الكاتب | علي حسن، ريتشارد فوميرتون |
ترجمة | هدى العواجي |
تحميل | نسخة PDF |
حول النزعة التأسيسية والتحليل الكلاسيكي للتسويغ الغير استدلالي والاعتراضات عليها والبدائل؛ نص مترجم من (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة على، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة بعض التعديل منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم، واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.
النزعة التأسيسية هي رؤية تخص بُنية المعرفة أو بُنية التسويغ وتتلخّص دعوى التأسيسيين في أنّ كل المعارف أو الاعتقادات المسوغة تعتمد في نهاية المطاف على أساس من معرفة غير استدلالية أو اعتقادات مسوغة.
قليلٌ من الإمعان في النظر يبيّن كيف أن الغالبية العظمى من القضايا التي نعرفها أو نعتقد بها على نحو مسوغ، لم تكن على هذا النحو إلا لأننا نعرف أو نعتقد على نحو مسوغ بقضايا أخرى. على سبيل المثال، أعتقد اعتقاداً مسوغاً أن هناك كلباً واحداً على الأقل في منطقتنا؛ لأنني أعتقد اعتقاداً مسوغاً أن جارتي القريبة لديها كلب، وأعتقد اعتقاداً مسوغاً أن النفايات ستُؤخَذ غداً؛ لأنني أعتقد اعتقاداً مسوغاً أن غداً هو الثلاثاء وأن النفايات تُجمَع كلّ ثلاثاء، وأعتقد اعتقاداً مسوغاً أن المطر سوف يهطل خلال الأسبوع المقبل؛ لأنني أعتقد اعتقاداً مسوغاً أن توقعات الطقس تعمل جيداً فيما يخص الأمطار، وأن تلك التوقعات غالباً ما تكون صحيحة حين يتعلق الأمر بتوقعات مماثلة قصيرة المدى في هذه المنطقة. وهكذا يبدو الاعتماد استدلالياً بطبيعتِه: إنني في كل حالة، لم أعتقد اعتقاداً مسوغاً في القضية الأولى إلا لأنني استنتجته، أو على الأقل بإمكاني استنتاجه، من القضية التالية. يريد التأسيسيون في المعرفة/التسويغ المعرفي كشف ذلك التباين بين اعتقاداتي/معرفتي المسوغة استدلالياً، ونوع آخر من الاعتقاد/المعرفة المسوغة لاينطوي على امتلاك اعتقادات/معرفة أخرى مسوغة. مع التنويه إلى أنه لايوجد اصطلاح قياسي لما سنشير إليه بالتسويغ (المعرفة) غير الاستدلالي أو التأسيسي.[2]
يمكننا طرح العديد من الأسئلة الشائكة والمهمّة حول العلاقة بين التسويغ والمعرفة، مثل ما إذا كان ينبغي علينا تحليل المعرفة من حيث التسويغ كما اعتاد فعله الإبستمولوجيون أم العكس.[3] إلا أننا سنركز فيما يلي على تأسيسية التسويغ، رغم أن كثيراً مما سنطرح يُمكن إجراؤه أيضاً على تأسيسية المعرفة.
يميّز الإبستمولوجيون عادةً بين التسويغ الاعتقادي والتسويغ القضوي. بصورة عامة؛ يملك المرء تسويغاً قضوياً حين يكون لديه تسويغ للاعتقاد بقضية ما، أي حين يكون بحوزته دليل أو سبب جيد أو مسوغ للاعتقاد بالقضية. بينما يملك المرء تسويغاً اعتقادياً حين لايقتصر على التسويغ للاعتقاد بالقضية، بل يعتقد بالقضية اعتقاداً قائماً جزئيّاً على الأقل على أساس حيازته دليلاً أو سبباً جيداً أو مسوغاً. إننا ولتسهيل الطرح، سنُكثِر في النقاش التالي استخدام عبارات تشير بطبيعتها إلى التسويغ الاعتقادي، كـ”الاعتقاد المسوَّغ” و “أن تكون مسوَّغاً للاعتقاد”. لكننا سنبقى في جانب التسويغ القضوي (الذي هو مطلوبٌ أيضاً للتسويغ الاعتقادي)، مفترضين استيفاء الشروط الأخرى التي ينطوي عليها الاعتقاد على أساس ملائم. (For more on the basing requirement, see the entry on the epistemic basing relation.).
-
حجج التراجع في النزعة التأسيسية
-
التحليل الكلاسيكي للتسويغ غير الاستدلالي
-
التسويغ غير الاستدلالي باعتباره اعتقاداً معصوماً من الخطأ
-
التسويغ غير الاستدلالي باعتباره تسويغاً معصوماً من الخطأ
-
-
اعتراضات على التأسيسية الكلاسيكية
-
مشكلات التراجع في نفاذ الداخلانية
-
معضلة سيلارز
-
شكوك في نظريتيّ التطابق والاتصال المباشر
-
تهديد النزعة الشكية
-
-
البدائل الداخلانية للتأسيسية الكلاسيكية
-
اعتراضات على البدائل الداخلانية للتأسيسية الكلاسيكية
-
اعتراض التدخُّل الإدراكي
-
-
الصور الخارجانية لـ النزعة التأسيسية
-
اعتراضات على الصور الخارجانية لـ النزعة التأسيسية
-
تحدّيات الكفاية: نورمان وتروتيمب
-
تحدّي الضرورَة: مشكلة الشيطان الماكِر الجديدة
-
-
مشكلة المعرفة السهلة
-
المراجع
-
أدوات أكاديمية
-
مصادر أخرى على الإنترنت
-
مقالات ذات صلة
-
حجج التراجع في النزعة التأسيسية
إن الاعتقاد التأسيسي أو المسوغ على نحو غير استدلالي هو اعتقاد لايعتمد على أي اعتقادات أخرى من أجل تسويغه. وفقاً لـ النزعة التأسيسية ، يجب على كل اعتقاد مسوغ أن يكون إما تأسيسياً أو مُعتمِداً لتسويغه في نهاية المطاف على اعتقادات تأسيسية. على مدى التاريخ، كانت التأسيسية مقبولةً على نطاق واسع ونكاد نقول على مستوى عالمي. فقد جادل أرسطو بأنه “ليست كلّ المعرفة برهانية” (بمعنى ليست كل معرفة قائمة على حُجة من معروفاتٍ أخرى) وأن بعضاً من المعرفة يجب أن يكون “مستقلاً عن البرهنة”. (Posterior Analytics,I.3). ثم بدا العديد من الفلاسفة في العصور الوسطى يتفقون مع أرسطو، معتبرين أن كل المعارف يجب أن ترتكز على “مبادئ أولى” أو نوع من الـ”حقائق ذاتية البرهان”. حديثاً، يرى ديكارت كما هو شائع أن كل المعرفة يجب أن ترتكز على أساسٍ متينٍ من حقائقَ لاسبيل إلى الشك فيها (انظر مدخل Descartes’s epistemology). كثير من الفلاسفة آخرون في الفترة الحديثة المبكرة بدا أنهم يتفقون أيضاً على قبول التأسيسية مثل لوك وليبنتز وبيركلي وهيوم وريد على الرغم من اختلافهم الكبير في نواحٍ أخرى. كلما تُقدَّم حجة تتبنى هذه النزعة سواء ضمنياً أو صراحةً فإنها لاتكون غالباً إلا صورة لحجة التراجع المعرفي الشائعة حالياً. (انظر أرسطو Posterior Analytics, I.3 للاطلاع على صورة مبكرة لهذه الحجة). لكننا قبل تقديم الحجة يجب أن نناقش المبدأ الذي تقوم عليه.
هَب أنني أدعي أني مسوغ في الاعتقاد أن “فريد” على وشك الموت، ودليلي الذي أقدمه أن “فريد” يُعاني من نوع خطير لايُعالَج من السرطان. تسألني قلِقاً، كيف اكتشفت أن “فريد” مصاب بالسرطان؟، فأجيب أنه مجرد إحساس باطني. بمجرد أن تتأكد (ربما مع مزيد استجواب) أنه ليس لدي أي سبب جيد لافتراض إصابة “فريد” بالسرطان، سوف تستنتج على الفور أن اشتباهي بشأن حالته لايعطيني أي مسوغ للاعتقاد بأن “فريد” على وشك الموت. من هنا يُمكن أن نقترح المبدأ التالي:
لكي يكون المرء مسوغاً للاعتقاد بـ (أ) على أساس (د)، يجب أن يكون المرء مسوغاً للاعتقاد بـ (د).
فكر الآن في مثالٍ آخر، هَب أنني أدعي أني مسوغ في الاعتقاد أن “فريد” على وشك الموت، وتسويغي الذي أقدمه أن خطاً معيناً على راحة يده (“خط الحياة” سيء السمعة) يبدو قصيراً. تسألني هذه المرة متشككاً عن سبب اعتقادي أن لخطوط راحة اليد أيّ علاقة مهما كانت بطول العمر. ثم بمجرد أن تتأكد أنه ليس لدي أي تسويغ لافتراض أي علاقة احتمالية بين صفة هذا الخط وحياة “فريد”، سترفض مجدّداً ادعائي بأن لدي اعتقاد مسوغ حول وفاة “فريد” الوشيكة. من هنا قد نوسع مبدأنا ليتضمن فقرة ثانية:
مبدأ التسويغ الاستدلالي PIJ:
لكي يكون المرء مسوغاً للاعتقاد بـ(أ) على أساس (د)، يجب أن يكون المرء 1- مسوغاً للاعتقاد بـ(د) و2- مسوغاً للاعتقاد بأن (د) يجعل (أ) احتمالاً.
قد يقول أحدهم إن في مثال راحة اليد لاوجود لاحتمال موضوعي ومُعتبَر بين طول ما يُسمى “خط الحياة” لدى “فريد” وامتداد عمره، ولعل هذا سبب عدم تسويغ اعتقادي بموته الوشيك، لا لأني لاأستوفي البند 2. لكن ومن أجل هذا، يمكن لمؤيدي PIJ طرح تعديلٍ في المثال. لنفترض أنه اتضح بشكل مفاجئ أن هناك علاقة احتمالية موضوعية ومُعتبَرة بين “خطوط الحياة” وطول عمر الأفراد، ثم لنفترض أنه ليس لدي أي تسويغ للاعتقاد بوجود مثل هذه العلاقة. تبدو هذه الإمكانية متسقة: لايكفي حصول علاقة احتمالية موضوعية ذات صلة، لأن يكون المرء مسوغاً للاعتقاد بهذا الحصول. ومن ثمّ فإني حدسياً ما زلت غير مسوغ للاعتقاد بأن “فريد” على وشك الموت. أو هَب أني أعتقد بأن “فريد” سيموت لأنه ابتلع للتوّ كميةً كبيرةً من نبات الشوكران [السامّ]، وحين تسألني لماذا أعتقد أن الشوكران سيؤدي للموت، سأقول إني لست متأكدًا، لدي فقط إحساس باطني أن الشوكران سيقتله. مرة أخرى، إن كنتُ أفتقر إلى مسوغ للاعتقاد بأن الشوكران هو سمّ قاتل أو احتمالية أن يكون له هذا التأثير، فعندئذٍ حدسياً، سأفتقر إلى تسويغ لاعتقادي أن “فريد” على وشك الموت. ما المطلوب إضافته إذن؟ أحد الاقتراحات وهو اقتراح طبيعي إلا أنه أثار الجدل؛ أنه يجب على المرء استيفاء ما يشبه البند الثاني.[4]
مع البند الأول من مبدأ PIJ، يمكن لأحدهم ببساطة أن يقدّم حجة التراجع المعرفي لـ النزعة التأسيسية . فما يقوله هذا البند هو عدم استطاعة المرء الحصول على تسويغٍ لاعتقاد ما، عن طريق استنتاج هذا الاعتقاد من اعتقاد آخر غير مسوغ. بينما يمكن القول أيضاً أنه لايستطيع المرء الحصول على تسويغ لاعتقاد ما من طريقٍ استدلالي دائري؛ أي لايمكن للمرء أن يعتمد وإنْ جزئياً على قضية ما باعتبارها مقدمة في استدلالٍ يدعم القضية نفسها. بهذا سنكون أمام خيارين: إما أن نعتبر بعض الاعتقادات مسوغة دون اعتماد على اعتقادات أخرى، أو نفترض أن كل التسويغ استدلالي. إذا كان كل التسويغ استدلالياً، فإنه لكي يكون (س) مسوغاً للاعتقاد بالقضية (أ)، يجب أن يكون (س) في موضعٍ يُمكّنه من إجراء استنتاج مشروع من قضية أخرى وهي (د1). لكن (د1) لن تسوغ (س) للاعتقاد بـ(أ) إلا إذا كان (س) مسوغاً للاعتقاد بـ(د1)، وسيتعين إن قلنا بأن كل التسويغ استدلالي على (س) أيضاً استنتاجها -أو على الأقل القدرة على استنتاجها- من قضية أخرى يعتقدها بشكل مسوغ وهي (د2)، هذه القضية التي بدورها ستكون مُستنتَجة من قضية أخرى يعتقدها بشكل مسوغ وهي (د3)… وهلمّ جرا، إلى ما لانهاية. لكن لايُمكن للكائنات المتناهية أن تُكمِل سلسلة لامتناهية من الاستدلال، حتى الكائن اللامتناهي جدلاً لايمكنه إكمال سلسلة لامتناهية من الاستدلال؛ فإنه إذا أكملها لن تكون لامتناهية. وهكذا إذا كان كل التسويغ استدلالياً، فلا يمكن لأي شخص أن يكون مسوغاً في اعتقاد أي شيء، على الإطلاق، وعلى جميع الأصعدة.
هذه مع ذلك ليست حجة التأسيسية قدر ما أنها حجة ضدّ ما يمكن أن نسميه «النزعة الاستدلالية» Inferentialism –أي الرأي القائل إن كل التسويغ استدلالي-، وذلك لأنها تتركنا في موقفٍ تشكيكي أننا لسنا، ولايمكن أن نكون، مسوغين للاعتقاد بأيّ شيء على الإطلاق، سواءً بالاستدلال أو بغيره. هذه النزعة الراديكالية الشكية باطلة (تستلزم ألا يكون المرء مسوغاً حتى في الاعتقاد بها). لكن إن تحدثنا بدقة، لايُظهِر أيّ من هذا أن لدينا تسويغاً غير استدلالي لأي من اعتقاداتنا، أو حتى إمكانية التسويغ غير الاستدلالي. لايُظهِر إلا -في أحسن الأحوال- أنه إن كان التسويغ ممكناً، أو إن كنا أو كان بإمكاننا أن نكون مسوغين في الاعتقاد بأي شيء على الإطلاق، فإن التسويغ لابد أن يتخذ بنية تأسيسية. وبالتالي فإنه لابد لحجة التراجع المعرفي في التأسيسية من مقدمة إضافية، قد يقبلها كل ذوي النزعة الشكية عدا الأكثر راديكالية منهم: إن التسويغ المعرفي ممكنٌ من حيث المبدأ لكائنات مثلنا.
إذا قبلنا البند الثاني من PIJ والأكثر إثارةً للجدل، فالتراجعاتregresses ستتضاعف. فلايكفي أن يكون (س) مسوغاً في الاعتقاد بـ(د1)، بل يجب أن يكون مسوغاً أيضاً في اعتقاده أن (د1) تجعل (أ) احتمالاً؛ القضية التي يجب أن يستنتجها «عند عدم وجود أسس» من قضية أخرى (ف1) والتي عليه أن يستنتجها أيضاً من (ف2) التي عليه استنتاجها من (ف3)… وهلم جراً، إلى ما لانهاية. لكن يجب على (س) أيضاً أن يكون مسوغاً في الاعتقاد أن (ف1) تجعل من “(د1) تجعل (أ) محتملة” احتمالاً؛ القضية التي يحتاج أن يستنتجها من قضية أخرى (ج1)، والتي يحتاج أن يستنتجها من قضية أخرى (ج2)… وهلم جرا. سيحتاج أيضاً أن يستنتج أن (ج1) تجعل من “(ف1) تجعل (د1) محتملة” احتمالاً، وأن الأخيرة تجعل من (أ) احتمالاً… وهلم جرا. وهكذا فإننا سنحتاج دون اعتقادات مسوغة بشكل غير استدلالي، لإكمال عدد لامتناهٍ لسلسلة استدلالات لامتناهية من أجل أن نكون مسوغين للاعتقاد بأيّ شيء!
