستؤول إليه مفاهيم أساسية عاشت عليها المجتمعات البشرية منذ آلاف السنين مثل الأبوة والأمومة والقرابة؟ واضح جدا أن تقدم العلم في المجالات السابقة الـذكر، قـد أدى أو من شأنه أن يؤدي إلى نتائج تتعارض مع القيم الأخلاقية التي تكرست تدريجيا منذ فجر التاريخ البشري، وفي جميع المجتمعات ولدى مختلف الأديان والفلسفات بوصفها عنصرا جوهريا في إنسانية الإنسان.
ولعل مما له مغزى خاص في هذا الصدد أن ينشأ في العقدين الأخيرين من هذا القرن مبحث جديد يهتم بالتفكير الفلسفي والقانوني في المشاكل الأخلاقية الناجمة عن الأبحاث والدراسات المعاصرة في البيولوجيا وبصفة خاصة في فرعها المختص بالهندسة الوراثية “La Génétique” ويعـرف هذا المبحث الآن بالمصطلح الجديد “Bioéthique”الذي اعتمدته القواميس منذ سنة 1982، وهو يلقى حاليا نجاحا ملموسا ويدور حوله نقاش لعله من أهم نقاشات الفلسفة والقانون في نهاية هذا القرن.[6] ولا داعي للاستغراب فقد كان الدافع العلمي إلى تطوير البحوث في علم البيولوجيا المعاصرة من قبل ذا مرامي إنسانية محددة وواضحة تتمثل في معالجة بعض التشويهات والانحرافات الناتجة عن الأمراض الوراثية، بينما يظهر الآن أن هذا الدافع يتجه وسيتجه في القرن المقبل أكثر نحو القيام بدور الطبيعة ذاتها!
لا نستبعد أن يفهم من أسلوب إثارتنا لما ينجم من مشاكل وانعكاسات على الفكر الفلسفي نتيجة انتشار مظاهر التقدم العلمي والتكنولوجي أننا من أشياع نزعة الإدانة الرومانية المطلقة لكل ما أسفر عنه. وتلافيا لسوء الفهم نسارع ونقول بأننا لا نخفي تحفظنا من التقييم السلبي والمتشائم الذي أصدرته فلسفة مارتن هيدجر وتفرعاتها وأصداؤها في الفلسفة الفرنسية المعاصرة مثلا على الحضارة التقنية عندما وصفتها بأنها “إرادة الإرادة” وعملية تنمو وتتناسل لذاتها وتفرض نفسها بشكل شمولي على الإنسان، وذلك باسم فعالية تزداد جنونا ودفة يوما عن يوم وتـهدد مستقبل البشرية. وقد عبرنا عن رأينا هذا في مكان آخر.[7]
نحن نعتقد أنه ليس من الصواب وسداد الرأي أن يتجاهل بالكامل ما أصبحت تدين به الإنسانية جمعاء للتقدم التكنولوجي في مختلف ميادين حياتـها. نقول هذا وليست غائبة عنا بالمرة جوانب الوجه الآخر “المظلـم” لطبيعة ذلك التقدم.
كتب سيجموند فرويد في سنة 1938، أي سنة واحدة قبل موته، واصفا عصره: “نحن نعيش في زمان شديد الغرابة، أصبحنا نلاحظ فيه وباستغراب أن التقدم قد عقد تحالفا مع النـزعة الهمجية والبربرية”.[8] وساق على ذلك أمثلة ناطقة من واقع تلك الفترة الحرجة من تاريخ الإنسانية، وليست أمثلته في الحقيقة سوى مقدمات إذا ما قورنت بما سيشهده العالم بعد ذلك من ويلات الحرب العالمية الثانية والحروب “الجديدة” التي تلتها. أما القارئ المعاصر الذي يعيش الآن نـهاية القرن العشرين والذي يسمح له نضج تجاربه وتقدم سنه بإمكانية المقارنة فقد صار من اليسير عليه أن يضيف أمثلة أخرى أكثر رعبا وفظاعة عن ذلك التحالف الشاذ بين التقدم العلمي والتكنولوجي وبين النـزعة إلى الإبادة والتدمير الشامل.
