(لقاء مع “ميشيل إلتشانينوف” حول كتابه: “لينين” مشى على سطح القمر: القصة المذهلة لأتباع النزعة الكوسمولوجية وللمابعد-إنسانويين الرّوس.)
أجرى اللقاء: بليز ماوو Blaise Mao ، رئيس تحرير مجلّة إسباك و ريكا (Usbek & Rica[2]) الفرنسيّة.
ترجمة: محمد عادل مطيمط (تونس)
تقديم:
هو كتاب من الحجم الصغير (200 صفحة)، ينبغي على أي شخص لديه اهتماما بتاريخ الأفكار والتخيّلات المستقبلية أن يقرأه. ففي كتاب “لينين” مشى على سطح القمر، منشورات ( Actes Sud ، 2021 )، يروي الصحفي والكاتب “ميشيل إلتشانينوف ” M. Eltchaninoff ، رئيس تحرير المجلة الفلسفية الفرنسية Philosophie Magazine، قصّة النزعة الكوسمولوجية Cosmisme ، التي تمثل “مزيجا من العلم والتدين” ظهر في روسيا في نهاية القرن التاسع عشر، والتي كان رائدها الفيلسوف “نيكولاي فيودوروف” Nikolaï Fiodorov ، المعروف بـ”سقراط موسكو” الذي رأى أنه ينبغي على البشر ” إعادة بعث الأجيال السابقة إلى الحياة”.
قبل قرن من شروع الشركات الناشئة في هضبة السيليكون Silicon Valley في الاهتمام بهذا الموضوع، كان بعض أتباع النزعة الكوسمولوجية (الرّوس)، وفي مقدمتهم الطبيب والاقتصادي “ألكسندر بوجدانوف” Alexandre Bogdanov ، يُجْرُونَ بالفعل أبحاثًا متقدمة حول مقاومة الشيخوخة، لا سيما من خلال ضخ دم الشباب (في أجساد الشيوخ). بل إنّ عملية تحنيط جسد لينين، بدلا من دفنه، تعود إلى تأثير بعض رفاقه المُؤسّسِينَ لـ “لجنة تخليد ذكرى فلاديمير إيليتش أوليانوف” ، وهم كوسمولوجيون يحرّكهم الأمل في أن يتمكن الزعيم البلشفي من العودة يوما مّا إلى الحياة. وكانت النزعة الكوسمولوجية قد غذت بشكل خاصّ الرّواية السوفييتية عن غزو الفضاء، حيث يتواصل تأثيرها إلى اليوم تحت قيادة “فلاديمير بوتين” الذي لا يتردّد في الاعتماد على هذا الإرث الثقافي خاصة بتأثيرٍ من المثقفين الرّوس المحافظين المتمسّكين دائمًا بالبعد التصوّفي للنزعة الكوسمولوجية.
بين المقال والتحقيق، يمثل كتاب “لينين“ مشى على سطح القمر قبل كل شيء “كتاب قصص” مثير ومليء بالمراجع والحكايات والشخصيات ذات المصائر غير المتوقعة، وهو ما يثير فينا الرغبة في محاورة مُؤلّفه.
– إسباك و ريكا(Usbek & Rica): ما الذي دفعك إلى تأليف كتاب عن النزعة الكوسمولوجية الرّوسية التي يعتبر تاريخها غير معروف بصورة كافية في النهاية؟
– ميشيل إلتشانينوف : فعلا، إنّ تاريخ النزعة الكوسمولوجية لا يُعرَف إلا بصورة جدّ سيّئة في أوروبا. من المؤكّد أن الرّوس قد سمعوا بقصّة الفيلسوف “نيكولاي فيودوروف”، “هذا الذي كان يريد إعادة إحياء الموتى” ، حيث كانت النزعة الكوسمولوجية تمثّل ضربا من العبادة في روسيا التسعينيات، ولكن هذا الفكر هو في النهاية ليس معروفًا بشكل جيّد حتى في بلاده. في كثير من الأحيان يُنْظَرُ إلى روسيا ما قبل الثورة البلشفية على أنّها مختلفة عن الاتحاد السوفيتي، غير أن النّزعة الكوسمولوجية تكشف لنا عن وجود استمرارية تاريخية حقيقيّة من قرن إلى آخر، وعن كون الأفكار التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر قد استمرّت في التعبير عن نفسها بدرجة متفاوتة من الوضوح في القرن العشرين. لقد كانت لديّ الرغبة في متابعة هذه الاستمراريّة التاريخيّة وفي إبراز الأهمية البالغة لهذا الخط الثقافيّ في فهمنا للثقافة الرّوسية اليوم.