أثار مبدأ PIJ الجدل، بنده الثاني خصوصاً. ومن المهم أن ننبه هنا أنه يمكن استخدام أي من بندَيّ المبدأ بمفرده لطرح التراجع أمام الفيلسوف الذي يرفض الأسس. لكن البندين متجمعين هما اللذان يُفترَض أن يُقدَّما لمعارضي التأسيسية بعدد لانهائي من التراجعات. قد يجادل عدد من الفلاسفة (منهم تأسيسيون) أن البند الثاني من PIJ يخلط عدة مستويات من الأسئلة الإبستمولوجية. من بالغ الصعوبة أن تطلب من أحدهم أن يكون لديه اعتقاد مسوغ في علاقة احتمالية بين دليل متاح ونتيجة مبنية على أساس هذا الدليل. مثل هذا الشرط يكون معقولاً في أحسن الأحوال للحصول على مسوغ من المستوى الثاني؛ مسوغ للاعتقاد المعرفي القائل إن لدى المرء اعتقاداً مسوغاً على نحو استدلالي. إن مع الرد على الإشكال الذي يواجه مَن يمتلك اعتقاداً مسوغاً استدلالياً بـ(أ) بناء على (د)، قد يجد المرء نفسه يبحث عن مسوغ لدعم الزعم القائل إن (د) تجعل (أ) احتمالاً، لكن هذا لايحدث إلا بسبب سياق الإشكال الذي يحاول فيه المرء دعم أو تسويغ زعم امتلاك اعتقادٍ مسوغ. يمكن تقديم فكرة مشابهة فيما يتعلق بالبند الأول من المبدأ رغم صعوبة إيجاد حدس داعم.
على أيّة حال، التأسيسيّ الحذِر لن يخلط بكل تأكيد بين المستويات. يزعم التأسيسيّ الذي يدعم مبدأ PIJ أن هناك شرطاً ضرورياً لامتلاك أحدهم اعتقاداً مسوغاً استدلالياً بـ(أ) بناء على (د)، وهو أن يكون لدى المرء كلٌّ من الاعتقاد المسوغ بـ(د) واعتقاداً مسوغاً في القضية القائلة إن (د) تجعل (أ) احتمالاً. فإنه لايكفي صدق (د)، أو أن تكون (د) تجعل (أ) احتمالاً. يبدو أن أمثلتنا الأصل التي تدعم PIJ هي الأخرى تعزز هذه النتيجة. حتى في حالة وجود علاقة معيّنة بين خطوط الكف وطول العمر على سبيل المثال، فإن المرء الذي ليس لديه أيّ سبب لتصديق وجود مثل هذه العلاقة، لن يكون لديه تسويغ للنتائج المتعلقة بطول الحياة القائمة على هذه السِّمة التشريحية للبشر. على نحو مماثل، حتى مع وجود علاقة بين تناول الشوكران ]السامّ[ والموت، فإن المرء الذي ليس لديه أي سبب لتصديق ما يمكن أن يُحدِثه تناول الشوكران، لن يكون مسوغاً في الاعتقاد أن شخصاً ما (تناول الشوكران للتو) على وشك الموت.
طُرِحَت عدة ردود على تهمة التراجع التي يواجهها معارضو التأسيسية . أحدُها يطرح إنكاراً للمقدّمة القائلة إن الاستدلال الدائري فاسد أو غير جيد: من المُسلَّم به أنه لايمكن لأحد أن يُقنِع وبشكل فعال شخصاً يشك بـ(أ) أنها صادقة من خلال استنتاجٍ يعود في النهاية إلى (أ)، لكن قد يمكن للاستدلال الدائري أن يقدِّم تسويغاً بغض النظر عن عدم فاعليته جدلياً (أي في إقناع الآخرين). يبقى من الغريب القول إن بإمكان المرء تسويغ (أ) عن طريق استنتاجٍ آتٍ من (أ). على أيّة حال؛ إن كانت (أ) مسوغة بالفعل، لن تحتاج الذات استخدامَها كي تسوغ (أ)، وإن كانت غير مسوغة، فوفقاً للبند الأول من PIJ لن تستطيع استخدامها كي تسوغ (أ). الخيار الأكثر معقوليةً أن يرفض المعارض للتأسيسية الافتراض المُسبق القائل إن كل التسويغ خطّي أو ذو اتجاه واحد، وأنه يسيرُ من اعتقاد لآخر. وفقاً للنزعة الاتساقية Coherentism في التسويغ المعرفي، فإن الاعتقادات تكون مسوغة «كلياً» لا خطياً تجزيئياً. إن كل اعتقادٍ مسوغٌ بحكم اتساقه مع بقية اعتقادات المرء؛ أي حسب انتمائه لمجموعة/شبكة متسقة من الاعتقادات. يتجنّب ذو النزعة الاتساقية التسويغَ الدائري من خلال التأكيد على أن المرء لايحتاج مُسبَقاً إلى تسويغ للاعتقاد بالقضايا الأخرى في منظومة اعتقاداته. يتماثل بطبيعة الحال رد منظريّ الاتساقية على الحجة التأسيسية من حيث معقوليته مع نظرية الاتساق في التسويغ (انظرcoherentist theories of epistemic justification).
اعتمد أحد الردود أيضاً على القول بالنزعة اللانهائية Infinitism واعتبار أن التراجع اللانهائي ليس بالضرورة فاسداً أو مُشكِلاً. يدافع قِلّة من الفلاسفة عن هذه النزعة (مثل بيتر كلين 1998 وحديثاً فانتل 2003 وآيكن 2011). يقبل ذو النزعة اللانهائية احتياجنا لأن نكون قادرين على توفير تسويغٍ غير دائري من أجل الاعتقاد بما نواجهه، لكنّه يجادل بأنه نظراً لتعقيد العقل البشري وقدرته على معالجة/الاعتقاد على نحو مسوغ بعددٍ لانهائي من القضايا، فإنه لا إشكال في التراجعات التي نواجهها. لايوجد سبب لافتراض أننا لن نكون قادرين على تسويغ أي قضية نصدقها من خلال الاستعانة بقضية أخرى نصدقها على نحو مسوغ. اللانهائية هي وجهة نظر يجب أن تؤخذ بجديّة وبعين الاعتبار، خاصةً إذا ما استحضرنا أنه يستطيع المرء امتلاك، بل ويمكن القول أنه يمتلك فعلاً، عدداً لانهائياً من الاعتقادات المسوغة. (مثل أن 2 أكبر من 1، وأن 3 أكبر من 1،…إلخ).
-
التحليل الكلاسيكي للتسويغ غير الاستدلالي
يتفق التأسيسيون على وجوب أن يكون هناك نوع من التسويغ لايعتمد على وجود اعتقادات مسوغة أخرى، لكنهم يختلفون جذريّاً فيما بينهم حول كيفية فهم هذا التسويغ غير الاستدلالي. في أواخر القرن العشرين، أدى بروز النظريات الإبستمولوجية الخارجانية إلى ظهور عددٍ أكبر من الصور المختلفة لـ النزعة التأسيسية . وإنه يتعذّر أن نقوم هنا باستعراض جميع التحليلات/النظريات التي تباينت بشكلٍ لافتٍ حول مسألة التسويغ غير الاستدلالي. سنركز فيما يلي على بعض أبرز نظريات النزعة التأسيسية بصورها الكلاسيكية والمعاصرة، الداخلانية والخارجانية.
2.1 التسويغ غير الاستدلالي باعتباره اعتقاداً معصوماً من الخطأ
غالباً ما يُذكَر ديكارت نموذجاً إرشادياً للتأسيسي الكلاسيكي. فإنه في عزمِه على بناء المعرفة على أسسٍ متينة وملائمة، بدا كما لو أنه يريد تمييز المعرفة التأسيسية بصفتها اعتقاداً معصوماً من الخطأ. ثم جاء آخرون واتّبعوه ضمنياً أو صراحةً فحصروا الاعتقادات المسوغة على نحو غير استدلالي باعتقاداتٍ لاتُخطئ. يمكننا تماشياً مع ما طرحه ليرر (1974: 81) صياغة التعريف التالي للاعتقاد المعصوم: يكون اعتقاد (س) أنه (أ) في الوقت (ت) معصوماً من الخطأ فقط إذا استلزم[5] اعتقاد (س) أنه (أ) في الوقت (ت) صدقَ (أ).
وكما أشار ليرر وآخرون، ليس من الواضح إن كان لمفهوم الاعتقاد المعصوم من الخطأ صلة وثيقة بمحاولة فهم ذلك المفهوم الإبستمولوجي ‘التسويغ غير الاستدلالي’. إن المشكلة الأولى والأبرز هنا تتضمن حقائق ضرورية؛ كل حقيقة ضرورية تستلزمها قضية، وبالتالي إذا كنت أعتقد بالحقيقة الضرورية (أ)، باعتبار أن (أ) ستستلزم صدق (أ)، فإنه وحسب التعريف أعلاه، اعتقادي أنه (أ) سيكون معصوماً من الخطأ طالما أن (أ) حقيقة ضرورية، حتى إن كان إثبات (أ) شديد التعقيد بالنسبة لي وأعتقد بها هكذا دون إمعانٍ في النظر.
علاوةً على ذلك، يُمكن القول إن أساس المعرفة والاعتقاد المسوغ المحصور بالاعتقادات المعصومة (حسب التعريف أعلاه) قد يكون في غاية الهشاشةِ وأضعف من أن يُقيم صرحاً معرفياً متيناً. هناك بضع قضايا مقترنة تستلزمها حقيقة أنها مُعتقَدٌ بها؛ اعتقادي أنني موجود يستلزم وجودي، أن لدي اعتقاد واحد على الأقل وأن شخصاً ما لديه اعتقادات وأن الخبرة موجودة (بنطاقها الواسع)…إلخ. ولكن بمجرد أن نتجاوز هذا النوع من القضايا ذات «المرجعية الذاتية» التي يشمل موضوعها كونها مُعتقَداً بها، فإنه من الصعب أن نخرج بأمثلة لاخلاف عليها لقضايا مقترنة معصومة. جادل آير (19:1956) أنه طالما كان الاعتقاد بـ(أ) في وضع راهن معين، ووُجدت (أ) بصفتها حالة في وضع راهن مختلف كلياً (لايدخل في تكوين الأول)، فإنه معقولٌ منطقياً افتراض أن الأول يمكن أن يحدث على حِدة. (انظر بونچور 27:1985 للاطلاع على حُجّة مشابهة).
2.2 التسويغ غير الاستدلالي باعتباره تسويغاً معصوماً من الخطأ
يخطو التأسيسيون الكلاسيكيون باتجاهٍ خاطئ إن هم بدؤوا بمحاولة إيجاد أسسٍ في تلك العلاقات المنطقية بين مجرد واقعة اعتقاد شخصٍ ما بقضيةٍ ما، وكون هذه القضية صادقة. إن التسويغ غير الاستدلالي على أيّة حال هو نوع من أنواع التسويغ، وإن كانت استحالة الخطأ ضرورية للتسويغ غير الاستدلالي، فقد يكون أكثر معقوليةً تعيين مصدر هذه المعصومية بنوعٍ محددٍ من التسويغ الجاهز لدعم اعتقادٍ ما. دعنا نَقُل إن اعتقاد (س) يكون مسوغاً تسويغاً معصوماً في الوقت (ت) عندما يستلزم مسوِّغ/قاعدة اعتقاده بـ(أ) في الوقت (ت) صدقَ (أ)؛ بمعنى أنه عندما لايستطيع (س) امتلاك تلك القاعدة/المسوِّغ لاعتقاده بـ(أ) فإن (أ) كاذبة. الاقتراح إذن هو أن الاعتقاد لايكون مسوغاً تسويغاً غير استدلالي إلا إن كان مسوغاً تسويغاً معصوماً بالمعنى المطروح.
ما زلنا بحاجة إلى مُلاءَمة الاستلزام بطريقة ما لتفادي الإشكال الذي نُوقِش أعلاه. إنني في كل مرة أحصل فيها على تسويغ -أي تسويغ- للاعتقاد بقضيةٍ اتضح صدقها بالضرورة، سيستلزم هذا التسويغ حقيقة ضرورية. لكننا لانريد أي نوع من التسويغ لإنتاج اعتقاد مسوغ تسويغاً معصوماً حتى وإن كان يحوي هذا الاعتقاد حقيقة ضرورية. من الصعب حلّ هذا الإشكال، ولكن يجب أن يكون للحل علاقة بتلك الصلة بين الحقيقة التي تجعل القضية المُستَلزمَة صادقة والحقيقة التي تجعل القضية التي تستلزمها صادقة. بصورة أكثر تحديداً، لانستطيع القول أن (أ) تستلزم* (ك) إلا إن كانت الحقيقة التي تجعل (أ) صادقة تدخل على الأقل في تكوين الحقيقة التي تجعل (ك) صادقة. يمكن اعتبار هذا الاقتراح في أحسن الأحوال مبدئياً فقط، حيث من الواضح أننا سنحتاج تفصيلاً أكثر حول الحقائق ومكوّناتها. أن يكون لدي شعر رمادي يستلزم أن شخصاً ما لديه شعر رمادي، لكن هل امتلاكي شعراً رمادياً مُكوِّن في الحقيقة القائلة إن شخصاً ما لديه شعر رمادي؟ ثمة بالتأكيد معقولية في الإشارة إليه عند الإجابة على سؤال «ما الذي يجعل من الصدق أن شخصاً ما لديه شعر رمادي؟» لكن لايمكن لأحدهم وبشكل ملائم أن يشير إلى امتلاكي شعراً رمادياً باعتباره يُشكِّل هذا الصدق، أن اثنين زائد اثنين يساوي أربعة. قد يمكننا وبشكلٍ ملائم مع إبقاء مواضع بعض تلك العلاقات، حصر فئة الحقائق الضرورية التي يمكننا الاعتقاد بها على نحو مسوغ تسويغاً معصوماً، ونسمح في الوقت نفسه للحقائق المقترنة أن تكون مسوغة تسويغاً معصوماً: ثمة معقولية في أن «يُشير» المرء إلى خبرته الخاصة عندما يُسأل «ما الذي يجعل من الصدق أنك تتألم؟».
عُد مرةً أخرى لاعتقادي أنني أتألم (حين أكون كذلك). إن كان مثل هذا الاعتقاد مسوغاً على نحو غير استدلالي، فممَّ يتكون تسويغ هذا الاعتقاد؟ ما الذي يميز هذا الاعتقاد من اعتقادي حول ما إذا كانت ستمطر الأسبوع القادم على سبيل المثال؟ يريد بعض التأسيسيين تعيين موضع التسويغ غير الاستدلالي في الجزء المُنتِج للصدق من القضية المُعتقَد بها. ما يسوّغ اعتقادي أنني أتألم -عندما أكون كذلك- هو مجرد حقيقة أنني أتألم. ولكن مرة أخرى؛ ما الذي يجعل كوني أتألم في مقابل أنها ستمطر الأسبوع القادم مقبولاً للادعاء من حيث أن ألمي يسوغ لي اعتقادي أنني أتألم بينما مطر الأسبوع القادم لايسوغ لي اعتقادي أنها ستمطر؟
قد تدفعك المسألة لاعتبار أنه من الأفضل للتأسيسي أن يقول بعلاقة خاصة تربطني بألمي والتي تجعل الرجوع لاعتقادات أخرى من أجل تسويغ اعتقادي أنني أتألم غير ضروريّ. إن لديّ في الواقع نوع من إمكانيّة النفاذ لألمي لايملكها أي شخص آخر والتي جعلت اعتقادي مسوغاً على نحو غير استدلالي، بينما يجب على الآخرين أن يعتمدوا على الاستدلال كي يكتشفوا أني أمرّ بهذه الحال. هذا يقودنا لصورة كلاسيكية أخرى لـ النزعة التأسيسية ، وهي نظرية الاتصال المباشر Acquaintance Theory. ولعل أشهر مؤيد لهذه النظرية هو برتراند راسل (1910–11, 1913; للمزيد حول النظرية انظر مدخل knowledge by acquaintance vs. description). لايتطلب الأمر جهداً كبيراً لاستيعاب وجهة النظر هذه التي تبناها معظم التجريبيين البريطانيين والقائلة إن مايُسوِّغ لـ(أ) اعتقاده أنه يتألم، هو أنه في الواقع مطّلع على ألمه بطريقة لايطلّع من خلالها على أي وقائع مقترنة حول الأشخاص الآخرين والعالم والمستقبل وما إلى ذلك. يصف راسل (1910–11) الاتصال المباشر بصفته علاقة اطلاع/دراية مباشرة والتي من خلالها -كما يقال هو وآخرون- «يُعرَض» أو «ُيعطى» شيء ما للذات. (Lewis 1929 and 1946; Moser 1989: 80ff.; Fales 1996).
