الملخّص: يتعرض هذا المقال لاتجاه فلسفي اشتهر به الفيلسوف والسياسي الهندي المعاصر مانابندرا ناث روي Manabendra Nath Roy (1887-1954)، وهو ما أطلق عليه روي “النزعة الإنسانية الراديكالية.” يحاول روي من خلال هذا الاتجاه تقديم فلسفة إنسانية تتحدث بلغة الإنسان أينما كان، بعيدا عن الانتماءات الدينية، أو القومية، أو الطبقية، أو الأيديولوجية. سيتكشف لنا في نهاية المقال نتيجة غاية في الأهمية، وهي أن جذور ما يعرف في الفلسفة السياسية المعاصرة بـ”الليبرالية الاجتماعية” عند رولز Rawls ودوركين Dworkin إنما تعود ــ كما نعتقد ــ إلى النزعة الإنسانية الراديكالية عند روي، حيث تقوم هذه النزعة في الأساس على محاولة التوفيق بين التنظيم الاجتماعي والتخطيط الاقتصادي من جهة، والحرية الفردية والديمقراطية من جهة أخرى.
النص:
مانابندرا ناث روي Manabendra Nath Roy هو مفكر سياسي من الهند الحديثة، يُعرف باعتباره صاحب نزعة إنسانية راديكالية Radical Humanist، وذلك بعد تخليه عن الماركسية. خلال تطور الفلسفة الاجتماعية المعروفة بالنزعة الإنسانية الراديكالية، اعتبر روي نفسه صاحب نزعة إنسانية وليس ماركسيا متعصبا. دمج روي بين الراديكالية والنزعة الإنسانية العلمية Scientific Humanism أو النزعة الإنسانية الجديدة New Humanism. تأسست آراء روي السياسية على العقل والأخلاق وليس على أية دوغما. أكد على أن أزمة الحضارة الحديثة تعود إلى غياب رؤية متكاملة للطبيعة الإنسانية. وفقا لروي، يجب الاعتراف باستقلال الإنسان في أية فلسفة اجتماعية ثورية. يجب النظر للإنسان ب اعتباره كيانا أخلاقيا moral entity وليس مجرد كيان بيولوجي. انتقد روي العديد من المفاهيم الماركسية، كالحتمية الاقتصادية، وديكتاتورية البروليتاريا، والمادية الجدلية، وفائض القيمة. وفقا لروي، ينبغي تخطيط البنية الاقتصادية للمجتمع على نحو يؤدي إلى الارتقاء بحرية الفرد ورفاهيته. يؤكد روي على أن مهمة كل مناضل من أجل عالم جديد يتسم بالإنسانية هي أن يجعل كل فرد على وعي بعقلانيته الفطرية. من هذا المنطلق، يؤكد روي على أن الرأسمالية والنظام البرلماني لن يستطيعا أن يحلا مشاكل الجنس البشري. النزعة الإنسانية الجديدة هي البديل الوحيد الذي يستطيع التوفيق بين التنظيم الاجتماعي والحرية الفردية. تعتبر النزعة الإنسانية الراديكالية هي أهم إسهامات روي الفلسفية، حيث قدم روي عن طريقها أساسا قويا للديمقراطية الهندية.
مر المفكر والمثقف مانابندرا ناث روي بثلاث مراحل. في المرحلة الأولى، كان روي ثوريا وطنيا شارك في تهريب الجنود والمال للحركة الثورية في البنغال. في المرحلة الثانية، أصبح ناشطا ماركسيا في الحركة الشيوعية. في المرحلة الثالثة والأخيرة، برز باعتباره صاحب نزعة إنسانية راديكالية، وذلك بعد تخليه عن الماركسية. كان لروي، كمثقف، حماس للأفكار الجديدة. قَبِلَ روي الماركسية عام 1919 عندما كان في المكسيك، ولكنه لم يظل ماركسيا. عام 1928، كشف روي عن خلافات خطيرة مع الشيوعية الدولية؛ التي كان عضوا فيها منذ عام 1918 ثم انقطعت علاقته بها بوصوله إلى الهند. منذ ذلك الوقت، كشف روي عن فلسفة اجتماعية جديدة تُعرف بالنزعة الإنسانية الراديكالية. خلال تطور هذه الفلسفة الاجتماعية المعروفة بالنزعة الإنسانية الراديكالية، تأثر روي بمفكرين مختلفين، مثل ماركس Marx، وهوبس Hobbes، وهيجل Hegel، ولينين Lenin الخ. حاول روي أن يوحِّد بين الأفكار العقلانية لدى هؤلاء المفكرين المختلفين في نسق فلسفي واحد رغم أن هذه الأفكار كانت متنوعة، بل تمثل مواقف فكرية متضاربة. بدأ روي عام 1940 رحلة الانتقال من الماركسية إلى الراديكالية Radicalism.