- أنتم تردّون جذور النّزعة الكوسمولوجيّة إلى روايات “دوستويفسكي” العظيمة. فإلى أيّ مدى يمكن اعتبار مؤلف الإخوة كارامازوف Frères Karamazov من رُوّاد هذا الفكر؟
– لقد كان أوّل كوسمولوجي في روسيا هو “نيكولاي فيودوروف”، الذي كان مسيحيّاً مُؤمنا بضرورة سعي الجنس البشري إلى بعث أسلافه إلى الحياة. ولكن يبدو أنّ “دوستويفسكي” يمثّل المدوّنة الأساسيّة لفهم كلّ الحداثة الرّوسيّة: ففي المحصّلة، نجد في رواياته العظيمة والمتعدّدة كلّ الأسئلة التي ستطرحها بلاده على نفسها في القرن العشرين. عند قراءة مراسلاته، لا سيما محادثاته مع أحد تلاميذ “فيودوروف”، فوجئت بالعثور فيها على خيط رابط مع النّزعة الكوسمولوجية. وفي نهاية حياته، تبرز الفرضيّة الكوسمولوجية في أوضح صورها من خلال تأملاته حول مصير المسيحيّة بالنسبة إلى المحدثين. هو يطرح السؤال خاصة حول ما إذا كان يجب أن تبقى فكرة إعادة بعث الموتى مجرّد أمثولة، أم أنه ينبغي تجسيمها فعليّا في الواقع. إنه يؤيّد فكرة إعادة البعث بصورة عينيّة.
وبعيدًا عن “دوستويفسكي”، نحن نلاحظ استمرار هَوَسٍ روسيّ بهذا السؤال في نهاية القرن التاسع عشر، بل كان الثوّار البلاشفة بدورهم يطرحونه على أنفسهم: كيف يتسنّى لنا تحقيق وتجسيد المُثُلِ التي ندافع عنها ؟ وبذلك يمكننا القول إن “دوستويفسكي” و”ماركس” يلتقيان حول فكرة أن تأويل العالم وحده لا يكفي وأنه علينا تغييره، أي حول القول بتحويل الأفكار إلى حقائق ملموسة.
- أنتم تُعرّفون النّزعة الكوسمولوجية الرّوسية على أنها “إعادة بناءٍ إيديولوجيةٍ تمزج بين النّزعة القوميّة، والميل إلى السحر والتنجيم، ثمّ العصر الجديد New Age على الطريقة السوفيتية” …
– ليست النّزعة الكوسمولوجيّة “مدرسة” « école » وإنما هي مسلّمةpostulat. تقول هذه المسلّمة: إنّ نشاطنا الإنسانيّ له بعد كونيّ، وإن ما يحدث في الكون له تداعيات على الإنسانيّة. لذلك فإن الأمر يتعلّق بتوسيع نطاق تفكيرنا وعملنا لنقلهما من المحيط الطبيعي المباشر إلى مستوى الكون بأكمله. وفي إطار هذه الرؤية يصبح من الممكن استعمار الكون واستجلاب الطاقات الكونية التي كان يُعتقد في الماضي أنها متوقّفة على الانفجارات النّجمية. تكمُن المسلّمة الفلسفية للنزعة الكوسمولوجية إذن في هذا الترابط العميق بين حقيقتنا الإنسانية، ومجال نشاطنا البشري، والكون البعيد.