يشكّ البعض في كون الاتصال المباشر مع بعض الوقائع كافياً -بمفرده- لتسويغ الاعتقاد في قضية متطابقة. لفهم الدافع إلى هذا الشك، أعِد النظر في الاعتقادات غير الاستدلالية. لايمكن للاعتقاد المسوغ أنه (أ) تقديم تسويغٍ للاعتقاد بكل قضية أخرى يستلزمها؛ لأن علاقة الاستلزام هذه قد تتجاوز النطاق الإدراكي للمرء، أو ألا يكون بإمكانه القيام بعملية الاستنتاج. (وهذا كما ناقشنا أعلاه قد يدفعنا لقبول البند الثاني من PIJ). على نحو مشابه، ناقش بعض المنظّرين أنه لايمكن للاتصال المباشر مع بعض الوقائع أن يقدِّم تسويغاً لاعتقاد ما في غياب اطلاع/دراية (أو على الأقل القدرة عليها) بالصلة بين الواقعة وصدق القضية المُعتقَد بها. على سبيل المثال، قد أكون على اتصال مباشر مع لونٍ أو شكلٍ في غاية التحديد في نطاقي البصريّ، وأعتقد (محقاً) أنني أختبر لون كذا أو شكل كذا، لكنني قد أكون سيئاً حقاً في تمييز مثل هذه السمات الدقيقة وقد يكون اعتقادي مجرد تخمين محظوظ. لنفترض أن أولئك المنظّرين قبلوا مفهوم تطابق الصدق والذي بموجبه لاتكون القضية صادقة إلا إن تطابقت مع الوقائع أو مع ما يكونه العالم؛ قد يضيفون أنه لكي تكون مسوغاً بشكلٍ كاملٍ للاعتقاد بصدق قضية ما، فإنه يجب عليك أن تكون على اتصال مباشر ليس فقط بالواقعة التي تجعل القضية صادقة بل أيضاً بالعلاقة التطابقية بين القضية والواقعة. على سبيل المثال، لكي أكون مسوغاً للاعتقاد بأني أختبر اللون الأرجواني، فإنه يجب أن أكون على اطلاع/دراية (أو على الأقل لدي قدرة عليها) بـ«التماثل» أو «الملاءمة» أو التطابق بين فكرتي/اعتقادي أنني أختبر لوناً أرجوانياً وواقعة اختباري للأرجواني[6].
حين يكون الاتصال المباشر مع الواقعة (أ) جزءاً مما يشكّل تسويغي غير الاستدلالي في الاعتقاد بـ(أ)، فإن هناك ضعفاً في معقولية القول بعصمة تسويغي غير الاستدلالي؛ القول إنه لايمكن أن أكون على دراية مباشرة بالواقعة (أ) بينما أعتقد أنه (أ) على نحوٍ خاطئ. على أيّة حال، معظم التأسيسيين المعاصِرين يرون إمكانية الخطأ في التسويغ التأسيسي: يمكن للمرء أن يكون مسوغاً تأسيسياً للاعتقاد بقضايا كاذبة. يبدو معقولاً إمكان تسويغي حين أعتقد -على سبيل المثال- أنني أختبر ألماً طفيفاً بينما أنا في الحقيقة أختبر حكّة، أو إمكان تسويغي حين أعتقد أنني أختبر درجةَ لونٍ محددة بينما أنا أختبر درجةً مغايرة. يقبل حتى بعض منظريّ الاتصال المباشر (مثل فيومرتون 1995) أنه من الممكن للمرء أن يكون مسوغاً بشكل غير استدلالي في الاعتقاد بـ(أ) من خلال كونه على دراية مباشرة بواقعة تشبه إلى حد كبير، رغم اختلافها، الواقعة (أ) «الواقعة التي تجعل (أ) صادقة». ومن ثم فإنه من الممكن أن تقبل نظرية الاتصال المباشر إمكانية وجود اعتقاد مسوغ على نحو غير استدلالي بـ(أ) لكنّه خاطئ. جادل كلٌّ من هيومر (2007) وبوستن (2010) وتاكر (2016) بأن لدى التأسيسيين الكلاسيكيين صعوبة في قبول الاعتقادات التأسيسية القابلة للخطأ. للاطلاع على بعض الردود انظر فيومرتون (2010,2016) وحسن (2013).
لايشترط كافّة فلاسفة النزعة التأسيسية الكلاسيكية اتصالاً مباشراً من خلال التطابق (أو أي علاقة مشابهة أخرى) بين فكرة/قضية وواقعة مستقلة من أجل أن يكون لدى المرء معرفة عن طريق الاتصال المباشر. وفقاً لماكجرو على سبيل المثال (1995,1998)، يمكن لأيّ موضوع اطلاعٍ/درايةٍ مباشرة تشكيل اعتقاد يشير إليه المفهوم الإشاريّ مباشرة. إني بحكم اتصالي المباشر مع خبرة الألم، أستطيع الاعتقاد مباشرة بحضوره، أو حين يجرى تمثيل الخاصية التي تشير للألم. يمكننا التعبير عن الاعتقاد تقريباً بقول «أنا أختبر هذا». فبالنسبة لمثل هذه الاعتقادات (على خلاف معظم الاعتقادات الأخرى المتعلقة بالوقائع المقترنة)، فَهْم مضمون الاعتقاد وإدراكه حقاً هو إدراك لصدقه. إن مثل هذه الاعتقادات المتشكلة إشارياً موثوقٌ بصدقها:
لِما يقوم عليه هذا الاعتقاد من حصُول المرء على خبرَة معينة؛ ومن ثم فإن الشرط الضروري لتشكيل هذا الاعتقاد هو أن يملك المرء تلك الخبرة. (McGrew 1995: 90).
بدلاً من قبول الأسس القابلة للخطأ، اتّبع ماكجرو المبكّرين من ذوي النزعة التأسيسية الكلاسيكية في المحاجة بأن المعصومية أو التسويغات المعصومة (يسميها «لا-قابلية التصحيح» incorrigibility) هي في الواقع مطلوبة للتسويغ غير الاستدلالي. بينما يقلق البعض حول ما إذا كانت هذه الأسس، وإن توفّرت بوجهٍ عام، في غاية «الهشاشة»: ألّا يكون «اختباري لهذا» ناقلاً لأي شيء حول نوع خبرتي، وإنه من الصعب أن نرى كيف بإمكاننا الانتقال من هنا إلى الاعتقادات المسوغة التي تنطوي على تصنيف أو إنتاج مفاهيم خبراتنا بطرق أكثر إفادة. (انظر على سبيل المثال Sosa 2003).
-
اعتراضات على التأسيسية الكلاسيكية
تعرّضت التأسيسية الكلاسيكية لهجومٍ كبيرٍ في العقود القليلة الماضية. سنتناول فيما يلي أبرز الاعتراضات التي وُجهت للتوجّه الكلاسيكي في الاعتقادات التأسيسية. (للاطلاع على المزيد انظر مدخل knowledge by acquaintance vs. description).
3.1 مشكلات التراجع في نفاذ الداخلانية
أثار لورانس بونچور (1985: ch.4) اعتراضاً بالغ التأثير على التأسيسية (طرحه قبل أن ينضمّ لصفوف التأسيسيين). يفترض الاعتراض شكلاً قوياً لما يُمكن أن نسميه نفاذ الداخلانية (سنناقش الجدل الداخلاني-الخارجاني بتفصيل أكثر في الفصل 6). يجادل مَن يتبنى النفاذ الداخلاني بأنه يجب على سمة الاعتقاد -أو الموقف الإبستمولوجي- التي تجعل لنا الاعتقاد مسوغاً على نحو غير استدلالي، أن تكون سمةً نستطيع النفاذ إليها نفاذاً فعلياً أو ممكناً، والنفاذ أيضاً إلى حقيقة أن لهذه السمة المعنيّة صلة بصدق أو احتمالية ما نعتقد. دعنا نفترض أن تأسيسياً قدَّم اعتباراً للتسويغ غير الاستدلالي والذي لايجري بموجبه تسويغ الاعتقاد (ب) تسويغاً غير استدلالي إلا إذا كان يحمل الصفة (ي). يجادل هنا بونچور أن مجرد امتلاك الاعتقاد لـ(ي) لايُمكّنه من تسويغ (ب) للمُعتقِد. فإن المُعتقِد سيحتاج أيضاً إلى النفاذ لحقيقة أن (ب) تحمل (ي) وأن مثل هذه الاعتقادات غالباً ما تكون صادقة. ووفقاً لشرط النفاذ القويّ الذي يقبله بونچور، فإن الأمر يتطلب معرفة فعلية أو ممكنة أو اعتقاداً مسوغاً بأن (ب) تحمل (ي) وأن مثل هذه الاعتقادات غالباً ما تكون صادقة. لذا فإن (ب) ستحتاج لاعتقادات مسوغة أخرى من أجل تسويغها. وهكذا يُقضَى على حالة (ب) بصفتها اعتقاداً مسوغاً على نحو غير استدلالي.
قدّم بونچور هذا الاعتراض أثناء تطويره نظرية للاتساق في التسويغ التجريبي، لكن اتضح في نهاية المطاف أن اعتراضه كان ذا وقعٍ شديدٍ على التأسيسية. حين تمعن النظر في بُنية الحجة، سيكون من الظاهر لك أنها ستُضعِف أيضاً نظرية الاتساق (وأي نظرية أخرى) بنفس القدر. ما عليك سوى استبدال (ي) بوصفٍ ما معقدٍ لاعتقادات تتسق مع بعضها، ثم لن يكون اتساق اعتقادات المرء أبداً كافياً للتسويغ، لأنه يجب أن يكون مسوغاً مُسبَقاً للاعتقاد بأن اعتقاداته متسقة وأن مثل هذا الاتساق يجعل من المرجَّح أن اعتقاداته صادقة. قد يؤدي هذا لأن يعتبر التأسيسي الكلاسيكي داخلانية النفاذ القوي توجهاً من الأجدر تجنبه.
جادل مايكل بيرغمان (2006: chs.1 and 2) بأننا إذا قمنا تجنباً للتراجع بإسقاط متطلبات النفاذ القوي، تلك العزيزة على بعض الداخلانيين، فإننا سنخسر أيضاً دافعَ تلك النزعة. إن العنصر الجاذب في الداخلانية حسب رؤية بيرغمان يكمن في دعواها بأنها قادرة على تفسير التسويغ بطريقةٍ تمنح الذات الحاملة لاعتقاد مسوغ ضمانةً مؤكَّدة من زاوية ذاتية، ضمانةً لاتقدمها أي من النزعات الخارجانية (نوقشت في الأسفل). وفقاً لبيرغمان، حتى وإن كان الاتصال المباشر مع تطابقٍ وحواملٍ للصدق truth bearers ومنتِجاتٍ للصدقtruth makers، فإنه لايحمل ضمانةً إلا إذا كان مصحوباً باعتقاد مسوغ بحصول كل هذه العلاقات. وهذا سيُعيدنا مجدداً إلى إشكال التراجع. إن التحدي في أطروحة بيرغمان عسيرٌ وسيتعين على منظريّ الاتصال المباشر التقليدي الذين يرفضون شرط النفاذ القوي إقناعنا بأن المُعتقِد لايمكنه تغطية علاقات الاتصال المباشر هذه دون الحصول على ضمانة للصدق. (انظر Hasan 2011 للاطلاع على رد حول هذه النقطة). ويمكن أيضاً للداخلاني محاولة إقناعنا بأن التراجع الآتي مع قبول شرط النفاذ القوي ليس مُشكِلاً على كلّ حال. (انظرFales 2014).
3.2 معضلة سيلارز
كان بونچور على دراية تامة بأن بعض التأسيسيين الكلاسيكيين سيتجنبون مشكلة التراجع -التي نوقشت أعلاه- من خلال تبنّي فكرة أن بعض الأشياء ببساطة «مُعطاة» لنا، أو أننا «نتلقاها» أو «نتصل معها» مباشرة. ومن ثم قدَّم الاعتراض التالي والمستوحى من سيلارز (1963) على التأسيسية الكلاسيكية (1978,1985: ch.4) والذي يُشار إليه عادة باسم «معضلة سيلارز»: هل الاطلاع/الدراية أو الاتصال المباشر الذي يُزعَم أنه مصدراً للتسويغ غير الاستدلالي، ينطوي على قبول قضيةٍ أو فكرةٍ أو على الأقل تصنيفٍ لبعض الموضوعات الحسية أو تطبيق بعض المفاهيم على الخبرة؟ فإنه إذا كانت الدراية أو الاتصال المباشر قضوية أو مفاهيمية بهذه الطريقة، وفي حين أن هذه الأفعال/حالات الدراية تبدو قادرة من حيث المبدأ على تسويغ اعتقادات أخرى، فإنه من المؤكد أنها ستحتاج هي نفسها للتسويغ. أي إذا شملت حالة الدراية شيئاً مثل قبول قضية أو تصنيف خبرة، فإنّ مثل هذا الموقف أو الفعل من الواضح أنه يحتاج تسويغاً إن كان له أن يسوغ أيّ شيء آخر. ومن ثم لايكون الاعتقاد التأسيسي المزعوم تأسيسياً في نهاية المطاف. من ناحية أخرى؛ إذا كان يمكننا اعتبار الدراية المباشرة غير قضوية وغير مفاهيمية، وفي حين أن هذه الأفعال/حالات الدراية لاتتطلب تسويغاً أو حتى تعترف به، فإنها لاتبدو أيضاً قادرة بمُفردها على تقديم علّة أو تسويغ لعناصر قضوية كالاعتقادات. وبهذا، لايمكن أن تكون الدراية أو الاتصال المباشر التأسيسي الكلاسيكي مصدراً تأسيسياً للمعرفة أو الاعتقاد المسوغ.
يُقدِّم أحد الحلول المقترحة لهذه المعضلة تأكيداً على أن الاتصال المباشر بواقعةٍ ما ليس في حد ذاته علاقة معرفية؛ بإمكان مَن يتبنى الاتصال المباشر أن يقدم حُجّةً مفادها أن المرء لايكون لديه اعتقاد مسوغ على نحو غير استدلالي أنه (أ) إلا إذا كانت لديه فكرة أنه (أ) وكان على دراية بكلّ من الواقعة (أ) وبالفكرة (أ) وبعلاقة التطابق بينهما. لايوجد من وجهة النظر هذه فعل منفرد للاتصال المباشر يولّد معرفة أو اعتقاد مسوغ، لكن عندما يكون كل ما يؤسِّس صدقَ فكرة أو قضية، سابق للوعي مباشرة، فإنه لاشيء آخر يحتاجه المرء أو يرغب فيه لتسويغ الاعتقاد. إن أفعال الاتصال المباشر بما فيها الاتصال القضوي لاتتضمن تطبيقاً لاعتقادٍ أو مفهومٍ أو حكم، ومن ثم لاتحتاج إلى تسويغ. إن كان بإمكان موضوعات الدراية التي نتصل معها أن تكون قضوية، فربما بإمكان الاتصال مع نوع صحيح من العناصر (بما فيها القضوية) أن يُحدِث فرقاً في التسويغ. ومن ثم يُسلِّم هذا الرأي أن فعلاً منفرداً من الاتصال المباشر مع واقعة ما، لايُقدّم تسويغاً، لكنه يرفض ما تفترضه المعضلة أنه ليس بإمكان أفعال الاتصال المباشر، منفردةً أو مجتمعة، أن تُحدِث فرقاً في التسويغ. (See Fumerton 1995 for a reply of this sort. For a reply that is similar in many respects, see BonJour 2000 and 2003).