يُشتق مفهوم الإنسانية Humanism من الكلمة اللاتينية “Humanus” التي تعني نسق من الفكر يهتم في المقام الأول بالإنسان والشئون الإنسانية بصفة عامة. يوجد العديد من المدارس التي تنتمي للنزعة الإنسانية، وخاصة المدرستين الفرنسية والألمانية اللتين ساهمتا بشكل كبير في تطور هذه النزعة عبر التاريخ. رغم ذلك، فإن كل هذه المدارس تشترك في أنها تولي للإنسان الاهتمام الرئيسي. يؤكد أصحاب النزعة الإنسانية على أن الإنسان خيِّر بطبيعته وقادر على التقدم باستمرار نحو الكمال.
ينظر روي إلى نفسه في الفترة من 1940 إلى 1947 باعتباره راديكاليا وليس متعصبا. في وقت لاحق، تحول روي عن الراديكالية إلى ما أطلق عليه النزعة الإنسانية العلمية المتكاملةintegral scientific humanism أو النزعة الإنسانية الجديدة New Humanism. في أغسطس عام 1947 في البيان الرسمي للنزعة الإنسانية الجديدة، أوضح روي أن آراءه السياسية تتأسس على العقل والأخلاق بعيدا عن أية دوغما. يقول روي:”هل يجب* أن توجَّه الممارسة السياسية الثورية عن طريق القول المأثور الملتبس الذي يتمثل في أن الغاية تبرر الوسيلة؟ من منطلق أن الوازع النهائي للثورة هو في الأساس وازع أخلاقي ــ يتمثل في الدعوة للعدل الاجتماعي، فمنطقيا يجب أن تكون الإجابة عن هذا السؤال بالنفي. فمن المشكوك فيه بشكل كبير أنه يمكن تحقيق غاية أخلاقية عن طريق وسيلة لا أخلاقية. في اللحظات** الحرجة، عندما يتعلق الأمر بالقضايا الكبرى والأمور العظيمة تكون على المحك، فإن تسوية ما في السلوك قد تكون مقبولة. ولكن عندما يُستقر على الممارسات التي تبغض المبادئ الأخلاقية والقيم الإنسانية التقليدية باعتبارها سمات دائمة للنظام الثوري، فإن الوسيلة ستهزم الغاية. لذا، فإن الممارسة السياسية الشيوعية لم تأخذ العالم، ولا حتى الطبقة العاملة، إلى مكان يقترب من نظام جديد للحرية والعدل الاجتماعي. على خلاف ذلك، فإنها [أي الشيوعية] أسقطت جيش الثورة ــ البروليتاريين وغير البروليتاريين ــ في تشوش فكري، وفوضى روحية، وإحباط وجداني، وإرباك عام”(Roy 1947: 34-37). تذكرنا هذه الكلمات بغاندي الذي استنكره روي خلال الجزء الأكبر من حياته.
يذهب روي إلى أن التاريخ لا يمثل مجرد سلسلة من الأحداث. فالتاريخ ما هو إلا تسجيل لنضال الإنسان من أجل الحرية. في الماضي كان الإنسان يخضع إما لقوى الطبيعة أو للإيمان الأعمى بوجود قوة خارقة للطبيعة، كالإيمان بوجود إله، فقط من منطلق إحساسه بالعجز إزاء قوى الطبيعة التي يريد الخلاص منها، فكان تخيله لوجود إله بدافع من الرغبة في التبعية والخضوع المطلق. ونتيجة لصراع استمر لمئات من السنين، نجح الإنسان في النهاية في التحرر من وهم علاقته بالإله. كانت النهضة في أوروبا بمثابة ثورة قام بها الإنسان ضد سلطوية الدين. تحرر الإنسان من طغيان الدين والأحكام المسبقة حول الخوارق الطبيعية، لقد تقدم الجنس البشري بخطى ثابتة نحو ما نسميه الحضارة الحديثة. في مثل هذا الوضع شعر روي بالحاجة إلى فلسفة جديدة للدخول إلى عصر الإنسان الذي يتعين أن يكون الاهتمام فيه بالحياة الإنسانية في المقام الأول، فلسفة من شأنها أن تحرر الروح الإنسانية، فلسفة من شأنها أن توضح كل الظواهر الطبيعية وخبرات الحياة الإنسانية دون أي رجوع إلى قوى خارقة للطبيعة ــ فلسفة ذات هدف اجتماعي. بالنسبة لروي، فإن نهاية التقاليد الإنسانية في أعقاب التحديث modernization من خلال الميكنة mechanization كانت مأساة عجلت ببداية الانحدار الحضاري الذي ساد بعد ذلك. يقول روي، بناءً على تقديره الشخصي للموقف:”إن احتجاب التقاليد الإنسانية هو سبب***هذا التدهور والانحلال. فالحضارة الحديثة تقف على قمة سهل منحدر من الانحلال لحظة انفصالها عن تقاليد النزعة الإنسانية ــ الإنسان الخاضع للمؤسسات” (Roy 1952: 269).
