قراءة لثلاث نصوص من الشعر العربي
تمهيد
الشاعر: تعريف الذات والآخر
هذه ورقةٌ تنطلق من اهتمام أساسي يرافقني منذ سنوات أساسه النظر إلى الكيفية التي يصوغ بها الشاعر صورةَ الذات ثم البحثُ في شبكة العلاقات التي ينسُجها مع السلطة بأشكالها المختلفة. تثير هذا الاهتمامَ أسئلةٌ من قبيل: كيف تنجح القصيدة، وهي التجربة الذاتية، في استيعاب الآخر أو كيف تتخذ قرار استبعاده؟ كيف تـتحول القصيدة إلى أداء لفظي لطقوس التفاوض بين الشاعر، أو الفنان والمبدع عمومًا، من جهةٍ، والسلطةِ من جهةٍ أخرى، سواءً في شكلها البشري ممثلاً في الحاكم كسلطة سياسية، الناقد كسلطة ثقافية، أو النبي كسلطة جامعة في التراث العربي الإسلامي تحديداً، أو في الشكل التجريدي للسلطةِ ممثلاً في اللغة نفسها، التراث، أو السردية الرسمية للتاريخ الوطني، تمثيلاً لا حصراً؟ ما الأدوات التي يستخدمها الشاعر للتعبير فنياً عن أشكال هذه العلاقة وكيف تتحول هذه الأدوات عبر التاريخ؟ وأخيراً: كيف يقدم الشاعر تعريفاً لنفسه بوصفه، وقبل كل شيء، صانع أشكال فنية تنبع منها سلطته وتمنحه “الرأسمال الرمزيَّ”، كما يعبر پـيـيـر بورديو[1]، والذي يمنحه القدرة على المنافسة في شراء مساحات أوسع في الحقل الأدبي وعلى ابتكار حلول تفاوضية مع سلطات الحقول الاجتماعية الأخرى. فكما أنَّ السلطة السياسية، مثلاً، ترتكز أساساً على فكرة الامتلاك: امتلاك الأرضِ والقرارِ النهائي وحقِّ ممارسة العنف المنظم، ينظر الشاعر إلى نفسه بوصفه ملكًا ذا أداة مختلفة في ممارسة السلطة، ملكاً أداته لغة بديعة ولسانٌ يبتكر. يقول المتنبي (ت. ٩٦٥):
وفؤادي من الملوكِ، وإن كا
نَ لساني يُـرى من الشعراءِ
ولأن النبي، في التراث الإسلامي، كان يعتمد في تأسيس سلطته، بشكل رئيسٍ، على أداة بدا وكأنها تزاحم الشاعر في حقله الخاص، وأعني بذلك النص القرآني، فإن دراسة العلاقة بين الشاعر والنبي يجدر بها أن توفر إضاءاتٍ دالةً على الكيفية التي قدم بها الشعراء تعريفاتهم للذات في حالة التفاوض مع سلطة أخرى تمتلك أداة من النوع ذاته الذي يمتلكونه. لم يعد اللسان المبدع الذي أشار إليه المتنبي حكراً على سلطة الشاعر، فقد جاءت سلطة أخرى تتأسس على اللسان ذاته ولكن تتحداه وتتخذ من ذلك أساساً لسلطتها. كيف تعامل الشاعر مع هذه المنافسة في مجاله الفني الأثير؟ كيف رسم شكل العلاقة بينه وبين هذه السلطة؟ وما الاختلافات التي طرأت على شكل هذه العلاقة، بين حالتها القديمة حين كان النبي يمارس سلطته السياسية والثقافية على أرض الواقع، والحالة الحديثة حين أصبح النص القرآني المكتوب هو السلطة ذاتها؟ وأخيراً: ماذا يقول لنا ذلك عن التعريفات التي يضعها الشعراء للشعر وعلاقته بالنثر؟
تقدم هذه الورقة ملاحظاتٍ أوليةً، تمثل جزءاً من مشروع أكبر، حول تصورات شكل العلاقة بين النبي والشاعر كما تجسدت في نصوص دالةٍ مختارة لكعب بن زهير (ت. ٦٦٢)، تميم بن مقبل (ت. بعد ٦٧٩)، ومحمود درويش (ت. ٢٠٠٨). تطرح الورقة أسئلة عن ثنائية الشعر/النثر ودورها في إنتاج تصورات مختلفة لتلك العلاقة. تقارن الورقة بين نوعين من النصوص، أو بين حدثين شعريين[2]، أحدهما تطلق عليه (قصيدة الاندماج)، كما في لامية كعب بن زهير (بانت سعاد)، حيث ينجح النص الشعري في استيعاب النص القرآني بوصفه نثراً إلهياً ينقله النبي، وبالمثل يُـمنح الشعر، رغم كونه حارس التقاليد الجاهلية، الفرصة لأن يؤدَّى في الفضاء النبوي ذي الثقافة النصية النثرية/الكتابية الجديدة. وعلى العكس من هذا الحدث، تعرض الورقة لما تسميه بـ(قصيدة الصراع)؛ حيث يبدو النبي والشاعر على طرفي نقيض وجودي يستحيل معه التقاؤهما في فضاء ثقافي/نصي واحد. يغيب النبي تماما عن الفضاء النصي/الثقافي عند الشاعر في رائية تميم بن مقبل (تأمَّـل خليلي)، التي تقرأها الورقة بوصفها الأساس الثقافي لنص درويش (قافية من أجل المعلقات) والذي يقدم تفسيراً لهذه الاستحالة ينبني أساساً على فكرة الصراع بين الأشكال الأدبية. أخيراً، تطرح الورقة بناءً على قراءتها للنصوص الشعرية السابقة أسئلةً عن إمكانية النظر إلى تاريخ تطور قصيدة النثر في المجال التداولي العربي بوصفه محاولة لخلق (قصيدة اندماج) بين الشعر والنثر في خطاب ثقافي قائم على الصراع والاستبعاد.