______
“ خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، تم ترسيخ القناعة لدى
الرّوس بأن كلّ شيء ممكن، وأنه يمكن للمرء أن يحرّر نفسه من قيود الفكر التسلّطي “
ميشيل إلتشانينوف
____
- ما الذي يجعل النّزعة الكوسمولوجية خاصيّة مميّزة للثقافة الرّوسيّة؟ هل هو كونها شكلا من أشكال النّزعة الخلاصية Messianisme؟ أم هو علاقة مّا للرّوس بالفضاء وبالجغرافيا؟
– إنّ فكرة التلاحم بين الإنساني والكوسمولوجيّ لم تُولد حصرا في روسيا. إذ نعثر على هذا الجمع بين العلم والتديّن[3] Religiosité في النّزعة العِلْمَوِيّةِ Scientisme الفرنسيّة هي الأخرى. ولكنّ النّزعة الكوسمولوجيّة لها رغم ذلك خصوصيّة روسيّة تتجلّى حسب رأيي في ثلاثة جوانب أساسيّة: أوّلاً، مثلما قلت سابقًا، في فكرة تحويل الأفكار إلى فعل، حتى وإن كانت تلك الأفكار (مُثُلًا) ثوريّة أو بدت بعيدة عن الواقع. ثم في حركة الإحياء الديني التي شكّلت تيّارا مهمًا جدًا في روسيا في نهاية القرن التاسع عشر، إلى درجة أن روح الشيوعيّة نفسها سوف تكون مشبعة بالتديّن.
وأخيرًا، تُفسّر النّزعة الكوسمولوجية أيضًا بالعلاقة الخاصة التي يقيمها الرّوس مع الطبيعة، أي مع طلك الامتداد الجغرافي الرّتيب géographie monotone، ومع تلك العظمةImmensité (الجغرافية) اللّامحدودة التي كان المؤرخ “أناتول لوروا بوليو” Anatole Leroy-Beaulieu قد وصفها بشكل جيّد. بل إنّ المُؤلفين الرّوس غالبًا ما يعبّرون عن تلك الفكرة القائلة بأن أوروبا الغربية محدودة، لا سيما في رغبتها في وضع حدود لكل ما هو موجود (القانون يضع حدودًا، ولكن أيضًا المِلْكيّة و النّزعة الفردانيّة والفصل بين التخصّصات، هي أمورٌ ترسم الحدود هي الأخرى). أمّا الرّوس في المقابل فإنهم يقومون بطرح الفكرة القائلة بأنّ الثقافة الرّوسية تتكشّف في شكل ثورة ضد ما يمثّل نزعةً برجوازيّة ضيّقة للفكر الغربي: وبذلك فإنّ خاصيّة “الاتّساع” la « vastitude » تكاد تكون متلازمة جوهريّا مع الفكر الرّوسيّ، ومن ثمّة مع علمه (هذا الفكر) وأفكاره السياسيّة. خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر تم ترسيخ القناعة لدى الرّوس بأن كلّ شيء ممكن، وأنه يمكن للمرء أن يحرّر نفسه من قيود الفكر التسلّطي. تلك هي الفكرة التي تسمح لأنصار النّزعة الكوسمولوجيّة بتأكيد قدرتنا على تغيير المناخ والقضاء على الموت والقدرة على العيش في الفضاء الكونيّ.
Figure 1عظمة الامتداد الجغرافي الرّوسي
- ذلك هو أيضا ما يفسّر عدم قيام الايدولوجيا السوفييتية Soviétisme بالقطع مع النّزعة الكوسمولوجيّة. فإلى أيّ مدى يمكن للمرء أن يرى في هذه النّزعة ضربا من النص الضّمني للّينينية ( sous-texte du léninisme)؟
– هذا صحيح. فالعديد من القادة البلاشفة سيسعون في بداية الثورة، بين عامي 1905 و 1917، إلى إقامة علاقة بين الماركسيّة وتديّن الشعب الرّوسي الذي كان شعبا ريفيّا وشديد التديّن. وفي النهاية سيقوم “لينين” بالسيطرة على هذه الأفكار الدينية قبل أن يقوم “ستالين” باستكمال عملية الإغلاق. غير أن شكلاً من التديّن المشبع بالنّزعة الكوسمولوجيّة كان موجودًا في الســـــــــــــــــــــــــــــنـــــــــــــــــــوات
___________
“وُجِد إذن وسط هذا الصّخب الثوري
ما يمكن وصفه بلحظات وعيٍ كوسمولوجيّة للحلم بالخلود.”