إن النزعة الإنسانية الجديدة عند روي هي نزعة ذات نظرة عالمية. إنها لا تتحدث بلغة الأمة أو الطبقة، بل تتحدث فقط بلغة الإنسان. مثل هذا التصور يمكن أن يكون الأساس الذي تقوم عليه النزعة الإنسانية الجديدة، نعم الجديدة، لأنها محصنة، ومعززة وموضحة بالمعرفة العلمية والخبرة الاجتماعية اللذين تم تحصيلهما طوال قرون الحضارة الحديثة (Roy 1947: 34). تمثل النزعة الإنسانية الجديدة عند روي وعدا بجمهورية ديمقراطية تقوم على التعاون المشترك بين أناس أحرار. يؤمن روي بأن قيام ديمقراطية جمهورية ديمقراطية يتحرر فيها الفرد أخلاقيا وروحيا هو المطلب الأساسي من أجل تحقيق مجتمع أفضل وأصح. مثل هذا المجتمع الإنساني سيكون بمثابة جماعة روحية ليست محدودة بحدود الدولة الوطنية ــ رأسمالية كانت، أو فاشية، أو أي نوع آخر من الدولة.
تتسم مقاربة روي، باعتباره صاحب نزعة إنسانية راديكالية، بأنها فردية. وفقا لهذه المقاربة، يجب أن يُنظر للإنسان باعتباره كيانا أخلاقيا وليس باعتباره مجرد كيان بيولوجي. فالإنسان أخلاقي moral لأنه عقلاني rational. ويجب النظر إلى الكون باعتباره يمثل نظاما أخلاقيا محكوما بقوانين كامنة فيه. يجب ألا يخضع الفرد سواء للأمة أو الطبقة. رفض روي كل من النزعة القومية nationalism عند أعضاء الكونجرس Congressmen ونظرية الصراع الطبقي عند الشيوعيين. يقول روي:”الراديكالية لا تتحدث بلغة الأمة أو الطبقة؛ فالإنسان [أينما وُجِد] هو محور اهتمامها، إنها تفهم الحرية باعتبارها حرية الفرد” (Roy, 1947: 36). فعلى الفرد ألا يفقد حريته في الأنا الجماعية للأمة أو الطبقة. “في الواقع، إن الدولة القومية nation-state مثلها مثل الدولة الطبقية class-state عند الشيوعيين، وأيضا الاشتراكيين، لم تقدم أية ميزة لمفهوم الحرية الفردية. وليس هناك، حتى الآن، دولة ديمقراطية حديثة استطاعت التخلص من الجماعية القومية nationalist collectivism”(Roy, 1952).
تأثر روي بفلسفة ماركس في بداية حياته السياسية. قَبـِلَ الماركسية لأنه اعتقد أن ماركس ينتمي لأصحاب النزعة الإنسانية الذين يهتمون على نحو عميق بالإنسان. فما جذب روي إلى ماركس [ في البداية] هي النزعة الإنسانية. رغم ذلك، توقف روي عام 1940، باعتباره صاحب نزعة إنسانية راديكالية، عن الاعتقاد في نظرية الصراع الطبقي عند ماركس. المجتمع لا يمكن أن يبقى دون نوع ما من رابطة التماسك الاجتماعي، وبالتالي لا يمكن أن يكون الصراع الطبقي هو الحقيقة الوحيدة. من خلال نظرية التماسك الاجتماعي هذه، يؤكد روي على دور الطبقة الوسطى باعتبارها أكثر الطبقات تقدمية في المجتمع الحديث. في حين تحتل طبقة العمال في النظرية الماركسية مكانة خاصة، نجد أن الطبقة الوسطى تحتل منزلة خاصة في أعمال روي المتأخرة. يؤكد روي على الفرد وليس الطبقة، ولكن عندما يتحدث بلغة الطبقات، فإنه يتحدث باعتزاز عن الطبقة الوسطى وليس طبقة العمال التي يصفها بأنها أكثر الطبقات رجعية في المجتمع ((Roy, 1952.