خلفية قصيرة حول التراث والتأثر
بدايةً، تجمع الورقة نصوصاً يفصل بين لحظات إنتاجها أكثرُ من أربعة عشر قرنًا، ولكنها تنتظم في استمرارية كبرى هي استمرارية التراث الشعري. في هذه الاستمرارية يأخذ العمل الشعري الجديد مكانه في نظام أدبي تم تأسيسه مسبقاً، ليقوم بتحويره وإضافة معانٍ جديدةٍ له، وفي الوقت ذاته يكتسب النص الجديد أيضاً معنى أوسع مما يمكن أن يفضي به حالَ النظر إليه معزولاً في لحظة إنتاجه. يوفر النص الجديد “قراءة ضالةً”[3] بشكل إبداعي للتراث الشعري، ومن هنا تصبح قراءة نص ما متعددة الاتجاهات ويتحول التراث في علاقته بالموهبة الفردية، كما يشير تي إس إليوت[4]، إلى ديناميكية خلاقة توفر وسيطاً حوارياً بين السابق واللاحق يتأثر به كلاهما. وفي التراث الشعري العربي تحديداً، تسهم الألفة مع النص الشعري الكلاسيكي في تقديم قراءات أعمق لنصوص الحداثة الشعرية، تلك الحداثة التي قامت، من الوجهة الفلسفية، على سؤال الموقف من التراث وتشعبت مدارسها بناءً على الإجابات المتنوعة على ذلك السؤال، ومن الناحية الفنية الصرف تتداخل هذه الحداثة مع لغة النص القديم وتقدم رؤى جديدة حول القضايا التي يعالجها.
ومن أجل توضيح وتدعيم هذه الأفكار، سوف تذهب الورقة إلى النصوص لتحاول استنطاقها، بالتركيز على عناصر محددة فقط، من أجل تقديم قراءة تجريبية للكيفية الفنية التي قدم من خلالها الشاعر رؤيته للعلاقة مع النبي ونصه النثري، وكيف تأثر اللاحق بالسابق في تحوير صور هذه العلاقة. إن تجريبية هذه القراءة تنبع من انطلاقها من حالة يمكن تسميتها بـ”قلق التأُثر القرائي”، حالة تبدو معها قراءة النص السابق متأثرة بالألفة مع النص اللاحق والعكس، ولكن بناءً على معطيات نصية في المقام الأول. من هنا، تتحاور “قصيدة الاندماج” عند كعب مع “قصيدة الصراع” عند تميم ودرويش بما يشكل حدثين شعريين منفصلين تاريخياً ولكنهما متجاوران من وجهة نظر قرائية.
“قصيدة الاندماج”
كعب بن زهير
تمثل قصيدة كعب بن زهير “بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ” اللحظة الأولى للتفاوض بين الشاعر والنبي. يجهِّـز الشاعر عدته الفنية للانخراط في تعزيز القوة الوليدة ممثلةً في سلطة النبي، ولكن في الوقت نفسه لتأكيد أهمية وإمكانية استيعاب وإدماج تقاليد القصيدة الجاهلية في الفضاء الثقافي الإسلامي الجديد، ولتعزيز إمكانية التقاء الشاعر بالنبي في حالة ثقافية واحدة. لقد كانت القصيدة الكلاسيكية في نماذجها الكبرى “أداءً لفظياً” لطقوس اجتماعية وسياسية مركزية، وقصيدة كعب ليست استثناء من هذا؛ حيث يؤدي الشاعر طقوس الولاء/والاستسلام للسلطة الجديدة ممثلةً في النبي، في الوقت الذي يضمن فيه فعلُ الأداء هذا في حد ذاتِهِ موقعاً مميزاً للشاعر في ثقافة من نوع نصيٍّ جديد.
لقد قرأ التراث العربي لاميةَ كعب بن زهير بوصفها اعتذاراً من كعب للنبي محمد بعد الأخبار التي وصلت للشاعر عن غضب النبي منه بسبب هجائه له ولدينه ولأصحابه. بهذه الأخبار التي تصف حالة ما قبل القصيدة، يقدم لنا التراث سياجاً تأويلياً محدداً للنص يتم تدعيمه بمجموعة من الأخبار التي تصور حالة ما بعد القصيدة، تلك التي تصف كعبًا وقد عفا عنه النبي وخلع عليه بردته، ليقوم التراث بدوره بخلع لقب “قصيدة البردة” على هذه اللامية الشهيرة. هكذا تتضافر الحالتان القـبْلية والبعْدية في خلق إطار نثري درامي للغاية إلى درجة لم يعد من الممكن تقدير النص الشعري حق قدره بمعزلٍ عنه. هذا الإطار النثري لا يقترب من قضايا الصدق والكذب ولا يُـسائِـل “نوايا” الشاعر أو “غاياته”، بل يضرب صفحاً عن هذه المسائل غير الفنية ليقدم لنا القصيدة بوصفها أداءً لغوياً/فنياً لطقوس الاستسلام التي قُـــيِّـمَـت تقييماً عالياً من الممدوح كانت نتيجته إهداءه بردته للشاعر.
تمثل البردة أحد الرموز الشكلية التي تكون مفهوم السلطة في العقل الجمعي، كما أن الملابس عموماً تعتبر دليلاً على تحولات في الطقوس الاجتماعية (مثل العيد والزواج والصلاة، وغيرها). إن لباس النبي وهو يشمل الشاعر الطريد يعتبر احتضاناً سياسياً/اجتماعياً له ووثيقة أمان تمنحه الطمأنينة في الدولة الوليدة والفضاء الثقافي الجديد، كما تضفي على القصيدة بعداً روحانياً متجاوزاً للزمان والمكان فتمنحها قبولاً عابراً للأجيال الشعرية ليصبح الاقتراب منها بالاقتباس أو المعارضة أشبه بالاقتراب من لحظة شعرية لم تتكرر اتحد فيها ناقل لغة السماء (النبي) مع منتج لغة الأرض (الشاعر).
إن شهرة هذه القصيدة تقول، فيما تقوله، إنها ارتبطت بالوجدان الثقافي على نحوٍ جعل الشعراء بعد كعبٍ يعتبرونها أشبه بالمحج الشعري الذي يرحلون إليه بمعارضاتهم لطلب الخلاص الأخروي، كما طلبه كعب، إلى جانب الخلاص الدنيوي. إن طلب الخلاص هذا يمكن فهمه في إطار نظريات مارسيل ماوس[5] عن طقوس تبادل الهدايا حيث يشير إلى الأبعاد الاجتماعية لهذه التبادلات التي تتحول إلى رموز لحركة اجتماعية متكاملة. لقد استخدم الشاعر ا لعربي المديح والاعتذار في قصائده للمفاوضات السياسية الدقيقة ولإعادة تشكيل التراتبية الاجتماعية، وعند كعب، تبدو القصيدة مؤشراً لتغير الحالة من الطريد إلى النديم/ من الآثم إلى المعذور، فتتحول إلى فعل كلامي[6] مليء بالشفرات السحرية/الدينية التي تربطه، وإن من طرْفٍ خفيٍّ، بالمصدر اللغوي لسلطة النبي لتصبح قصيدة في الاندماج المركّب من عناصر متعددة ابتداءً بفعل الأداء[7] والإنشاد ذاته وانتهاء بدلالة موضوع الاعتذار ودلالة أسلوب القصيدة.