لا ننكر إذن أن التقدم العلمي والتكنولوجي سيء السمعة عموما في مجال الفلسفة والأخلاق، وقد نظر إليه دائما بعين الريبة والحيطة لأنه يعد عاملا لزعزعة الحقائق المستقرة من ناحية ولأنه من ناحية أخرى كان السبب في كوارث فظيعة لحقت بالإنسانية يصعب تناسيها، ولكن طبيعـة التفكـير في الإشكالية المطروحة تلزمنا بألا ندين فقط ولكن أيضا وبقدر الإمكان أن نحلل ونفهم وحسب المستطاع أن نتوقع ما يمكن أن تحدثه معرفة تتطور وتتعاظم باستمرار، أي ما يمكن أن يحدثه تقدم العلوم والتكنولوجيا في عصرنا من انعكاسات وآثار على توجهات الفكر الفلسفي في القرن المقبل.
3 ـ الواقع الراهن للفلسفة وأشكال الخطاب الفلسفي الجديد
نقول إذن إنه عند إمعان النظر في متطلبات عصرنا الحالي وأمام هذه الأوضاع والمعطيات الجديدة سنقف على حقيقة أن الفلسفة أضحت تبدو لنا عتيقة ومتجاوزة وكأنـها تنتمي حقا إلى مرحلة قد ولت. فهي ذات طبيعة نظرية تغرق في التجريد والعمومية ؛ وتعليمها غير متلائم مع مشاكل العالم اليوم ؛ وليست لـها أية مردودية ملموسة ومباشرة، وتكاد تكون منقطعة الصلة بمشاكل الحياة اليومية.
وهناك بكل تأكيد أسباب وجيهة لتفسير هذا الانطباع ولعل من أكثرها وضوحا أن الشعوب والمجتمعات في المرحلة الراهنة من تاريخ البشرية، وحيثما وجدت في أنحاء المعمور، بدأت تشعر وتعي بأن وضعيتهـا الحاضرة بل و مستقبلها كذلك أصبحا مرتبطين ارتباطا وثيقا بمدى مقدرتـها على استيعاب التقنية والتمكن من الاستفادة منها.[9]
ومن بإمكانه اليوم أن يجادل أو يتجاهل أن حال الفلسفة لم يتغير كثيرا وانه لا يزال في أيامنا هاته كما كان عليه حتى منتصف العقد السابع من هذا القرن على الأقل ؟ لقد كانت المذاهب والمدارس والتيارات الفلسفية في ذروة حيويتها وعطائها تتناظر وتتساجل وتتصارع : الفنمولوجيا والوجودية و الشخصانية في مواجهة الماركسية، والماركسية في مواجهة الوضعية المنطقية والوجودية والبنيوية، والوضعية المنطقية في مواجهة المذاهب “الميتافزيقية” قاطبة، والفلسفة البنيوية في مواجهة الوجودية والماركسية معـا، والقراءات الجديدة للماركسية وللفردية تتواجه وتتنافس فيما بينها إلخ…
ولا ننسى أن الساحة الثقافية شاهدت كذلك بروز ظاهرة هيمنة أعمدة الفكر والفلسفة المعاصرة الكبار مثل ليفي ستروس، وميشيل وفوكو ودريدا وألتوسير ودلوز إلخ… وكان أغلب هؤلاء أساتذة مرموقين ينتمـون إلى الجامعات. أما اليوم فقد صرنا نلاحـظ الفلسفة وهي تنكمش على نفسها وتغدو ميالة إلى التروي والحذر؛ والفلاسفة الكبار يختفون واحدا تلو الآخر بدون أن يعوضوا؛ والفلسفة الجامعية وهي تنحسر وتتراجع حتى ليبدو أن همها الأساسي بات هو الاقتصار على تدريس تاريخ الفلسفة القديمة والوسيطية والحديثة منها بصفة خاصة. وهكذا بدأت الصلات التي تربطها بالحياة الثقافية تنفصم عراها تدريجيا، وأصبح الفيلسوف يتشكك بالفعل في أن تكون الجامعة هي مكانه الطبيعي.