اعترف روي بمساهمة ماركس في قيام فلسفة اجتماعية جديدة، ولكنه رفض التفسير الذي قدمه الشيوعيون المعاصرون للماركسية. بدأت الشيوعية كحركة تهدف إلى خلاص العالم من عذاب ومعاناة الاستغلال الرأسمالي، ولكنها تسببت مؤخرا في مخاوف خطيرة حتى بين القوى التقدمية في العالم الحديث. وفقا لروي، “فإن إلغاء الملكية الخاصة، وامتلاك الدولة لوسائل الإنتاج، والاقتصاد المنظم لا تؤدي في ذاتها إلى التخلص من استغلال اليد العاملة ولا إلى تحقيق التوزيع المتساوي للثروة” (Roy, 1952: 31). بالنسبة لروي، فإن أي نوع من الديكتاتورية يتناقض مع المثل الأعلى للحرية. لقد ثبت علميا ونظريا خطأ ادعاء الشيوعيين أن ديكتاتورية البروليتاريا مع الاقتصاد المنظم تؤدي إلى تحقيق أكبر قدر من المصلحة لأكبر عدد من الناس.
انتقد روي مفهوم الحتمية الاقتصادية. الحتمية الاقتصادية لا يمكن أن تكون هي الفلسفة الاجتماعية التي نحتاجها لتخليص الإنسان من الأزمة الحالية. يقول روي:”يجب علينا أن ننظر فيما وراء المثالية الخادعة للشيوعية إذا كنا نريد حقا أن نتجنب الكارثة التي تهددنا، يجب أن نؤمن بالعبقرية الإنسانية وإبداع العقل الإنساني، اللذين هما أبعد ما يكونان عن الاستنزاف” (Roy, 1961: 15). أكد روي على أن “النظام الاجتماعي الجديد يجب أن يوفق بين التنظيم [الاقتصادي] والحرية [الفردية]، وينبغي أن يسترشد بالمثل الأعلى للرفاهية الجماعية والتقدم collective “welfare progress.
استنكر روي نظريتي الصراع الطبقي وديكتاتورية البروليتاريا. إنه أراد التأكيد على الفرد أكثر من الطبقة، سواء أكانت هذه الطبقة هي طبقة العمال أم الطبقة الوسطى. ذهب روي إلى أن الصراع في العصر الحالي هو صراع بين الشمولية والديمقراطية، بين الأنا الجماعية الجشعة للأمة أو الطبقة، من ناحية، والكفاح الفردي من أجل الحرية، من ناحية أخرى (Roy, 1947: 33). ذهب روي إلى أن التأكيد الماركسي على الثورة وديكتاتورية البروليتاريا سوف يؤدي إلى الشمولية. فالثورات لا يمكنها تحقيق المعجزات. لا ينبذ روي كلمة ‘ثورة’ إجمالا. فروي، باعتباره صاحب نزعة إنسانية راديكالية، يؤمن بأنه ينبغي أن تحدث الثورة عن طريق التعليم، وليس عن طريق الصراع الطبقي أو العنف المسلح. ليس التعليم بالمعنى التقليدي الذي يتمثل في القراءة والكتابة، ولكن التعليم بالمعنى الثقافي، ذلك المعنى الذي يتمثل في تحقيق مستوى عالٍ من التنمية البشرية العامة. إن منهج التعليم الذي يؤكد عليه روي لتحقيق ثورة إنسانية راديكالية لا يختلف كثيرا عن المنهج البنيوي* constitutional method الذي دافع عنه المعتدلون والليبراليون الأوائل في الهند. الثورة التي يدافع عنها روي هنا لا تمت بصلة للتغيير المفاجئ. فثورة روي الإنسانية الراديكالية يجب أن تتحقق عن طريق عملية تعليم بطيئة، وليس عن طريق العنف أو التمرد المسلح.