إن إنشاد كعب للقصيدة أمام النبي يعد تقييماً ذاتياً للشاعر بوصفه عنصراً يؤدي دوراً مركزياً في مؤسسة الثقافة “النبوية” الجديدة بالاعتماد على أداته الفنية/اللغوية. ولكن الفرق بين كعب وغيره من الشعراء الذين كانوا يؤدون قصائدهم أمام رموز السلطة السياسية هو أن النبي يمتلك مسبقاً هذه الأداة اللغوية وقد تم الاعتراف بتفوقها وإعجازها بالنظر إلى مصدرها الإلهي؛ فكيف حاول كعب فنياً أن يجد موقعاً ملائماً لأداته اللغوية البشرية وغير المعجزة في هذا الفضاء النصي الجديد؟ توفر عناصر اللغة والتركيب في قصيدة كعب ثلاث استراتيجيات مهمة يمكن القول بأنها كانت أساسية في طريقة تفاوض الشاعر مع النبي بما يؤكد ضرورة وإمكانية الاندماج بينهما: المعجم الشعري، وصف القرآن، وما يمكن تسميته بنثرية التخلص إلى الغرض الطقوسي للقصيدة. أشير إليها هنا بإيجاز شديد.
لقد تنبه باحثون، مثل سوزان سـتـيـتـكـيـڤـيـتـش، إلى تشبُّع قصيدة كعب بكلمات أصبحت علامة على النص القرآني مع محافظتها في الوقت نفسه على البناء الثلاثي للقصيدة الجاهلية[8]. يستخدم كعب كلمات مثل “تضليل” و”أباطيل” ليصف وعود سعاد التي ترمز في التفسير الطقوسي للتقاليد الجاهلية بشكل عام:
فَلاَ يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ
إِنَّ الأَمَانِيَّ وَالأَحْلاَمَ تَضْلِيلُ
كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلاً
وَمَا مَواعِيدُهَا إِلاَّ الأَبَاطِيلُ
إن احتواء النص الشعري هذه المفرداتِ وغيرَها، والتي تقترن في النص القرآني بفكرة الكفر وفي النص الشعري بفكرة الغدر، وهما فكرتان تنبعان من مجالات دلالية متقاربة، يمكن فهمه في سياق تأكيد الشاعر على قدرة مؤسسة القصيدة الجاهلية على احتواء الثقافة القرآنية. كما أن استخدام مصطلحات متعلقة عند جمهور المستمعين (النبيِّ وأصحابِه) بفكرة تجريدية/دينية كالكفر في وصف حالة من حالات العلاقات البشرية، كالغدر، يمكن النظر إليه بوصفه إشارةً من الشاعر إلى دور مهم للشعر يتمثل في إنزال المفاهيم التجريدية إلى الواقع البشري المعاش.
إضافة إلى ذلك، توفر قصيدة كعب تعريفاً للأداةِ الأساسية لسلطة النبي، أي القرآن، بشكل يتفق مع هدف تعزيز الدور المهم للشاعر في الثقافة الجديدة:
مَهْلاً هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الـْ
قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِــــــــيلُ
يؤدي هذا البيت، وهو الخطاب الأول المباشر من الشاعر للنبي، دورًا مهماً في تعزيز فكرة الإدماج بين النصين الشعري والقرآني ولكن عبر تقديم تعريفات مغايرة لكل منهما، تصريحاً للقرآن ولكن بشكل ضمني للشعر؛ إذ هو حاضر بوصفه الوسيط التعبيري الذي ينقل هذه التعريفات. يعبر البيت عن الإقرار بالمرجعية الإلهية للنص القرآني، وبالتالي الاعتراف بالسلطة النبوية، وهو إقرار يتضمن منح القرآن تعريفاً متضاداً مع الشعر ذي المصدر البشري. وبالإضافة إلى اختلاف المصدر، فإن القرآن ذو هدف أخلاقي ويسعى إلى التفصيل بين الحق والباطل والخير والشر، بينما الشعر أداته فنية/ذاتية ويعبر أساساً عن طقوس سياسية/اجتماعية. هذه الأوصاف للشعر يمكن أن تفهم من فعل أداء القصيدة ذاته، وكأن البيت يقول: مهلاً هداك الذي أعطاك القرآن وأعطاني الشعر الذي يمكن أن يشيع شرعية هذا القرآن بين الناس اعتماداً على مؤسسة القصيدة الجاهلية الراسخة في ثقافتهم. هنا يعبر الشاعر عما يمكن تسميته بـ”تقسيم العمل الثقافي” وتقوم القصيدة بتشفير فكرة الاندماج والتعاون بين الشاعر والنبي.