لقد توارت عن الأنظار مذاهب فلسفية كبرى وباتت تتفكك، وانـهارت أنظمة اعتقدت ولفترة طويلة أنها كانت تملك الحقيقة وبرزت تصرفاتـها وقراراتـها بناء على ذلك. وصرنا نلاحظ عن كثب اتساع ظاهرة التراجع الكبير للأشكال التقليدية التي ظهرت عليها الفلسفة “المتـزنة” منذ نـهاية الحرب العالمية الثانية. كما أن المسائل الفلسفية الكبرى التي ظلت المنبع الذي يمد الفكر الفلسفي بالحيوية منذ العصر اليوناني أصبحت موضع تشكيك من طرف عدد كبير من الفلاسفة أنفسهم، حتى إنه لم يعد مما يثير الاستغراب اليوم أن نسمع الطالب في قسم الفلسفة في جل جامعات العالم يؤكد بأن مهمة الفلسفة ليست هي إيجاد حلول للمشاكل “المييتافزيقية” الكبرى المطروحة منذ أفلاطون ، بل إن دورها أضحى بالأحرى هو تفكيك وهدم وتقويض جميع الأوهام التي تصدر عنها.[10]
وعلاوة على ذلك ثمة سمة أخرى لافتة للإنتباه: إن مطلب العقلانية الذي كان من قبل من أولويات الفلسفة أصبح اليوم مهددا بسـبب تكاثر وانتشار النـزعات الشكية والظلامية المتطرفة. فقد تضـاءل الحرص الذي كانت تبديه جل الفلسفات السابقة على تبني النـزعة العقلانية وعلى متابعة ما يستجد في ميادين العلوم، وعلى الاستلهام منها ومن مناهجها، وصرنا اليوم نلاحظ تراجعه حتى ليبدو للعيان أن العقـل والعقلانية قد أصبحا بالفعل مهددين بفعل تجدد وانتشار الاتجاهـات اللاعقلانية ذات الأصول الدينية أو الصوفية أو الفوضوية أو الفلسفية التفكيكية. ومن يدري فلعل هذه الظاهرة هي نتيجة أخرى لانـهيار “اليقينيات” والمنظومات الفلسفية الكبرى التي شهدها عصرنا الحالي.
وفي هذا المناخ الفكري رأينا تيارات متميزة في الفكر الفلسفي المعاصر “تعني” الفلسفة غير ما مرة وتدعو إلى التخلي عن التفكير بمفاهيم مثل الذات والوعي والعقل والمعنى والحرية والتاريخ… ونشـأت موضوعات جديدة للتفكير الفلسفي وظهرت بالتالي أشكال حديثة من الخطاب لم تكـن معهودة من قبل في تقاليد الفلسفة، ومن سماتـها أنـها تميل أكثـر إلى التعبير عن حساسيات جديدة لم تكن واضحة في فكر العقود الماضية. وبدا أن الفلسفة لم تعد من خلال تلك الخطابـات الجديدة مسؤولة عن التفكير في ما يوجه الفعل الإنساني أو ما يؤسس المعرفة وتوجهاتـها، وساد الاعتقاد بأن مهمتها أضحت تقتصر بالدرجة الأولى على ضرورة رد الاعتبار للخيال وللوهم ولكل ما كان العقل الفلسفي من قبل يقصيه وينبذه؛ أي الإشادة بما هو لا عقلاني ومختلف ومتعدد ومهمـش ومقصي وشاذ وفوضوي.
4 ـ عناصر تجديد محتمل في الفكر الفلسفي لبدايات القرن 21
نعود مرة أخرى إلى مسألة العلاقة بين الحكمة والمعرفة ونتساءل: إذا كان تطور الواقع وتطور العلوم والمعارف يساعد على إحداث جميع هذه التغييرات التي أبرزتـها سابقا فما هي الحكمة الجديدة التي يتوجب على الفلسفة استخلاصها وبثها؟ من باب الحذر والتروي نجيب بأنه لم يعد بإمكان الفيلسوف المعاصر أن يتنبأ سوى بحكم مؤقتة على غرار فكرة “الأخلاق المؤقتة” التي كان ديكارت قد اقترحها استلهاما من حال المعرفة في عصره، وإلا فإنه سيكون في موقف حرج، وقد يزكي وبدون أن يكون ذلك هو قصده بالفعل، ما تحوم حوله من شكوك منذ زمان بأنه دائمـا ذلك “المتنبئ” الذي لم يعد هناك حقا من يكثرت بتصديق ما يقول!