انتقد روي الديمقراطية الغربية بشدة، وخاصة الديمقراطية النيابية. إن الديمقراطية التي تعني فقط عدد الرؤوس ليست سوى مجرد خداع عندما لا تمتلك هذه الرؤوس حرية العيش بكرامة. يريد المدافعون عن الديمقراطية الحديثة أن يكونوا في السلطة، ولذلك فهم يريدون أن يظل الناس متخلفين. في ظل النظام البرلماني، لا يوجد اعتداد كبير بالذكاء، والنزاهة، والحكمة، والسمو الأخلاقي. يحدث هذا رغم أن هذه فضائل إنسانية. إذا لم تؤثر هذه الفضائل في التنظيم السياسي، فإن النمط الديمقراطي [الحقيقي] للحياة لن يتحقق أبدا. إذا لم تتأسس الديمقراطية على الضمير الأخلاقي للأغلبية الموجودة في السلطة، فلن يمكنها بلوغ غايتها النهائية، تلك الغاية التي تتمثل في تحقيق أكبر قدر ممكن من المصلحة لعدد كبير من الناس greatest good for the great number. فبدون الاعتراف بأهمية الأفراد في الحياة الاجتماعية، من ناحية، والحرية، من ناحية أخرى، فلن تسمح الديمقراطية النيابية للأفراد بالمشاركة في التقدم المنتظم للحياة السياسية the regular functioning of political life. كذلك، فإن الاحتكارات الخاصة لوسائل الإنتاج لن تكون هي السبيل بأي حال من الأحوال لتحقيق مبدأ المساواة. نظرا لكل هذه النقائص في ظل الديمقراطية النيابية، فبالكاد ستكون الحكومة التي هي [كما يُفترَض] للشعب حكومة تمثل الشعب [بالفعل]، لأن الأغلبية الموجودة في السلطة لا تزال تحكم بموجب القانون وليس بموجب الضمير by law and not by conscience. فلكي نجعل الإنسان العادي يدرك أنه يمتلك مكانة فريدة من نوعها باعتباره ذا سيادة، يجب، كما يذهب روي، ترسيخ أساس الديمقراطيات المحلية المنظَّمة organized local democracies.
انتقد روي الماركسية بشدة بناءً على الأسس التالية
لم يتفق روي، باعتباره صاحب نزعة إنسانية راديكالية، مع التفسير الاقتصادي للتاريخ . لقد كان متأثرا بشكل كبير بالمادية والنظرية الماركسية التي تقوم على أن الوجود existence يحدد الوعي، ولكنه أكد أيضا على أن نظرية التفسير الاقتصادي للتاريخ ليست بالضرورة نتيجة طبيعية للفلسفة المادية (Roy, 1951: 198). إن الصراع البيولوجي من أجل الوجود لا يتساوى مع الحافز الاقتصادي لكسب العيش. لاحظ روي أن “نقطة انحراف علم التاريخ الماركسي تتمثل في الخلط بين الإلحاح الجسدي physical urge والدافع الاقتصادي، ذلك الخلط النابع عن سوء فهم” (Roy, 1952: 217 ). ذهب روي إلى أن الإلحاح البيولوجي المتعلق بالحفاظ على البقاء يسبق الدافع الاقتصادي المتعلق بكسب العيش، بالضبط كما تسبق فكرة وسائل الإنتاج تطور وسائل الإنتاج ذاتها. فالإنسان، قبل أن يكون كائنا اقتصاديا يبحث عن المزايا الاقتصادية، كان يُوجَّه بواسطة الاعتبارات البيولوجية biological consideration.
انتقد روي المادية الماركسية باعتبارها دوغمائية وغير علمية. لقد ذهب إلى وجود عنصر من التناقض في المادية الجدلية عند ماركس. قَبـِلَ روي الجدل كعملية من عمليات المنطق أو كمنهج في البحث. ولكن من غير الممكن الخلط بين المنطق والأنطولوجيا [أو علم الوجود]، ولا يمكن النظر إلى قوانين الفكر باعتبارها وصفا لسير الطبيعة أو محتوى الواقع. فما الجدل، الذي يتمثل في الانتقال ــ خلال نظام ثالوثي ــ من الأطروحة إلى نقيض الأطروحة ثم المركب من الأطروحة ونقيضها، سوى نظام مثالي. على خلاف ذلك، فإن المادية محايدة من الناحية العملية. لذا، ذهب روي إلى أنه من غير المنطقي أن نضع الجدل والمادية في معادلة واحدة، حيث يتسم الجدل بأنه ذاتي بطبيعته، بينما تتسم المادية بأنها موضوعية بطبيعتها. انتقد روي الجدل الماركسي على أساس أنه قد تم الخلط بين محتوى أحد فروع البحث الميتافيزيقي ووسيلة القيام بالبحث (Roy, 1951: 199).