فيما يتعلق بفقرة التخلص في القصيدة، أو الجزء الانتقالي إلى الغرض الطقوسي، لاحظت سوزان سـتـيـتـكـيـڤـيـتـش أيضًا أن البيت الأول في هذا الجزء يتسم بمستوى لغوي أقرب للنثرية مقابلَ الأجزاء السابقة للقصيدة. يمكن توسيع هذه الملاحظة لتشمل جميع الأبيات في جزء التخلص، حيث تعبر بلغة نثرية (مباشرة) عن أقاويل الوشاة والمقربين الذين تخلوا عن الشاعر، ثم عن رد الشاعر عليهم، لتنتهي بحكمة عامة يتبعها تفصيل لحكاية الوعيد الذي بلغ الشاعر من النبي، واعتذار الشاعر وتعريفه للقرآن. يقول كعب:
تَسْعَى الوُشَاةُ جَنابَيْهَا وَقَوْلُهُمُ
إِنَّكَ يَا بْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ
وَقَالَ كُلُّ خَلِيلٍ كُنْتُ آمُلُهُ
لاَ أُلْفِيَنَّكَ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ
فَقُلْتُ خَلُّوا سَبيلِي لاَ أَبَا لَكُمُ
فَكُلُّ مَا قَدَّرَ الرَّحْمنُ مَفْعُولُ
كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلاَمَتُهُ
يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَنِي
وَالعَفْوُ عَنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ
وَقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ مُعْتَذِرًا
وَالعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَقْبُولُ
مَهْلاً هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الْ
قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ
بالنظر إلى موقع هذه الأبيات في قصيدة كعب، تحديداً في المسافة الفاصلة بين تقاليد النسيب والرحلة الجاهلية وطقوس الاستسلام للسلطة النبوية الجديدة، وبأخذ تعريف القصيدة للقرآن كما تم توضيحه أعلاه في الحسبان، يمكن القول بأن هذه الجزء يمثل الاحتواء الفني للأسلوب القرآني في النص الشعري. لقد عرَّفت القصيدة القرآن بأنه يشتمل على مواعظ (والمواعظ يمكن أن تأتي بمعنى التحذيرات أو الدروس) لتتخذ من هذا التعريف خلفية لممارسة فعل الوعظ هذا؛ حيث تتحول إلى حوار بين الشاعر الطريد، من جهة، والوشاة والأصدقاء، من جهة أخرى، وهم يحذرون الشاعر (أو يعظونه) من مصيره المحتوم، فيذهب أخيرًا لزيارة النبي ويتعلم من هذه الرحلة دروساً (أو مواعظ) تكون أساسًا لقصيدة الاندماج التي يقترحها. القصيدة هنا تقوم بفعلٍ ما، وهو فعل الوعظ، وبالتالي فهي حدث شعري وليست فقط تعبيراً فنياً عن محتوى مفصول عنها. لقد ساعدت هذه النقلة الأسلوبية، في الجزء الانتقالي من القصيدة، النصَّ الشعريَّ على احتواء النص النثري/القرآني، ومن ثم طمأنت النبي وأتباعه في المجتمع الجديد على أن الأداة اللغوية للشاعر والأداة اللغوية للنبي يمكن أن تتعايشا ثقافياً بغض النظر عن الاختلاف الأسلوبي بينهما.
لقد نجحت لامية كعب في التأسيس لما تسميه هذه الورقة بـ(قصيدة الاندماج) عبر مجموعة من الاستراتيجيات الفنية، من أهمها: تطعيم النص الشعري بمفردات ذات دلالة مركزية من المعجم القرآني، تقديم تعريفات تمييزية للقرآن مختلفة عن الشعر لتأكيد وعي الشاعر بالدور الثقافي لكل منهما وبإمكانية تجاور هذه الأدوار، وأخيراً عبر صب مجموعة من الأبيات الشعرية في قالب أسلوبي نثري/قرآني يمثل تطبيقاً للتعريف الذي قدمته القصيدة للقرآن، كل ذلك في قصيدة ذات بناء ثلاثي جاهلي. وبأداء قصيدة جاهلية الولادة والمنشأ في مركز المؤسسة الإسلامية، وباحتضان النبي للشاعر من خلال رمزية البردة، تقوم القصيدة بدور مزدوج يؤدي إلى إدماج النبي في مؤسسة القصيدة الجاهلية وإدماج الشاعر في مؤسسة النص القرآني، ويصبح الفرق بين الشعر والنثر أساساً للاندماج ولتتحول لامية كعب في عرف الأجيال الثقافية اللاحقة إلى نص في التقبل الفني كما كانت في الأصل نصاً في التقبل الاجتماعي.
“قصيدة الصراع”
اللحظة الأولى: تميم بن مقبل
يمكن استيعاب حدث الاندماج الذي أسسته لامية كعب بشكل أوضح عند مقارنته بحدث الصراع الذي أسسته أولاً رائية تميم بن مقبل “تأمل خليلي هل ترى ضوء بارقٍ”، ثم عززته وحولته إلى لحظة كونية قصيدة درويش “قافية من أجل المعلقات”.
كحال كعب بن زهير، كان تميم بن مقبل شاعراً مخضرماً، عاش في زمني الجاهلية والإسلام، ولكنه كان في حالة صراع دائم حول مسألة التوفيق بينهما، كما لوحظ ذلك أولاً في المدونة النقدية العربية القديمة. هذه الورقة تقرأ رائية تميم بوصفها تمثيلاً لطقوس الصراع بين زمنين، بين نظامين ثقافيين، وبين الشاعر والنبي بشكل رئيس. فبينما لا يظهر الشاعر في قصيدة كعب تصريحاً وإنما يتم تمثيله عبر عملية الأداء الشعري نفسها، يشكل النبي الجزء المفقود من المعادلة في قصيدة ابن مقبل. هذا الغياب هو، في حد ذاته، كتابة للفرْضية الأساسية لقصيدة الصراع وهي أن النبي والشاعر، أو قل الشعر والنثر، لا يمكن أن يتعايشا في حقل نصي أو ثقافي واحد.
مرتاباً إزاء القوة السياسية/الثقافية الوليدة، وربما ممتعضاً من سطوتها على التقاليد الجاهلية، يجد الشاعر ملجأً للذات في “بيته الشعري” حيث يتاح له أن يستعرض إمكانياته الفنية عبر تقنيات الميتاشعرية. ورغم أن القصيدة لا تشير إلى حادثة خاصة بين الشاعر والنبي، إلا أن إشارات التراث والدارسين المحدثين تكاد تجتمع على أن هذه القصيدة تمثل “مجازًا كليًا”، باستعارة المصطلح من الشعريات الإدراكية، عن الجاهلية والإسلام ورؤيةِ الشاعر للعلاقة بينهما، وهو ما تتخذه هذه الورقة نقطة انطلاق لقراءة القصيدة باعتبارها تأسيسًا لحدث الصراع بين الشاعر والنبي، الممثلين الرئيسين لنظامين ثقافين مختلفين.
