تقديم (الفضاء الإقليدي):
إن الكون الجديد الذي تشكّل في الثقافة الأوروبية على امتداد القرنين السادس عشر والسابع عشر على خلفية تأملات “ج. برونو”Giordano Bruno و “غاليليو غاليلاي”Galileo Galilée ثم “ديكارت”Descartes و”نيوطن”Newton وغيرهم كثيرون، هذا الكون اللاّمتناهي الذي تهاوت في غياهبه القيمُ التقليدية التي طالما شكّلت دعامةً صلبة لصورة الكوسموسCosmos الأرسطي والأوغسطيني، هو كون لامتناهٍInfini ومتجانسHomogène ومتماثلIsotrope. لقد بدا هذا الكون للوهلة الأولى بمثابة تحرر من سجن العالم القديم المغلق الذي جسمته كرة التيماوسTimée او كتاب السماءTraité du ciel المغلقة، فكان أن احتفى به قسم من الفلاسفة والشعراء على أنه أفق جديد يكفل لإرادة ولرغبة إنسانيتين لامتناهيتين أن تطالا مرتبة القدرة الإلهية المطلقة. ولقد كان ذلك سببا في النهاية المأساوية ل”جيوردانو برونو” و”سيزار فانيني”[i]C. Vanini وغيرهما… غير أنه سرعان ما تم الانتباه إلى أن هذا الكون اللامتناهي يمثل اطارا غريبا ومفزعا لا يسمح بتخيل وجود مركز مطلق يتمفصل حوله النظام الأبدي للخلق. فلا يتسنى للانسان أن يعثر داخله على ما يكفل له الوجود في عالم ذي معنى. ذلك هو ما يفسر توجّس “باسكال” Pascal وهلع “جون دون”John Done وكلّ من رأى في ذلك ضياعا للانسجام والانتظام وانهيارا للعالم: Tis all in pieces, all coherence gone[ii] . وفي المحصلة سيكون هذا الكون هو “الإطار” الذي سيحضن اللحظة الثانية للإنسانوية الغربيّة، تلك اللحظة التي ستقودها إلى الانفصال النهائي عن كل أفق متعالٍ (إلاهي) على نظام الموجوات المادّية. ولقد انعكس هذا التجاذب بين صورة الكون الجديد وصورة الكون القديم من خلال الصراع بين الديكارتية والنيوطنية في القرن السابع عشر. فالأولى ترتكز على الهندسة الشاملة للكون وعلى طرد كل الاعتبارات الميتافيزيقية منه، في حين تسعى الثانية الى انقاذ الكوسموس من الانهيار كليّا بسبب الترييض الشامل.
يتناول “جان مارجكو” هذا المشكل من خلال تحليله لاستتباعات التعارض بين الفضاء الاقليدي (ديكارت) والفضاء المطلق (نيوطن) في سياق تطور الافكار الفيزيائية والفلسفية الحديثة والمعاصرة. (المترجم)
* * * * * * *
يبدو للوهلة الأولى أن صياغة مبدأ العطالة التي ظلّت منقوصة لدى “غاليلاي”Galilée , ولكنها دقيقة لدى “نيوطن”Newton ، لا تمثل سوى أحد تمظهرات التحولات العميقة التي أدت في النهاية إلى تعويض الكوسمولوجيا التقليدية بأنساق مختلفة للعالم. كانت هذه التحولات أو- إذا أردنا استخدام مصطلح أكثر تداولا- هذه ” الثورة العلمية”- محور عدد كبير من الأعمال سيقتضي إحصاؤها لوحده ملء صفحات مجلد ضخم. غير أن مبدأ العطالة الذي يمكن أن نقول بشأنه دون مبالغة إنه يعبر عمّا هو جوهري في هذه الثورة، وإنه يُمثل في الوقت نفسه شرط إمكانها، لم يلْقَ في تقديرنا الانتباه الذي يستحقّه ولم يقعْ خاّصة تقدير أثره على الثقافة الغربية بشكل ضافٍ. يعرف الجميع أن “ألكسندر كويريه”A. Koyré لم يتوقّف عن الإلحاح على أنّ مبدأ العطالة، باختزاله الحركة إلى حالة تشبه السكون تماما، قد عبّر عن رؤية جديدة للعالم أكثر من تعبيره عن مجرّد نتيجة علمية. غير أن هذه التحليلات الرائعة تعلقت بالنشأة البطيئة لهذا المبدأ لدى فلاسفة الطبيعة الذين سبقوا “غاليلاي” أو رافقوه أو ظهروا بعده، أكثر من تعلّقها بالأثر التيولوجي والفلسفي و الأدبي لهذا المبدأ.
ومن جهة أخرى، سيكشف لنا امتحان هذا الأثر أهمية التمييز بين الفضاء الإقليديEspace euclidien والفضاء المطلق Espace absolu. وهو تمييز نجده ضمنيّا أحيانا لدى بعض مؤرخي العلم، و لكنه ظلّ والحق يقال مجهولا في غالب الأحيان.
لا يجب آن نتغافل عن الأهمية التي يكتسبها هذا التمييز، ذلك أنه إذا ما أدمجنا الامتداد الطبيعي في فضاء إقليدي (هندسة الكون Géométrisation de l’univers)، سندمّر مفهوم الكوسموس نفسه، في حين أننا لو افترضنا (كما فعل “نيوطن”) أن وراء الامتداد الطبيعي فضاءً مطلقا، فإننا سنحتفظ بعالمٍUn monde ، أي يضرب من الديكور الكوني تكتسب الأشياء على أساسه بروزا و عمقا. عندما يذوب العالم داخل امتداد متماثلIsotrope ومتجانسHomogène ولا متناهٍ Infini (فضاء إقليدي)، فإن الكائنات والمواضيع تفقد بذلك جواهرها لكي لا تغدو سوى قطع قابلة للمبادلة فيما بينهاInterchangeables .
وبما أن ما قد شغلني هو أولا الأثر الثقافي لمبدأ العطالة، فإنّ القارئ سيفهم لماذا تجد هذه الصفحات مصدرها في جملة من الملاحظات ل”جان ستاروبانسكي” J. Starobinski حول طبيعة الفضاء التي فرضت نفسها على روح الكُتّاب وعلى المقالات بداية من القرن السابع عشر. إحدى هذه الملاحظات جلبت انتباهي بصفة خاصة و لمدة طويلة: ألا وهي أن “النظر يكفل لوعينا منفذا إلى خارج الموضع الذي يشغله جسدنا”[iii]. فهل يحتلّ جسدنا موضعا ما مثلما يحتل الحجر قسمًا من الفضاء ؟ هل أن النظر هو الحاسة الوحيدة التي يتسنى بواسطتها لشيء حكم عليه بأن يحيا منغلقا على نفسه أن يُفلت من “الكيان الزنزانيّ” ؟ هل هذا النظر هو الذي جعل “ج.ج. روسو”J.J. Rousseau مثلا يشعر بأن تمتّع جسده بالطبيعة يجعله متماهيًا مع المجموع الكوني؟ هل لا تعني هذه المتعة منذ البداية اندثار كل مسافة (بين الأنا والكون)، و من ثمة اندثار كل تمثل بصري؟ وبعبارة أخرى، إذا كان اندثار كل مسافة (بين الأنا و الكون) يعني انهيار كل الحواجز التي تحيط بالمحل الذي يشغله جسدنا، فلن يكون النظر هو الكفيل بأن يضمن لنا منفذا إلى خارج هذا الموضع. لأن الإبصار يقتضي مسافة بيننا و بين العالم، أو قل هو يقتضي أن تكون لنا صورة عن هذا العالم قبل أن ننتقل نحوه عبر الرغبة و الخيال. فالتطابق مع” المجموع الكوني” كما يبين “ستاروبنسكي”– مستحضرا في ذلك فلسفة “ج.ج. روسّو” “هو النقطة التي تتلاشى فيها كل الصور”[iv]. فهل لا اختيار إلاّ بين التماهي مع هذا “المجموع” أو الانطواء داخل قفص الأنا ؟
ليست الإجابة عن هذه الأسئلة بالسهلة، نظرا لارتباطها ارتباطا بالغ التعقيد بإشكال فلسفي طبيعي (فيزياء) أكثر من ارتباطها بالفلسفة في حد ذاتها. ولكن الفلسفة الطبيعية و التأملات التي رافقتها لم تعد جارية اليوم. وهو ما يضطّرنا – إذا طمحنا إلى تقديم إجابة ما- إلى القيام يعمل أركيولوجي، أي إلى أن نستقصي َخلفيّة النقاشات الفلسفية والأدبية واللاهوتية التي دارت في العصر الكلاسيكي، حيث نعثر على الأرضية العلمية التي ارتكزت عليها هذه النقاشات. ومن حسن حظّنا أنّ التطور الباهر الذي حققه تاريخ العلوم في الخمسين سنة الأخيرة، يسهل علينا هذه المهمة.
لا يتسنى لشيء ما أو لكائن ما أن يعيشا منغلقين على نفسيهما إلا في الحدود التي لا يكونان فيها إلا ما هُمَا. فهلْ لا يكون الإنسان إلا ما هو مثلما يبدو الحجر ساكنا بأكمله في عطالة كتلته؟ وهل لا يتخطّى الحدودَ المكانيةَ التي يبدو أنها تختزله إلى مجرد شيء من بين سائر الأشياء؟ إن أجبنا بنعم، لن يكون باستطاعتنا أن نبحث عن كيفية الإفلات من الموضع الذي يشغله جسدنا. وإذا أردنا استخدام مقولات معاصرة، فإنه سيتعذّر علينا أيضا، إذا كان الإنسان “مماثلا لذاته” و “مغايرا لذاته” في آن واحد، أن نحدد موضعه داخل الامتداد الطبيعي بصفة مطلقة. وبالفعل فإنه عندما يكون شيء ما مشابها لذاته ومغايرا لها، سيصعب إعطاؤه ما يمكننا أن نسمّيه وضعًا ذرياStatut atomique [v] فما من شيء يمكن اختزاله إلى مجرد ذرة إلاّ إذا بقي هذا الشيء مشابها لذاته فلا يكون أبدا سوى ذاته. ومنذ البداية، تفترض كل تجارب الفيزياء الكلاسيكية وجود أشياء (أو شيء) في الطبيعة لا تكون إلا ما هي. ومثلما بيّن “إ. مايرسون”E. Meyerson ، لن تكون هذه التجارب ممكنة إذا ما لم نفترض استمرار العناصر الأولية وراء التحولات التي نلاحظها[vi] : إذا كانت ذرة الهيدروجين ذرة هيدروجين وشيء آخر سوى ذرة هيدروجين في آن واحدٍ، أي إذا كانت مشابهة لذاتها ولا-مشابهة لها (شبيهMême وآخرAutre )، فإنّ صرح فيزيائنا سينهار بأكمله، جارًّا معه تلك النماذج المثالية الأساسية التي تتحكم في إدراكنا للكون. يدل التماهي التامّ مع الذاتIdentité à soi ، على فضاء تكون فيه المواضيع من جهة محتواة تماما في الحجم الذي تشغله، ومن جهة أخرى، على أنها لا مبالية بالحركة أو بالسكون. فالموضوع الذي ينزع نحو مَوْضِعٍ ما، لن يكون هو نفسه عند نهاية سعيه، لأنه سيكون “متحققا” (أنطولوجيا) مثلما سيقول “ف. بوناميكو”F. Bonamico[vii] . يدل التماهي مع الذات إذن على الفضاء المتجانس للهندسة، حيث تكون كل “المواضع متماثلة وحيث أن نقلة ما، بالتالي، ” لا تنتج شيئا”[viii] وتتركز الميكانيكا الكلاسيكية، التي يبدو أنها حازت صلاحية أبدية في القرن الثامن عشر ، على هذا المبدأ الذي يحكم بأن الأجسام ” تحتفظ بهويتها إبان حركتها”[ix]. في حين نلاحظ بسهولة أن التغيرات الأنطولوجية Changements ontologiques (اللاتماهي مع الذاتLa non-identité à soi) في متحرك ما، تحيلنا إلى فضاء متغاير و لا-متماثل و، مثلما سنرى لاحقا، إلى فضاء متناه. ففي الكوسموس السكولاستيكي مثلا، ” تفيد النقلة الموضعية قابلية الجسم المتحرك للتغيّر الداخلي، بالوجه الذي تدلّ فيه إمكانية التوقف (بالنسبة إلى جسم ما) عن أي يكون حيث هو، على إمكان كفّه عن أن يكون هُوَ هُوَ”[x]. وهكذا فإنه يتسنى تحديد طبيعة الفضاء الكوني، بالانطلاق من موقف محدّد حول طبيعة الحركة. إذ يكفي أن يطرأ على المتحرك شيء ما، حتى يتسنى لنا اثبات كون الفضاء الذي يتحرك فيه ليس فضاء إقليديا.