كان روي مؤمنا بالعقل وعدوا للتقليد واللاهوت. لقد انتقد الماركسية باعتبارها لاهوتية as theological. فطالما أن التاريخ يُصنع بواسطة قوى الإنتاج، فالنتيجة الطبيعية هي أن ما يمكن أن يقوم به الإنسان في صناعة هذا التاريخ ضئيل جدا. فالماركسية تجعل الإنسان عبدا لقوى الإنتاج. لقد انتقد روي ماركس على أساس أنه (أي ماركس) أنكر استقلال وسيادة الفرد. بالنسبة لماركس، فإن الطبيعة الإنسانية مطواعة [أو مرنة]، إنها تفتقر لأي شيء ثابت ودائم، كما أنها تتحدد بالقوى الاقتصادية. على خلاف ذلك، يذهب روي إلى أن إلى أن هناك شيئا ما ثابتا ودائما في الطبيعة الإنسانية، ذلك الشيء الذي يمثل أساس حقوق وواجبات الإنسان. فالإنسان، الذي هو أبعد ما يكون عن كونه لعبة في أيدي قوى الإنتاج، يمتلك إمكانات إبداعية. يذهب روي إلى أن ماركس، فيما يتعلق بقداسة النظام الأخلاقي القائم، قد تنكر لنزعته الإنسانية السابقة.
رفض روي أيضا مبدأ فائض القيمةprinciple of surplus عند ماركس. لم ينظر روي إلى مبدأ فائض القيمة باعتباره سمة مُمَيِّزة للرأسمالية. ليس بإمكان أي مجتمع أن يتقدم أو يكوِّن رأس مال إلا إذا كان هناك فائض في الإنتاج يزيد على الاستهلاك، وإذا لم يُوظَّف هذا الفائض كرأس مال من أجل زيادة الإنتاج أكثر وأكثر. لن يكون هناك تراكم لرأس المال دون وجود فائض القيمة، ولن يكون هناك تقدم اقتصادي دون تراكم رأس المال. يؤكد روي على أن المجتمع الرأسمالي، الذي يساعد في تراكم رأس المال، متقدم اقتصاديا أكثر من المجتمع الإقطاعي، الذي يكون الإنتاج فيه من أجل الاستهلاك وليس من أجل السوق، ذلك المجتمع الذي لا يخلق فائض قيمة، وبالتالي لا يخلق رأس مال (Roy, 1947: 23-26). فبينما يرى ماركس أن فائض القيمة يمثل سببا للظلم الاجتماعي والركود الاقتصادي، فإن روي يعتبر فائض القيمة عونا على تحقيق المزيد من التقدم الاجتماعي والتطور ثقافي.
وفقا لروي، فإن البنية الاقتصادية للمجتمع الجديد سوف تُخَطَّط بحيث تعزز حرية ورفاهية الفرد. فروي ضد امتلاك الدولة لوسائل الإنتاج. فالديمقراطية الراديكالية عند روي تفترض إعادة تنظيم اقتصادي للمجتمع بغرض التخلص من إمكانية استغلال الإنسان للإنسان. تهدف هذه الديمقراطية الراديكالية إلى “التحرر الاقتصادي للجماهير، وخلق الشروط الأساسية لتقدمهم نحو أهداف الحرية.” اقترح روي الملكية التعاونية كبديل لملكية الدولة لوسائل الإنتاج. إن أساس البنية الاقتصادية [عند روي] سيقوم على مبدأ التعاونية* the principle of co-operative الذي يتجنب تطرف الرأسمالية والاشتراكية. بالنسبة لروي، فإن الاقتصاد التعاوني سوف يتميز عن الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الاشتراكي. يؤمن روي بالتخطيط الاقتصادي القائم على التعاون الطوعي، واقترح تنظيم تعاونيات بمستويات [مختلفة] من الحياة الاجتماعية the organization of Co-operatives at levels of social life.
تتألف الراديكالية من كل العناصر الايجابية للماركسية متحررة من نقائصها، وموضَّحة في ضوء قدر كبير من المعرفة العلمية. كان ذلك رد فعل ضد الأزمة الاجتماعية-الثقافية المعاصرة. إن البيان الرسمي للنزعة الإنسانية الراديكالية ينص على أن المثل الأعلى للديمقراطية الراديكالية سوف يتحقق من خلال الجهود الجماعية لرجال ونساء يتمتعون بأرواح متحررة متحدين في حزب سياسي، مع التصميم على خلق نظام جديد للحرية. اتساقا مع هدف الحرية، سوف يكون أعضاء الحزب بمثابة مرشدين، وأصدقاء، وفلاسفة من الناس بدلا من أن يكونوا أوصياء عليهم؛ وبذلك ستكون الممارسة السياسية للحزب عقلانية وأخلاقية.