ميشيل إلتشانينوف
_______
الأولى للثورة. نجده مثلا لدى شخص مثل “ألكسندر بوجدانوف” الذي هو مثقّف ماركسي لامع ومنافس كبير لـ”لينين” في بداية القرن العشرين. ونجده أيضا لدى “أنالولي لوناشارسكي” Analoli Lounatcharski الذي كان يمثّل شخصيّة ثقافيّة مرموقة في السنوات الأولى للثورة. وبذلك فإننا نفهم بشكل أفضل لماذا قرّر رفاق “لينين” تحنيط جثّته بدلاً من دفنها في مقبرة العائلة في سانت بطرسبرغ: كان لديهم الأمل في التمكّن يومًا ما من إعادته إلى الحياة .
وُجِد إذن وسط هذا الصخب الثوري ما يمكن وصفه بلحظات وعيٍ كوسمولوجية للحلم بالخلود. وانطلاقا من ذلك، “استغلّت” السلطات السوفييتية العليا هي الأخرى أفكار النّزعة الكوسمولوجيّة لتحفيز التقدّم في عملية غزو الفضاء. وعلى سبيل المثال، ستتم بعد الثورة مساعدة “قسطنطين تسيولكوفسكي” Constantin Tsiolkovski الذي لم يكن مدعومًا من قبل القادة القيصريين لتطوير عمله. يتعلق الأمر إذن بالاستفادة من زخم النّزعة الكوسمولوجبة لجعل البشر يعيشون لفترة أطول، وليقوموا بغزو الفضاء. وقد قال الكاتب البريطاني “هـ. ج. ويلز” H. G. Wells الذي التقى “لينين” في سنة 1920، عند عودته من روسيا، أن “لينين” نفسه قد “توقّف نهائيّا عن الادّعاء بأن الثورة الرّوسية تمثل شيئا آخر عدا كونها بداية حقبة من التجارب اللّامحدودة”. كان ذلك حقيقة فعليّة في عشرينيّات القرن الماضي على الأصعدة الاجتماعية والعلمية، قبل أن تأتي الستالينية لتقوم بكبح كل ذلك.
- توجد أيضًا في النّزعة الكوسمولوجيّة فكرة كون الفضاء يمكنه أن يشكل يومًا ما بالنسبة إلى الإنسانية تتويجًا لتصور معيّن للحياة الجماعية …
– هناك جانبان أساسيان في النّزعة الكوسمولوجية . الأول هو التحرّر: التحرّر من القيود التي تفرضها الرأسمالية، والتحرّر من الموت ومن القيود الأرضيّة. والثاني هو فكرة أن الكون يلعب دور المنظّم للبشرية. ويلخّص “أندريه بلاتونوف” Andreï Platonov في روايته تشيفنغور Tchevengour ، التي كتبها في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، هذا التحدّي المزدوج بشكل جيّد: فهو تحدٍّ يتلاءم في الوقت نفسه مع المثل الأعلى الشيوعي (التحرر من قيود الرأسمالية) والكوسمولوجيّ (حيث يتحدث “بلاتونوف” بشكل خاص عمّا يسميه بـ “تشغيل الشمس”.)
– تزدهر النّزعة الما-بعد إنسانوية Transhumanismeاليوم في هضبة السيليكون Silicon Valley، غير أنكم تبيّنون في كتابكم أن البحث عن ضخّ دم الشباب في الأجساد الهرمة أو عمليّة إحياء الموتى كانت مشاريع يتبناها العلماء الرّوس من أتباع النّزعة الكوسمولوجية قبل ذلك بقرن من الزمن …
___
“في هذا الكتاب، أردت بشكل خاص أن أبيّن
كيف أنّ حلم التحرّر المطلق هذا قد ساهم في
ولادة واحدة من أعظم التجارب التوتاليتارية في القرن العشرين”. ميشيل إلتشانينوف
_____
هذا صحيح. لقد تمكن هذا الحلم من الظهور في مكان آخر وفي لحظة تاريخية مختلفة عن هضبة السليكون في القرن الحادي والعشرين. فما-بعد الإنسانويّة لا تنحدر مباشرة من النّزعة الكوسمولوجية: إنّ لها جذور في الفكر الفرنسي في ثلاثينيّات القرن العشرين وفي النّزعة التقنوية Technicisme أو في حركات الهيبيز Hippies والعصر الجديد New Age، ولكن يوجد أيضًا خيط يصلها بفكر النّزعة الكوسمولوجية. في هذا الكتاب، أردت بشكل خاص أن أبيّن كيف أن حلم التحرر المطلق هذا قد ساهم في ولادة واحدة من أعظم التجارب التوتاليتارية في القرن العشرين. وحتى نتكلم بالانطلاق من منظور “حنّا أرندت”، فإن الأمر قد تعلق ببيان كون الوعد بـأنّ “كل شيء ممكن” « tout est possible » يتضمن أيضًا تأسيس فضاء للإرهاب والعبث بالبشر.