في القصيدة تظهر الشخصية الشعرية بلا إحساس واضح بالاتجاه، متحيرةً بين زمنين ونظامين ثقافيين مختلفين. أبياتٌ تمجد الماضي وترثيه، تتبعها أبيات ترفض الحاضر وتنفيه، لتؤدي من ثم إلى أبيات تمجد الماضي مرة أخرى، في عملية مستمرة تحول القصيدة إلى شبكة من المتضادات المتصارعة عضوياً. وبشكل عام، وكما لاحظ ياروسلاف سـتـيـتـكـيـڤـيـتـش، يبدو مسار القصيدة معكوساً يقدم الماضي على الحاضر دائماً[9]. يقول تميم:
أَجِـدّي أَرَى هَـــــذَا الزَّمانَ تـَـغَـيَّـــــرا
وبــطْـنَ الرِّكــاءِ مِـنْ مَـوَالِـيَّ أَقـْـفَـرا
وَكَـائِـنْ تَـرَى مِـنْ مَـنْـهَـلٍ بَـادَ أَهْـلُـهُ
وَ عِـيــدَ عَـلَـى مَـعْـــروفِـهِ فَــتَـنَـكَّـرا
أَتـَـاهُ قَـطا الأَجْـبَـابِ مِـنْ كُـلِّ جـَـانِـبٍ
فَـنَـقَّـرَ فِـي أَعْـطَـــــــــانِـهِ ثُـمَّ طَـيَّـرَا
لاحظ ياروسلاف سـتـيـتـكـيـڤـيـتـش أيضاً أن القصيدة لا تتبع نظاماً تركيبياً واضحاً: فهي ليست ثلاثية البناء ولكن ليست ثنائية أيضاً. تنتشر الأبيات اعتماداً على تعبير عاطفي حاد يسلط الضوء على الأنا الفردية والأنا القَـبَـلية كطريقة لمقاومة القوة الثقافية الناشئة التي تقلل من شأن كلتا القوتين لمصلحة الأمة. بالإضافة إلى ذلك، يفخر الشاعر بالنظام الأخلاقي الجاهلي ليعبر بصورة غير مباشرة عن عدم الحاجة إلى مصدر إلهي لتنظيم العلاقات البشرية. هذه القيم الأخلاقية التي يفخر بها الشاعر تعززها قيم أخرى من طابع لغوي، أعني القيمة الفنية للشعر، ومن هنا تكثر في القصيدة التعبيرات الميتاشعرية التي يقدم فيها الشاعر تعريفات للشعر، وظيفته، مكانته، وقيمته الرمزية. لقد أشارت دراسات الميتاشعرية إلى أن هذه التقنيات تشيع في لحظات الصدع الثقافي التي تنبع منها لحظات قلق وجودية حول موقع الشاعر في العالم. هنا تخشى الذات على نفسها من الضياع فتلجأ إلى الميتاشعرية لتقديم تعريفات تـقـيها من الذوبان.
إن الأخلاق العليا واللغة العليا ((le haut langage، هما مصدر اعتزاز الجاهلي بذاته، وهما أيضاً طريقته في انتقاد القوة السياسية الوليدة التي لم يكن ثمة ما يكفي من الوقت لاستكناه أسرارها وطموحاتها. إن فخر تميم بشعره في هذه القصيدة يصح معه القول بأن “بيت” الشعر عاد إلى حقيقته اللغوية الأولى وأصبح “بيتاً” للذات الجاهلية تسكن فيه من هزائمها وتقاوم ذلك باسترجاع الحديث عن انتصاراتها الأخلاقية والسياسية الغابرة. يقول تميم في أبيات تقرن الفضائل الجاهلية الأخلاقية بالـ”ـفضائل الفنية” لقصيدته:
وَإِنـِّي لَأسْـتَـحْـيِـي وَفي الحّـقِّ مُـسْـتَـحَـىً
إِذَا جَـــــــــاءَ بَـاغِـي العُـرْفِ أَنْ أَتَـعَـذَرَّا
إذَا مِـتُّ عَنْ ذِكْـرِ القَـوَافِـي فَـلَـنْ تَــــــــرَى
لَـهَـــــا تَـالِـــيًا مِـثْـلِـــي أَطَــــبَّ وَأَشْـــعَـرَا
وَأَكْـثَـرَ بَـيْـتًــــا مَـارِدًا ضُـــــرِبَـتْ لَـــــــهْ
حُـزُونُ جِـبِـالِ الشِّـعْـرِ حَـتَّـى تَــيَـــسَّــرَا
أَغَـرَّ غِـريبـًا يَـمْــــسَـحُ النَّـاسُ وَجْــــهَـهُ
كَـمَـا تَـمْـسَـحُ الأَيْـدي الأَغَـرَّ المُـشَـهَـرَّا
فيما يتعلق بالعلاقة بين الشاعر والنبي، لقد أشرت أعلاه إلى أن الغياب النصي التام للنبي في قصيدة تقدم قراءة للعلاقة بين الإسلام، من جهة، والجاهلية ممثلة في رمزها الثقافي الأساسي، أي الشعر، من جهة أخرى، كما تقترح هذه الورقة، يعتبر ملمحًا دالاً في حد ذاته إلى رؤية قصيدة الصراع لرفض إدماج النبي في تقاليد مؤسسة القصيدة الجاهلية. هذه القراءة يعززها المقطع الميتاشعري أعلاه والذي يقدم تعريفاً للشعر، وبالتالي للشاعر، بوصفه مارداً، وهو الوصف ذاته الذي يقدمه النص القرآني للشيطان، النقيض المطلق للنبي، والذي يحاول أن يسترق السمع من الملائكة في السماء. فـكما أن النبي والشيطان لا يلتقيان، فكذلك الشاعر والنبي لايمكن أن يتعايشا في فضاء ثقافي واحد.
بناء على نموذج الصراع الذي تطرحه وتعززه هذه القصيدة، بدءاً من صراعها مع النموذج المثالي للقصيدة الكلاسيكية، الصراع بين زمنين ونظامين ثقافيين مختلفين، وبرفضها لإمكانية إدماج الشاعر والنبي في الحقل النصي/الثقافي لكل منهما، تؤسس هذه القصيدة للحدث المسمى بـ”قصيدة الصراع”. قصيدة درويش تأتي بعد أربعة عشر قرنًا لتعزيز هذا الحدث.
“قصيدة الصراع”
اللحظة الثانية: محمود درويش
محمود درويش ليس بأي اعتبارٍ غريباً على شعرية تميم بن مقبل، خصوصاً تلك التي تتسم بالرفض والمقاومة لقوى التلاشي والذوبان. في مرحلة درويش الملحمية من تطور منجزه الشعري، وتحديداً في ١٩٨٤، صدر ديوانه: “حصار لمدائح البحر“، والذي تضمن، فيما تضمن، قصيدة قصيرة بعنوان: “موسيقى عربية”، تمزج الشكل البيتي التقليدي بالشكل التفعيلي. تبدأ القصيدة باقتباس يقول: “ليت الفتى حجر”. لتكمل: “يا ليتني حجرُ ..” ثم تستمر القصيدة بعد ذلك حتى تنتهي بما ابتدأت به: “ليت الفتى حجرٌ.. يا ليتني حجرُ”، ولكن دون أن تضع الاقتباس الأول (ليت الفتى حجر) بين علامتي تنصيص كما فعلت في بداية النص حيث أصبح جزءاً من مقولة القصيدة الجديدة.