يتمتع الفضاء اللا-إقليديEspace non-euclidien بكل الامتيازات التي تجعل منه متناهيا ومتراتبا في آن واحد، أي تلك التي تجعل منه كوسموس. وإذا نظرنا في هذا السياق إلى التاريخ السياسي الغربي وإلى عملية تسطيح الكون التي رافقته عبر هندسة الامتداد الطبيعي (الفضاء الإقليدي), فإننا سنُحْمَلُ أحيانا على الاعتقاد بأن ثمن المساواة السياسية يتمثل في(تصور) عالم لا متناه و خالٍ من المواضع المتميزة (تجريد العالم من سحرهDésenchantement du monde ) إذ يصعب في كل الحالات تخيّل مدينة عادلة داخل “كوسموس” متغاير[xi].
لا يتخطى الشيء الذي يكون هو ذاته الموضع الذي يشغله بأي وجه من الوجوه، وهو لا يتأثر بالتنقلات التي يتعرّض لها. ويعرف الجميع أن إحدى الصعوبات الرئيسية في الفيزياء المعاصرة هي أنها لم تتوصل إلى أن تتخذ من هذين المبدأين أساسا لها. فالمادة في مستواها العميق لا تبدو قابلة للتحديد في موضع معين من الفضاء، ثّم إنّها لم تعد (أي في الفيزياء المعاصرة) لا مبالية بالحركات التي تعتمل داخلها، حتى أنه ليحق أن نطرح السؤال حول ما إذا كان ثمة شيء واحد في الكون يكون مماثلا لذاته. لذلك يثبت “جاك مبرلوبونتي”Jacques Merleau-Ponty دون تردد أن”التصور الحديث [المقصود هو المعاصر] للمادة، يلغي فكرة جوهر فيزيائي مطلق الشبه مع ذاته”. فالشك في وجود ذرّات (أو جزيئات) شبيهة أبدا بذاتها يؤدي إلى الشك بالمثل في المماهاة بين الامتداد الطبيعي والفضاء المتماثل والمتجانس واللامتناهي (أي الإقليدي). ومن المؤكد أننا بنفينا لوجود مثل هذه الذرات، إنما نقوم بإقصاء التمثل الذي يكون عالمنا بموجبه فضاء هندسيا.
أما الإنسان فإنه من جهته ليس مماهيا لذاته، بالرغم من أن النموذج الديكارتي لطبيعة ذات أشياء مماثلة لذواتها قد جعل منه تقريبا مجرد ذرة محدودة بالحجم الذي تشغله.
لذلك فإن السؤال سيكون متعلقا بتلك القضية التي تحكم بأن الإنسان لا يشغل إلا الحجم الذي يملؤه جسده، مع التذكير بأنها قد فُرضت على الإنسان الحديث كحقيقة بديهية.
و بالفعل، فإن قسما لا بأس به من الأدب الحديث قد تمّ تسخيره لذلك الوصف الأدبي الذي لا يكون الإنسان فيه سوى ذرة ضائعة في صحراء امتداد طبيعي مسطح ودون محيط. لقد تحول فضاء أكبر الروايات الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى إلى فضاء لا كوسميAcosmique بالوجه الذي يجد فيه الكاتب نفسه مضطرّا لإنشاء عالم داخلي خالص. ففي حين كتب “مالرو”Malraux في فرنسا “إن السرّ العظيم لا يتمثل في أنه قُذف بنا إلى الصدفة بين كثرة المادة و كثرة الأفلاك، بل في أننا… نستمد من أنفسنا في هذا السجن صورا بالغة القوة كي ننفي عدمنا”[xii]. لم يتوقف كل من “ت. س. إليوت”(1888-1965) Thomas Stearns Eliot و”عزرا باوند “(1885-1972)Ezra Pound في انجلترا و أمريكا عن الدوران حول موضوع التوحدEsseulement وانعدام العلاقة، وحول تلك الغرفة التي لا ينفتح بابها. ففي فضاء لا متناه ومتجانس، لا مفرّ من أن ينغلق البشر والمواضيع داخل السجن على أنفسهم (“مالرو”). ويا لها من مفارقة عجيبة، إذ تحتجز لا نهائية الفضاء الكائنات والأشياء، أو كما سيقول “ميشال فوكو”Michel Foucault ، هي تتضمّنهم، أكثر من الجدران السميكة نفسها. فلا يسعني في فضاء لا متناه، ومتجانس ومتماثل أن أُبْدِيَ الرغبةَ في الذهاب حيثما اتفق، طالما أن كل المواضع متشابهة و طالما أنني أبقى شبيها بذاتي أبدا. صحيح أن هذا اللاتناهي و هذا الاستقلال الذرّي الذي يصاحبه يستطيع أن يثير في بعض الأحيان تمجيدا مؤقّتا مثلما هو الأمر في بعض الأفلام والروايات الأمريكية، حيث يُلقي البطلُ بنفسه منفردا ليغزو الفضاءات الشاسعة. ولقد شهد “ج.ج.روسو” (هو الآخر) مثل هذه الحالة في جولاته العديدة، غير أن ذلك الانتشاء لن يطول، إذ سيكتشف البطل على المدى الطويل أنه قد جاب وعَبَرَ امتدادَ حياته مثل ذرة منعزلة[xiii].
ليس للقول بأن الإنسان يكفل لنفسه منفذا إلى خارج الموضع الذي يشغله جسمه من معنى إذن إلا في إطار تمثل محدّدٍ لمنزلة الإنسان في الفضاء. ولقد صاغ “ج. ستلروبانسكي” من جهته هذه القضية في إطار تحليلات وتأملات تتصل بالأدب الفرنسي مثلما تطور بالانطلاق من العصر الكلاسيكي. فمن المعروف أن العصر الكلاسيكي قد قام بهندسة الفضاء وبتجريده من كل عنصر لا مادي. ولذلك تصدّى “ه. مور”H. Moore لديكارت عندما دافع عن الأطروحة القائلة بأن الروح، إذا أردنا لها أن تكون موجودة، يجب أن تكون ممتدّةً بمعنى ما، وأن تحتلّ موضعًا ما (من الفضاء). و يتنبأ “ه.مور” على نحو لا يخلو من الخلط بأنه إذا لم يكن في الفضاء شيء سوى الفضاء نفسه (وهو جوهر الأطروحة الديكارتية) فإن الإنسان سوف يرتد إلى حال لن يكون له فيها سوى وضع ذري أي إلى حال لن يشكل فيها سوى قسم من بين أقسام أخرى للامتداد.
إذا انطلقنا من التمييز الديكارتي بين الشيء المفكر والشيء الممتدّ، نستطيع بصفة خاصة أن نتصور الإنسان باعتباره كائنا منغلقا على نفسه في الموضع الذي يشغله(باعتباره جسما) من جهة، أو أن نفكر من جهة أخرى في الوسائل التي يتسنى له بفضلها الإفلات (باعتباره روحا) من هذا “الانغلاق”. غير أنه بمجرد وضع هذا التمييز موضع تساؤل حتى يُطرح السؤال حول ما إذا كان ثمة مواضيع تكون في نفس الوقت مشابهة ولا مشابهة لذواتها. و ما من حاجة لإطالة البحث كي نتفطن إلى أن مثل هذه المواضيع موجود بالفعل.
لا يتسنى للكائن الذي يتميز بالرغبة أن يكون هُوَ هُوَ، لأنه يريد أن يصير هو غيره. فلا تُبدي الرغبة، وخاصة الرغبة الإنسانية، مثلما رأى “سبينوزا”Spinoza “نزوعا إلى المحافظة على ذاتها في وجودها أو إلى المحافظة بغيرةJalousement على هويتها فقط، و لكنها تبدي أيضا نزوعا إلى التحوّل، حيث يبدو ذلك واضحا في أقصى أشكال الرغبة. فعشق الله مثلا، ينتج لدى المتصوف الضالع في تصوّفه تحوّلا باطنيا عميقا يستحيل بموجبه إلى “إنسان جديد”[xiv]. لا بل إنّ الاندفاع نحو الاستهلاك (استهلاك موضوع الرغبة) يقترن برغبة خفية في أن تُسْتَهْلَكَ هي نفسها (أي الرغبة)، أي في أن تتغير وأن تتحطّم، وفي أن تندمج في حياة أسمى من مجرّد حياة قسم من الامتداد منغلق على نفسه. فعندما أهضم الأغذية، لا أستوعب طعاما ضروريا لتواصل حياتي العضوية فحسب، بل إنني أنفتح في نفس الوقت على مذاقات ونُكَه تجعلني أشارك في حقيقة تتعالى على دائرة حاجاتي. وكذلك هو حال السيدة التي تشتري فستانا من خياط شهير أو الرجل الذي يجلس وراء مقود “سيارة رياضية”، فهما بذلك يثبتان نفسيهما باعتبارهما أعضاء في فئة اجتماعية معيّنة (أرقى): من حيث هما كذلك، فهما ليسا فقط ما هما وإنما هما أيضا غنيّيْن وجذابين ويتمتعان بنفوذ[xv].
تدل الرغبة، أي هذا النزوع الذي في كائن ما نحو شيء آخر غيره، على أنّ هذا الكائن لا يمكن اختزاله إلى ما هو. فهو يتضمن بعدا لا ماديا (نزوع، قوة، رغبة، أو روح) يجعله مغايرا لنفسه. أمّا الكائن الذي يكون مقتنعا تماما بأن يكون حيث هو، ومقتنع تماما بما هو، فسيكون كائنا بدون رغبة. ولكن هل يوجد مثيل لهذه “الكائنات” في الكون ؟ لقد ظنّ الكثيرون من فلاسفة العصر الكلاسيكي ذلك. فقد أقرّوا وجود ذرّات عاطلة تماما لا ترغب لا في الالتحاق بموضع يختلف عن الذي تشغله، ولا في التوقف خلال سعيها. وليس أفصح تعبيرا عن هذا الاعتقاد في وجود كائنات عاطلة خلال العصر الكلاسيكي من “القانون الأول للطبيعة” لدى ديكارت (مبدأ العطالة).