إن التأسيسي الكلاسيكي الذي يميل لوجهة نظر ماكجرو (1995,1998) والتي بموجبها تتشكل الاعتقادات المسوغة على نحو غير استدلالي من خلال مرجع إشاريّ، سيقدم رداً مغايراً إلى حدٍ ما. إن فعل الاتصال المباشر وحده ليس كافياً للتسويغ؛ يجب على المرء أيضاً أن يشكل الاعتقاد بطريقة يصبح فيها الموضوع المباشر لهذا الاتصال مُكوِّناً للاعتقاد نفسه، أو داخلاً في تكوينه. إن صلة الجزء المُنتِج للصدق في القضية المُعتَقد بها واضحةً وموثوقاً بها وذلك باعتبار الطريقة التي تَشَكّل بها الاعتقاد: يختار الاتصال المباشر ببساطة بعض سمات الخبرة ويُدخِلها في تكوين الاعتقاد أو الحكم الذي بدوره يؤكد وجود هذه السمة أو تمثلاتها. ومن ثم يُسلِّم هذا الرأي أن فعل الاتصال المباشر لايقدم تلقائياً تسويغاً لاعتقاد متطابق، لكنه يرفض ما تفترضه المعضلة أنه لاطريقة لاستخدام فعل الاتصال المباشر في تشكيل الاعتقاد بشكل يُحدِث فرقاً في التسويغ.
3.3 شكوك في نظريتيّ التطابق والاتصال المباشر
يفترض منظرو الاتصال المباشر معقولية عالم ذي «بُنية» مستقلة عن أي بُنية يفرضها العقل. ليس بوسع المرء بلا وقائع مستقلة عن الأفكار والأحكام التي تمثلها أن يفهم علاقة الاتصال المباشر بينه وبين الواقعة، تلك العلاقة التي تُعَدّ قاعدة للتسويغ غير الاستدلالي. إن الاعتراضات المعاصرة الأكثر راديكاليةً على التأسيسية تنطوي على عدم رضا عن التزام التأسيسيين الضمنيّ بمفهوم التطابق الواقعي القوي للصدق باعتباره يتضمن ارتباطاً مع وقائع مستقلة عن العقل. إلا أن مناقشة هذه المشاكل المتعلقة بمفهوم التطابق والبدائل المقترحة ستأخذنا بعيداً عن الموضوع. (انظر مدخل The Correspondence Theory of Truth).
كما يرفضُ البعض مفهوم الصدق المتضمن في دعاوى التأسيسية الكلاسيكية والمتعلّق بالتسويغ غير الاستدلالي، يصرّح آخرون أنهم حائرون بشأن بعض المفاهيم الأساسية المستخدمة في تعريف التسويغ غير الاستدلالي. لايميل منظّرو الاتصال المباشر إلى قول الكثير نسبياً حول تحليل معناه. بينما ولمزيدٍ من الوضوح، يمكنك أن تبيّن لشخص ما هذا المفهوم من خلال مقارنة درايته بالألم أثناء وجود إلهاء مؤقت ناجم عن محادثة شيقة؛ سنفترض أن الألم في هذه الفترة الوجيزة لم يزل موجوداً ولكن الشخص المصاب لم يعد يتصل مع واقعة وجوده. هذه الدراية، كما يُجادل منظرو الاتصال المباشر، من الواضح أنها شيء يتجاوز مجرد الاعتقاد بوجود ألم، حيث يمكن للمرء أن يعتقد أنه بحالة ذهنية (دعنا نقل لاواعية) دون أن يكون على دراية بهذه الحالة. ومع ذلك، ومثل معظم النظريات، تُقيم التأسيسية معقوليتها في نهاية الأمر على مفهوم أساسي أو بدائي يستعصي على مزيد من التحليل. وإننا كما نحتاج إلى إنهاء التراجعات المعرفية من خلال التسويغ التأسيسي، يجادل التأسيسيون، نحتاج أيضاً إلى إنهاء التراجعات المفاهيمية من خلال مفاهيم تُعرَف دون مزيدِ إيضاح.
3.4 تهديد النزعة الشكية
رغم أن خصوم التأسيسية الكلاسيكية لايميلون دائماً للاعتراف بهذا، إلا أننا نشك بأن أصل عدم الرضا عنها يكمن في صعوبة الإشكال الذي تواجهه مع النزعة الشكية الراديكالية. ليس في الاعتقاد المعصوم أو التسويغ المعصوم أو نظريات الاتصال المباشر للتسويغ التأسيسي إلا ما هو قليل داخل في أسس المعرفة. يرفض معظم التأسيسيين الكلاسيكيين تلك الفكرة القائلة إن باستطاعة المرء امتلاك اعتقادات مسوغة على نحو غير استدلالي حول الماضي، لكن الحاضر بطبيعة الحال يصير ماضياً بغمضة عين. كيف يمكن للمرء حتى أن يأمل في استعادة ذلك الكم الهائل من المعارف التي افترض البشر قبل الفلسفة الحصول عليها إن كانت القاعدة الإبستمولوجية مُقفِرة إلى هذا الحد؟ وإذا قُبِل البند الثاني من مبدأ التسويغ الاستدلالي PIJ فستكون المشكلة أكثر خطورة وجديّة. قد تكون قادراً على إقناع نفسك أنه بإمكاننا أن نعرف على نحو غير استدلالي مبادئ المنطق الاستنباطي، لكن الاستنباط لن يأخذنا وعلى نحوٍ مُجدٍ أبعد من أسس المعرفة والاعتقاد المسوغ. يجادل ميل (1906:126) بأن هناك معقولية كبيرة في كون المرء لايتقدم بمعرفته كثيراً من خلال استخدام شكل من المنطق لايأخذه إلا لنتائج حواها ضمنياً اقتران مقدماته. لهذا وللذهاب أبعد من الأسس، سنحتاج حتماً إلى استخدام منطق غير استنباطي وسيتطلب الأمر في نهاية المطاف ووفقاً لمبدأ PIJ امتلاك معرفة غير استدلالية لقضايا واصفة للعلاقات الاحتمالية بين البراهين ونتائج لم تكن مُتضمَّنة منطقياً في البرهان. ليس من السخف ظاهرياً أن نفترض إمكان أن يكون لدى المرء معرفة أولية a priori غير استدلالية لعلاقات احتمالية، وكون هذا الرأي غيرَ شائع تقليلٌ من شأنه. (انظر راسل 1948 للاطلاع على تناوُل جيد لهذه المسألة).
-
البدائل الداخلانية للتأسيسية الكلاسيكية
أشرنا أعلاه إلى أن كثيراً من الفلاسفة يرون أن قبول التأسيسية الكلاسيكية يؤدي بالضرورة إلى نزعة غير مقبولة من الشكية الراديكالية. وقد توجَّه بعض الإبستمولوجيين المعاصرين لتأسيسيةٍ أكثر اعتدالاً تجعل الرد على حجج الشكية أكثر سهولة. إن كلاً من النزعة المحافِظة الظاهراتية لمايكل هيومر (2001) والنزعة الوثوقية لجيم بريور (2000) تعد وجهات نظر أكثر «تساهلاً» في السماح لنطاق واسع من الاعتقادات أن يكون لها تسويغ تأسيسي. وترتبط وجهات نظرهم هذه بجهود تشيزهولم الطويلة (مثل 1989) لتعيين موضع التسويغ غير الاستدلالي عند الاعتقاد بقضايا عديدة تخصّ ماضي المرء ومحيطه الفيزيقي من حيث الحالات التجريبية.
يُقدِّم هيومر أطروحته على أنها تحسين لأطروحةٍ مبدئية دافع عنها تشيزهولم (1980) والتي يطلق عليها غالباً النزعة «المحافِظة الإبستمولوجية» وأحياناً بمسمى يلائمها أكثر؛ «المحافِظة الاعتقادية». حيث يعتبر المحافِظ الاعتقادي أنك بمجرد أن تجد نفسك تعتقد بقضيةٍ ما (أ) فإن في هذا ‘تسويغ الوهلة الأولى’ للاعتقاد بهذه القضية. لايعني أن مجرد اعتقادك بشيءٍ ما يجعل الاعتقاد مسوغاً، فقد يكون اعتقادك مسوغاً تسويغ الوهلة الأولى prima facie لكن ليس مسوغاً تسويغ الوهلة الباقية ultima facie: إن كانت لديك أسباب جيدة لعدم الاعتقاد بـ(أ)، أو أسباب جيدة للاعتقاد بأن (أ) لايُعتمَد عليها أو غير موثوقة، فإن اعتقادك «أُلغي/دُحِض» ولم يعد مسوغاً. بعبارة أخرى، وفقاً للنزعة المحافِظة الاعتقادية، إذا اعتقد (س) أنه (أ) ومع غياب الدواحض فإن (س) لديه تسويغاً للاعتقاد بأنه (أ).
يقلق البعض من كون هذا الرأي عرضة لهجومٍ من الأمثلة المضادة، لأنه يتعهّد بحماية اعتقادات من الواضح أنه لاشيء يسوغها. يُقدِّم أحد أفضل الأمثلة المضادة حالات يُشكِّل فيها المرء اعتقاداً في قضية لايملك أي دليل عليها أو ضدها. هَب أنه على الرغم من عدم وجود أي دليل سواء للاعتقاد أو ضده؛ يعتقد (س) بطريقةٍ ما أن هناك عدداً زوجياً من حبيبات الرمل في شاطئ معين (Foley 1983:174–5)، أو أن عملةً معينة رُميَت إلى مكان بعيد عن الأنظار قد سقطت على وجه معين (Christensen 1994:74). هَب أيضاً أن (س) لايملك أي دواحض لهذا الاعتقاد: ليس لدى (س) أي دليل ضد القضية، وليس على دراية بأن تشكيل اعتقاده كان بلا دليل أو على نحو غير موثوق. تُسلِّم النزعة المحافِظة الاعتقادية بنتيجة ضد-حدسية تقول بمعقولية أو تسويغ هذا الاعتقاد. (For an attempt to respond to this and related objections, see McCain 2008).
على أية حال، يفضِّل معظم التأسيسيين الذين يميلون للداخلانية وجهةَ النظر القائلة إن حالة اللا-اعتقاد تقدم تسويغاً للاعتقادات غير الاستدلالية. فوفقاً للنزعة المحافِظة الظاهراتية، الحالة التسويغية هي «مظهر» أو أن «يبدو»: إذا ظهر لـ(س) أنه (أ)، ومع غياب الدواحض، فإنه سيكون لدى (س) درجة من التسويغ للاعتقاد بأنه (أ). (Huemer 2001, 2007, 2013; Cullison 2010; Tucker 2010; Skene 2013). تأتي هذه المظاهر بأنواع مختلفة: حسية أو إدراكية حسية، معقولة أو حدسية، تذكُّرية، أو استبطانية. يستخدم الكثير مصطلح «النزعة الوثوقية» للإشارة إلى ذات الرأي، أو إلى رأي يقتصر على بعض هذه الأنواع وعادةً ما يكون الإدراك الحسي: إذا ظهر إدراكياً حسياً لـ(س) أنه (أ)، ومع غياب الدواحض، فإن (س) سيكون لديه شيء من التسويغ للاعتقاد بأنه (أ). تجدر الإشارة هنا أن بريور نفسه استخدم مصطلح «الوثوقية» في رأي مفاده أن «التسويغ قد يكون مباشراً وقابلاً للتقويض في ذات الوقت.» (2013: 96) ومن ثم فهو يستخدم المصطلح بشكلٍ يتوافق مع ما ترفضه المحافِظة الظاهراتية والوثوقية كما تُفهَم هاتان النزعتان بشكل عام. في حين أن عموم الذين يقبلون هذا التوجه (سواء بشكله العام أو الذي يقتصر على الظهور الإدراكي الحسي) يعتقدون أن ثمة حالات تقدم تسويغاً مباشراً لكنه قابل للتقويض أو الدحض، ومن الممكن قبول أن حالات أخرى تقدم تسويغاً مباشراً قابلاً للتقويض وإنكار إمكان هذا التسويغ من المظاهر الإدراكية الحسية. على أيّة حال، من أجل التبسيط واتباع الاستعمال الأكثر شيوعاً، سنستخدم فيما سيأتي المُسمّيَين «المحافِظة الظاهراتية» و«الوثوقية» على نحو مترادف/متبادَل تقريباً.
إن الدافع الرئيس للمحافِظة الظاهراتية واضح وبيّن. كما أشرنا أعلاه؛ هذه الرؤية أكثر «تساهلاً» بشكل كبير من التأسيسية الكلاسيكية وذلك في سماحها لنطاق واسع من التسويغ التأسيسي. على سبيل المثال، أعتقد أن هناك قطة في حضني، وأني تناولت السمك في عشاء البارحة، وأني أشعر بالعطش، وأني أفكر بجلب كوب من الماء، وأن اللذّة جيدة، وأن 2+3=5. إنه للوهلة الأولى، من المعقول القول إن اعتقادي بهذه القضايا يعود لسبب أنها تظهر/تبدو صادقة؛ لأنه يظهر لي أن هناك قطة في حضني وأني تناولت السمك البارحة وإلى آخره. إذا كنت أعتقد حقاً بهذه الأشياء بناءً على ظهورها، وشكّلَتْ مصدراً كافياً للتسويغ، فإنني، ومع غياب الدواحض، مسوغ في الاعتقاد. كما عبَّر عن هذا هيومر:
إن كانت المظاهر غير المدحوضة ليست مصدراً للاعتقاد المسوغ، فكيف بإمكان المرء تجنب النزعة الشكية حول العالم الخارجي والماضي والقيَم والموضوعات المجردة وما إلى ذلك؟ مالم يُواجَه هذا الإشكال؛ سيكون من الحكمة أن نضع ثقتنا في المظاهر…. (2013:349)
ماذا يعني تحديداً أن «يبدو» أو «يظهر»؟ عادة ما يُوضَّح الفرق بين المظهر والاعتقاد باستخدام الأمثلة. بمجرد أن نكتشف خُدعة مولر-لير البصرية سنتوقف عن الاعتقاد أن الخطوط فيها غير متساوية بالطول وإن كانت بطريقةٍ ما تظل تبدو لنا غير متساوية. وينطبق الأمر نفسه على الحدس الظاهر والذكريات الظاهرة التي نقتنع أنها كاذبة. ينبّه هيومر وآخرون أنه لايمكن الخلط بين المظاهر واستعدادات الاعتقاد أو بواعثه أو الميل إليه، رغم عدم اتفاق الجميع على هذا. أقام هيومر حُجّته في هذه المسألة على ثلاثة أركان رئيسية (2007:30–1). أولاً، من الممكن أن يكون لديك مظهر (على سبيل المثال أن خطاً أطول من الآخر، أو انحناء العصا المغمور في الماء) لكنك على قناعة تامّة أنه مجرد وهم وليس لديك أيّ استعداد أو ميل إلى الاعتقاد به. ثانياً، من الممكن أن تميل للاعتقاد بأنه (أ) (لأنك مثلاً تريد حقاً أن تكون صادقة) في غياب مظهرٍ متطابقٍ أنه (أ). ثالثاً، يمكن للمظاهر تقديم تفسيرات مُعتبَرة لما نعتقده أو لما لدينا استعداد للاعتقاد به: أنا أميل للاعتقاد بأن هناك حافلة قادمة لأنه يبدو لإدراكي الحسي كذلك؛ فهمنا للظهور الأخير بصفته ميلاً للاعتقاد استخفافٌ بالتفسير.
هكذا يرى مؤيدو النزعة المحافِظة الظاهراتية والوثوقية بشكل عام أن المظاهر تختلف عن الاعتقادات والميل إلى الاعتقادات، لكنهم يرون أيضاً أن المظاهر «كما-الاعتقاد» من حيث أنها مواقف قضوية أو على الأقل ذات محتوى قضوي أو تمثيلي. يرون أيضاً أن للمظاهر طابعاً مميزاً: المظاهر «تأكيدية» (هيومر2013)؛ أي ثمة «قوة ظاهراتية» فيها «بحيث “نشعر كما لو أنه” يمكننا القول بصدق تلك القضايا… فقط من خلال تمثلاتها بهذا الشكل». (بريور2000: 547, n. 23)؛ «ظهور (أ) «يُوصي» بصدق (أ) أو «يؤكّد» للذات صدق (أ)». (تاكر2013). إن أحد الخلافات اللافتة وذات الصلة الوثيقة بالإبستمولوجيا وفلسفة العقل تناقش تلك العلاقة بين المظاهر والإحساسات/الخبرات الحسية. وفقاً للبعض (مثل هيومر 2001:ch.4 وتولهورست 1998)، الإحساسات بحد ذاتها نوع أو صنف من الظهور -ظهور إدراكي حسي- بينما يعتبر آخرون (مثل تاكر2010) الإحساسات مغايرة للمظاهر الإدراكية الحسية رغم اقترانهما غالباً. (للمزيد حول علاقة الإحساسات بالمظاهر انظر تاكر 2013:7–8).