- هل يعرف أنصار ما-بعد الإنسانوية في هضبة السليكون هذه القصّة جيدًا؟ هل يعترفون بكونهم ورثة النّزعة الكوسمولوجية الرّوسية؟
– يعترف “جيسي كارمازين” Jesse Karmazin مؤسس شركة أمبروزيا Ambrosia ، وهو روسي الأصل يمتلك شركة تعمل على نقل الدم لمحاربة الشيخوخة، بأنه تأثر بفكر “ألكسندر بوجدانوف”. وقد اعترف “روبرت إيتنجر”Robert Ettinger، مخترع علم التبريد الشديد Cryogénie، في النسخة الرّوسيّة لأحد كتبه، أنه مدين بالكثير لأتباع النّزعة الكوسمولوجية. بل إنّ بعض ما-بعد الإنسانويين الأمريكيين يطلقون على أنفسهم اليوم وصف “الكوسمولوجيّون”« Cosmistes » لإضفاء طابع روحاني على نزعتهم التقنويّة. ولدينا أيضا معهد إيسالين Esalen الشهير في كاليفورنيا، حيث التقى باحثون سوفيات وأمريكيّون منذ الثمانينيّات للعمل على مواضيع مثل التأمل أو التنويم المغناطيسي … ولذلك فإنّ إجابتي هي نعم: هناك شكل معيّن من التواصل بين النّزعتين. وبالمناسبة، فأنا أودّ أن أعرف ما كان قد أحضره والدا “سيرغاي برين” Sergei Bryn، الشريك في تأسيس غوغل Google ، والذي قاد شخصيًّا افتتاح مختبر أبحاث الشّركة حول مسألة الخلود laboratoire de recherche de l’entreprise sur l’immortalité، في حقائبهما عند وصولهما إلى الولايات المتحدة. فقد كان والداه مهندسان سوفياتيّان نموذجيّان، ولن أندهش لكونهما كانا قد تابعا أعمال “فلاديمير فيرنادسكي” Vladimir Vernadski أو “كونستانتين تسيولكوفسكي” Constantin Tsiolkovski عن كثب. أذكّر هنا بكل هذا كي أثبت وجود حوارٍ بين النّزعة الكوسمولوجيّة الرّوسيّة والنّزعة الما-بعد إنسانوية في كاليفورنيا، في ظلّ عدم إمكانية الحديث عن نقل مباشر وواسع النطاق للأفكار.
– ما هي المكانة التي تحتلها النّزعة الكوسمولوجيّة اليوم في وعي ولا-وعي الشعب الرّوسي؟
– هناك في روسيا اهتمام حقيقيّ بكل ما هو غامض، وبعبارة عقلانية: بكل ما هو من قبيل الـ”علمي زائف”« pseudo-scientifique ». تشهد البلاد اليوم تشددا قوميا امبرياليّا، لكن حساسيّة المجتمع تجاه هذه الموضوعات لا تزال قائمة. كان ذلك ملحوظًا بشكل أكبر في أوائل التسعينيات بعد البيريسترويكا Perestroïka. ففي ذلك الوقت، انتشرت موضة “ثريات تشيزيفسكي”[4] « lustres de Tchijevski »، التي طورها المفكر والمهندس ذو النّزعة الكوسمولوجية “ألكسندر تشيزيفسكي” Alexander Chizhevsky في الخمسينيات من القرن الماضي، والتي كان من المُفترض أن تحوّل الهواء إلى طاقة إيونيّة. لقد اشتهر ذلك بشكل كبير، وأقبل الكثير من الرّوس على هذه التقنية! وأنا أستشهد هنا بهذا المثال كي أبيّن أنه من وراء الماركسية اللينينية والعقلانية، كان هناك مجال للتقاطع بين الروحي والعلمي. فالنّزعة الكوسمولوجيّة هي إحدى الطبقات اللاواعية، ولكن الهامّة، في الثقافة الرّوسيّة الحاليّة.