لقد أفادنا تاريخ الفكر الفلسفي على الدوام بالحقيقة التالية: إن انتشار النـزعات الشكية واللاعقلانية يقوى عندما تكون المثل الاجتماعـية القديمة آخذة في الاهتزاز في حين أن المثل الجديدة لم تنجح بعد في فرض نفسها، ولاشك أن إمارات هذه الحقيقة بادية على الواقع الراهن لعصرنا. فهل يجوز لنا أن نستشرف من وراء ذلك أن مهمة الفلسفـة في المستقبل القريب ستكون شبيهة بمهمتها في عصر الأنوار ؟ وبعبارة أخرى هل ستستعيد الفلسفة في بدايات القرن المقبل دورها التنويري ويغدو الصراع الفكري كما كان عليه في عصر الأنوار: العقل ضد النـزعات الظلامية واللاعقلانية، مع ما يقتضيه الحال من تجديد وتحيين لمعاني العقل واللاعقلانية؟ ذلك ما لا يستبعده كثير من المهتمين بمستقبل الفلسفة.[11]
ومن المألوف أن الفلسفة في فترات الانكماش والتحول غالبا ما تشتكي بأنـها أصبحت مهمشة وبأن أهميتها قد تضاءلت بالفعل، ولـذلك فهي تغدو في موقف متأزم يحتم عليها أن تبحث عن أدلة جديـدة لتبرير مشروعية وجودها. ونحن نعتقد أن من بين الدلائـل الجديدة التي أصبحت متاحة لها الآن الحاجة الماسة إليها لأن تساهم من خلال برامج التعليم الفلسفي في الإعداد والتحضير للحياة في العالم الحالي للبشر الذي يطبعه التغير السريع وليس في عالم المثل المفارق ؛ أي لأن تمارس دورها الثقافي وتقوم بتحليل مشاكل العصر لمساعدة المواطنين على فهمها.
وهناك مؤشرات حالية كثيرة توحي بأننا سنشهد انبعاثا جديدا لعلاقة الفلسفة بالسياسة في مستهل القرن المقبل، على الأقل على مستوى برامج التعليم ولعل أكثرها تجليا هذا الانتعاش الكبير للخطاب عن حقوق الإنسان. فإذا كان تعليم الفلسفة قد زودنا إلى حد الآن بمجموعة من الرؤى العامة التي كونـها البشر عن الحياة وعن العالم وعن العلاقات فيما بينهـم، كما أمدنا بمعلومات ثقافية غنية وكذلك بمعطيات تاريخية، فإن كثيرا من المهتمين بالفكر الفلسفي في عصرنا غدوا أكثر طموحا وصاروا ميالين إلى الاقتناع بأن من الممكن أن يكون لتعليم الفلسفة أيضا، فضـلا عن مزاياه السابقة علاقة وثيقة بقضية الديمقراطية بحيث يمكن أن يدعمها ويدافع عنها.
وربما يبدو للوهلة الأولى أن العلاقة بين الفلسفة والديموقراطية ليست واضحة وليس لها مضمون خاص متميز وثابت، ولا غرابة في الأمر فنحن حقا أمام مسألة “فلسفية” حديثة العهد ولا تعد من المسائل الفلسفية الكلاسيكية، بل ولم يكن من المعتاد طرحها من قبل.[12]
حقا لقد نظر دائما إلى العلاقة بين الفلسفة والسياسة بنوع من التوجس والحيطة، ولم تكن الفلسفة السياسية حتى الآن تحظى بصفة عامة في التعليم الفلسفي سوى باهتمام ضئيل، بحيث يصح القول أن التفكير في قيـم التقاليد الديموقراطية أو ما يمكن تسميته بأسس النـزعة الإنسانية الجديدة مثل الحريات العامة وحقوق الإنسان والتعددية وحق الاختلاف والتسامح والتحاور بين الثقافات، والحياة السياسية الدولية الجديدة، يكاد يكون غائبـا في هذا التعليم الذي ظل محصورا ولفترة طويلة في إطار موضوعـات أخلاقية ذات طابع عام، وفي أحسن الأحوال في فكرة الالتزام الأخلاقي من منظور النموذج الذي اقترحته في الأربعينات الفلسفة الوجودية عند ج. ب. سارتر.
أما اليوم ونحن نشرف على القرن الواحد والعشرين، فقد بدأنا نلاحظ أن الاهتمام الذي أصبح التعليم الفلسفي على المستوى العالمي يوليـه للمسائل السياسية وبصفة خاصـة لمسألة الديموقراطية وحقوق الإنسان قد تزايد كثيرا على ما كان عليه من قبل، ما يعني أن مضمون النـزعة الإنسانية قد تزايد كثيرا على ما كان عليه من قبل، مما يعني أن مضمون النـزعة الإنسانية أصبح يغتني بعناصر جديدة سياسية واجتماعية بفضل تقدم الوعي البشري وبفضل ما أصبح العلم يوفره من إمكانيات للبشرية.