Prima lex naturae : quod unquaeque res, quantum in se est, semper in eodem statu perseveret : sicque quo semel movetur, semper moveri pergat.[xvi]
إذا أردنا تأمل هذا القانون تأملا فلسفيا عفويا فسيبدو لنا جدّ مثير للاستغراب. إذ ما الذي يفسر بقاء شيء ما في حركة أبدية. كان “لايبنتر”Leibniz هو الوحيد من بين فلاسفة القرن السابع عشر الذي رفض التسليم بهذا القانون، نافيا بذلك وجود كائنات عاطلة في الكون. فقد اعتبر أن المادة الجامدة لها ميل إلى التحرك، و من ثمة إلى التوقف، حالما تبلغ الحد المبتغى.
هناك “رغبة” غامضة تبحث الحياة في أعمق أعماق الخلق[xvii]. وعلى نفس المنوال كان أغلب الفلاسفة الإغريق وكذلك السكولاستيكيين قد ذهبوا إلى أن لا شيء ليس له نزوع البتة إلى التحرك نحو شيء آخر سواه. فالحجر في فيزياء “أرسطو” “يريد” أن يعود إلى مركز الأرض.
تكشف لنا هذه “الإرادة” أو هذا النزوع عمّا هو لا مادي في المادة، و عمّا هو لا مرئي في ما هو مرئي. فالمادة التي تكون عاطلة هي فقط تلك التي تكون في حالتها [المادّية]الخالصة، دون رغبة ومجرّدة من كل “لا مادية”، وهي بالتالي تلك التي تكون مماهية تماما لذاتها. لكن هل ثمة في عالمنا مادة تكون في حالة خالصة؟ ممّا لا شك فيه أن أرسطو قد أجاب بالنفي، غير أننا نادرا ما ننتبه إلى أن العديد من علماء الفيزياء المعاصرين يجيبون هم أيضا بالنفي. فلا توجد المادة في المستوى ما تحت الذرىInfra-atomique – كما كتب مثلا “فريتجوف كابرا”Fritjof Capra- في نواحٍ محدّدةٍ بدقّة،… حتّى أننا نشهد اليوم قطيعة جذرية مع الروح التقليدي للبحث الفيزيائي الأساسي، هذا البحث الذي سعى دوما في الماضي إلى معرفة المكونات الأولى للمادة”[xviii]
ولكن حتى وإن افترضنا وجود مواضيع تامّة العطالة، فمن المؤكد مع ذلك أنه ثمّة مواضيع”تحتوي” على قدر من اللامادية. لا لشيء، إلاّ لأنه توجد من حولنا كائنات كثيرة تتميّز بالرغبة. فليست كل الأشياء في الكون مماهية لذاتها إذن. بعض الكائنات وربما كل الكائنات وكل الأشياء هي في نفس الوقت هي هي وهي غيرها. وإذا اتفقنا على الإقرار بعلاقة تناسب بين هذا الاختلاف مع الذات وتلك اللاماديةImmatérialité “المحتواة” في موضوع ما، فسنقرّ إنّ الإنسان هو الذي “يتضمن” مقارنة بكل الأشياء المرئية أكبر قدر من اللامادية. وإذا ما اتفقنا في المقابل على أن الجسم الذي يكون مطلق التحدد بالمكان الذي يشغله هو فقط الموضوع الذي لا يكون إلا ذاته، فسنعلن إنّ الإنسان هو الموضوع الأقل تقيّدا بالموضع الذي يشغله جسمه.
توجد إذن صلة وثيقة بين بنية الفضاء وطبيعة المواضيع التي يحتويها. فلنتخيل مثلا فضاء ممتلئا مواضيعَ نُحددها على سبيل الافتراض على أنها مطلقة التماهي مع ذاتها، فستكون هذه المواضيع مطلقة الانفصال الواحد عن الآخر، طالما أنها ستكون محاطة بالمكان الذي تشغله. لذلك لم يقبل “ديكارت”، الذي شيّد فيزياءه وفقا لهذا النموذج، إلاّ شكلاً واحدًا من التفاعل بين الأجسام، ألا وهو التصادمChoc . ولن يكون المجموع (اللامتحددIndéfini ) لهذه المواضيع مُهَيْكَلاً. إنّ البنيةStructure لا-مادّية بموجب طبيعتها، فلا يتسنى وضع الإصبع على صورةForme أو بنية. وما دمنا قد استبعدنا على سبيل الافتراض كل عنصر لامادي في هذه المواضيع التي اقترحتاها، فلا بد من التسليم بأن الفضاء الذي يحتوي على هذه المواضيع هو فضاء بلا صورة. و هنا تفرض النتيجة نفسها: إن عالما يتشكل من مواضيع مماهية لذواتها لن يكون”كوسموس” بل “كاووس” [أي سديم].
ذلكم هو السديم الذي يرتسم في مواجهة كل المشاريع الموسوعية التحليلية أو الوضعية الهادفة إلى إعطاء “مرجع” قار ومحدّد لكل كلمات اللغة. ويا له من حلّ مفاجئ. فمن حيث نسعى إلى معرفة ما تقوله اللغة معرفة دقيقة، نكتشف أنفسنا أمام عالم مفتت، إذ أن اللّغة التي تحيل الفكر إلى المواضيع على شاكلة ما تعكس المرآة الواقع، ستكون لغة لا-كوسميةLangage acosmique . في هذا المستوى يتسنّى لنا طرح السؤال الذي أثاره”م. هيدغر”M. Heidegger في الوجود والزمان : “كيف إذن، لعالم مشترك أن يكون بعد ذلك ممكنا ؟”[xix] . فلن يكون المجاز أي كان شكله ممكنا داخل هذه اللغة اللا-كوسمية، حتّى أنّ الشعر، ذلك الشكل من التعبير الذي يمتاز بكونه يفسح المجال للأشياء حتى تكون هي نفسها و تصير هي غيرها، يصبح فيها مستحيلا[xx].
من المؤكّد أن أدب وفلسفة القرن العشرين كانا في الوقت نفسه منبهرين ومشمئزين أمام هذا الأفق الذي تفتتحه اللغة اللا-كوسمية: منبهرين، لأن هذه اللغة تعكس القدرة على تحقيق دقة علمية بالغة تُصَنَفُ بفضلها الكائنات والأشياء تصنيفا دقيقا، فتكون من ثمة منظمة بطريقة ما. ومشمئزين، لأن هذا النظام المكاني الخالص يعني انتصار ما يمكن تسميته بهيمنة الترصيفLe règne de la juxtaposition ، حيث تصطفّ كل المواضيع الحية والجامدة البعض إلى جوار البعض إلى ما لا نهاية له، على شاكلة ما يحدث في روايات “روب غرييه”R. Grillet أو “ميشال بوتور”M. Buttor .
ما من عملٍ يفوق أعمال “ل. فيتجنشتاين”L. Wittgenstein بلاغة في التعبير عن هذا الانبهار وهذا الاشمئزاز في الآن نفسه. فلقد فكر صاحب الرسالة المنطقية الفلسفية Tractatus Logico-philosophicus في بداية الأمر في إمكانية وضع لغة تكون مرآة للحقيقة[xxi]. وعند هذا الحد (انبهار)، تسنّى له أن يعي بامتناع قول مجموع العالم. فاللغة/المرآة (اللا-كوسمية) تُفتت الكوسموس[xxii] . أما في أعماله اللاحقة (اشمئزاز)، فإنه سيتنكّر لفكرة لغة تُرقّم الكائنات والأشياء. “ليقبل باللغة المشتركة”[xxiii]. فالكلام اليومي يوحي على الأقل بعالم مشترك في غياب الكوسموس.
أما “هيدغر”Heidegger ، فقد أخذ على عاتقه منذ كتابته الوجود والزمان، أن يهاجم التمثل الديكارتي للفضاء. فنجده يجهد نفسه لكي يبيّن لنا أنه لا يمكن لما يسميه “الموجودات “، أي المواضيع تامة المماهاة لذواتها، أن تشكّل عالما. فلا يمكن للعالم أن يوجد إلا بفضل الدزاين Dasëin(الإنسان)، أي بفضل ذلك الكائن الذي لا يكون مماهيا لذاته. وإذا لم يكن الإنسان مماهيا لذاته، فذلك لكونه كائنا متزمّنا تحوله كل لحظة تمرّ عليه. غير أنه لو اهتم “هيدغر” قليلا بتاريخ العلم، لكان قد تفطّن إلى أن الزمن يخترق المادة أيضا لكي يجعلها متغايرة، أو وفقا للمصطلح الذي نحته “جاك دريدا”Jacques Derrida يجعلها متغايرة مع نفسهاDifférante d’elle-même .
لا تستطيع الكائنات أو المواضيع التي لا تكون إلا ما هي أن تشكل عالما، في حين أن الأجسام التي تنطوي على قدر من اللامادية ستشكل عالما متمفصلا (كوسموس). يعني ذلك أنه ثمة صلة وثيقة بين مقدار اللامادية “المتضمنة” في جسم ما والقدرة التي لهذا الجسم على تنظيم الفضاء من حوله بحضوره فيه. ومثال ذلك هو “الدزاين” الذي “يكون فضاؤه – لدى “هيدغر”- أثري بكثير من الفضاء العلمي”[xxiv]. فلا شيء تقريبا ينبع من حجر، غير أن حضور الكائن الحي يُحدث شبكةً بأكملها من علاقات الجذب والدفع في الوسط الذي ينشأ فيه. وحين يتعلق الأمر بموضوع قادر على اكتساب أكبر قدر من اللامادية (أي الإنسان) فإن الكوسموس برمته هو الذي سينتظم من حوله. ولقد أقر “باسكال”Pascal بأننا نهيمن على كل الامتداد الكوني بواسطة الروح (اللامادية). ولنضف إلى ذلك أيضا أنّ الروح تقيم في جسد وأنه يحق منذ ذلك الحين لذلك الجسد أن يشكل مركز الكوسموس[xxv].
بقدر ما يُخترق الفضاء بعلاقات الجذب والدفع بفضل حضور الكائن الحي فيه، بقدر ما لا تكون أجزاؤه متكافئة. والفضاء الذي لا تكون أجزاؤه متكافئة سيكون كوسموس على شاكلة الفضاء الأرسطي بمواضعه المتميزة ومناطقه الجزئية. فلن تكون العناصر المحتواة في هذا الكوسموس لا مبالية بالموضع الذي تشغله: إمّا أنها “تريد” العودة إلى موضعها الطبيعي، وإمّا أنها “تريد” المكوث حيث هي. مكوثها يُبرز “تحققها” الذي تشعر به لكونها حيث هي، أمّا حركتها فتُبرز “الرغبة” التي تدفعها نحو الموضع الذي “تتحقّق” فيه. وبناء على ذلك، فإنه بقدر ما تحيلنا الحركة أو السكون بالتبادل إلى “رغبةٍ” أو إلى “تَحَقُّقٍ” يكون هناك كوسموس. في حين يدل تكافؤ الحركة والسكون في الكون على تجانس الفضاء وتماثله، حيث لا تختلف الحركة جذريا عن السكون (اللا-كوسموس). فلا وجود في هذا الفضاء الثاني لموضع يتميّز جوهريا عن موضع آخر، لا وجود فيه لمُبرّر يحمل عنصرا جامدا أو حيّا على التنقّل إذا كان ساكنا أو على التوقّف إذا كان متحرّكا.