– بأي معنى يتبنّى “فلاديمير بوتين” إرث النّزعة الكوسمولوجيّة؟ فلقد ذكرتم في الكتاب أنّ الرئيس الرّوسي “يصرّ على الطابع الخيريّ والتقدّمي لغزو الفضاء” …
– أوّلاً، توجد لدى “بوتين” رغبة في تطوير عقيدة فضائية روسية تختلف عن عقيدة الأمريكيّين. فهو لا يركّز على الحدود الجديدة أو فكرة الغزو مثلما هو الحال لدى الأمريكيين، بل على فكرة الأخوة العالميّة في الفضاء Fraternité universelle dans l’espace. لقد أكّد لي مسؤولون من وكالة روسكوزموس Roscosmos مباشرة هذه الرغبة في بناء سرديّة فضائيّة وطنية. ويتم الإشهار من قبل الرّوس لشخصية “قسطنطين تسيوكوفسكي” على وجه الخصوص كشخصية تصلح للدعاية المضادّة.
أما فيما يتعلق بالبعد التصوّفي للنزعة الكوسمولوجيّة فقد تمّ تبنّيه بشكل أساسي من قبل بعض المفكرين المحافظين المتطرّفين، ولا سيما أعضاء مؤسسة فكرية مؤثرة (think tank ) تسمى نادي إيزبورسك Club d’Izborsk. نرى مثلا أنّ الصحفي والكاتب اليميني المتطرف “ألكسندر بروخانوف” Alexandre Prokhanov، يقرّ ضرورة أن تكون النّزعة الكوسمولوجيّة الدينيّة مكوّنا أكثر بروزا في العقيدة الرّوسيّة. وعندما بنى “بوتين” مدينة تسمّى “تسيولكوفسكي” Tsiolkovski، بجوار قاعدة الإطلاق الفضائية الرّوسية الجديدة، رأى “بوخانوف” أنه كان ينبغي أن يتمّ الذهاب إلى أبعد من ذلك وأن تُبني أيضًا مدينة تسمّى “فيودوروف” Fiodorov ، تكريماً لرائد النّزعة الكوسمولوجية التصوّفية. فهؤلاء المفكرين المحافظين الذين لديهم تأثير حقيقي على قادة البلاد يرون أن العلم في روسيا مشبع بالتديّن. إنهم يدفعون علانية إلى تبنّي النّزعة الكوسمولوجية كبديل روسي عن النّزعة الما-بعد إنسانويّة. فالنّزعة الما-بعد إنسانوية بالنسبة إليهم هي نزعة فردانيّة تقتصر على نخبة ضيقة، وهي ليست إيثاريّة altruiste في شيء، خلافا للنزعة الكوسمولوجية الرّوسيّة.
يمكننا إلى حد ما العثور اليوم على هذا التحالف بين التكنولوجيّ والصوفيّ في خطاب السلطة السياسيّة الرّوسيّة منذ بداية الحرب في أوكرانيا. فمن جهة يوضّح “بوتين” أن بلاده تلجأ إلى أسلحة لا يستطيع أحد محاربتها – وبالتالي فإنّ روسيا قوة لا تُقْهر من الناحية الفنيّة -، ومن جهة أخرى يؤكّد لنا البطريارك الأرثوذكسي سيريل Cyril أننا نشهد مع هذا الصّراع معركة ميتافيزيقية بين الخير والشر …
_________
“يوجد لدى “بوتين” والقادة الرّوس شكلٌ من أشكال النّزعة الخلاصيّة، أي تلك الفكرة القائلة إنّ روسيا تحمل مشروع عالم ما-بعد ليبرالي يرتكز في الوقت نفسه على التمسّك بالتقدّم العلمي وبالقيم التقليديّة والدينيّة”. ميشيل إلتشانينوف
_________
- هذا صحيح. ما الذي يمكننا أن نستشفّه باعتباره يجسّم النّزعة الكوسمولوجيّة في الحرب التي تشنها روسيا في أوكرانيا؟
– يوجد لدى “بوتين” والقادة الرّوس شكلٌ من أشكال النّزعة الخلاصيّة، أي تلك الفكرة القائلة إنّ روسيا تحمل مشروع عالم ما-بعد ليبرالي يرتكز في الوقت نفسه على التمسّك بالتقدّم العلمي وبالقيم التقليديّة والدينيّة. إنّه نموذج “إيراني” إلى حدّ مّا ستتم عرقلة ظهوره من قبل غَرْبٍ ولّى زمنُه، وبالتالي فهو نموذج سيتم فرضه بالقوة. ففي ذهن “بوتين” ومنظّري الكرملين، تُمثّلُ الحرب في أوكرانيا بالفعل حربا حضارية بين أوراسيا Eurasie و”إمبراطورية البحر” الأنجلو ساكسونية الآيلة إلى الزوال.