ومما يزكي هذا التوجه أن أغلب المؤتمرات الفلسفية العالمية التي انعقدت في الفترات الأخيرة لم تكن مترددة إطلاقا في “الخوض” مباشـرة في السياسية. ويجمل بنا أن نورد في هذا السياق الأفكار التالية كانت من جملـة ما تضمنه البيان الختامي لآخر تلك المؤتمرات من حيث توقيت انعقاده : “إن مجتمعنا يحتاج إلى ثقافة سياسية جديدة إذا كان يرغب في تضامن فعال…، كما يحتاج إلى إعادة تحديد مفهوم التقدم الاجتماعي والحقوق الخاصة،… وإلى ضرورة مراجعة التاريخ الحديث للبشرية من أجـل تفادي الوقوع في نفس أخطاء هذا القرن الذي اتسم بثقافة الحروب”.[13]
تتوفر أمامنا إذن عناصر كثيرة لحثنا على افتراض أن الفكر الفلسفي في القرن المقبل، وبالنظر إلى ما يمكن استقراؤه من شروطه وتوجهاته الحالية، سيكون أميل إلى الارتباط بالسياسة وأكثر استعدادا للاهتمام بقيم ومبادئ الديموقراطية؛ ذلك لأنه سيكون مؤهلا لتعليمها ونقلها والمساهمة بواسطتها في تكوين وتربية المواطن. كيف لا والمطلب قـد غدا عزيزا وملحا نظرا لما بتنا نشاهده اليوم في أنحاء عديدة من العالم من نمو لظواهر الكراهية والتطرف، ومن انتشار لأشكال المس بالحريات العامـة وانتهاك لحقوق الإنسان، بل واللجوء حتى إلى الاغتيالات. لقد أضحت هذه الظواهر تحتل حيزا هاما في فضائنا اليومي من خلال الصحف ونشرات الأخبار.
وما دامت المبادئ التي تحرك الفكر السياسي لا تظل هي عينها عبر كل الظروف والملابسات الإنسانية والاجتماعية والتاريخية، لأن من طبيعة الأمر السياسي أنه أقل الحقول الإنسانية خضوعا للتقييمات وللأحكام النهائية، لا يستبعد المهتمون بحقل الفلسفة السياسية في المستقبل أن تطرأ على مبدأ الديموقراطية نفسه تغييرات يمكن أن تمس جوهره ومسلسل تطبيقه، وبصفة خاصة في الدول ذات التقاليد الديموقراطية العريقة التي قد تكتشف مثلا أهمية الديموقراطية المباشرة بعدما فضلت إلى حد الآن الديموقراطية التمثيلية. أما في مناطق العالم التي لا تزال تـهيمن فيها الثقافة المقدسة للسلطة، أو التي لم تعرف الإرهاصات الأولى للديموقراطية غلا في فترة متأخرة فمن المرجح أن انتشار قيم الديموقراطية فيها سيتحقق ببطء ولكن الدلائل الحالية تجيز القول بأن معطيات القرن المقبل لن تسمح لـها أبدا بالتقوقع أو بالتراجع إلى الوراء.
حقا إن غياب إيديولوجيا كبرى كانت حتى الأمس القريب تحفز العزائم وتشحذها، وتعتبر “مستقبل البشرية”، من شأنه أن يقوي الميل إلى الامتثال ويضعف بالتالي من إمكانيات الفلسفة للدعوة إلى الثورة أو التمـرد. لأنه بات مفروضا على الفيلسوف أن يفكر بطريقة مغايرة لما تعوده من قبل وطيلة عقود من السنين. ولكن في منظورنا لا يمكـن أن يعتبر غياب تلك الإيديولوجيات دليلا كافيا على مصداقية فكرة “نـهاية الإيديولوجيا” رغم ما تتسم به من جاذبية وإغراء. فما دام الإنسان يحن ويفكر ويحلم ويأمل ويطمح فسيظل أبدا “حيوانا إيديولوجيا”.