يوضّح كل من هيومر وبريور أن الحالات القصدية التي تقدم تسويغاً تقدِّمه دون أن يحتاج المرء إلى إدراك حقيقة أنه فيها. مع قبول كل منهما استطاعة المرء تحويل انتباهه إلى الداخل لاكتشاف حقيقة أنه واقع في مثل هذه الحالات، واستطاعته من حيث المبدأ أن يكتشف (أولياً ربما) أن الحالات المعنية تقدم ذلك التسويغ المعرفي.
-
اعتراضات على البدائل الداخلانية للتأسيسية الكلاسيكية
سنركز في هذا الفصل على الاعتراضات التي تُثار غالباً ضد نزعتيّ المحافِظة الظاهراتية والوثوقية، رغم إمكان تطبيقها أيضاً على النظريات التأسيسية الداخلانية الأخرى.
كما قد يتوقع القارئ؛ الإشكال الرئيس لدى كل من النزعة المحافِظة الظاهراتية لهيومر والنزعة الوثوقية لبريور، يكمن في معنى المسمَّى الذي أطلقه بريور على نزعته. يُفاجئ إبستمولوجيون كُثر كيف أن هذه الآراء تجعل الحصول على تسويغٍ للاعتقادات بمنتهى السهولة. قد تكون الإحساسات حالات تمثيلية، وقد يكون هناك ذلك النوع من الحالات التمثيلية والذي يطلق عليه هيومر والمحافظون الظاهراتيون «أن يظهر» أو «أن يبدو»، ولكن لماذا يجب أن نفترض أنها تمثل وبدقة العالم من حولنا؟ الخوف هو حالة تمثيلية أو قضوية، لكن من الحقيقة القائلة إنني أخشى أن هناك أشباحاً، يبدو من الصعب أن نكمِل ونقول إنني أملك تسويغ الوهلة الأولى للاعتقاد أن هناك أشباحاً. في هذه المسألة؛ الاعتقاد حالة تمثيلية وإن شككنا بأن مجرد الاعتقاد بإمكانه تقديم تسويغ، فلماذا يجب أن نعتبر حالة تمثيلية أخرى مثل «أن يبدو» تقدم تسويغاً؟ سيجيب هيومر وبريور بأن الحالات التمثيلية التي قدموها هي مُسوِّغات justifiers، ربما لأن «قوتها الظاهراتية» و«التأكيدية» هي ببساطة مختلفة في هذا السياق. وفي حين أنها لاتقدم أي ضمانة على أن العالم هو كما يتمثل، إلا أنها ببساطة تحمِل معها تسويغاً لاتستطيع الحالات التمثيلية الأخرى تقديمه.
يمكن لـ«مشكلة المعرفة السهلة» أن تكون دافعاً للقول بسهولة التسويغ لدى كل من نزعتيّ الوثوقية والمحافِظة الظاهراتية. وبما أن هذه المشكلة تُثَار ضد كل من البدائل الداخلانية والخارجانية للتأسيسية الكلاسيكية، فإننا سنتناولها في الفصل الثامن بعد أن نناقش النزعة الخارجانية.
5.1 اعتراض التدخُّل الإدراكي
يتضمن الاعتراض الأخير على نزعتيّ المحافِظة الظاهراتية والوثوقية احتكاماً إلى حالات من «التدخل الإدراكي»؛ حالات تؤدي فيها المواقف القضوية (اعتقادات، مخاوف، رغبات…إلخ) لدى الذات إلى «مظهر» ذي صلة. يأتي الاعتراض في شكلين. الأول هو اعتراض «الدعم غير المشروع»؛ إن كان لدي تسويغ مُسبق للاعتقاد أنه (أ) (مثلاً أن سيارتي في الكراج)، وهذا الاعتقاد تسبب في أن «يبدو» لي أنه (أ) (مثلاً تسبب الاعتقاد والتوقع في أن يبدو لي بصرياً أن سيارتي في الكراج حين ألقي نظرة خاطفة تجاهه)، هنا تستلزم نزعة الوثوق أن تسويغ الاعتقاد يرتفع دعمُه. والرد المعتاد أن هذا الزعم ليس ضد-حدسي. إني لاأحصل على أيّ تسويغ إضافي من ذلك الظهور إن كان لدي سبب جيد يدعو للشك أن ما ظهر لي اعتمد على امتلاكي للاعتقاد، لكن في حال لم يكن لدي سبب كهذا، فليس من الواضح كيف يكون تسويغي أمراً ضد-حدسي. قدم تاكر (2013:14) قياساً على الشهادة: إن أخبرني كلّ من «بيل» و«جيل» بأوقات مختلفة أن هناك بيتزا مجانية في الساحة، فإن هاتين الشهادتين معاً تقدمان سبباً أكبر للاعتقاد من إحداهما منفردة، وهذا يظل قائماً وإن كانت «جيل» وهذا ما لاأعلمه لم تكن لتخبرني لو لم تسمع الخبر من «بيل».
الشكل الثاني لاعتراض «التدخل الإدراكي» يُسمى أحياناً اعتراض «المصدر المَشُوب» (هيومر2013) وينشأ من كون المواقف القضوية المغايرة للاعتقاد المسوغ -كالمخاوف والرغبات والاعتقادات غير المسوغة- بإمكانها التأثير على كيفية ظهور الأشياء لنا. لنفترض على سبيل المثال أن «جيل» تخاف من أن يغضب عليها «جاك»، وعندما رأته تسبب ذلك الخوف جزئياً في أن يبدو كأنه غاضب عليها (سيغل2013). يرى الكثير أنه من الضد-حدسي أن تحصل «جيل» على تسويغ لاعتقادها بهذه الطريقة. الاقتراح الطبيعي يقول بأهمية مسببات الاعتقاد لتسويغه المعرفي (see, e.g., Markie 2005, 2013; Goldman 2009; Lyons 2011; Siegel 2013). وكما سبق، هناك مَن لايرى بحدسية تأثّر تسويغ الذات بالتاريخ السببي للاعتقاد حين لايكون هذا التاريخ مُتاحاً لوصول الذات إليه (على سبيل المثال هيومر2013). لكن يعترف على الأقلّ بعض من المحافِظين الظاهراتيين بجاذبية القول بالحدس رداً على بعض الحالات، ويحاولون إدخاله باعتبار أن هناك شيئاً مُخِلاً إبستمولوجياً في الحالة آخَر. على سبيل المثال؛ في حين أن الاعتقاد مسوغ معرفياً، يكون الفاعل ناقصَ الإدراك بطريقةٍ ما أو غير مسؤول معرفياً أو في موضِع انتقاد (e.g.,Skene 2013) أو أن يفتقر إلى ذلك التسويغ الذي يجعل الاعتقاد الصادق معرفة (e.g.,Tucker 2010). على أيّة حال، يُعرِب البعض عن قلقهم من أنه لايمكن التعامل مع جميع حالات «المصدر المَشُوب» المُشكِلة بهذه الطرق. (انظر Markie2013 وMcGrath2013).
-
الصور الخارجانية لـ النزعة التأسيسية
طرأت في المشهد الإبستمولوجي تغيُّرات كبرى في الثلاثين أو الأربعين عاماً الماضية مع ظهور الإبستمولوجيات الخارجانية. وإن من بالغ الصّعوبة تحديد معالم الجدل الواقع بين ذوي النزعتين الداخلانية والخارجانية في نظرية المعرفة. (للاطلاع على نقاش مُفصَّل حول التعريف بهذا الجدل انظر فيومرتون 1995: chs. 3 and 4. وأيضاً مدخل internalist and externalist conceptions of epistemic justification).
هناك طريقان على الأقلّ شائعان لفهم هذا الجدل. فهو يُعتبَر أحياناً قائم حول ما إذا كان باستطاعة المرء تعيين الخواص المعرفية من خلال حالات «داخلية» للمُعتَقدِين. وفقاً لما قد نسميه «داخلانية الحالة الداخلية» (تسمى أحياناً الذهنية Mentalism)؛ فإن التسويغ يُحَلَّل من حيث، أو يعتمد بشكل أساسي وحصري على، ما هو داخل الذهن. ويتبع هذا الرأي أنه لايمكن لشخصين أن يكونا متشابهَين داخلياً/ذهنياً ومن ثم فإن التسويغ لديهما سيختلف لنفس الاعتقادات. وأن تكون شخصاً خارجانياً (غير ذهني) يعني أن تزعم أن تسويغ المرء ينطوي أو يعتمد بشكل أساسي على بعض الوقائع أو الحالات العلائقية خارج الذهن. بينما يعتبر البعض الآخر الجدل متمركزاً حول مسألةِ ما إذا كان المرء يحتاج أنواعاً معينة من النفاذ من أجل التسويغ. يرى عموم ذوي نزعة «النفاذ الداخلاني» أن الحصول على تسويغ للاعتقاد بأنه (أ) يتطلب وجود شيء داخلي أو متاح على الأقل للاستبطان أو الدراية يتعلق بصدق/تسويغ (أ). (في حين يبدو أن بعضاً من ذوي نزعة النفاذ الداخلاني يرون أن كل ما يُحدِّد التسويغ يجب أن يكون متاحاً للذات، كما سنرى بعد قليل، وبالكاد يعتنق أي من الداخلانيين مثل هذا الموقف القوي). وفي المقابل يُنكِر مَن يتبنى «النفاذ الخارجاني» أن التسويغ يتطلب مثل هذا النفاذ. إنه لايحتاج أن ينكر أن شيئاً متعلقاً بصدق (أ) هو، أحياناً على الأقل، متاح للذات التي تملك تسويغاً لـ(أ)؛ لكن ذوي النزعة الخارجانية نموذجياً ينكرون أن النفاذ مطلب دائم من أجل التسويغ.
يقبل البعض كلاً من شكليّ الداخلانية رغم اعتبارهم واحداً أساسي أكثر من الآخر. يمكن للمرء على سبيل المثال اعتبار النفاذ الداخلاني أساسي أكثر، ويرى بإمكان النفاذ فقط إلى الحالات الذهنية والوقائع الداخلية المتعلقة بها، ومن ثم يقبل النزعة الذهنية بصفتها نتيجة. أو قد ينطلق المرء من الأطروحة الذهنية ويجادل بأن لدينا الحد الأدنى من النفاذ إلى الوقائع ذات الصلة، ومن ثم يقبل شكلاً من النفاذ الداخلاني. لكن من الممكن قبول أحد هذين الشكلين ورفض الآخر؛ فقد يُنكِر بعض من يتبنى النزعة الذهنية أننا نملك نفاذاً لكل الحالات الذهنية أو السمات التي تُحدِث فرقاً في التسويغ. وقد يرى بعض من يتبنى النفاذ الداخلاني أنه يمكننا أن نكون على دراية مباشرة بالموضوعات الخارجية أو الحالات الخارجية أو العلاقات/الكيانات المُجرّدة الخارجية، وأنه يمكن لهذه الدراية المباشرة أن تُحدِث فرقاً في التسويغ؛ ينكرون أن مسوِّغات المرء يجب أن تكون دائماً عقلية رغم أنهم قد يقبلون دعوى أنه لايمكن أن يُحدَثَ فارقٌ في التسويغ دون تدخل عقلي، على افتراض أن النفاذ حتى إلى كيانات لا-عقلية تُعَد حالة/علاقة عقلية.
إن نظريات النفاذ الداخلاني تتباين حسب نوع «النفاذ» المطلوب (اعتقاد صادق، اعتقاد مُسوَّغ، دراية/اتصال مباشر…إلخ) وأيضاً حسب ما يجب النفاذ إليه من أجل التسويغ. ومن ثم فإن هناك أشكال أقوى للنفاذ الداخلاني وأخرى أضعف، ونتيجة لهذا أصبح المشهد الإبستمولوجي بالغَ التعقيد. إنه لمن المؤكد أن الخارجانيين النموذجيين يرفضون البند الثاني من مبدأ PIJ. وفقاً لجميع الخارجانيين تقريباً، يمكن للمرء الوصول لاعتقاد مسوغ أنه (أ) استنتاجياً من (د) دون أن يعي أي نوع من العلاقة الدليلية بين (أ) و(د)؛ وجود علاقة دليلية جيدة بين (أ) و (د) يمكن أن تكون خارج عقل المرء وغير قابلة لوصوله/نفاذه. ويرفضون أيضاً ذلك المبدأ الموازي للتسويغ غير الاستدلالي: حيث “يمكن للمرء الحصول على اعتقاد مسوغ على أساس مدخلاتٍ حسية أو غيرها من المدخلات المستقلة عن الاعتقاد دون أن يعي أي نوع من العلاقة الدليلية بين المُدخَل والاعتقاد”. يميل المحافِظون الظاهراتيون والوثوقيون إلى الاتفاق مع الخارجانية النموذجية في رفض شرط إدراك المرء للعلاقة بين الدليل/القاعدة الإبستمولوجية والقضية التي يعتقد بها. (رغم رفضهم أن الشروط الخارجية مثل الموثوقية -التي نوقشت أدناه- مطلوبة أيضاً للتسويغ). على أيّة حال، يقبل الخارجانيون عادةً أنه يمكن من حيث المبدأ أن يكون لدى المرء اعتقاد تأسيسي دون وجود أي مظهر. جَمَع بعض الإبستمولوجيين بين المتطلبات الداخلية المعتدِلة والأخرى الخارجية في سياق التسويغ المعرفي (انظر على سبيل المثال ألستون 1989 وستيوب 2004).
رغم دفاع الخارجانيين عن نظرياتٍ تختلف جذرياً عما يراه التأسيسيون الكلاسيكيون، إلا أن بُنية المعرفة والتسويغ الناتجة عن مثل هذه النظريات تبقى في الغالب ذات هيكل تأسيسي. دعنا نوضح هذه النقطة أولاً من خلال طرح وجهة نظرٍ دافع عنها أحد أبرز الخارجانيين، وهي موثوقية آلفين جولدمان[7]. إن الفكرة الأساسية وراء الموثوقية في غاية البساطة؛ الاعتقادات المسوغة هي اعتقادات أُنتِجت على نحو موثوق. الاعتقادات المُنتَجة على نحو موثوق هي التي نتجت عن عملية موثوقة، والعملية الموثوقة هي التي تنتِج عادةً اعتقادات صادقة (أو تكون عادةً صادقة إن جرى توليد ما يكفي منها)[8]. الاعتقادات المسوغة جديرةٌ بأن يمتلكها المرء لأنها على الأرجح صادقة.