لطالما كان هذا البعد الخلاصيّ مركزيًا في النّزعة الكوسمولوجيّة. كان “فيودوروف” مناهضًا بشدّة للغرب، واعتبر أن الولايات المتحدة وأوروبا قد ضاعتا في تصنيع وتسويق السلع الكمالية، واعتقد أن فكرة إحياء الموتى، التي يُفترض أنها ستوفِّق بين كلّ أفراد الإنسانية، على وشك التجسّد في روسيا تحديدا. لا يتبنى “بوتين” فكرة قيامة الموتى أو البحث عن الخلود، لكنّه يتبنّى بوضوح فكرة أن روسيا هي القوّة المنقذة في مواجهة عالم غربي دمرته العقلية التجاريّة.
- بالاستماع إلى ما تقولونه، يبدو من الصعب تخيّل اختفاء النّزعة الكوسمولوجيّة من الثقافة الرّوسيّة خلال العقود القليلة القادمة …
– يرتكز قسم من الثقافة الرّوسية على فكرة جنونيّة إلى حدّ مّا تتمثل في إمكانية التخلّص من كل القيود أو الحدود. وهو أمر خطير جدّا لأنه يتضمّن أيضًا فكرة عدم وجود حدّ لتحوّل الإنسان. هذا الإغراء الثقافي موجود في روسيا على الأقل منذ نهاية القرن التاسع عشر، لذلك أرى أنه من الصّعب تخيّل إمكانية اختفائه بسهولة.
[1] Blaise MAO, « Un dialogue existe entre le cosmisme russe et le transhumanisme californien », Usbek & Rica, 3 avril 2022.
[2] Né en 2010, Usbek & Rica est le média qui explore le futur. Il tire son nom des héros des Lettres persanes de Montesquieu.
[3] يؤخد التديّن هنا في معناه الشامل والكوني وليس فقط في معنى التجربة الدينية المرتبطة بمرجعبة لاهوتية بعينها. فكل رؤية تتضمن تعلّقا بأفق مستقبلي للخلاص من قيود الحاضر تمثل ضربا من التدين. وعندما بكون العلم أداة لذلك الخلاص فان ذلك يعني أن ممارسة ذلك العلم من قبل من يؤمن بذلك الخلاص تحمل طابعا دينيا فيكون ذلك العلم نفسه مشبعا بالتدين. وبهذا المعنى فان الماركسية نفسها تحمل في ذاتها طابعا دينيا لكونها تبشر أتباعها بخلاص مطلق… (المترجم).
[4] “ثريات تشيزبفسكي” ( Chizhevsky chandelier )هي تقنية ابتكرها “ألكسندر تشيزبفسكي” تُمكّن من تحويل الهواء إلى طاقة إيونبّة. تمّ تجريب استخدام هذه التقنية في إطار تغيير الطقس في 23 أكتوبر 2009 في موسكو من قبل هيئة موسكو للعلم والتكنولوجيات. ويتمثل المبدأ في خلق تيّار عمودي من الأوكسيجين المؤيّن ionisé ( شحنة سالبة). يُحدث تفاعل هذه الأيّونات مع رطوبة المحيط طاقة ترتفع بموجبها درجة الحرارة، مما يؤدّي إلى تلاشي الغيوم. (المترجم)