الراديكالية ليست متفائلة ولا متشائمة. إنها بالأحرى توليفة من النشاط [أو الفاعلية] activism والعقلانية rationalism. بالنظر إلى تحليل الوضع الإنساني الواقعي، فإن الراديكالية تحاول أن تكتشف الإمكانيات المختلفة. إنها لا تقدم أملا زائفا؛ وبعيدا عن التشاؤم، فإنها تسعى إلى تكييف منهجية العمل methodology of action مع إمكانية الموارد المتاحة available resources. الراديكالية تقترح نضال مشترك ضد العناصر [أو العوامل] الدولية المعادية للمجتمع. في ظل الراديكالية سوف يكون التخطيط ثلاثيا ــ اجتماعي، وديمقراطي، واقتصادي. فالتخطيط في المجال الاقتصادي، وفقا للراديكالية، يجب ألا ينصب فقط على الإنتاجية وتحسين مستوى المعيشة، حيث لابد أيضا من فرصة أكبر للأفراد للقيام بمبادرات فردية [تمكنهم من التقدم على الآخرين]. وفقا لروي، فإن الفلسفة الاجتماعية الجديدة يجب أن تبدأ بإحياء الإيمان بالإنسان فيما يتعلق بإمكاناته. إن أية محاولة لتعزيز الرفاهية الاقتصادية، والحرية السياسية، وإعادة البناء الاجتماعي يجب أن تبدأ بالإنسان. يذهب روي إلى أن النزعة الإنسانية ليست هي البديل الوحيد للشيوعية فقط، ولكن أيضا لكل أشكال المؤسساتية institutionalism. “يمكن أن تتأسس الديمقراطية عن طريق إعادة التأكيد على التقاليد الإنسانية. فالإنسان مقياس لعامه. فمن حيث كونه عقلانيا بطبيعته، فإنه يستطيع أن يتعلم من الخبرة. إنه يُطوِّر قدراته الفكرية وقيمه الأخلاقية من خلال جهوده الرامية إلى ضمان حياة أفضل لنفسه” (Roy, 1948). بالنسبة لروي، “فإن الفكرة الأساسية التي يجب أن تقوم عليها الفلسفة الاجتماعية الثورية الجديدة هي أولوية الفرد على المجتمع، وأولوية الحرية الفردية على التنظيم الاجتماعي” (Roy, 1952: 284).
حدثت فجوات وتغيرات كبيرة في مجرى حياة روي، مر روي خلال تطوره السياسي من القومية إلى الشيوعية إلى النزعة الإنسانية الجديدة. في نهاية مسيرة حياته، اتجه روي للإيمان أكثر وأكثر بالفردية individualism والليبرالية liberalism. على خلاف القديسين الهنديين في القرون الوسطى، والزعماء السياسيين والاجتماعيين المعاصرين، أنشأ روي فلسفة إنسانية ذات لحم، ودم، ودماغ. تمثل الديمقراطية أساسا لهذه الفلسفة، وتمثل العقلانية مركزها، أما الاستقلال الفردي فإنه يمثل قمتها. بذلك، يكون روي قد قدم فلسفة للحياة. تمثل فلسفة روي ثورة فكرية ضد اختفاء الحرية الفردية. خلال تاريخ الفكر الهندي الحديث، كتب العديد من المفكرين البارزين عن الفقر في الهند، واستغلال الأقوياء للضعفاء. ولكن روي هو أول مفكر يحلل القوى الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية التي تلعب دورا في المجتمع الهندي من وقت لآخر. يؤكد روي على أن مهمة المناضل من أجل عالم إنساني جديد تتمثل في السعي إلى جعل كل فرد على وعي بعقلانيته الفطرية، وأن يعثر على وحدته مع الآخرين في جمهورية ديمقراطية عالمية من رجال ونساء يتمتعون بالحرية. أعلن روي عن إيمانه بأن “الإنسان لم يظهر على الأرض من العدم. فالإنسان قد ارتقى بناءً على عوامل [أو ظروف] تتعلق بالعالم المادي، وذلك من خلال عملية طويلة من التطور البيولوجي. لا يمكن أن ينقطع الحبل السُّرِّي أبدا: فالإنسان، بما يمتلكه من عقل وذكاء، سيظل جزءا لا يتجزأ من العالم المادي. فالعالم المادي هو نظام كوني محكوم بقانون. لذا، فإن وجود الإنسان وصيرورته، وعواطفه، وإرادته، وأفكاره هي أيضا مقيدة*، فالإنسان عقلاني في الأساس. فالعقل في الإنسان ما هو إلا صدى لتناغم الكون. فالأخلاق يجب أن تُحال إلى العقلانية الفطرية للإنسان. فالعقلانية الفطرية للإنسان هي الضامن الوحيد للنظام المتناغم، ذلك النظام الذي سيكون أيضا نظاما أخلاقيا، لأن الأخلاق تمثل نشاطا عقلانيا. لذا، ينبغي أن يكون الغرض من كل المساعي الاجتماعية هو زيادة وعي الإنسان بعقلانيته الفطرية (Roy, 1947: 34-47).