ينبغي الاعتراف بأن في هذه اللامبالاة بالحركة أو السكون، يكمن الاستتباع الأساسي لمبدأ العطالة. إذ لا تتغيّر أبدا في ضوء هذا المبدأ حركة المتحرك الذي يسير وفق سرعة قارة[xxvi] إلا إذا دخل حقلا تجاذبيا أو إذا اصطدم بجسم آخر[xxvii]. ولذلك كان الفضاء الذي يُناسب مبدأ العطالة فضاء متجانسا ومتماثلا ليس فيه أي جزء متميز عن آخر [التجانس] من جهة، ولا تكون فيه للوجهة المختارة من جهة أخرى، أيّة أهمية بالنسبة إلى السرعة أو بالنسبة إلى حركة المتحرك [التماثل]. وزد على ذلك أن هذا الفضاء هو فضاء لا متناه، طالما أن مبدأ العطالة يَكْفلُ شروط الإمكان النظرية لحركة قارّة وغير قابلة للاندثار. فلا وجود لجذب أو دفع أو طاقة أو قوة تفسر دوام هذه الحركة. ومثلما يؤكد “ألكسندر كوايريه” دون انقطاع، تُمثّلُ الحركة هنا حالة مثل السكون تماما، أي ليس حدّ طبيعي ويمكنها أن تدوم بصفة لا محددة.
إذا كان الكوسموس لا يوجد إلا متى أصبح الفضاء محتويا على مواضع متميزة تثير الحركة أو السكون، فسيتجلى مبدأ العطالة بمثابة تأسيس للنزعة اللا-كوسمية، فلا يتمثل المشكل مع “غ. غاليلاي”، الذي شارف على الصياغة المكتملة لمبدأ العطالة، في أن الأرض لم تعد مركزا للكوسموس فحسب، وإنما أيضا في كون الكوسموس قد أوشك على فقدان مقوّماته باعتباره كوسموس. إذا كان هناك شيء ما يعبر عنه مبدأ العطالة حول طبيعة الحركة، وبالتالي حول طبيعة الفضاء، يمكن اعتباره جوهريا، فهو فقدان الكون لمركزه. والحال أن الكون الذي ليس له مركز لا يسعه أن يشكّل كوسموس. لم يكن “غاليلاي” في حقيقة الأمر يدرك نتائج نظريته حول طبيعة الفضاء إدراكا جيّدا وظلّ مشدودا إلى فكرة الانسجام الكوسميHarmonie cosmique [xxviii]. أما الكنيسة فقد استشعرت هي الأخرى هذه النتائج، غير أنها لم تدركها بشكل أفضل من “غ. غاليلاي” نفسه. وهو ما يفسّر كثرة الخلط والالتباس في المحاكمة المأساوية التي تواجها من خلالها. ولن نقلل من شأن “غ. غاليلاي” (العلمي) إذا ما ذهبنا إلى الحكم بأنه لو كان له أن يدرك هذه النتائج (إدراكا دقيقا)، فمن المحتمل انه كان سيُبدي حماسا أقلّ في تقديمه لنظرياته على أنها حقائقَ مطلقةً، وربما كانت إدانتنا للكنيسة أقل شدة لو اعتبرنا أنها سعت بصفة غامضة إلى التشبث بمبدأ للنظام الكوني في مطلع عصر كان قاب قوسين أو أدنى من الانزلاق نحو نزعة لا- كوسمية.
أما في الأوساط العلمية المعاصرة، فقليلون هم أولائك الذين يحتفظون بالإيمان بهذا النموذج المثالي لفضاء متجانس ومتماثل ولامتناه. بل يمكننا في حقيقة الأمر أن نتساءل عما إذا كان هذا الاعتقاد قد وُجد فعلا في هذه الأوساط. فصحيح، فيما ما يبدو، أن هذا النموذج قد انتشر بسرعة في إطار الفيزياء الكلاسيكية، غير أن الفلاسفة (وليس العلماء)، و من بينهم “ديكارت” و “كانط”، هم الذين سلّموا بالجمع بين الامتداد الطبيعي والفضاء الإقليدي.
فلنلاحظ أولا أن مفهوم الفضاء المتجانس والمتماثل واللاّمتناهي لا يشكل تتمّة آلية لمبدأ العطالة، رغم أنه يمثل منطقيّا لاَزِمَتَهُ الضرورية. فلا يعتقد “غ. غاليلاي” مثلا أن الفضاءَ الطبيعيَّ فضاءٌ إقليديٌّ، إذ أنه يقر (من جهة) بدوام أثر الميلImpetus في الجسم، ولكنه لم يتوصّل (من جهة أخرى) إلى إغفال أثر الوزن. ولكنّ متحركًا ما لا يستطيع أن يتحرك بسرعة قارة في اتجاه واحد، ولمدة لامحددة، إلا إذا أمكنه الإفلات من الوزن. ففضاء “غاليلاي” ليس فضاء إقليديّا طالما أن وزن الأجسام التي يحتويها هو إذن خاصيّة ملازمة للأجسام في حد ذاتها[xxix] .
أما “جيوردانو برونو”Giordano Bruno ، فإنه يثبت بقدر أكبر من الوضوح [حقيقة] عالم لا متناه هو عبارة عن امتداد دون مركز ولا محيط، حيث “تتمتع العوالم التي تُشكّلُ الكون بمبدأ حركتها الداخلي”[xxx] .
وتبعا لذلك فإن مواضع هذا العالم “لا تتحدد بالنظر إلى الكوسموس… و إنما بالنظر إلى هذا أو ذاك… النسق الميكانيكي (أي مجموع أجسام تتحدد بمشاركتها في حركة واحدة)”[xxxi].
يا لها من نسبية مطلقة ينتهي معها “ج. برونو” إلى الإقرار بتعدد العوالم. أي إلى اللازمة التي لا بد منها بالنسبة إلى الفضاء اللا-كوسمي. بانطلاق “ج .برونو” من فضاء لا بنية له ومن حركات تصدر عن طاقة داخلية غير ناضبة، يكون في الموقع الذي يخول له الإقرار بمبدأ العطالة. فهو لم يفكر البتة في ربط مسارات الأجسام المتحركة ب”ميل فطري” إلى الموضع الطبيعي. غير أن الصعوبة التي تتميز بها أفكاره، رغم عرضه لهذا المبدأ بكثير من الذكاء، تحول دون تصنيفه ضمن أولئك الذين اجتهدوا لكي يستخلصوا من مبدأ العطالة النتائجَ الفلسفيةَ التي يفترضها حول طبيعة الفضاء. فتأملاته حول أثار “كوبرنيك” مثلا، تضعه في اتجاه مخالف تماما للاتجاه الذي سار فيه العلم الحديث، بل أن “فرانس يات”France Yate ذهبت إلى حد القول بأنه لو كان “كوبرنيك”Copernic على قيد الحياة عندما وقع نشر كتاب “ج.برونو” الذي أعطى صدى لنظرياته، لكان أحرق جميع نسخه[xxxii].
غير أن المقارنة بين الطريقة التي أوّل بها “جيوردانو برونو” مبدأ العطالة، و الطريقة التي فُهِمَ بها هذا المبدأ بصفة عامة، لا تخلو من الأهمية. فلتفسير حقيقة نزوع الجسم إلى الاستمرار في حالة الحركة بصفة لا محددة ومهما كان موقعه في الفضاء، يفترض “ج. برونو” وجود روح خالدة أو طاقة حيويّة غير ناضبة في كل جسم. وبالتالي فإنّ الحركة لا تعبر حسب رأيه عن علاقة بين الجسم و الفضاء وإنما هي تكشف عن طاقة أبدية لا مبالية بما يحيط بها. وحسب “إميل نامير”E. Namer فإن
“كل تغير (في فلسفة “ج. برونو”)، يصدر لا عن علاقة داخلية بين بعض الجزئيات وموضع محدد في الفضاء، وإنما يصدر عن الدفع الطبيعي Poussée naturelle الذي يحثّ كل جسم على البحث عن الحالة التي يمكنه أن يحقق فيها بقاءه بشكل أفضل”[xxxiii].
ويبدو اللقاء بين “ج. برونو” و “ويليام جيلبار”W. Gilbert مثيرا للدهشة. إذ ليس للفضاء أي حقيقة فعلية بالنسبة إليه هو الآخر. ان ما يفسر موقع وحركة الكتل المادية الكتل وليس العلاقة بين هذه الكتل والامتداد. يقول “جيلبار”:
“ليس الموضع… هو الذي يحدد سكون و حركة الأجسام، لأن الموضع في حد ذاته ليس كائنا ولا علةً فاعلةً، وإنما تحدد الأجسام مواقعها بفضل القوى التي تسكنها. فلا يمثل الموضع شيئا إذ لا وجود له وهو لا يُجري أيّة قوة: إنّ كل ما للطبيعة من قدرة مُتضمَّنٌ في الأجسام نفسها…”[xxxiv].
وبالمثل، لا وجود حسب مبدأ العطالة أيضا لأية صلة بين الأجسام والمواقع المحددة في الفضاء. غير أنه لا يمكننا تبعا لهذا المبدأ أن نستخلص من قدرة الأجسام على الحركة بصفة لا محددة قدرةً طبيعيةً تقطن الأجسام. فحسب مبدأ العطالة، إذا ما أخذناه في معناه العلمي، تكون المادة عاطلة فعلا، بوجه لا يستطيع فيه المكان، حتى وإن افترضنا أن له بنية، أن يؤثر عليها. في مقابل ذلك، ما يجعل المادة مستقلة عن الفضاء حسب “ج. برونو” و “و. جيلبار” هي الحيوية الذاتية للمادة. فلا يسعى الجسم إلى موضع يكون خاصّا به، طالما أنه “مقتنع” تماما بأن يكون ما هو. ويتأتّى هذا الاكتفاء الأنطولجي للمادة حسب “ج. برونو” من كون الروح لا تمثل صورةForme بل جوهراSubstance. لقد تلقى كل جزء من الكون قسما من الروح الإلهية، وتخوّل هذه الجوهرانية الروحية لكل العناصر الحيّة أو غير الحية استقلالا طاقيّا إن جاز التعبير . ولكن هذه الرؤى تتناقض تناقضا تاما مع المذهب الأرسطو- تومي (نسبة إلى “أرسطو”Aristote وإلى القديس “توما الإكويني”Saint Thomas d’Acquin ) الذي يرى أن الروح لا تقيم في موضعٍ طالما أنها صورة وليست جوهرا. فالسكولاستيكيون لا يتخيّلون أن العلاقة بين الروح والجسم تجري وفق نموذج علاقة الربّان بالسفينة، وهو النموذج الذي دافع عنه “ج. برونو” بصراحة أمام قضاة التحقيق قائلا ” لا أوافق على أن الروح صورة، وإنما على أنها تمثل حقيقةً فعليةً حاضرة حضورا فعليا في الجسم… أي أنها مقيّدة بمعنى ما داخل سجن…»[xxxv]. ومن البديهي أن حلول الروح في الأجسام يجعلها مستقلة عن كل صورة تجذبها داخل المجموع الكوني لكي تحدد لها موقعا. ثم إن العلم الحديث سينبني هو الآخر على هذا الاستقلال الذي يُشكل جانبا من جوانب مبدأ العطالة، غير أنه (هذا الاستقلال) يشكل لدى “برونو” النتيجة المباشرة لضرب من الإحيائية أو من وحدة الوجود الكوسميةPanthéisme cosmique ، ولكن لن نجد أي شيء من هذا القبيل في العلم الحديث، رغم أن نزعة وحدة الوجود والنزعة الإحيائية قد بدتا أحيانا وهما تتبعان تطور الفيزياء الحديثة على شاكلة ما يتبع الظل الجسم.[xxxvi].