إن الاقتباس الأول يمثل تعديلاً طفيفاً لبيتٍ مشهور ليس إلا لتميم بن مقبل. في قصيدة ميمية من سبعة وأربعين بيتاً، يوضح ابن مقبل كيف منعه الإسلام (أو “الدين” بتعبير القصيدة) من الاستمتاع بمباهج الجاهلية حيث ألزمه بتطليق زوجته دهماء (شخصية البطل في قسم النسيب) لأنها في الحقيقة كانت زوجة أبيه من قبله. في الجزء الانتقالي من النسيب إلى الفخر يقول ابن مقبل:
ما أجمل العيش لو أن الفتى حجرٌ
تنبو الحوادثُ عنه وهو ملمومُ
إن اختيار شاعر كـدرويش هذا البيتَ لا يبدو بأي حالٍ من الأحوال اعتباطياً. يمكن أن يفهم بيت ابن مقبل على نحو وجودي يعبر عن مأساة الإنسان تجاه الزمن وتقلباته، ولكن بناءً على أن هذه التقلبات في حالة ابن مقبل كانت بسبب القوة السياسية/الثقافية الوليدة ممثلةً أساساً في ما تصوره عن الإسلام، وهو أمر ليس من السهل افتراض غيابِـه عن قارئٍ مدرَّبٍ بحجم درويش، فإنَّ من الممكن استخدامَ هذا البيت وخلفيةَ الصراع التي يقوم عليها لصناعة سياق تأويلي لقراءة نص درويش الأساسي في العلاقة بين الشاعر والنبي: “قافية من أجل المعلقات“، النص الوارد في مجموعة: “لماذا تركت الحصان وحيداً؟” الصادرة في ١٩٩٥.
تتعزز شرعية هذا الاستخدام لشعر ابن مقبل في قراءة قصيدة درويش بالنظر إلى أن هذا الاقتباس ذاته، “ليت الفتى حجرٌ”، يرد أيضًا في مجموعة “لماذا تركت الحصان وحيداً؟”، الأمر الذي يؤكد احتلال هذا الاقتباس والرؤية التي يطرحها موقعاً دالاً في رؤية درويش الشعرية عموماً، وفي الرؤية التي انبثقت منها قصيدة “قافية من أجل المعلقات” بشكل خاص. يرد الاقتباس في قصيدة “مر القطار”، وهو النص الأخير في القسم الثاني من الديوان، وعنوانه: “فضاء هابيل”. يقول درويش:
هنا وُجدت ولم أوجد
سأعثر في هذا القطار
على نفسي التي امتلأت
بضفتين لنهرٍ مات بينهما
كما يموت الفتى
“ليت الفتي حجرُ …”
إن هذا يعني أن درويش كان مقتنعاً بأن شعرية ابن مقبل، حتى بعد أكثر من عقد من استحضاره الأول لها، ما زالت تشكل جزءاً أساسياً من شعريته هو، وهذا يعزز، مرة أخرى، من فكرة استخدامها لقراءة قصيدة ترد في الديوان ذاته الذي يضمّن فيه درويش إحالاته إلى ابن مقبل.
أرصد هنا بعض الملاحظات العامة حول هذه القصيدة فيما يتعلق تحديداً بتصورها للعلاقة بين الشاعر والنبي/ بين الشعر والنثر.
القصيدة (وعنوانها: قافية!) مقفَّـاة على رويِّ اللام المضمومة المسبوقة بحرف مد (واو أو ياء)، تماماً كقصيدة كعب بن زهير. يوفر هذا التطابق الإيقاعي في القافية وذكر الرسول في القصيدتين فرصة جيدة للذاكرة المدربة للربط بين القصيدتين. هنا يمكن أن تتساءل هذه الورقة عن إمكانية قراءة نص درويش بوصفه سردية مضادة للامية كعب الممثلة لقصيدة الاندماج؟
تصمم القصيدة للعربي الجاهلي انطولوجيا تدور كلياً حول اللغة، وتحديداً الشعر. اللغة هي أم العربي الجاهلي، حقيقته، الموسيقى التي يشكل هو جسدها، الطائر الذي يحمله بعيدًا، وقلائد النجوم التي يلبسها أعناق الأحبة. يقول درويش:
من أنا؟ هذا
سؤال الآخرين ولا جواب لهُ. أنا لغتي أنا،
وأنا معلقةٌ … معلقتان … عشرٌ، هذه لغتي،
أنا لغتي. أنا ما قالتِ الكلماتُ:
كن
جسدي، فكنتُ لنبرها جسداً. أنا ما
قلتُ للكلماتِ: كوني ملتقي جسدي مع
الأبدية الصحراءِ. كوني كي أكون كما أقولُ!
لا أرض فوق الأرض تحملني، فيحملني كلامي
طائراً متفرِّعاً مني، ويبني عش رحلته أمامي
في حطامي، في حطام العالم السحري من حولي،
على ريح وقفتُ. وطال بي ليلي الطويلُ
… هذه لغتي قلائد من نجوم حول أعناقِ
الأحبة: هاجروا
أخذوا المكان وهاجروا
أخذوا الزمان وهاجروا
أخذوا روائحهم عن الفَـخارِ
والكلأ الشحيح، وهاجروا
أخذوا الكلامَ وهاجر القلب القتيلُ
لغة بهذا الوصف تتبدى في القصيدة بوصفها سلاح العربي الجاهلي في وجه الأعداء من كل شكل ولون: ابتداءً من الدهر/العدو، وليس انتهاءً بالأب (بمعناه الفرويدي، ربما). خطوة أخرى وإذا باللغة تتحول إلى معجزة العربي الجاهلي. خطوة أبعد وإذا باللغة تصبح هي نفسها إلهاً يعبده العربي الجاهلي. تدرج القصيدة اللغة، ومن ثم المعلقة الجاهلية، ضمن تاريخ المعجزات والعجائب البشرية التي تقابل المعجزات الإلهية:
هذه لغتي ومعجزتي. عصا سحري.