فلسفة الثورة، التي تطورت على أساس مخزون كبير من التراث الإنساني من أجل العمل وإعادة البناء الاقتصادي، تتمثل فيما يُعرف بالنزعة الإنسانية الجديدة. فهذه الفلسفة تؤكد على أنه ليس بإمكان الرأسمالية ولا النظام البرلماني حل المشاكل. فالاشتراكية والشيوعية يرفضان فكرة الحرية. النزعة الإنسانية الجديدة هي البديل الوحيد الذي يوفق بين التنظيم الاجتماعي والحرية الفردية. وفقا لروي، “الفكرة الأساسية التي يجب أن تقوم عليها الفلسفة الاجتماعية الثورية الجديدة هي أولوية الفرد على المجتمع، وأولوية الحرية الفردية على التنظيم الاجتماعي” (Roy, 1952: 284). يعتبر روي واحدا من أكثر المطلعين على كتابات الكتاب الهنديين المحدثين في السياسة والفلسفة. تعتبر فلسفته المعروفة بالنزعة الإنسانية الراديكالية أهم إسهاماته، حيث زودت هذه الفلسفة الديمقراطية الهندية بأساس قوي.
المراجع والمصادر:
- Appadoria, A. : Indian Political Thinking, Oxford University Press, New Delhi, 1971.
- Ghosh, S. : Political Ideas and Movement India, Allied, New Delhi, 1975.
- Mahadevan, T. P. M. : Contemporary Indian Philosophy, Sterling, New Delhi, 1981.
- Mishra, Umesh : History of Indian Philosophy, Vol. 1, Tirabhuki Pub., Allahabad, 1957.
- Narvane, V. S. : Modern Indian Thought, Asia Publishing House, Bombay, 1954.
- Radhakrishnan, S. (Ed.) : Contemporary Indian Philosophy, Allen & Unwin, London, 1958.
- Raju, P. T. (Ed.) : Idealist Thought in India, Allen and Unwin, London, 1953.
- Ray, B. G. : Contemporary Indian Philosophers, Kitabistan, Allahabad, 1947.
- Roy, M. N. : Constitution of free India- A Draft, Radical Democratic Party, Delhi, 1946.
- _______ Indian in Transition, Edition be La Librarie, J. B. Target, Geneva, 1922.
- _______ M. N. Roy’s Memoirs, Allied Publishers, Bombay, 1964.
- _______ Materialism, Renaissance Publishers Ltd, Calcutta, 1953.
- _______ New Humanism (a manifesto), Renaissance Publishers, Calcutta, 1947.
- _______ Reason, Romanticism and Revolution, Renaissance Publishers, Calcutta, 1952 and 1955, Volis. 2.
- _______ Radical Humanism, Calcutta, 1952.
- _______ Science and Philosophy, Renaissance Publishers Ltd, Calcutta, 1947.
- Roy, S. N. : Radicalism, Renaissance Publishers Ltd, Calcutta, 1946.
- Stephan, D. J. : studies in Early Indian Thought, University Press, Cambridge, 1941.
*يبدأ هذا السؤال في النص الأصلي بـ Most، ولكن هذا خطأ مطبعي، حيث أن الصواب هو Must كما ورد في نص روي الأصلي الذي نقل منه كاتب المقال.
** مكتوبة في النص الأصلي movements، ولكن هذا خطأ مطبعي، حيث أن الصواب moments كما ورد في نص روي الذي نقل منه كاتب المقال.
*** مكتوبة في النص الأصلي course ، وهو خطأ مطبعي، حيث أن الصواب في نص روي الذي نقل منه كاتب المقال curse، وهي وفقا للسياق هنا تعني بالعربية “سبب”، وتحديدا سبب لشيء سيئ.
* بنيوي، هنا، أي متعلق ببنية المرء العقلية.
* التعاونية هي جماعة يتحد أفرادها بشكل طوعي بهدف دعم المصالح الاقتصادية لجميع أعضاء هذه الجماعة من خلال الملكية الجماعية لمشروع تتوافر فيه ديمقراطية الإدارة والرقابة بعيدا عن أي دعم أو تدخل من الدولة.
* يقصد هنا قيد العقل الفطري عند كل إنسان.