إذا كان ما حال دون صياغة “غاليلاي” لمبدأ العطالة صياغة تامة هو أنه لم يتوصل إلى تمثل الامتداد الطبيعي فضاء إقليديا، فإنه على الأقل يقطع كل الصلات التي كانت تشد هذا المبدأ لدى “ج. برونو” إلى ضرب من الميتافيزيقيا الإحيائية. لذلك كان “غاليلاي” ثوريّا، ولذلك شكّلت محاكمته (1633) منعرجا حاسما في تاريخ الإنسانية. وبالفعل فإن هذه القطيعة بين مبدأ العطالة والميتافيزيقيا تبدو من العمق بحيث أنها تجعل العالم الخالي من كل عنصر لامادي ممكنا. غير أنه لا يمكننا أن نتغافل عن ملاحظة هذه المنزلة الخاصة لمبدأ العطالة، والتي يبدو أنها قد وضعته عند تقاطع طريقين: الأول هو ذلك الذي يقود إلى وحدة الوجود لدى “ج. برونو” حيث تنمّ قدرة المتحرّك على الاستمرار في حركته بصفة لا محددة وفي استقلال عن كل محرك خارجي، على وجود طاقة غير ناضبة أو على وجود روح خالدة تقطن بأكملها الجسم المتحرّك.
أما الثاني فهو الذي يقود إلى مادية “هوبز” أو “ديكارت”Hobbes التي تسمح فيها العطالة أو المحافظة على الحركة بتفسير كل الحركات في الكون، بل و تسمح في النهاية بتفسير الحياة في الكون وفق منظور مادي. فمن جهة تعبر الحركة على الحضور الكوني لطاقة روحانية خالدة ومن ثمة لا مبالية منذ البداية وحتى النهاية بمسار المتحرك الذي حلت فيه بصفة عابرة (الموت والولادة ليسا هنا سوى مرحلتين من مراحل انتشار هذه الطاقة)، ومن جهة أخرى تكشف اللامبالاة بالحركة أو بالسكون عن عطالة مطلقة أي عن عدم تضمّن المتحرك لأي شكل من أشكال الحياة، وعلى أقصى تقدير، لأية روح. وبإيجاز، يمكننا أن نؤوّل مبدأ العطالة باعتباره علامة ثراء (روحي) أو باعتباره مؤشرا على غياب الروح في الكون[xxxvii].
إن “غاسندي”Gassendi هو الذي يمهد بكثير من الدقة للفضاء اللازم لمبدأ العطالة. إذ يدعونا إلى تخيل الكون و قد اُختزل إلى لا شيء، وإلى تخيل الفضاء فارغا تماما مثلما كان قبل خلق الله للعالم: “بما أنه لن يوجد مركز، فإن كل أجزاء الكون ستكون متشابهة”. ويستخلص “غاسندي” من ذلك نتيجتين الأولى هي أن الحجر الساكن في هذا الفضاء سيبقى ساكنا لأنه لن يتعرض لأي جذب، أو بلغة أدق لن تُجري عليه أيّة مادّة شكلا من أشكال الضغط عبر إخضاعه إلى سيل من الجزئيات (“غاسندي” لا يؤمن بالجذب). أما الثاني فهو أن حجرا قُذف في فضاء فارغ “سيواصل حركته دون انقطاع في الاتجاه الذي فرض عليه منذ البداية”[xxxviii].
ترتبط الصياغة النهائية لمبدأ العطالة ارتباطا وثيقا بفرضية فضاء خال من كل شكل من أشكال المادة. وبعبارات غاسندية، يجب علينا أن نضع أنفسنا في نقطة من الزمان والمكان لم يحدث فيها الخلقُ بعد. ويعني ذلك بوضوح أن الفضاء الضروري لملاحظة أو لإثبات مبدأ العطالة لا وجود له في واقع الكون المخلوق. فلا يستطيع هذا الفضاء أن يوجد إلا في ذهن أولئك الذين صاغوا مبدأ العطالة، على شاكلة صور الواقع، التي لا توجد من وجهة نظر الفلسفة الحديثة إلاّ في الذات العارفة.
و من هنا فإنه لا مجال للاندهاش لكون الفضاء الفارغ المتجانس المتماثل و اللامتناهي لم يكن في نظر “غاسندي” و كل معاصريه تقريبا سوى فرضية عمل. فأغلب فلاسفة القرن السابع عشر لا يزعمون أن هذه الفرضية تُخبرنا عن الطبيعة الحقيقية (العميقة) للامتداد. فمن جهة تحثّ نرى أنّ محاكمة “غاليلاي” على الحذر، ومن جهة أخرى، يسعى الجميع إلى الفصل بين الخطاب عن الطبيعة والخطاب الميتافيزيقي. وبالنسبة إلى “مايرسان”، “لا تتسنى رؤية حقيقة سير الأشياء إلاّ في السماء”[xxxix]. ويؤكد “ريتشارد وستفال”Richard Westfall على أن “الإنسان” بالنسبة إلى”غاليلاي” “قد أُزيح من الموضع الذي يخوّل له فهما نهائيا للأشياء”[xl]. أمّا بالنسبة إلى معاصري “مايرسان” و إلى “مايرسان” نفسه، فإن “ديكارت” يبدو “معقدا مثل “أرسطو” إذ أن منهجه يدعي النفاذ إلى حقيقة أنطولوجية”[xli].
عندما ظهرت فكرة الفضاء المتجانس واللامتناهي والمتماثل (فضاء إقليدي) مع صياغة مبدأ العطالة، لم يقع النظر إليها باعتبارها حقيقة (واقع) وإنما باعتبارها كائنا عقليا. وحتى الكون النيوطني الذي يعطي منزلة مركزية لمبدأ العطالة ليس فضاء لا متناهيا ومتجانسا ومتماثلا، طالما أنه يتغاير بانقسامه إلى مناطق فارغة وأخرى ممتلئة مادة، و طالما أن هناك جاذبية (من أصل إلهي) تنبع من هذه المادة فتقتلع من المكان خاصية التماثل. بل إنّه تبعا لاتّجاه المتحرك، لن تكون طبيعة الفضاء هي نفسها: هنا ثمّة نجمٌ يدفع المتحرك إلى التسارع، وهناك ثمّة مادة ضعيفة الكثافة لا تكاد تؤثر على مساره.
صحيح أن “نيوطن” يفترض فضاء مطلقا يُخَيّلُ إلينا أنه يتفق مع الفضاء الإقليدي الذي يلائم مبدأ العطالة، وصحيح أيضا أن هذا الفضاء المطلق هو فضاء غير قابل للإدراك بأي طريقة كانت، حتى أنه لا يبدو منذ البداية سوى كائن مجرّدٍEtre de raison هو الآخر: “ليست للفضاء المطلق بمقتضى طبيعته علاقة بأي شيء خارجي، إنه يبقى منتظما و ثابتا في ذاته”[xlii]. فلا يمكن أن ندرك الفضاء المطلق بأي طريقة كانت، إذ ليست له أي حقيقة مادية. ولكن “نيوطن” يثبت رغم ذلك أنه موجود حيث لم يفت “باركلي”Berkeley أن يعترض عليه باعتبار أنه ليس هناك هرطقة أخطر من افتراض وقائع “لها وجود خارج الفكر”[xliii] حسب رأيه. بل إننا نميل مع “ماكس جامارMax Jammer ” إلى القول إن فضاء “نيوطن” المطلق هو فعلا” الشرط الأول لصلاحية القانون الأول للحركة”[xliv]، غير أنّ المماهاة بين الفضاء المطلق والفضاء الإقليدي ليست صحيحة.
وبالفعل فإنّ الفضاء المطلق مثلما يتصوره “نيوطن” يسمح بالتمييز تمييزا مطلقا بين السكون والحركة (… أرسطية)، في حين أن هذا التمييز يصبح لاغيا في الفضاء الملائم لمبدأ العطالة، أي في الفضاء الإقليدي. فإبراز حركة ما في الفضاء الإقليدي تقتضي أن يكون لدينا جسمين على الأقل، ذلك أنه -ونحن نستحضر مرّة أخرى “باركلي” الذي ينقد مفهوم الفضاء المطلق دون التفطن إلى أنه يصوب نقده في الحقيقة نحو مفهوم الفضاء الإقليدي – “إذا افترضنا إلغاء كل الأجسام (من الفضاء) باستثناء جسم واحد، فإننا لن نقدر على إبراز أية حركة”[xlv]. يرفض “باركلي” حكم “نيوطن” بأن “الموضع هو قسم من الفضاء يشغله جسم”[xlvi]. أي أنه يرفض الحكم الذي يعلن بوضوح لدى “نيوطن” أن الحركة لا تحصل جوهريا في إطار علاقة بالأجسام الأخرى مثلما تصوّر “ديكارت” و”لايبنتز”، وإنما في علاقتها بلا-ماديةImmatérialité الفضاء المطلق. ولقد كان “ه.مور”Henri More أحد الأساتذة الذين أثروا تأثيرا عميقا في كامبريدج على فلسفة “نيوطن” الطبيعية. بالنسبة إليه[xlvii]، عندما يتحرك الجسم، لا يفعل ذلك في علاقته بأجسام أخرى فقط، ولكن في علاقته بالفضاء (أيضا) حتى أنه يغير موقعه فعلا عندما يتحرك[xlviii]. وبالتالي يشكّل الفضاء المطلق لدى “مور” و لدى “نيوطن” بمعنى ما خلفيّة أساسية ثابتة ولامادية تماما (ولكنها ممتدة) تتجلى بفضلها الحركة بكل وضوح، في حين أنه لا شيء من هذا القبيل يكون ممكنا في فضاء إقليدي. فلكي نعلن عن حركة الأرض في هذا الفضاء، يجب أن نبيّن في الإبّان أنها بصدد الحركة بالنظر إلى الشمس أو إلى بعض نقاط إحداثية معينة يمكن لها هي الأخرى أن تقال متحركة أو ساكنة بالنظر إلى نقطة إحداثية أخرى وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. لا يحدث شيء من هذا في الفضاء المطلق الذي تكون فيه المتحركات ساكنة أو متحركة فعلا. وباختصار، نقول إن الفضاء المطلق لا يحتاج إلى مادة (إلى جسمين مثلا) كي يكون أساس النظام والحركة والسكون، أما الفضاء الإقليدي فلا يستطيع أن يشكل هذا الأساس طالما أنه متأتٍّ من التجريد، وطالما أنه يقتضي نظاما كوسميا سابق الوجود يسمح بإدراك المواضيع وحركاتها. فالفضاء المطلق هو إذن موضوع إيمان في حين أن الفضاء الإقليدي يتأتى بمجرد الاستدلال.
إن مفهوم الفضاء المطلق هو في نفس الوقت قريب جدا و بعيد جدا عن المفهوم الكانطي للمكان باعتباره صورة قبلية للإحساسية. فلقد اعتقد “كانط” في البداية أن إدراك المكان يتطلب وجود المادّة، أي وجود أجسام تكون المسافات بالنظر إليها قابلة للإدراك: “لا يجب أن أقول عن جسم إنه ساكن دون أن أبين بالنظر إلى ماذا هو ساكن… فإذا رغبت في تخيّل.. فضاء رياضي ليس فيه أي مخلوق، ويكون وعاء لكل الأجسام، فإن هذا لن يعنيني مع ذلك، إذ بماذا يمكنني التمييز بين الأجزاء المختلفة والأجزاء المتشابهة إذا لم يشغلها أيّ وجود مادي؟”[xlix]. ولكن “كانط” سيتخلّى في وقت لاحق عن هذا التصور لكي يتخذ في نقد العقل الخالص موقفا يصبح بموجبه الفضاء خلافا لذلك أساس كل إدراكاتنا للكائنات وللأشياء، دون أن يقع استخلاصه من المواضع النسبية للأجسام المُدرَكَةِ. ومثلما يقول “ألكسيس فيلونالكو”، ليست الذات الكانطية في علاقة أصلية مع عالم ما ولكن فقط مع فضاء ما”[l].