والإيديولوجيا في العمق وكما وصفها عن حق الفيلسوف الفرنسي الراحل لوي ألتوسير “خالدة” ولن تتوقف أو تنتهي في عصـر معين، وكل ما في الأمر أنها تنحو إلى التجدد باستمرار، وذاك ما لا نفتأ نشهده بالفعل وحتى الآونة الأخيرة: فعلى أنقاض تلك التي قيل أنـها توارت سرعان ما ظهرت في السنوات القريبة الماضية إيديولوجيات جديـدة في صيـغ نظريات جذابة ذاع صيتها بسرعة فائقة. ونذكر من بينها بصفة خاصة نظريات: “النظام العالمي الجديد”، و”نـهاية التاريخ”، و”هيمنة الفكر الأوحد”، و”حتمية صراع الحضارات” ومن المرجح ألا تتـاح لبعض هذه النظريات حتى فرصة العبور إلى القرن 21 نظرا لتسـرعها وتـهافتها!
فهل سيستفيد الفكر الفلسفي، وفي بدايات القرن المقبل على الأقل، من دروس وعبر وحتى لا نقول من “أخطاء” القرن الذي نودعه، فيصيغ فلسفة ملابسات الواقع الجديد الذي يشهد كون علاقة الإنسان مـع محيطه ومع الزمن بدأت تعرف تحولا جذريا؛ والذي يتسم بسرعة أفول الحقائق والقيم وتراجع أوهام المثقفين، أم أنه سيستكين إلى ممارسة لعبة النسيان؟
وهل لا يزال حقا في مقدور الفيلسوف المعاصر أن يحدو حدو سلفه كانط (Kant) فيدعو إلى التضحية بالعلم من أجل الإيمان، ويغض الطرف عن العلاقة ما بين اللاشعور والوعي مثلا، أو بين الجينات ومصائرنا، ويتجاهل بالتالي الإمكانيات الهائلة التي أصبحت توفرها ثورة المعرفة وعلـوم الاتصال، وذلك لكي ينقد ويحافظ على تصورات معينة عن الإنسان وعن الوعي وعن الإرادة الحرة وأخلاق الواجب؟
لا نظن أن مهنة الفيلسوف في المستقبل ستبقى هي مواصلة للتقليد السقراطي أي الاستمرار في البحث عن الحقيقة عن طريق التامل والحوار وطرح الأسئلة، ونعتقد أنـها ستكون بالأحرى محاولات دؤوبة لفهم واستيعاب التحولات الكبرى ودلالات إنجازات البحث العلمي على الصعيد العالمي وآثارها على أحوال الوضعية البشرية، وذلك لغاية إعادة سبك وصياغة وإنشاء مفاهيم حديثة للمساهمة في التنوير والتوعية بقيم الحكمة الإنسانية الجديدة.
ولا نبتدع جديدا عندما نكرر القول بأن لكل عصر حكمته، وحكمة مطالع القرن الأول في هذه الألفية الثالثة كما بدأ يتراءى لنا الآن هي العودة مجددا إلى الإنسان وإلى الأخلاق وإلى السياسة ولكن اعتمادا على تعدد المناظير كقيمة جديدة. ولا نخفي أننا نشاطر هنا وجهة النظر التي تراهن على فرضية أن التعددية والنسبية هي التي ستكون السمة الأساسية لثقافة القرن المقبل، على الأقل للعقود الأولى منه.
أهم المراجع التي استفادت منها هذه الدراسة:
(Dr. Zsolt Harsanyi and Richard Huttin, Genetic Prophecy),
التنبؤ الوراثي، الترجمة العربية، إنجاز مصطفى إبراهيم فهمي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1988.
ـ عبدالرزاق الدواي، موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، 1992.
ـ محمد حسنين هيكل، “العرب على أعتاب القرن 21″، مجلة المستقبل العربي، بيروت، العدد 190/12/1994.
-Sigmund FREUD, Moïse et le monothéisme, traduit par Anne Berman, Paris, Gallimard, 1967.
-Hélène VEDRINE, Les philisophies de la Renaissance, Paris, P.U.F., 1971.
-Ludwig FEUERBACH, Principes de la philosophie de l’avenir, Traduit par Louis Althusser, Paris, Union Générale D’Editons, 1973.
-Georges CANGUILHEM, “La décadence de l’idée de progrès”, Revue de la métaphsique et de la morale, N° 4, 1987. p. 437-454.
-Guy DURANDIN, “Des contextes de la philosophie à son texte”, in Encyclopédie philosophique universelle, tome 1, Paris, P.U.F., 1989, pp. 903-912.