ميَّز جولدمان في البداية بين نوعين مختلفين من الاعتقادات المسوغة؛ تلك الناتجة عن عمليات مستقلة عن الاعتقاد والأخرى التي تَنتج عن عمليات تعتمد عليه. الأولى عمليات ذات تحفيز آتٍ من «مُدخَلات» مغايرة للاعتقادات، والثانية اعتقادات أنتجتها عمليات تضمنت على الأقلّ في مُدخَلاتها اعتقادات أخرى. أي من الممكن على سبيل المثال أننا قد تطورنا بطريقة تجعلنا نتوصل فورياً وبشكل مباشر لنتائج حول الموضوعات الخارجية حين نكون مُحفَّزين من قبل إحساسات معينة. وقد نعيش في عالم تكون فيه الاعتقادات المتعلقة بالعالم الخارجي والتي تُنتَج بهذه الطريقة صادقة عادةً (أو تكون صادقة عادةً إن جرى توليد ما يكفي منها). إن مثل هذه الاعتقادات ستكون مسوغة بحكم كونها نتاج عمليات موثوقة ومستقلة عن الاعتقاد. وهذا هو ببساطة «البند الأساسي» في تحليل الموثوقية؛ مبدأ التسويغ التأسيسي أو غير الاستدلالي: “إذا كان الاعتقاد نِتاجَ عمليات موثوقة ومستقلة عن الاعتقاد فإنه مسوغ”. ويضيف مناصرو الموثوقية عادةً له شرطاً ينصّ على ألا يوجد دواحض متاحة للذات، أي ألا يكون هناك على سبيل المثال سبب جيد أو تسويغ لاعتبار الاعتقاد كاذب أو غير موثوق. (يُعَدّ تحديد شرط «اللا-دحض» في البند الأساسي دون استخدام مصطلحات إبستمولوجية مثل «التسويغ» أو «العلة» أمراً مُتعَمّداً. اقترح جولدمان (1979) إضافة شرط عدم وجود عملية موثوقة تعارِض الاعتقاد متاحة للذات). هذه الاعتقادات التأسيسية يمكن أن تؤخذ باعتبارها مُدخَلات لعمليات موثوقة تعتمِد على الاعتقاد من أجل توليد اعتقادات مسوغة أكثر. إن العملية المعتمِدة على الاعتقاد تكون موثوقة «بشكلٍ مشروط» إذا كانت الاعتقادات الناتجة عنها عادةً صادقة وكانت مدخلاتها من الاعتقادات ذات الصلة صادقة. وهكذا لاتكون الاعتقادات الناتجة عن عملياتٍ موثوقة مشروطة ومعتمِدة على الاعتقاد مسوغةً إلا إذا كانت الاعتقادات المدخَلة مسوغة. هذا ببساطة «البند المتداخل» في تحليل الموثوقية، وهو مبدأ يخص التسويغ غير التأسيسي أو الاستدلالي: “إذا كان الاعتقاد نِتاج عمليات موثوقة مشروطة تعتمِد على الاعتقاد، وكانت الاعتقادات المُدخَلة مسوغة، فإن هذا الاعتقاد الناتِج (مع غياب الدواحض) مسوغ”.
ما سبق هو رسم مبدئي لمعالم موثوقية جولدمان المبكرة؛ قام لاحقاً بتعديلها وفقاً لعدّة اعتراضات. لكن هذا الرسم يُعدّ كافياً لإبراز البُنية التأسيسية المتأصلة فيها، ويقبل في الواقع مؤيدو الموثوقية البند الأول من مبدأ PIJ ويتعاملون مع إشكال التراجع المعرفي من خلال تبنّي نوع من الاعتقادات المسوغة لايقوم تسويغها على امتلاك اعتقادات مسوغة أخرى. إن أيّ اعتقاد غير قابلٍ للدحض ناتِج عن عملية موثوقة مستقلة عن الاعتقاد هو مسوغ. لم تدخل اعتقادات أخرى في التسويغ لذا فإن هذه الاعتقادات تأسيسية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن جولدمان نفسه (1979) ينكر إمكانية إعطاء تعريفٍ صارمٍ لاصطلاح إبستمولوجي معياري أو تقييمي مثل «التسويغ» دون استخدام مصطلحات معيارية أو تقييمية مشابهة. ومع ذلك، فقد اهتم بتقديم «شروط موضوعية» تُحدِّد في مصطلحات غير إبستمولوجية متى يكون الاعتقاد مسوغاً. وبهذا المعنى يظل جولدمان مهتماً بتقديم نظرية عامة وموضوعية للتسويغ.
لقد أوضحنا الطريقة التي تكشف البُنية التأسيسية في رؤية الخارجاني للاعتقاد المسوغ عن طريق تناوُل واحدة من أبرز صور الخارجانية وهي الموثوقية. لكنّ صوراً أخرى أيضاً من الخارجانية تلتزم سواء ضمنياً أو صراحةً بالتأسيس، أو على الأقل تُقدِّم اعتباراً للتسويغ يمكّن المرء من التمييز بين التسويغ الاستدلالي وغير الاستدلالي، المعرفة المباشرة وغير المباشرة. تأمَّل على سبيل المثال تلك الصورة الأولية لما يسمى ‘النظرية السببية في المعرفة’ والتي بموجبها يعرف المرء قضيةً ما عندما يعتقد بها اعتقاداً تسبَّب به (بالطريقة «الصحيحة») ذلك الذي يجعل ما هو مُعتقَد به صادقاً. يمكن للمرء في هذا الاعتبار أن يميز التسلسل السببي المؤدي للاعتقاد المعني والذي ينطوي على اعتقاداتٍ وسيطةٍ عن ذلك الذي لايفعل. وباستخدام هذه التفرقة، يمكن للمرء كما قلنا أن يفصل بين المعرفة التأسيسية وغير التأسيسية: إن أسباب الاعتقاد التي لاتتضمن اعتقادات أخرى هي التي تُعَدّ معرفة تأسيسية[9].
قد تكون الصور الخارجانية لـ النزعة التأسيسية جاذبةً للكثير لأنها تقبل -على الأقل- إمكانية توسيع القاعدة التأسيسية للاعتقادات المسوغة. خلافاً للرؤية الديكارتية، ليس لتمييز الموثوقية الاعتقاد المسوغ الاستدلالي عن غير الاستدلالي أي صلةٍ فيما إذا كانت الاعتقادات مسوغة بشكلٍ معصومٍ كلياً أو معصوم إلى حدٍ ما. إن كانت الطبيعة قد تعاونت على نحو كافٍ ضامنةً تطور الإدراك الذي يستجيب لمحفزات محيطه باعتقادات صادقة في الغالب، فقد يكون هناك مخزنٌ هائلٌ من المعرفة التأسيسية التي يمكننا الاعتماد عليها للتوصّل إلى نتائج مسوغة استدلالياً. لايوجد في معظم وجهات النظر الخارجانية في الاعتقاد المسوغ بشكل غير استدلالي أيّ قيد أولي حول ما الذي قد يكون مسوغاً بشكل غير استدلالي. قد تكون أي قضيةٍ يُعتقَد بها نتيجة إجراء عملية موثوقة مُتصَوّرة مشكِّلة للاعتقادات. بالإضافة إلى أن العديد من الإبستمولوجيين يرون أنه يجب على المسوِّغات أن تكون بطريقةٍ ما محتملةً أو تفضي إلى الصدق، وطلب الموثوقية (أو متطلبات أخرى من الشروط الخارجية) يكشِف تلك العلاقة مع الصدق. بينما على النقيض من ذلك، تُهدِّد النظريات التأسيسية الداخلانية غير الكلاسيكية كالمحافِظة الظاهراتية بقطع العلاقة بين التسويغ والصدق/الاحتمال، لإمكانية أن تكون القضايا التي تبدو صادقة، كاذبة في معظمها.
-
اعتراضات على الصور الخارجانية لـ النزعة التأسيسية
إن تقييماً شاملاً للصور الخارجانية لـ النزعة التأسيسية يتجاوز نطاق هذا المدخل (انظرInternalist and externalist conceptions of epistemic justification). لذا سيتوجب علينا الانتقاء، ولعلّنا نركز فيما يلي على الموثوقية. (انظر مدخل reliabilist epistemology).
7.1 تحدّيات الكفاية: نورمان وتروتيمب
إن السهولة التي تُمكِّن الخارجاني من توسيع القاعدة التأسيسية للمعرفة أو الاعتقاد المسوغ هي ذاتها -يا لِلمفارقة- أحد أبرز الإشكالات التي تُقلِق أولئك الفلاسفة غير الراضين عن الإبستمولوجيا الخارجانية. يُظهِر أحد أكثر الاعتراضات شيوعاً على الخارجانية كيف أن شروط الخارجاني للاعتقاد التأسيسي ليست كافية للتسويغ. علينا التذكير هنا أنه بالنسبة للموثوقية يكون الاعتقاد مسوغاً إذا نتج عن عملية موثوقة مستقلة عن الاعتقاد ولم يكن ثمة دواحض للاعتقاد متاحة للذات. لنأخذ حالة بونچور حول “نورمان” (1985:ch.3): هَب أن نورمان مستبصِرٌ في غاية الموثوقية، وأنتَجَ استبصاره اعتقاداً أن الرئيس حالياً في نيويورك. هَب أيضاً أنه لايعلم بكونه مستبصراً، وليس لديه أي عللٍ أو أدلةٍ تدعم أو تتضاد مع هذا الاعتقاد أو موثوقية العملية -أياً كانت- التي أنتجته. حدسياً؛ اعتقاد نورمان غير مسوغ. خذ أيضاً حالة ليرر (1990) حول “تروتيمب” الذي يحمل دون علمه شريحة مزروعة برأسه تُنتِج اعتقادات بالغة الدقة وشديدة الإحكام حول درجة الحرارة المحيطة. وغالباً ما تكون لدى تروتيمب اعتقادات تخصّ درجة الحرارة آتية من هذه الشريحة، لكن لم يسبق له التحقق من صدق هذه الاعتقادات. حدسياً؛ اعتقاد تروتيمب أن درجة الحرارة حالياً 47 درجة تماماً غير مسوغ. إن الموثوقية كما يبدو تعطي النتيجة الخاطئة، مسوغةً الكثير جداً من الاعتقادات.
جرت عدة محاولات للرد على مثل هذه الحالات. دافع عن إحداها بيرغمان (2006: ch.1and 2) وقد نوقش رده أعلاه فيما يتعلق بمشكلات التراجع في نفاذ الداخلانية (فصل3 فقرة1). وغالباً ما يزعم أنصار الاعتراض أن ما تقوله هذه الحالات هو وجوب أن يكون هناك شيء يدركه المرء أو يستطيع النفاذ إليه يُحدِث فرقاً في منظوره لصدق أو مُلاءمة الاعتقاد. يجادل بيرغمان أن هذا المَطلب مهما كان جاذباً أو حدسياً يؤدي إلى مشكلاتٍ تراجعيةٍ جسيمة. (للاطلاع على ردود باسم الداخلانية انظرRogers and Matheson 2011, Hasan 2011, and Fales 2014).
حاول آخرون ملاءمة تلك الحدُوس بطريقةٍ ما. جادل جولدمان (1986) أنه من الطبيعي في هذه الحالات الموصوفة اعتبار أن الذوات مثل نورمان لديها بالفعل دواحض متاحة، وهذا يفسِّر حدسنا أنها غير مسوغة. بينما اعتقد آخرون بينهم أنصار للموثوقية أنه من السهل الإضافة للحالات أو تعديلها لضمان عدم إتاحة دواحض (Lyons 2009:123–4). إن البعض يقبل شكلاً معتدلاً من الداخلانية مقدمين شرطَ نفاذٍ ضعيف نسبياً، على سبيل المثال؛ أنه يجب أن يكون لدى الذات خبرة أو حالة عقلية متاحة للنفاذ والتي في الواقع طريقة موثوقة للتوصل إلى الاعتقادات، رغم عدم احتياج الذات للنفاذ إلى موثوقية الخبرة (Alston 1989). يبدو على أيّة حال أن هناك العديد من الحالات الممكنة بما فيها صور من حالات نورمان وتروتيمب، تُستوفَى فيها هذه الشروط ولكن الحدس هو نفسه؛ قد نفترض مثلاً أن بعض الإحساسات الفينومينولوجية، كنوع غير مُعتَاد من الحكّة أو الصداع أو الإحساسات الشمّية، هي في الواقع مؤشر موثوق به وبشدة لصدق اعتقاداتهم فيما يتعلق بمكان وجود الرئيس أو درجة حرارة المحيط وهذا حدسياً لايُحدِث أيّ فرق إن لم يدركوا تلك الموثوقية. (see Lyons 2009: 125).
قدَّمَت محاولة حديثة للرد على حالتيّ نورمان وتروتيمب إضافة قيدٍ للاعتقادات الأساسية أو غير الاستدلالية: يجب أن تكون اعتقادات إدراكية حسية، اعتقادات أُنتِجت من قبل «منظومة إدراكية حسية» (انظر Lyons 2009: ch.4 للاطلاع حول مايُعتبَر نظام إدراكي حسي). يجادل لاينس (2009: ch.5) أن حالة نورمان الأصلية لاتحدد ما إذا كان الاعتقاد ناتجاً عن منظومة إدراكية حسية، وأن الاعتقاد في حالة تروتيمب نتج عن شريحة مزروعة لا منظومة إدراكية حسية، جادل لاينس أيضاً أنه بمجرد أن نغير التفاصيل لجعل الاعتقادات ناتجة عن منظومات إدراكية؛ ستتغير الحدوس أيضاً. افترِض على سبيل المثال أن نورمان* يشبه نورمان، إلا أن الأول ينتمي إلى فصيلةٍ غريبةٍ يتمتّع جميع أفرادها بقدرات استبصار، وذلك بفضل إدراكهم الحسي المتطور والعمليات الموثوقة لديهم الناقلة للمعلومات. يزعم لاينس أنه حدسياً، حين يعتقد شخص مثل نورمان* أن الرئيس في نيويورك فإن اعتقاده مسوغ، وإن لم يكن نورمان* يعي وجود أو موثوقية تلك العمليات.
تماماً كما صُمِّمت حالات نورمان وتروتيمب لإظهار كيف أن الموثوقية تجعل الحصول على تسويغ تأسيسي أمراً في غاية السهولة، ثمة حالات أخرى مشابهة تُظهِر كيف أن الموثوقية تجعل الحصول على تسويغ غير تأسيسي أمراً في غاية السهولة. افترِض على سبيل المثال أنه وبينما كنتَ نائماً، قام مجموعة من علماء الأعصاب/المنطق بزرع جهازٍ في رأسك يأخذ بعض اعتقاداتك التأسيسية والتي في غاية الموثوقية (مثلاً اعتقادات استبطانية أو إدراكية حسية) بصفتها مُدخَلاتٍ ثم يقوم باختيار عشوائيّ من قائمة مُبرهنات منطقية معقدة وإنتاج اعتقاد بهذه النظرية. حدسياً؛ مثل هذه الاعتقادات غير مسوغة رغم المستوى العالي من الموثوقية. (هذا المثال من لاينس 2009:126). أحد التشخيصات الحدسية هو أن العلاقة بين الاعتقادات الناتجة وتلك المُدخَلة ليست دليلية أو استنتاجية، أو أن العملية التي تولّدت من خلالها الاعتقادات الناتجة ليست دليلية أو استنتاجية. إن التحدي الذي يواجه أنصار الموثوقية الذين يريدون تجنب القول بتسويغ مثل هذه الاعتقادات، وتجنب إضافة قيود داخلية، يكمن في تقديم اعتبار أفضل للعمليات الاستدلالية. وللحفاظ على طابعه الخارجاني؛ يجب ألا يتضمن استدلال جيد يقوم على الوعي أو النفاذ إلى علاقة منطقية أو احتمالية بين القضايا المُعتَقد بها.
7.2 تحدّي الضرورَة: مشكلة الشيطان الماكِر الجديدة
تقدم الاعتراضات التي نوقشت أعلاه حُجّة كفاية الشروط التي اقترحها الخارجانيون من أجل التسويغ. لكن حتى إذا حُلَّ أمر الأمثلة المضادة المذكورة بشأن الكفاية، فقد نتساءل عما إذا كانت شروط الخارجاني تعكس ما هو جوهري أو ضروري للتسويغ التأسيسي، أو لتسويغ الاعتقادات الأخرى بناءً على تلك الاعتقادات التأسيسية . هل الموثوقية غير المشروطة والمستقلة عن الاعتقاد على سبيل المثال، ضرورية حقاً من أجل التسويغ على المستوى التأسيسي؟ وهل الموثوقية المشروطة المُعتمِدة على الاعتقاد ضرورية حقاً من أجل تسويغ الاعتقادات الأخرى؟.
تتحدى “مشكلة الشيطان الماكِر الجديدة” (انظر ليرر وكوهين 1983؛ كوهين 1984) ذلك الادعاء القائل إن شروط الخارجانيين كشرط الموثوقية ضرورية حقاً. لنفترض أن هناك ذاتاً تشبهك تماماً في جميع الخصائص الداخلية، باستثناء أنه في حين تُنتَج اعتقاداتك (فرَضاً) على نحو موثوق، فإن اعتقادات توأمك أو نظيرك لاتُنتَج كذلك بل عن طريق شيطان ماكِر. حدسياً، توأمك ليس أقلّ تسويغاً منك. ولكن نظراً لكون اعتقادات توأمك غير موثوقة، سيتحتم على أنصار الموثوقية القول بأن اعتقادات توأمك غير مسوغة.