يبدو الفضاء الكانطي بهذا المعنى ملائما للفضاء المطلق النيوطني. غير أننا هنا أيضا أمام مجرد تشابه ظاهري. فطالما أن الفضاء لدى “كانط” صورة قبلية للإحساسيةForme a priori de la sensibilité ، فإنه لا يشكل موضوع إيمان. وبلغة أخرى، ليس من الضروري حسب “كانط” أن نتصور وجود فضاء مطلق، مثلما أنه ليس من الضروري أن نسلّم بالفضاء الإقليدي الذي يلزم عن مبدأ العطالة طبعا. إذا رأينا مثل “كانط” أن مبدأ العطالة يخول لنا النفاذ إلى ماهية الحركة المطلقة والنهائية، فسنميل إلى الاعتقاد بأن الفضاء الإقليدي يشكل هو الآخر الحقيقة المطلقة والنهائية أو – على الأقل – حقيقة هي من العمق بحيث لا نستطيع بدونها إدراك أي شيء. و إذا ما خلطنا بين الفضاء الإقليدي والفضاء المطلق فسننتهي إلى الحكم بأن نظام الكوسموس يمكن أن يُدركَ دون الحاجة إلى الايمان به. وانطلاقا من هذه النقطة، سنعلن -مثلما سارع “كانط” إلى ذلك- أن الإيمان شيء، وأن دراسة الطبيعة شيء آخر. وبعبارة أخرى، سنعتبر أن السكون والحركة، ومن ثمة مواضع المواضيع إضافة إلى نظام الكوسموس، هي حقائق قابلة للإدراك دون أدنى اعتقاد.
لقد أثبت الخلط بين الفضاء الإقليدي و الفضاء المطلق بشكل واضح، امكانية استقلال دراسة الكوسموس عن كل إشكالية لاهوتية. ومن مفارقات الأمور أنه بالانطلاق من “نيوطن” الذي لم يفكر في مثل هذا الفصل، بل الذي شجّع أصدقاءه اللاهوتيين على الارتكاز على “نسقه” لإثبات المسيحية بوجه أفضل، أصبح من الصعب أكثر فأكثر الجمع بين التفكير في الكوسموس والتفكير في الخالق. وبالرغم من العدد الكبير للأعمال الأدبية والشعرية التي بيّنت منذ القرن الثامن عشر في انجلترا أن “نيوطن” قد قدّم أسسا جديدة وصلبة للإيمان التقليدي[li]، وبالرغم أيضا من النجاح حديث العهد لأعمال “بيار تيار دي شاردان”، فإن الثقافة والفكر الحديثين قد رفضا أن يكون نظام الكون نظاما إلهيا. و يعود ذلك فيما يبدو إلى أنه قد وقع من جهة اعتبار هذا النظام، أي الفضاء الذي يٌرتّب وينظم الأشياء، بمثابة اللاّزمة الضرورية لمبدأ العطالة، ومن جهة أخرى إلى أنه قد وقع الخلط بينه و بين مفهوم الفضاء الإقليدي. وفي حقيقة الأمر، لا شيء يخول هذا الأساس إلاّ الفضاء المطلق في المعنى الذي جعله له “نيوطن”. غير أنه لا يمكن فصل هذا الأساس عن فعل الإيمان، ممّا يعني أنه لا يمثل كائنا اُشتُقَّ من مبدأ العطالة.
لا تتحرك المتحركات في فضاء إقليدي إلا بالنظر إلى إحداثية ما. فلا يمكننا أن نحمل عليها الحركة طالما أنه من الممكن أن تكون ساكنة بالنظر إلى إحداثية أخرى. وبهذا المعنى يقع الانتقال مع مبدأ العطالة (الذي يدلّ لزوماً على نسبية الحركة) من منطق حمليLogique attributive إلى منطق علائقيLogique relationnelle في مجال الكوسمولوجيا. وفي المنطق العلائقي يصبح الكلام بلا معنى، طالما أن الحركة التي تحمل الفكر على حمل كيفية ما على جسم (حركة، سكون، لون، صوت) ستكون مُحَجَّرَةً : ففي هذا المنطق لا نستطيع أن نستخدم سوى اللغة الرياضية.
يشكل تجريد العالم من جاذبيته السحرية بما هو نتيجة لانتصارات العلم الحديث، نقطة لا خلاف حولها. فمن البديهي أنه ما لم يتسنّ حمل الأصوات والألوان و الروائح على المواضيع التي تحيط بنا، فإن العالم سيفقد كل جاذبيته. غير أنه لم يقع التأكيد كفاية على أن ليست الأصوات والألوان والروائح هي التي تزول في مسار فك السحر المذكور، بل الحركة و السكون أيضا وبالتساوق. صحيح أن مؤسسي العلم الحديث يزعمون أنهم حافظوا إثر “ديكارت” على المادة والحركة، غير أنه لن يتسنّى الحفاظ على الحركة في حقيقة الأمر إلا بشرط الحفاظ على فرضية الفضاء المطلق. وطالما أن “ديكارت” لا يتبنّى هذه الفرضية، فإنه يمكن الحكم بأن ليس للحركة والسكون في فيزيائه سوى حقيقة نسبيّة. فلا يتسنى حمل الحركة والسكون على “جسم ديكارتي” : طالما أنه لا يتحرك أو لا يكون ساكنا إلا بالنظر إلى جسم آخر.
لا يمكننا حمل الحركة والسكون على الأجسام إلا بافتراض فضاء مطلق. وبمجرد أن تقع المحافظة على إمكانية حمل الحركة والسكون، ستقع المحافظة في نفس الوقت على إمكانية الخطاب حول الكوسموس.
وبعبارة أخرى، فإن الفضاء المطلق يشكل تأسيسا للكوسمولوجيا. وفي اتفاق تام مع نوايا “نيوطن” سيحاول اللاهوتيون الأنجليكان عبر محاضرات “بويل”، أن يُوفقوا بين الإيمان المسيحي والفلسفة الطبيعية (فيزياء)[lii] . لقد استشعروا استحالة قول شيء ما عن الطبيعة في غياب هذا الأساس. فكيف يمكن الاعتقاد في أن عالما لا يتسنى للإنسان أن يقول عنه شيئا قد خلقه “اللوغوس” الإلهي” ؟ والإجابة هنا هي أن الفضاء المطلق قد سمح يالحفاظ على عنصر ميتافيزيقي وديني في فيزياء كانت قد انغمست بحكم منطقها الخاص في النسبيّة ونسفت بالتالي إمكانية الخطاب حول الكوسموس.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الفضاء المطلق قد سمح بإثبات محدودية الكون، أو قل هو سمح على الأقل بالاعتقاد فيها. لقد طال الحديث حول الزمكان اللامتناهيL’espace-temps infini للفيزياء النيوطنية، غير أنه إذا تمّتأمل اللأمر عن قرب، سيتضح أن هذا اللاتناهي يثير مشكلا. فإذا أمكن للحركة أن تتميز مطلقا (في هذا الفضاء) عن السكون، فذلك لأن مجموع الفضاء (الكوسموس) هو بطريقة ما مُدْرَكٌ أو حاضرٌ باعتباره خلفيةً أساسيةً. صحيح أنه لا يتسنى تخيّل هذا المجموع، غير أنه في المستطاع فهمه. و لقد آخذ “نيوطن” “ديكارت” على تردّده في وضع فضاء لامتناهٍ، لأنه كان من الممكن “فهم” اللامتناهي حسب رأيه[liii]. وانطلاقا من ذلك يكون “نيوطن” قد أثبت أن فكرنا ليس قاصرا دون اللامتناهي، بل إنه قادر على التحكم فيه. هذا التحكم هو ما يسمح باستخلاص وجود الفضاء المطلق وحقيقة السكون والحركة. فعلى عكس الفضاء الذي يلائم مبدأ العطالة ملائمة تامة، لا يُمثل الفضاء المطلق فضاءً لامتناهيا بوجه يسمح دائما بتخيّل ما وراء كل الحدود، من الضروريّ أنه يحضن كل الامتداد السماوي على شاكلة ما يحضن الله الخلق.
يحاول “نيوطن” بافتراض الفضاء المطلق أن يستبعد أو أن يُمَوِّهَ على النتيجة القصوى لمبدأ العطالة : ألا وهي انحلال الكوسموس في الامتداد المتجانس والمتماثل و اللامتناهي الذي تخيله “غاسندي” لفهم هذا المبدأ فهما أفضل. فلا يمكننا أن ندهش اذن لكون “نيوطن” قد وضع صلة وثيقة بين الفضاء المطلق والله حيث أن هذا الفضاء يكفل للكون حدودا ويضمن إمكانية الخطاب حول الكوسموس، بل ويعيد بناء الكواكب دوريا في مساراتها مانعا بذلك القوة الجاذبة من أن تقود إلى انهيار الكواكب على بعضها البعض. إن الفضاء المطلق، أو الأثيرL’éther ، هو الذي يُمَكِّنُ الله من الحفاظ على النظام في الكون. وبالتالي فإنّ “نيوطن” لم يتمكن من الفصل فصلا تاما بين المرئي واللامرئي. فهو يحاول الحفاظ على عنصر ميتافيزيقي في الفيزياء خشية أنه بفقدان هذا العنصر(الفضاء المطلق)، سنفقد في الوقت نفسه وسيلة تأمل الكوسموس، وخشية أن يجد الإنسان نفسه في مواجهة سديم. و للتفكير في ذلك : ماذا عساه يكون ذلك الكون الذي لا نستطيع فيه البتة التمييز بين السكون والحركة إن لم يكن سديما ؟
ولكنّ هذه العلاقة بين الله والفضاء المطلق لن تُعَمِّرَ طويلا. فسيبرهن لابلاسLaplace بعد فترة قصيرة على أن توازن النسق الشمسي لم يعد بحاجة إلى تدخل علّة مدبّرة تُجري فعلها بتوسّط الأثير. صحيح أن “لابلاس” لا يُقرّ ثبات النسق الشمسي ثباتا أبديا: إذ ” هل يبقى ممكنا عندئذ القول إنّ الحفاظ على نسق الكواكب يعود إلى عناية صانع الطبيعة ؟ إن التجاذب المتبادل بين أجسام هذا النسق لا يمكنه أن يغير من ثباته كما افترض ذلك “نيوطن”. ولكن يوجد في الفضاء السماوي مائع آخر عدا الضوء، يجب أن تؤدي مقاومته على المدى الطويل، وكذلك الإنقاص من كتلة الشمس الذي يحدثه إشعاعه، إلى تدمير نظام الكواكب. وللحفاظ على هذا النظام سيكون إصلاحه ضروريا”[liv]. غير أن أعمال “لابلاس” ستُؤَوَّلُ بعد ذلك على أنها حجّةٌ على ثبات العالم واستقلاليته . لذلك يصرخ “فرنسوا اراغو” François Arago في الجمعية الوطنية سنة1842 قائلا : “لقد أعاد “لابلاس” إخراج شروط النظام و الديمومة في الكون و في كرتنا الأرضية”[lv].