-Dossier: “Le siècle de la psychanalyse”, Magazine Littéraire, N° 271, 1989. pp16-64.
-Monique SCHNEIDER, “Philosopher après freud”, in Univers Philosophique, Paris, P.U.F., 1989, pp. 720-731.
-Magazine Littéraire, numéro spécial “la fin des certitudes”, N° 312, 1993.
-UNESCO:”Année des Nations Unies sur la toléranceé”.Documents Finaux, 1995. -Roger-Pol Droit, Philosophie et démocratie dans le monde, (Editions Unesco), Paris, Librairie Générale Française, 1995.
-Noëlle LENOIR, “Bioéthique, constitutions et Droits de l’Homme”, in DIOGENE, Revue internationale des sciences humaines, N° 172, Paris. Gallimard, 1995, pp. 13-36.
-Magazine littéraire, N° 339, janvier 1996. consacré au sujet “Philosophie : la nouvelle passion”.
-Alain Renault, “Université et philosophie”, in Magasine littéraire”, N° 339, 1996, p33.
1 ـ من رسالة له كتبها في 2 فبراير من سنة 1517. راجع صفحة 5 من :
Hélène Védrine, Les philosophies de la Renaissance, Paris, P.U.F. 1971.
2 ـ يراجع في هذا الصدد:
Ludwig FEUERBACH, Principes de la philisophie de l’avenir, Traduit par Louis Althusser, Paris, Union Général D’Editions, 1973.
3 ـ انظر ملف “القرن العشرون : قرن التحليل النفسي” :
Dossier:”Le siècle de la psychanalyse”, Magazine Littéraire, N° 271, 1989. p16-64.
4 ـ استعرنا هذا التعريب من دراسة هامة حول “النص الفلسفي وسياقاته” منشورة في الموسوعة الفلسفية الفرنسية :
Guy Durandin, “Des contextes de la philosophie à son texte”, in Encyclopédie philosophique universelle, tome1: L’Univers philosophie, Paris, PUF, 1989, p903-912.
5 ـ التنبؤ الوراثي (Dr. Zsolt Harsanyi and Richard Huttin, Genetic Prophecy)
الترجمة العربية من إنجاز مصطفى إبراهيم فهمي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1988. ص 263.
6 ـ خصصت المجلة الفرنسية الدولية للعلـوم الإنسانية “DIOGENE” العدد 172 / 1995، لتقديم عينة من الدراسات المعاصرة في هذا المجال. ويمكن أن تراجع فيه بصفة خاصة دراسة:
Noëlle Lenour, “Bioéthique, constitutions et Droits de l’Homme”, in DIOGENE, Revue internationale des sciences humaines, N°172, Paris. Gallimard, 1995. p13-36
7 ـ يراجع في هذا الصدد كتابنا موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، 1992. القسم الثاني منه: “فلسفة هيدجر بين نسيان الوجود ونسيان الإنسان” ، ص ص 41 ـ75.
8 ـ تراجع صفحة 75 من:
Sigmund FREUD, Moïse et le monothéisme, traduit par Anne Berman, Paris. Gallimard.
9 ـ هذه الأفكار مستفادة من بحث حول موضوع “الفلسفة والديمقراطية في العالم”، أنجزته منظمة اليونسكو سنة 1995 من خلال تحليل ودراسة استمارة أجاب عنها حوالي 66 بلدا، ونشرت نتائجه ضمن كتاب :
Roger – Pol Droit, Philosophie et démocratie dans le monde, (Editions Unesco), Paris, Librairie Générale Française, 1995.
10 – Alain Renault, “Université et philosophie”, in Magazine litteraire, N° 339 / 1996, p. 33.
11 ـ من المفيد في هذا الصدد مراجعة المجلة الفرنسية “المكازين لترير” في عدد يناير 1996 الذي يضم ملفا عن “عودة الفلسفة” ومظاهر الاهتمام الجديد الذي أصبحت تحظى به ودورها في المستقبل.
Magazine littéraire, N° 339, janvier 1996. Consacré au sujet “Philosophie: la nouvelle passion”
12 ـ الفلسفة والديموقراطية في العالم، مرجع سبق ذكره، ص ص 19 ـ 28.
13 ـ انعقد هذا المؤتمر في مدينة بلنسية في إسبانيا في الأسبوع الأخير من شهر يناير 1997، تحت شعار: “تحديات الألفية الثالثة”.