طُرِحت ردود كثيرة في هذه المسألة. لايرى البعض مشكلة كبيرة في إنكار أن ضحية الشيطان الماكِر غير مسوغة. إذا لم يكن هذا رفضاً شاملاً لاعتبارات الحدوس؛ فقد يساعد ذلك على تفسيرها بطريقةٍ ما، ومنه يمكن فهم بعض الردود التي تميل للقول بغموض “التسويغ”. يقول جولدمان على سبيل المثال (1988) إن اعتقاد النظير “مسوغ بشكل ضعيف” من حيث أن الاعتقاد رغم كونه تشكَّل من عملية غير موثوقة، تكون الذات مسؤولة عنه إبستمولوجياً، لكن الاعتقاد ليس «مسوغ بشكل قوي» “من حيث تضمُّنه للموثوقية. إن هذا لايبدو كافياً، وذلك لأنه حدسياً؛ ثمة ما هو إيجابي حول وضع النظير المخدوع لايُتناوَل بمجرد القول إنه مسؤول إبستمولوجياً. إن الشخص الذي يفكر وفقاً لمبادئ مغلوطة بشكلٍ مروّعٍ دون أن يستطيع اكتشافها قد يكون بذل قصارى جهده، ويتشابه في المسؤولية الإبستمولوجية مع ضحية الشيطان الماكِر الذي دخل في خبراته بعناية واتبع مبادئ جيدة للتفكير، ولكن من الواضح أن هناك شيء إيجابي حول الموقف المعرفي لدى الأخير يتجاوز مفهوم المسؤولية الإبستمولوجية (انظر أودي 1993:28 وبريور 2001:117 للاطلاع على نقاش حول هذه النقطة). افترض بعض الخارجانيين مثل باخ (1985) وإنجل (1992) نوعاً مشابهاً من الغموض بين التسويغ الاعتقادي والشخصي personal؛ أي بين كون الاعتقاد مسوغاً وتسويغ الشخص للتمسك بهذا الاعتقاد، وعلى هذا تكون ضحية ذلك الشيطان مسوّغة للاعتقاد، لكنّ الاعتقادات ذاتها ليست مسوغة. اعترض كلٌّ من كفانفيغ و مينزل (1990) على كون تسويغ المرء للاعتقاد بشيء ما يستلزم أن يكون اعتقاده مسوغاً، ومن ثم لايمكن لهذه التفرقة أن تساعد في حل الإشكال، لكن جادل ليتلجون (2009) بأنه لاوجود لمثل هذا الاستلزام، وأن التفرقة بين التسويغ الاعتقادي والشخصي متسقة وذات دوافع جيدة ويمكن أن تساعد في حل مشكلة الشيطان الماكِر الجديدة.
حاول عددٌ من أنصار الموثوقية بدلاً من إنكار الحدس أو المغالاة في شرحه والقول بالغموض، ملاءمة الحدس من خلال تعديل شروط التسويغ. وقد حاول جولدمان (1986) في رد سابق له الدفاع عن “موثوقية العوالم العاديّة” والتي بموجبها يكون اعتقاد المرء مسوغاً إذا كانت عملية إنتاج الاعتقاد موثوقة في العوالم العاديّة، حيث أن “العالم العاديّ” هو عالم تكون فيه اعتقاداتنا العامة التي تخص العالم الفعلي/الواقع صادقة. إنه ليس من المستغرب أن جولدمان نفسه سارع بالتخلي عن هذا الرد. فأحد الاستشكالات الواضحة فيه استبعاده حتى إمكانية أن تكون العمليات “غير العاديّة” مثل الاستبصار مسوغة. واستبعاده إمكانية لا-تسويغ اعتقاداتنا العامة حول العالم أيضاً استشكال آخر. (بولوك وكروز 1999:115). في الآونة الأخيرة، اقترح البعض تعديلات أكثر تعقيداً لشروط/لنوع الموثوقية المطلوبة لملاءمة الحدس وتجنب مشكلات موثوقية العوالم العاديّة (انظر Comesaña 2002؛ Majors and Sawyer 2005؛ Henderson and Horgan 2006).
-
مشكلة المعرفة السهلة
سنختتم بـ”مشكلة المعرفة السهلة” التي أُثيرَت ضد كلٍّ من البدائل الداخلانية والخارجانية لـ النزعة التأسيسية الكلاسيكية (انظر كوهين 2002 للاطلاع على صياغة مبكرة للمشكلة). اتخذت المشكلة كما جَرى عرضُها شكلين رئيسين. يتناول الشكل الأول حالات الإغلاق الاستنباطي؛ افترِض وباستخدام مثال كوهين (2002) أنني أودّ الحصول على منضدة حمراء لغرفتي لكني لاأريد منضدة تبدو فقط حمراء، كأن تكون مثلاً منضدة بيضاء لكن يُوجّه إليها ضوء أحمر. ثم افترِض أنني نظرت إلى منضدة معيّنة وبدت لي حمراء اللون. إذا كان قول النزعة المحافِظة الظاهراتية صحيحاً فإنه يمكنني التوصّل لمعرفة أو على الأقل لاعتقاد مسوغ، بالاستدلال البسيط التالي:
-
هذه المنضدة حمراء (على أساس الإدراك الحسي).
-
إذا كانت هذه المنضدة حمراء فهي ليست منضدة بيضاء يُوجّه إليها ضوء أحمر.
-
لذا، هذه المنضدة ليست منضدة بيضاء يُوجّه إليها ضوء أحمر.
الأمر نفسه يجري على الاستدلال التالي:
-
لدي يد (على أساس الإدراك الحسي).
-
إذا كان لدي يد فأنا لست دماغاً في وعاءٍ عديمَ اليدين يُغَذى بخبرات أيدي وهمية.
-
لذا، أنا لست دماغاً في وعاءٍ عديمَ اليدين يُغَذى بخبرات أيدي وهمية.
تكمن المشكلة في أنه يبدو من غير المعقول أن أكون مسوغاً في الاعتقاد -فضلاً عن أن أعرف- أن المنضدة ليست منضدة بيضاء يُوجّه إليها ضوء أحمر وذلك فقط على أساس أنها ظهرت أو بدت حمراء. قد يكون -وغالباً ما يكون- لديّ أسباب مستقلة تدعوني للثقة بأن ألوان المناضد هي عادةً في الشكل الذي تبدو عليه (الإضاءات الملونة نادرة، لا ألاحظ وجود مثل هذه الإضاءات،…إلخ) بينما الحُجّة المذكورة أعلاه لاتذكر ذلك. ولكن وفقاً للنزعة المحافِظة الظاهراتية أو نزعة الوثوق فإن المظهر الإدراكي الحسي وحده من شأنه أن يسوغ اعتقادات الرقم (1) في غياب الدواحض، سواء كان لدى المرء أسباب مستقلة جيدة أم لا لاعتبار ما يظهر على أنه جدير بالثقة. وأيضاً وفقاً للموثوقية، فإن العملية الإدراكية الحسية الموثوقة وحدها ستؤكد تسويغ اعتقادات الرقم (1) في غياب الدواحض. وينطبق الشيء نفسه على الاستدلال الثاني: من غير المعقول أن أكون مسوغاً في الاعتقاد بأنني لستُ دماغاً في وعاء بلا أيدي يظهر له أنه يملكها فقط على أساس الإدراك الحسي أو المظهر الإدراكي الحسي.
من الصعب فهم كيف يمكن لهذه الآراء أن تنكر إمكانية تسويغ الرقم (3) بهذه الطريقة. دعنا نوضّح أكثر: لنفترض أن (1) في كلتا الحالتين مسوغة بالنسبة لي على نحو غير استدلالي، سواء على أساس المظهر المُطابق أو العملية الإدراكية الحسية الموثوقة، وأني أعرف الاستلزام (2) أوليّاً، وأنه على أساس هذا أستنتج (3). لنفترض أيضاً أننا قبِلنا «مبدأ الإغلاق» المعقول حدسياً التالي: إذا كان (س) مسوغاً في الاعتقاد بأنه (أ)، ويعرف أن (أ) تستلزم (ك)، ثم استنتج بناءً على ذلك أنه (ك)، فإن (س) مسوغ في الاعتقاد بأنه (ك). (هذا هو المبدأ الذي يميل المحافِظون الظاهراتيون والوثوقيون إلى قبوله. وينكر قلّة من الخارجانيين مثل دريتسكي (1970) ونوزيك (1981) مبدأ الإغلاق في هذا الاعتراض، بينما كثير منهم يتردّد في إنكار تماسك مثل هذا القول، لأنهم لايودون رفض إمكانية تسويغ الاستنتاج (3) المستمد من (1)). يترتب على هذا أنني مسوغ في الاعتقاد بـ(3). إن المُعترِض الذي يستخدم هذا ضد النزعة المحافِظة الظاهراتية أو الموثوقية يمكنه أن يرى هنا كيف أن مجرد المظاهر أو العمليات الموثوقة (تباعاً) لايمكن لها أن تكون مصدراً للتسويغ التأسيسي أو غير الاستدلالي. لايمكن للتسويغ أن يكونَ بهذه السهولة.
تأتي مشكلة المعرفة السهلة (أو التسويغ السهل) أيضاً في شكلٍ آخَر: إن النزعتين المحافِظة الظاهراتية والموثوقية تسمحان للمرء أن يحصل على تسويغ في موثوقية المظاهر الإدراكية الحسية لديه وبطريقةٍ تبدو غير مشروعة: من خلال الاعتماد على تلك المظاهر نفسها. إذا كانت النزعة المحافِظة الظاهراتية مُحِقة، فبإمكاني التوصّل لمعرفة أو على الأقل لاعتقاد مسوغ في موثوقية إدراكي الظاهر بالطريقة التالية:
-
أ. (على أساس الظهور الإدراكي الحسي أنه أ)
-
يظهر لي أنه أ. (من خلال الاستبطان)
-
ك. (على أساس الظهور الإدراكي الحسي أنه ك)
-
يظهر لي أنه ك. (من خلال الاستبطان)
-
إلخ…
ومن ثمّ فإنه (على الأرجح) أن المظاهر الإدراكية الحسية لديّ صادقة.
يمكنني وفقاً لمبدأ معقول في التسويغ الاستقرائي أن أستنتج من تلك المقدمات أن المظاهر الإدراكية الحسية لديّ (على الأرجح) موثوقة. تكمن المشكلة في أنه من غير المعقول حدسياً أن أتمكن من الحصول على مسوغ في موثوقية المظاهر لديّ من خلال الاعتماد على المظاهر نفسها التي أحاول تسويغ موثوقيتها. وليس من الواضح كيف سيستطيع المحافِظ الظاهراتي إنكار أن هذه طريقة مشروعة لاكتساب تسويغٍ في موثوقية المظاهر لديه.
يبدو الخارجانيون أيضاً عرضةً للشكل الثاني من مشكلة المعرفة السهلة، ويجب أن يُجيزوا -على ما يبدو- لحجة المسار الدائري «circular track-record argument» أن تقدم مسوغاً للاعتقاد بمصداقية مصادر هذا الاعتقاد الأساسية؛ كأن يُمكِن مثلاً لأنصار الموثوقية الاعتماد على الإدراك الحسي لتسويغ موثوقية الإدراك الحسي، وعلى الذاكرة لتسويغ موثوقية الذاكرة. لكن من غير المعقول أنه بإمكان المرء أن يكتسب تسويغاً في موثوقية مثل هذه المصادر بهذه الطريقة. (انظر فوجل 2008b للاطلاع على حُجّة ضد الموثوقية).
يطرح أحد الردود أن مثل هذه الحُجج ليست إلا استجداء أسئلة وأنها عديمة النفع إبستمولوجياً إذا هي قُدّمت لشخص يشك في مصداقية/موثوقية مثل هذه المظاهر أو الإدراكات الحسية الظاهرة، لكن يظل بإمكانها تقديم شيءٍ ما لمن لايساوره مثل هذا الشك في التسويغ. وفي حين أن الحُجّة ليست إلا استجداء أسئلة ضد المتشككين، إلا أنه لايوجد سبب لإنكار استطاعة المرء، مع غياب الدواحض، اكتساب معرفة أو تسويغ على أساس مثل هذه الحجج (بريور 2004، ماركي 2005، بيرغمان 2008). ومع ذلك، يعترضُ البعض بأن هذه الحُجج لا تزال إشكاليّة حدسياً؛ يبدو أنها لاتسوغ شيئاً على الإطلاق، سواء كان عليها إقناع المتشككين أم لا. (انظر كوهين 2005، وأيضاً فوجل 2008a:539–42 لمزيد من الأمثلة على حالات تقبَل فيها نزعة الوثوق أن يكون للذات تسويغ مع افتقارها إليه).
قد يتساءَل المرء عمّا إذا كانت مشكلة المعرفة السهلة هي مشكلة كلّ النظريات التأسيسية لا بعضها. في الواقع، جادل البعض أن التأسيسيين الكلاسيكيين ليسوا في وضع أفضل من أولئك المحافِظين الظاهراتيين والخارجانيين فيما يتعلّق بهذه المشكلة؛ لأنه يتوجب عليهم أيضاً أن يقبلوا اعتماد المرء على الاتصال المباشر بالوقائع من أجل تسويغ وجود/موثوقية هذا الاتصال. تأمّل أولاً حالة مشابِهة للإغلاق الاستنباطي:
-
هذا ألم. (على أساس الاتصال المباشر)
-
إذا كان هذا ألم، فإنه ليس مجرّد حكة أظن مخطئاً أنها ألم.
-
لذا، هذا ليس مجرّد حكة أظن مخطئاً أنها ألم.
وحالة مشابِهة للدور:
-
أ. (على أساس اتصالي المباشر بالواقعة أ)
-
أنا على دراية بالواقعة أ. (على أساس اتصالي المباشر بواقعة أنني على اتصال المباشر بالواقعة أ)
-
ك. (على أساس اتصالي المباشر بالواقعة ك)
-
أنا على دراية بالواقعة ك. (على أساس اتصالي المباشر بواقعة أنني على اتصال المباشر بالواقعة ك)
-
إلخ…
ومن ثمّ (على الأرجح) أن الاتصال المباشر مصدر للاعتقادات الصّادقة.
قد يردّ التأسيسيون الكلاسيكيون بأن المشكلة ليست في السماح لمصدرٍ ما أن يُسوغ قضايا حول نفسه أو حول مقوِّماته الإبستمولوجية. بل المشكلة تكمن في أن بعض المصادر المزعومة تجعل التسويغ سهلاً على نحو غير معقول. بينما التأسيسية الكلاسيكية لاتفعل هذا؛ لايوجد فيها أو على الأقل أقلّ حضوراً بشكل كبير، ذلك الحدس في أن المعرفة أو التسويغ المُكتسَبان سهلان على نحو غير معقول أو غير مُرضٍ في صيغ الحجج التي استعرضناها أعلاه (انظر Fumerton 2006). المشكلة التي تواجهها التأسيسية الكلاسيكية هي أنها تجعل التسويغ بالغ الصعوبة، لا بالغ السهولة.
المراجع
- Aikin, Scott F., 2011, Epistemology and the Regress Problem, New York: Routledge.
- Alston, William P., 1989, Epistemic justification: Essays in the theory of knowledge, Ithaca: Cornell University Press.
- Aristotle, Posterior Analytics, Jonathan Barnes (trans.), second edition, translated with a commentary, Oxford: Oxford University Press, 1956.
- Armstrong, David, 1973, Belief, Truth and Knowledge, London: Cambridge University Press.
- Audi, Robert, 1993, The Structure of Justification, New York: Cambridge University Press.
- Ayer, A. J., 1956, The Problem of Knowledge, London: Cambridge University Press.
- Bach, Kent, 1985, “A Rationale for Reliabilism”, Monist, 68(2): 246–263.
- Bergmann, Michael, 2006, Justification without Awareness: A Defense of Epistemic Externalism, Oxford: Clarendon Press.
- –––, 2008, “Externalist Responses to Skepticism”, in Oxford Handbook of Skepticism, John Greco (ed.), Oxford University Press, pp. 504–32. doi:10.1093/oxfordhb/9780195183214.003.0024
- BonJour, Laurence, 1978, “Can Empirical Knowledge Have a Foundation?” American Philosophical Quarterly, 15(1): 1–13.
- –––, 1985, The Structure of Empirical Knowledge, Cambridge, MA: Harvard University Press.
- –––, 2000, “Toward a Defense of Empirical Foundationalism”, in Resurrecting Old-Fashioned Foundationalism, Michael DePaul (ed.), Lantham, MD: Rowman & Littlefield.