وبذلك سيرسخ الاعتقاد في التماسك البنيوي للكوسموس المرئي دونما حاجة إلى حضور إلهي. ومن ثمة يتم تجريد مفهوم النظام الكوني من العنصر اللامادي الذي كان قد تأسس بموجبه هو نفسه. عندما أراد “أ. ماخ”E. Mach في نهاية القرن التاسع عشر أن يقصي الميتافيزيقيا من الفيزياء، بادر بالإعلان أن فكرة الفضاء المطلق هي غول تصوريMonstre conceptuel [lvi]. فهو لا يريد للامتداد الطبيعي أن يكون تابعا لتلك اللامادية ولتلك اللامرئية المحيّرة للفضاء المطلق. ففضاء “نيوطن” هو فضاء ميتافيزيقي بل وسحري تقريبا : طالما أن الله حاضر داخله حضورا حقيقيّا. لذلك يجب إلغء هذا الفضاء من أجل إنشاء فيزياء صلبة. و سيكون ذلك يسيرا بقدر ما لم يلعب الفضاء المطلق أي دور في الفيزياء النيوطنية (نفسها)[lvii].
لقد حافظ “نيوطن” بفضل فرضية الفضاء المطلق على إمكانية التمييز بين الحركة والسكون. و حسب “ر. وستفال” فإن “نيوطن” كان مرتعبا من الكون الديكارتي اللاّمتناهي الذي لا يتسنى العثور فيه على أية إحداثية ثابتة. فاللامتناهي النيوطني يشكل مجموعا تنتظم فيه الكائنات انتظاما مطلقا لا نسبيا. و كما قال “ر. وستفال”: “لقد انهار الكون الأرسطي- السكولاستيكي المريح، فوجد البشر أنفسهم في مواجهة… هيمنة الفضاء اللامتناهي. ولن تعجب كثيرا بتلك الجرأة التي واجه بها “ديكارت” هذا العالم الغريب، والتي جعلته يشقّ بحر النسبيّة تاركا الحبل على الغارب بكل شجاعة. ولكنّ “نيوطن” لم يكن قادرا على تتبّع خُطاه. فلقد وجد في الفضاء المطلق عَوَضَا لتحقيق الاطمئنان النفسي الذي فقده”[lviii].
هل يجب أن نحكم بأن “نيوطن” كان قاصرا دون إتّباع “ديكارت”، أم أنه لم يشأ أن يتبعه؟ لا يخلو هذا اللبس من أهمّيّة : فإذا قلنا إنّ “نيوطن” كان قاصرا دون ذلك فسنجعل ما ناقشه “نيوطن” ومعاصروه بالإنطلاق من وجهات نظر لاهوتية وفلسفية مجرّد مسألة نفسيّة. باحتفاظه بإمكانية التمييز بين الحركة والسكون يصرخ “نيوطن” عاليا ليقول لنا إنّ الكون يشكل رغم لا تناهيه كوسموس. يستحيل بطبيعة الحال تخيّل هذا الجمع بين اللامتناهي والمجموع الكوني. ويتساءل “الكسيس فيلونانكو Alexis Felonenko ” عند استعراضه للصعوبات التي واجهها “كانط” في إنشائه لفلسفته الطبيعية قائلا : “كيف يمكن للاّمتناهي أن يشكل كلاّ؟”[lix]. والجواب هنا هو أن هذه اللانهائية تمثّل كلاّ بخكم الضرورة، منذ اللحظة التي نفترض فيها أن الحركات التي تحصل داخلها تتميّز بوضوح عن السكون. وبوجه ما، فإن الفضاء المطلق يجمع اللانهائية التي يدلّ عليها كون مُهَنْدَسٌGéométrisé ، إلى النهائية المكانيةFinitude spatiale التي تدل عليها حقيقة الحركة. من المؤكّد أن هذا الحل هو حل منقوص. غير أنه يمثل شهادة على عمق الحدس الميتافيزيقي لدى “نيوطن”، وهو الذي رفض (التسليم) بكون يتلاءم مع مبدأ العطالة تلاؤما تامّا رغم المنزلة المركزية التي يحتلها هذا المبدأ في فيزيائه. فهو يثبت محدودية الكون عبر إثباته حقيقة الحركة، رغم كونه لا يضع حدودا للمكان والزمان[lx].
يسمح لنا الموقف الرافض لهذه النتائج القصوى لمبدأ العطالة (الفضاء الإقليدي وانحلال الكسموس) لدى رجال العلم، بتقدير الأهمّيّة القصوى لنظرية الحركة بالنسبة إلى علم الحركة والميتافيزيقا. فتبعا لإقرارنا بإمكان حركة دائمة ذات سرعة منتظمة أو عدم إقرارنا له، سندمّر أو سنحافظ على الكوسموس. في حين اقتضى إثبات حقيقة الكوسموس قبل “غاليلاي” الإقرار بإمكانية حمل الحركة والسكون، استوجب نسف هذه الحقيقة بعد “غاليلاي” افتراض مبدأ يجعل هذا الحمل مستحيلا. وبطبيعة الحال، فإنه في الوقت نفسه الذي شهد هذا النسف المضاد، وقع الإجتهاد خوفا أو تردّدا من أجل التوقّي من آثاره.
يُشكّلُ الكوسموس بوجه ما خلفيّةً أساسيةً ينجلي بمقتضاها الغشاء عن الحركة والسكون. ومن المؤكد أنه سيكون مستحيلا تمثل هذه الخلفية مثلما وقع ذلك منذ “أرسطو” إلى القديس “توما الإكويني”.
فالتمثّلReprésentation ، وخاصّة التمثّل الهندسي، يعني فضاءً لا حدود له[lxi]. غير أنه بالإمكان أن نثبت على صعيد التصوري أن فلسفة تُثبت حقيقة الحركة، تثبت في الوقت ذاته حقيقة الكوسموس. و يعني الإقرار باستحالة التمييز بين السكون والحركة في المقابل تدمير الكسموس. يلاحظ “كوايريه” أنه منذ “آنشتاين”ُEinstein ، أي منذ أن تمّ وضْعُ مبدأ العطالة ـ أساس الفيزياء الكلاسيكيةـ موضع تساؤل، وقع الشروع في الحديث عن الكوسمولوجيا من جديد. وليس في ذلك أمر مفاجئ. إذ طالما أخذنا مبدأ العطالة بمثابة حقيقة مطلقة فإن ما يقع إقصاؤه هو شرط إمكان الكوسمولوجيا. لن نندهش إذن لكون الكوسمولوجيا قد وجدت طريقها إلى الإقصاء من الثقافة الغربية تحديدا مع “كانط” الذي لا يشكّ على خلاف “نيوطن” أو “غاليلاي” في التطابق بين الفضاء الإقليدي والامتداد الطبيعي. وبالفعل فإن “كانط” قد بنى فلسفته على ذلك المبدأ القائل إنّ ” قضايا الهندسة تُقدِّم لنا معطيات متلائمة مع عالم التجربة”. يستحيل إنشاء كوسمولوجيا باعتبار هذا المبدأ. وقد كان كلٌّ من”هوبز” و”ديكارت” يتبنّيان هذا المبدأ الذي رفضه أغلب العلماء الذين شاركوا في صياغة قانون العطالة الذي يتمّ التشكيك فيه اليوم بسبب تطورات الفيزياء المعاصرة. وإذا أمعنّا النظر في الأمر بفضول، سنرى أن الفلاسفة بالذات، وليس العلماء، هم الذين كان لهم التأثير الأعمق على التمثل الذي أقامته الثقافة الغربية للكون[lxii].
ورغم أننا نعثر في أدب وشعر وفلسفة القرن السابع عشر على علامات الارتباك أمام نسف الكوسموس تحت ضغط التمثّل الإقليدي للكون فإنه لم يقع الإحساس بهذا التأثير منذ ذلك الحين. فعبارات باسكال الشهيرة حول ” هدوء الفضاءات اللامتناهية”، تفتتح عصر الجزع الكوني الكبير في فرنسا، في حين يجد هذا الجزع التعبير عنه في انجلترا في أبيات “جون دون” ذائعة الصيت.
ثمّ إنّ “نيتشه” سيُعبّر بعد قرنين من الزمن عن الغضب الأقصى والأقوى من كل هذا الجزع، في سطور تحيلنا بوضوح إلى مسائل ذات علاقة بالفلسفة الطبيعية، حتى أنه ليخطر ببالنا تأويلها في عبارات فيزيائية بدلا عن تأويلها تأويلا ميتافيزيقيا :
“ما الذي صنعناه عندما قطعنا الحبل بين هذه الأرض والشمس؟ … أفلا نهوي إلى الأبد؟ إلى الأمام، إلى الخلف، إلى جانب، أو في كل الجوانب؟ هل لا يزال ثمة فوق وتحت؟ أفلا نصبحُ دون وجهة مثل عدم لا متناه؟ أفلا يكون البرد قاسيا ؟”[lxiii]
إذا اعتبرنا أن هذه الفقرة تعبر عن أمر ما جوهري بالنسبة إلى منزلة الإنسان الحديث، فستكون خلاصتنا هي القول إنّ الفضاء المطلق النيوطني لم يُشكّلْ رادعًا قويًّا في مواجهة الضغط اللاّكوسمي الذي تتضمنه فيزياء تأسست على مبدأ العطالة.
[i] Lucilio Vanini, dit Giulio Cesare Vanini, ولد سنة 1585 في ايطاليا وتمّ إعدامه يوم 9 فيفري 1619 في مدينة تولوز(المترجم).
[ii] بيت شهير للشاعر الانجليزي “جون دون” مستقى من قصيدةرثائية شهيرة An Anatomy of the World(المترجم) .
[iii] J. Starobinski, L’œil vivant, Paris, Gallimard, p. 14.
[iv] Ibid., p. 129.
[v] أنا أستخدم نعت “الذرّي” هنا عمدا. ففي الفلسفة التحليلية يتمّ التعبير عن الوقائع الذريةFaits atomiques بواسطة قضايا ذرّيةPropositions atomiques مستقلّ بعضها عن الآخر، مثلما تكون ذرّات الكوسموس النيوطني مستقلّ بعضها عن الآخر. ويدلّ هذا الاستقلال على ثبات أنطولوجيّStabilité ontologique تامّ: فالذرّة التي تعكسها القضية الذرية ليست شيئا سوى ما هي (أ=أ). ونتيجة ذلك هي أنه إذا كان العالم متشكّلا من وقائع ذرية فقط، فإنه سيكون بلا صورةForme ، لان كل صورة تتشكل من عناصر تكون في الوقت نفسه شبيهة بذواتها ومتميّزة عنها. عن مثل هذا العالم، لا يمكننا قول أيّ شيء، تماما مثلما لا يسعنا قول شيء عن سديمChaos أو عن كومة من الأحجار. ليس غريبا إذن أن نرى الأطروحة الأساسية لفلسفة “فتجنشتاين” الأولى (التي تأثرت أيما تأثّر بذرّية “برتراند رسل” المنطقية) متمثلة في الإقرار إنه لا يسعنا قول أي شيء عن العالم في مجموعهTotalité . نحيل القارئ هنا إلى المدخل الذي وضعه “ب. رسّل” للرسالة المنطقية الفلسقية: Préface de B. Russel au Tractatus Logico–philosophicus de Ludwig Wittgenstein, London, Routledge and Kegan Paul, 1961, p. XVII. Nouvelle trad. Ang.