حدائق بابلي ومسلتي، وهويتي الأولى
ومعدني الصقيلُ
ومقدس العربي في الصحراء،
يعبد ما يسيلُ
من القوافي كالنجوم على عباءتهِ،
ويعبد ما يقولُ
أن يفتتن العربي الجاهلي بلغته إلى درجة أن يتخذها ربَّا يعبده، فهذا يعد النص لبيت القصيد: هنا تتدخل القوة الإلهية لتتحدى هذه اللغة الشعرية التي أصبحت بمثابة الرب، عن طريق لغة نثرية ينقلها بشر مدعوم من هذه القوة الإلهية. تصل القصة إلى تمامها وينتصر النبي بلغته النثرية المدعومة إلهياً على الشاعر ولغته الشعرية:
لابـُـدَّ من نثرٍ إذاً،
لابـُـدَّ من نثرٍ إلهيٍّ لينتصر الرسولُ …
بهذه النهاية التي تأتي مباشرة بعد الوصف الاستثنائي للغة الشاعر الجاهلي وتعلقه بها، تبدو العلاقة بين الشاعر والنبي محكومة بفكرة الصراع: إنها يتنافسان ويسعيان للانتصار على بعضهما، ولا يبدوان متقبلين لفكرة التعاون أو الاندماج، كما كان الأمر في لامية كعب.
إذاً، بحسب قراءة هذه الورقة، تتخذ لامية درويش من رائية تميم منطلقاً فنياً لتقديم تعريفات للذات (الشاعر العربي الجاهلي) والنبي، ولكنها ترفع الصراع الفرداني/القبَـلي عند تميم إلى درجة كونية تقسم معجزات التاريخ البشري إلى نوعين: نبوي/إلهي (وهو مستثنى تماماً من سطح النص، فيما عدا عصا السحر التي يغيب عنها ذكر النبي موسى)، وشعري/بشري كان له أن ينتصر لولا المساعدة الإلهية للنبي بنص من طبيعة نثرية. هنا يصبح الشكل الأدبي الشعري، في التراث العربي تحديدًا، أكثر من مجرد تقليد شكلي. إنه بيت الذات، كما عرفه تميم بن مقبل، وفيه تجد الذات هويتها. هنا تكون فكرة اختلاف الأشكال الأدبية العدسة التي ينظر من خلالها الشاعر المعاصر إلى العلاقة بين الشاعر والنبي، وأساس التعريفات التي يضعها الشاعر للذات وللآخر.
خاتمة
بين ثائر الإسلام وثائر الحداثة
أخيراً، فبعد اختبار شكل العلاقة بين الشاعر والنبي في نصوص ثلاثة لكعب بن زهير، تميم بن مقبل، ومحمود درويش، تبنّت الورقة رؤية تقول بأن القصائد الثلاث تصممان حدثين شعريين مختلفين جوهرياً: قصيدة الاندماج، عند كعب، وقصيدة الصراع، عند تميم ودرويش. في قصيدة الاندماج، ينجح النص في إدماج النبي ونصه النثري في فضاء التقليد الشعري الجاهلي، وفي احتواء الشاعر وقصيدته في المؤسسة الثقافية الإسلامية الوليدة. في المقابل، يؤسس نص تميم بن مقبل لحدث قصيدة الصراع، صراع النص نفسه مع الشكل النموذجي للقصيدة الجاهلية، صراع بين زمنين ونظامين ثقافيين مختلفين، وبأهمية كبرى صراع بين الشاعر والنبي. قصيدة درويش تأتي لتأكيد هذا الصراع ورفعه إلى مستوى أنطولوجي متجاوز يبدو فيه محتوماً.
ولكن ثمة ملمح آخر مهم توفره قصيدة درويش، وهو التفسير الصريح للصراع بين الشاعر والنبي بأنه يقوم أساساً على اختلاف الجنس الأدبي، بعد أن كان ذلك التفسير ضمنياً في قصيدة تميم. وبتطبيق مفاهيم بيير بورديو حول الحقل الأدبي والقوة الرمزية للغة، يمكن قراءة المقولة الأساسية لقصيدة درويش بأنها تعُدُّ سبب انتصار الرسول على الشاعر أن الثائر الجديد على التقاليد الجاهلية، أي الرسول، قام بنقل المعركة إلى حقل جديد تماماً على الذائقة الفنية العربية لأن نجاح ثورته كان سيكون مستحيلاً ضمن الحقل الأدبي القديم (أي داخل مؤسسة القصيدة الجاهلية)؛ إذ لا يمكن تحدي الشاعر الجاهلي في حقله الخاص.
والسؤال هنا: هل يمكن أن نعيد قراءة قصيدة درويش في سياقها الأدبي المعاصر، ذلك السياق المحكوم تطوره الفني بهاجس الصراع بين قصيدة النثر وشرعيتها الشعرية وتمثيلها للحداثة من جهة، وقصيدة التفعيلة (التي سميت بقصيدة الشعر الحر)؟ هل يمكن أن نستخلص من ذلك إشارات إلى رؤية درويش حول هذا الصراع؟ هنا هل يمكن المقارنة بين ثائر الإسلام، أي الرسول، الذي حاول تحدي التقاليدِ الجاهلية ممثلة في القصيدة، وبين ثائر الحداثة، أي شاعر قصيدة النثر، الذي يحاول منذ عقود تحدي تقاليد الشعر العربي ليخرج بمنجز إبداعي جديد؟ فكما أنه كان لابد من نثر إلهي لينتصر الثائر القديم، فلابد من نثر شعري لينتصر الثائر الجديد؟ هل يمكن بالاعتماد على قصيدة درويش النظرُ إلى تاريخ قصيدة النثر، في السياق العربي تحديداً، بوصفه تاريخًا يحاول نقل معركة الصراع الإبداعي بين الشعر والنثر إلى ساحة جديدة يمكن فيها للثائر الحداثي الجديد أن ينتصر على الشاعر الذي يتمتع بالموارد الرمزية لحقله الأدبي منذ قرون؟ هل كان درويش يشارك في السجال النقدي ولكن من طرف خفي؟
لقد شارك درويش شعرياً في سجال الشعر-النثر، حيث توفر لنا قصائد من مجموعاته الأخيرة مثل: “كزهر اللوز أو أبعد” رؤيةً تبدو ساخرة للصراع بين الشعر والنثر، وربما للسجال النقدي حول هذه القضية بشكل عام. في واحد من أطول نصوص هذه المجموعة، بعنوان: “نهار الثلاثاء والجو صافٍ“، يجد القارئ نفسه أمام قصيدة تشتمل على تقنيات السرد والحوار والعبارات القريبة من اليومي وصور الحياة العادية، وتشكل اللغة هاجسها الأساسي، يقول درويش:
يا لغتي! هل أكون
أنا ما تكونين؟ أم أنت – يا لغتي –
ما أكون؟ ويا لغتي دربيني على
الاندماج الزفافيّ بين حروف الهجاء
وأعضاء جسمي – أكن سيداً للصدى.