- –––, 2003, “A Version of Internalist Foundationalism”, in Epistemic Justification: Internalism vs. Externalism, Foundationalism vs. Virtues, L. BonJour and E. Sosa (eds.), Malden, MA: Blackwell.
- Chisholm, Roderick, 1980, “A Version of Foundationalism”, Midwest Studies in Philosophy, 5(1): 543–564. doi:10.1111/j.1475-4975.1980.tb00423.x
- –––, 1989, Theory of Knowledge, 3rdedition, Englewood Cliffs: Prentice-Hall.
- Christensen, David, 1994, “Conservatism in Epistemology”, Noûs, 28(1): 69–89. doi:10.2307/2215920
- Cohen, Stewart, 1984, “Justification and Truth”, Philosophical Studies, 46(3): 279–295.
- –––, 2002, “Basic Knowledge and the Problem of Easy Knowledge”, Philosophy and Phenomenological Research, 65(2): 309–329.
- –––, 2005, “Why Basic Knowledge is Easy Knowledge”, Philosophy and Phenomenological Research, 70(2): 417–430. doi:10.1111/j.1933-1592.2005.tb00536.x
- Comesaña, Juan, 2002, “The Diagonal and the Demon”, Philosophical Studies, 110(3): 249–266. doi: 10.1023/A:1020656411534
- Cullison, Andrew, 2010, “What are Seemings?” Ratio, 23(3): 260–274. doi:10.1111/j.1467-9329.2010.00466.x
- Dretske, Fred I., 1970, “Epistemic Operators”, The Journal of Philosophy, 67(24): 1007–1023. doi:10.2307/2024710
- Engel, Mylan, 1992, “Personal and Doxastic Justification in Epistemology”, Philosophical Studies, 67(2): 133–150.
- Fales, Evan, 1996, A Defense of the Given, Lanham, MA: Rowmand and Littlefield.
- –––, 2014, “Turtle Epistemology”, Philosophical Studies, 169(2): 339–354. doi:10.1007/s11098-013-0185-8
- Fantl, Jeremy, 2003, “Modest Infinitism”, Canadian Journal of Philosophy, 33(4): 537–562. doi:10.1080/00455091.2003.10716554
- Foley, Richard, 1983, “Epistemic Conservatism”, Philosophical Studies, 43(2): 165–182.
- Fumerton, Richard, 1995, Metaepistemology and Skepticism, Lanham, MA: Rowman and Littlefield.
- –––, 2006, “Epistemic Internalism, Philosophical Assurance and the Skeptical Predicament”, in Knowledge and Reality, Thomas M. Crisp, Matthew Davidson, and David Vander Laan (eds.), Vol. 103, Springer Science & Business Media. doi:10.1007/1-4020-4733-9_8
- –––, 2009, “Markie, Speckles, and Classical Foundationalism”, Philosophy and Phenomenological Research, 79(1): 207–212. doi:10.1111/j.1933-1592.2009.00272.x
- –––, 2010, “Poston on Similarity and Acquaintance”, Philosophical Studies, 147(3): 379–386.
- –––, 2016, “The Prospects for Traditional Internalism”, in Brett Coppenger and Michael Bergmann (eds.), Intellectual Assurance: Essays on Traditional Epistemic Internalism, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780198719632.003.0013
- Goldman, Alvin, 1979, “What is Justified Belief?” in Justification and Knowledge, George Pappas (ed.), Dordrecht: Reidel, pp. 1–23.
- –––, 1986, Epistemology and Cognition, Cambridge, MA: Harvard University Press.
- –––, 1988, “Strong and Weak Justification”, in Philosophical Perspectives 2: Epistemology, James Tomberlin (ed.), Atascadero, Calif.: Ridgeview Publishing Co., pp. 51–69.
- –––, 2009, “Internalism, Externalism, and the Architecture of Justification”, The Journal of Philosophy, 106(6): 309–338.
- Hasan, Ali, 2011, “Classical Foundationalism and Bergmann’s Dilemma for Internalism”, Journal of Philosophical Research, 36: 391–410. doi:10.5840/jpr_2011_22
- –––, 2013, “Phenomenal Conservatism, Classical Foundationalism, and Internalist Justification”, Philosophical Studies, 162(2): 119–141. doi:10.1007/s11098-011-9751-0
- Henderson, David and Terence Horgan, 2006, “Transglobal Reliabilism”, Croatian Journal of Philosophy, 6(17): 171–195.
- Huemer, Michael, 2001, Skepticism and the Veil of Perception, Lanham, MD: Rowman & Littlefield.
- –––, 2002, “Fumerton’s Principle of Inferential Justification”, Journal of Philosophical Research, 27: 329–40. doi:10.5840/jpr_2002_4
- –––, 2007, “Compassionate Phenomenal Conservatism”, Philosophy and Phenomenological Research, 74(1): 30–55. doi:10.1111/j.1933-1592.2007.00002.x
- –––, 2013, “Phenomenal Conservatism Über Alles”, in Tucker 2013: 328–350. doi:10.1093/acprof:oso/9780199899494.003.0015
- Klein, Peter, 1998, “Foundationalism and the Infinite Regress of Reasons”, Philosophy and Phenomenological Research, 58: 919–26. doi:10.2307/2653735
- Kvanvig, Jonathan and Christopher Menzel, 1990, “The Basic Notion of Justification”, Philosophical Studies, 59(3): 235–261.
- Lehrer, Keith, 1974, Knowledge, Oxford: Clarendon Press.
- –––, 1990, The Theory of Knowledge, New York: Routledge.
- Lehrer, Keith and Stewart Cohen, 1983, “Justification, Truth, and Knowledge”, Synthese, 55(2): 191–207. doi:10.1007/BF00485068
- Lewis, C. I., 1929, Mind and the World-Order: Outline of a Theory of Knowledge, New York: Charles Scribner’s Sons. Reprinted by New York: Dover Publications, 1956. doi:10.1353/cjp.0.0054
- –––,1946, An Analysis of Knowledge and Valuation, La Salle, IL: Open Court.
- Littlejohn, Clayton, 2009, “The Externalist’s Demon”, Canadian Journal of Philosophy, 39(3): 399–434.
- Lyons, Jack, 2009, Perception and Basic Beliefs, Oxford: Oxford University Press.
- –––, 2011, “Circularity, Reliability, and the Cognitive Penetrability of Perception”, Philosophical Issues, 21(1): 289–311. doi:10.1111/j.1533-6077.2011.00205.x
- Majors, Brad and Sarah Sawyer, 2005, “The Epistemological Argument for Content Externalism”, Philosophical Perspectives, 19: 257–80. doi:10.1111/j.1520-8583.2005.00062.x
- Markie, Peter, 2005, “Easy Knowledge”, Philosophy and Phenomenological Research, 70(2): 406–416.
- –––, 2013, “Searching for True Dogmatism”, in Tucker 2013: 248–69. doi:10.1093/acprof:oso/9780199899494.003.0011
- McCain, Kevin, 2008, “The Virtues of Epistemic Conservatism”, Synthese, 164(2): 185–200. doi:10.1007/s11229-007-9222-5
- McGrath, Matthew, 2013, “Phenomenal Conservatism and Cognitive Penetration: The ‘Bad Basis’ Counterexamples”, in Tucker 2013: 225–47. doi:10.1093/acprof:oso/10.1093/acprof:oso/9780199899494.003.0010
- McGrew, Timothy, 1995, The Foundations of Knowledge, Lanham, MD: Littlefield Adams Books.
- –––, 1998, “A Defense of Classical Foundationalism”, in The Theory of Knowledge: Classical and Contemporary Readings, second edition, L.P. Pojman (ed.), Belmont, CA/London: Wadsworth, pp. 224–35.
- Mill, John Stuart, 1906, A System of Logic, London: Longmans, Green, and Co.
- Moser, Paul, 1989, Knowledge and Evidence, Cambridge: Cambridge University Press.
- Nozick, Robert, 1981, Philosophical Explanations, Cambridge, MA: Harvard University Press.
- Pollock, John and Joseph Cruz, 1999, Contemporary Theories of Knowledge, second edition, Lanham, MA: Rowman & Littlefield.
- Poston, Ted, 2010, “Similarity and Acquaintance: A Dilemma”, Philosophical Studies, 147(3): 369–378. doi:10.1007/s11098-008-9290-5
- Pryor, James, 2000, “The Skeptic and the Dogmatist”, Noûs, 34(4): 517–549. doi:10.1111/0029-4624.00277
- –––, 2001, “Highlights of Recent Epistemology”, The British Journal for the Philosophy of Science, 52(1): 95–124. doi:10.1093/bjps/52.1.95
- –––, 2004, “What’s Wrong with Moore’s Argument?” Philosophical Issues, 14(1): 349–378. doi:10.1111/j.1533-6077.2004.00034.x
- –––, 2013, “Problems for Credulism”, in Tucker 2013: 89–132. doi:10.1093/acprof:oso/9780199899494.003.0005
- Rogers, Jason and Jonathan Matheson, 2011, “Bergmann’s Dilemma: Exit Strategies for Internalists”, Philosophical Studies, 152(1): 55–80. doi:10.1007/s11098-009-9460-0
- Russell, Bertrand, 1910–11, “Knowledge by Acquaintance and Knowledge by Description”, The Proceedings of the Aristotelian Society, 11: 209–32.
- –––, 1984 [1913], Theory of Knowledge: The 1913 Manuscript, Elizabeth Eames (ed.), London: Allen and Unwin Ltd.
- –––, 1948, Human Knowledge: Its Scope and Limits, New York: Simon and Schuster.
- Sellars, Wilfrid, 1963, Science, Perception and Reality, London: Routledge & Kegan Paul.
- Siegel, Susanna, 2013, “The Epistemic Impact of the Etiology of Experience”, Philosophical Studies, 162(3): 697–722. doi:10.1007/s11098-012-0059-5
- Skene, Matthew, 2013, “Seemings and the Possibility of Epistemic Justification”, Philosophical Studies, 163(2): 539–559. doi:10.1007/s11098-011-9830-2
- Steup, Matthias, 2004, “Internalist Reliabilism”, Philosophical Issues, 14(1): 403–425. doi:10.1111/j.1533-6077.2004.00036.x
- Sosa, Ernest, 1997, “Reflective Knowledge in the Best Circles”,The Journal of Philosophy, 94(8): 410–430. doi:10.2307/2564607
- –––, 2003, “Privileged Access”, in Consciousness: New Philosophical Essays, Q. Smith and A. Jokic (eds.), Oxford: Oxford University Press, pp. 273–92.
- Tolhurst, William, 1998, “Seemings”, American Philosophical Quarterly, 35(3): 293–302.
- Tucker, Chris, 2010, “Why Open-Minded People Should Endorse Dogmatism”, Philosophical Perspectives, 24(1): 529–545. cite:10.1111/j.1520-8583.2010.00202.x
- ––– (ed.), 2013, Seemings and Justification: New Essays on Dogmatism and Phenomenal Conservatism, Oxford: Oxford University Press.
- –––, 2016, “Acquaintance and Fallible Non-Inferential Justification”, in Brett Coppenger and Michael Bergmann (eds.), Intellectual Assurance: Essays on Traditional Epistemic Internalism, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780198719632.003.0003
- Vogel, Jonathan, 2008a, “Internalist Responses to Skepticism”, in The Oxford Handbook of Skepticism, John Greco (ed.), Oxford University Press, pp. 553–56. doi:10.1093/oxfordhb/9780195183214.003.0025
- –––, 2008b, “Epistemic Bootstrapping”, The Journal of Philosophy, 105(9): 518–539.
- Williamson, Timothy, 2000, Knowledge and its Limits, Oxford: Oxford University Press.
مصادر أخرى على الإنترنت
- Foundationalism, entry in the Internet Encyclopedia of Philosophy, by Ted Poston.
مقالات ذات صلة
epistemology | justification, epistemic: coherentist theories of | justification, epistemic: internalist vs. externalist conceptions of | knowledge: analysis of | knowledge: by acquaintance vs. description | reliabilist epistemology
[1] Hasan, Ali and Richard Fumerton, “Foundationalist Theories of Epistemic Justification”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2018 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/fall2018/entries/justep-foundational/>.
[2] يطلق أيضاً التأسيسيون على المعرفة التأسيسية أو الاعتقاد المسوغ الأساسي مسميات أخرى مثل المعرفة (التسويغ) المباشرة، المعرفة (التسويغ) الحدسية. وعلى الحقائق المُدخَلة بتسميات مثل حقائق ذاتية البرهان، حقائق ذات برهان مباشر، وحقائق ذاتية العَرض، والمُعطى. رغم إبهام المسمى الأخير “المُعطى” الواقع بين حقائق يُقال أنها تُعرَف مباشرة ووقائع أو سمات العالم التي يقال أنها “قبل” الوعي.
[3] تميل كثير من الآراء المعاصرة على اختلافها إلى اعتبار أن التسويغ هو المفهوم المركزي؛ فيعتمد فهمنا للمعرفة على فهمنا للتسويغ، وسنستمر على افتراض أن هذا هو الحال. لكن تجدُر الإشارة إلى أن البعض قد جادل بأن مفهوم المعرفة هو الأكثر مركزية، وأن العديد من المفاهيم الإبستمولوجية الأخرى ستُفهَم بشكل أفضل إن تناولها المرء من حيث المعرفة. طرح تيموثي ويليامسون (2000) في كتابه الشهير أن المعرفة غير قابلة للتحليل وأن أدلتنا تتمثل ببساطة في كل ما نعرفه، وأنه قد يكون للتسويغ أسس لكن ذلك يعود لإنهائنا تراجع التسويغ بقضايا معروفة؛ الأساس الدليليّ الذي ترتكز عليه كل الاعتقادات المسوغة هو المعرفة. (2000: 186).
[4] مثل هذا التمسك بمبدأ PIJ يقدّمه غالباً الداخلانيون في التسويغ المعرفي ، وكما ذكرنا في نقاش الجدل الخارجاني-الداخلاني، يميل الخارجانيون إلى إنكار PIJ. تجدر الإشارة مع ذلك إلى أنه لايوجد تناقض منطقي في الجمع بين الخارجانية في التسويغ المعرفي ومبدأ PIJ. يمكن للخارجاني الذي يقبل PIJ أن يبقى على اختلافه مع الداخلاني حول كيفية فهم التسويغ، فيرفض على سبيل المثال النفاذ الداخلي؛ ما إذا كان تسويغ قضيةٍ ما بما فيها العلاقة الاحتمالية يتطلّب نفاذاً لعللٍ أخرى تدعم القضية.
[5] دعنا للأغراض الحاليّة نأخذ الاستلزام بنطاقه الواسع حيث يُمكن القول أن (أ) تستلزم (ك) إن كانت (أ) تستلزم صورياً أو تحليلياً أو تركيبياً (ك).
[6] لمزيد من التفصيل حول نظرية الاتصال المباشر في التسويغ غير الاستدلالي انظر فيومرتون (1995). وقد انتقل بونچور مؤخراً، بعد أن كان من أبرز منظريّ الاتساق في التسويغ التجريبي، إلى تبني صورة من صور نظرية الاتصال المباشر في التسويغ، انظر بونچور (2000).
[7] يقوم مُعظم ما نقول هنا على أساس الورقة المنشورة «ما الاعتقاد المسوغ». وقد تغيّرت وجهة نظر جولدمان بشكل كبير في كتابه «الإبستمولوجيا والإدراك»، لكنه عاد بعد فترة وجيزة من نشر الكتاب إلى رؤيته الأولى على الأقل فيما يخصّ مفهوماً واحداً في التسويغ (التسويغ القوي). انظر جولدمان (1988).
[8] لن ننشغل هنا بالصّعوبات التي واجهتها الموثوقية في تحديد ما تعنيه الرؤية الموثوقة؛ وستتجاوز هذه النزعة بالضرورة كما قد يفهم القارئ من السياق الميل الوقائعي لتصل إلى الوقائع المضادة في تحديد مفهوم عملية إنتاج الاعتقاد الموثوقة.
[9] انظر على سبيل المثال أطروحة آرمسترونج (1973) في المعرفة المباشرة، وأطروحة نوزيك في المعرفة «tracking» (1981) رغم أنها أكثر تعقيداً والتي تقبل أيضاً التمييز بين الاعتقادات التي تتعقّب الوقائع على نحو غير استدلالي وتلك التي تتعقّبها استدلالياً.