دثّريني بصوفك يا لغتي، ساعديني
على الاختلاف لكي أبلغ الائتلاف. لِـديني
ألدك. أنا ابنك حينًا، وحينًا أبوك
وأمك. إن كنتِ كنتُ، وإن كنتُ
كنتِ. وسمّي الزمان الجديد بأسمائه
الأجنبية يا لغتي، واستضيفي الغريب
البعيد ونثرَ الحياة البسيط لينضج شعري
يؤكد هذا المقطع على معاني الاندماج والائتلاف، وينتهي بالرغبة في استضافة النثر في الشعر، حيث تشير كلمة (استضافة) إلى ابتهاج الشاعر بهذا الضيف النثري الجديد، كما تؤكد على أن الشاعر هو من وجه الدعوة إليه من أجل أن يصبح الشعر أكثر نضجًا. هنا نصل إلى خلاصة تعليق درويش على السجال النقدي حول الشعر والنثر بوصفه ربما سجالاً شكلانياً يقوم على فكرة الصراع بين الأشكال في حين كان من الأجدى أن يتم النظر إلى جوهر كل من الشعر والنثر وإلى إمكانية (الاندماج) بينهما، تماما كما استطاع كعب أن ينفذ إلى جوهر النص النثري/القرآني وإلى جوهر النص الشعري ليخلص إلى إمكانية الاندماج بينهما. لا غرابة، إذن، أن يفتتح درويش، الشاعر، مجموعته الشعرية هذه بنص لأبي حيانٍ التوحيدي، الناثر، حيث يقول:
“أحسنُ الكلامِ ما قامتْ صورتهُ بينَ نَظمٍ كأنه نثر، ونثرٍ كأنه نظم”.
لقد أشارت دراسة سيد السيسي الصادرة مؤخرًا[10] إلى أن استنكار مجرد فكرة التقاء الشعر بالنثر في مصطلح واحد كان الهاجس الأساسي في معظم دراسات قصيدة النثر، عربياً وعالمياً، أي أن التزاحم على الحقل الأدبي الواحد (الشعر) كان سبب الصراع. في حال النبي، كان يقال بأنه شاعر لاجتذابه إلى الحقل الأدبي المتفوق آنذاك، حقل القصيدة الجاهلية، لإظهار تفوقها على أداته اللغوية انطلاقاً من معايير المؤسسة الأدبية الجاهلية، فهو اجتذاب هدفه الاستبعاد. أما في حالة شاعر قصيدة النثر فإن استبعاده من الحقل الشعري يتم صراحةً بإخراج نصه من دائرة الشعرية تماماً. استبعاد قديم واستبعاد حديث يقومان على فكرة الصراع التي ترفض تجاور المتضادات.
إن الخطاب النقدي حول قصيدة النثر يمكن القول بأنه، في العموم، نص استبعادي؛ سواء ذلك الذي ينظر إليها بوصفها ذروة الازدهار الشعري، أو ذلك الذي يسمها بأنها دليل الانهيار الأدبي. كلاهما لا يتركان مجالان لإدماج الفضاء النثري بالشعري، تماماً كما بدأ تميم بن مقبل حكاية الصراع بين تقاليده الشعرية وبدعة النبي التي تقوم على لغة أقرب ما تكون إلى النثر، وتماماً كما استخلص درويش من تجربة شعرية طويلة أدت به في الختام إلى طلب استضافة النثر في القصيدة لينضج الشعر. النثر البشري، بالتأكيد!
[1] لتفصيل حول مفاهيم بورديو الرئيسية، مثل مفهوم الرأسمال الرمزي، الحقل الاجتماعي، وفي علاقة اللغة بالسلطة، انظر:
Bourdieu, Pierre. Language and Symbolic Power. ed. John B. Thompson; trans Gino Raymond & Matthew Adamson. Cambridge, Polity Press in association with Basil Blackwell, 1992.
[2] في مفهوم الحدث الشعري، انظر:
Balso, Judith. Affirmation of Poetry. trans. Drew S. Burk, Minneapolis, Univocal Publishing, 2014.
[3] للتفصيل حول مفهوم القراءة الضالة، انظر:
Bloom, Harold. A Map of Misreading, New York: Oxford University Press, 1975, 83-105.
[4] المقالة موجودة ضمن مجلد:
Eliot, T.S.. The Sacred Wood: Essays on Poetry and Criticism. London & Methuen, 1920, pp. 42-53
[5] عن طقوس تبادل الهدايا، انظر:
Mauss, Marcel. The Gift: The Form and Reason for Exchange in Archaic Societies. trans. W. D. Halls, London & New York, Routledge, 1990.
[6] في مفهوم الفعل الكلامي عند جون أوستين، انظر:
Austin, J. L., How to Do Things with Words. New York, Oxford University Press, 1965.
[7] في مفهوم الأداء، انظر:
Bauman, Richard. “Verbal Art as Performance”. American Anthropologist 77.2 (1975): 290–311.
[8] انظر دراسة الباحثة ضمن كتابها:
Stetkevych, Suzanne. The Mantle Odes: Arabic Praise Poems to the Prophet Muḥammad. Bloomington & Indianapolis, Indiana University Press, 2010.
[9] انظر دراسة الباحث لقصيدة تميم بن مقبل:
Stetkevych, Jaroslav. “A Qaṣīdah by Ibn Muqbil: The Deeper Reaches of Lyricism and Experience in a Mukhaḍram Poem: An Essay in Three Steps”. Journal of Arabic Literature 37.3 (2006): 303–354.
[10] انظر:
السيسي، سيد: ما بعد قصيدة النثر: نحو خطاب جديد للشعرية العربية. عمّان، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ٢٠١٦.