[vi] “تكمن قدرة النظريات على التفسير بشكل أساسيّ في تطبيقها لمصادرة الهويّة على الزمن… وبفضل هذه المصادرة، يهيمن تصوّر الجزيئات الخفيّة على النظريات الفيزيائيّة”.Emile Meyerson, Identité et réalité, Paris, Felix Alcan, 1908, p. 85. . هذه بطيعة الحال، هي الجزيئات التي تبقى مماهية لذاتها مهما حصل من تغيرات.
[vii]F. Bonamicao, De Motu, I, V, C, XXXV, p. 503, cité par A. Koyré, Etudes galiléennes, Paris, Hermann, 1966, p. 25. ولقد كان “بوناميكو” أستاذا ل”غاليلاي”.
[viii]A. Koyré, Etudes galiléennes, p. 23.
[ix] Jacques Merleau-Ponty & Bruno Morando, The Rebirth of cosmology, trad. Ang. New-York, Alfred Knopf, 1976, p. 77.
[x]Etiene Gison, L’Esprit de la philosophie medievale, 2e éd. Révue, Paris, J. Vrin, 1944, p. 65.
[xi]Jacques Merleau-ponty, p. 194.
[xii]A. Malraux, La lutte avec l’ange », Les Noyers de l’Altenburg, Génève, Albert Skira, 1945, p. 72.
[xiii] حول محور الذّرّة المنعزلة والحياة المونادية،La vie monadique أنظر:Ben Lazare Mijuscovic, Loneliness in Philosophy, Psychologie and Littérature, Assen, (Netherlands) : Van Gorcum, 1979.
[xiv] حول الرغبة بما هي قوّة كفيلة بأن تحدث في الإنسان تحوّلات جوهريّة، أنظر: Alexandre Kojève, Introduction à la lecture de Hegel, Paris, Gallimard, 1943.وانظر خاصّة : Gaston Fessard, De l’actualité historique, Paris, Desclée de Brouwer, 1959, tome I, pp. 121-200. وتهتمّ الفلسفة الهيجلية باستحالة Transsubstantiation من الحالة الطبيعية إلى الحالة الإنسانية. وحول تحول الإنسان إلى اللهDieu (تصوّف)، انظر: Evelyn Underhill, Mysticism, London, Methuen & Co., 1911, وكذلك: Alexandre Koyré, Mystiques, Spirituels, alchimistes du XVIème siècle allemand, Paris : Gallimard, 1971, Livre de Poche.
[xv] يستكشف عمل ج. بودريارJean Baudrillard تلك السبل التي يتحقق بموجبها التماثل مع الآخر بفضل آليات السوق (التبادل الرّمزي) أنظر في ذلك: L’Echange symbolique et la mort, Paris, Gallimard, 1976 وكذلك: Le Système des objets, Paris, Gallimard, 1968.
[xvi] René Descartes, Principia philosophiae, pars2, art. 37.
[xvii] “ليس من الملائم للنظام ولا لعلّة الخلق ألاّ يتمتّع سوى قسم ضئيل من المادّة بمبدأ حيويّ أو بحركيّة محايثة، في حين أن الكمال الأسمى يستوجب أن تتمتع بذلك المادّة بأكملها. ولا شيء أيضا يمنع وجود أرواح أو على الأقل ما يشبهها، في كلّ مكان، رغم أن الأرواح المهيمنة والتالي الذكيّة، مثلما هي الأرواح الإنسانية، لا يمكنها أن توجد في كلّ مكان”G. W. Leibniz, « De la nature elle-même, ou de la force inhérente aux choses créées et de leurs actions », Opuscules philosophiques choisis, trad. Paul Schrecker, Parism Hatier Bovin, 1954, p. 106.
[xviii] Fritjof Capra, Le Tao de la physique, Science et conscience : les deux lectures de l’univers, Paris, Stock, 1980, p. 45. : Werner Heisemberg وبالمثل، يقرّ “فرنر هيزمبرغ”
« dass wir die Bausteine der Materie, die ursprunglish als die lezte objektive Realiât gedacht waren, iiberhaupt nicht mehr “an sich” betrachten kônnen » . Werner Heisenberg, Das Naturbild der heutigen Physik, 1955, p. 18.
وفي الاتجاه نفسه، يؤكد “دافيد بوهم” أن النظرية الكوانطية تبين أن محاولة وصف الجزيئات الذرية ومتابعتها في حيثياتها الدقيقة ليس لها من مدلول يذكر“,Wholeness and the implicate order, Londres & Boston, Routedge and Kegan Paul,
حول التقاطع بين أرسطو والفيزياء المعاصرة، انظر: Patrick Suppes, « Aristotle’s concept of matter and its relation to modern concepts of matter », Synthèse, septembre 1974, 28, 27-50.
1980, Paperback ed., 1982, p. 9. أنظر أيضا: Theodore J. Kiessel, « The reality of electron », Philosophy today, printemps 1964,8, 56-64.
[xix]Martin Heidegger, Sein und Zeit, Halle, 1927, p. 17-64.
[xx] حول العلاقة بين المجاز والكوسمولوجيا، انظر: Joseph A. Mazzeo, Nature and the cosmos, Essay in the history of ieas, New-York, Dabor Science Publications, 1977, pp. 28-30
[xxi] لقد كان المثل الأعلى للرسالة المنطقية الفلسفية هو المرآة Ernest Gelner, Worlds and things, Londres, Victor Gollancz, 1959, p. 75.
انظر أيضا: Hanna F. Pitkin, Wittgenstein and justice, Berkeley & Londres, University of California Press, 1972, p. 27.
[xxii] حول تفتيت الكون لدى “فيتجنشتاين”، انظر: William Barret, The illusion of technique, New-York, Anchor press, Double day , Anchor Books, 1979, p. 34-36.
Lanis Vax, L’Empirisme logique, Paris, PUF, 1970, p. 60. [xxiii]أما بالنسبة إلى “جاك بوفراس” Jacques Bouveresse فيلاحظ بأنّ فيتجنشتاين كان ينوي أن يبيّن… أنه من الغريب تماما أن نفترض امتلاكنا المسبق لشيء ما داخل الفكر في كل مرة نتكلم فيها”Le Mythe de l’intériorité, Paris, Minuits, .1976, p. 661.. لقد مرّ “فتجنشتاين” من تصور معه اللغةُ الفكرَ إلى وقائع ذرّية، أي إلى أشياء مماهية لذواتها، إلى تصور يتعارض تماما مع ذلك، إذ لا وجود فيه لماهيات ولا كذلك لانعكاس واضح ومتميّز لما تقوله الكلمات. وبالمثل نجد الموقف نفسه الرافض للغة المرآة-الانعكاس-الماهية أو الدلالة، لدى “ن. غودمان”(1906-1998) Nelson Goodman و”فيار كواين” Willard Van Orman Quine. ليس هناك سوى طرق متعددة للكلام وللتحكم في الرموز التي لا تقبل الاختزال إلى تعريفات مدققة. يتجسد هذا الإقصاء للحدس، وما يناسبه من إقصاء للماهية، في صورة حذر متعاظم إزاء قدرة اللغة على أن تكشف عن ماهية ما وراء الظواهر. وعند هذه النقطة تنفصل الوجودية عن الفلسفة التحليلية. فإذا كانت اللغة مجرد رصيد من البطاقات (تلائم كل بطاقة منها ماهيةً ما)، فإن هذا الحذر سيجد ما يبرره. ولكن اللغة ليست ذلك فحسب رغم كونها نزعت تحت ضغط اللاكوسمية إلى ألاّ تكون إلاّ ذلك.
[xxiv]Walter Biemel, Le Concept du monde chez Heidegger, Paris-Louvain, E. Nauwelaers et J. Vrin, 1950, p. 13.
وفي موضع آخر يقرّ “بيامال” إن مكانية Spatialité الدزاين ” لا شبه لها بالمكان العلمي” p. 72
[xxv] حول الصلة بين الجسد والكوسموس، انظر: Victor Harris, All Coherence gone, Chicago, The University of Chicago press, 1949.
[xxvi] تمّ التصريح بمبدأ العطالة في اللاتينية وفق الصيغة التالية:Corpus omne perseverare in statu quo quiescendi vel movendi uniformiter in directum, nisi quatenus a viribus impressis cigitur statu mille mutere » Issac Newton, Philosophiae naturalis principia mathematica, Londres : 1687, lex I, p. 12 “Aximata sive leges Motu.”
[xxvii] “ان من اكتشف مبدأ العطالة (غاليلاي) رفض دائما فكرة المسار العطالي المستقيم لان ذلك يقد يؤدي الى اختلال النظام الكوني” « He who had discovered the principle of inertia (Galileo) always refused to think of a straight inertial path, because it would have been “discorderly”… Giorgio de Santillana, The Crime of Galileo, Londres : Heineman, 1958, p. 59.
[xxviii] ” إن أقلّ ما يمكن قوله هو أن “غاليلاي” لا يميل إلى الفرضيات التي لا تصلح إلا لإنقاذ الظواهر، أو مثلما قال الكاردينال “بلارمين”Le Cardinal Bellarmin : التفسيرات الفرضيةex suppositione .”:
« Giuducai… comparir publicamente nel teatro del mondo, come tetimonio di sincera verita… “Galileo Galilei, Dialogo sopra I due massimi sistemi del mondo, 1632, Opere, Turin: Franz Brunetti, 1969, p. 15.
و حول هذه النقطة، انظر أيضا: Pierre Duhem, La Théorie physique, Paris, Marcel Rivière, 1914, p. 59. 2e éd.
[xxix]“لم يبيّن “غاليلاي” في حقيقة الأمر في أي موضع مآل حركة القذيفة إذا لم تحرّكها أيّة قوّة… وهو يعتبر أن تأثير الميل دائم، غير أنه لم يكن Nowhere, in fact, does Galileo ever state what the motion of a projectile would be if no forces were acting on it… Galileo regards the impetus as permanent but is unable to neglect the effects of gravity”, Allen Franklin, The Principle of the inertia in the Middle ages, Colorado : Colorado University Press, 1976, p. 60.
[xxx] Emile Namer, L’Affaire Galilée, Paris, Gallimard et Julliard, 1975, p. 19.
[xxxi]Alexandre Koyré, Etudes galiléennes, p. 174.
[xxxii]Frances Yates, Giordano Bruno and the Hermetic Tradition, Londres, Routledge and Kegan, 1964, p. 297.
[xxxiii]Emile Namer, Giordano Bruno, Paris, Seghers, 1966, p. 46. التأكيد من عندي
[xxxiv] William Gilbert, De mundo nostro sublunari philosophia nova, Amsterdam : 1651, livre I, chap. 28, p. 60. التأكيد من عندي.
[xxxv]Cité par E. Namer, Giordano Bruno, p. 30.
[xxxvi] حول سهولة الدمج بين الإحيائية والعلم الحديث، وحول جهود الذين أسسوا الفيزياء للتخلّص من الإحيائية، انظر:Robert Lenoble, Mersenne ou la naissance du mécanisme, Paris, J. Vrin, 1943.
[xxxvii] لاحظ أن هذه الفكرة تتناقض مع ما توصّل إليه الكاتب في مقالة أخرى له ترتكز على الإقرار إن اللامتناهي الفيزيائي لا يمكن اعتباره علامة ثراء روحي: أنظر: “اللامتناهي الروحي واللامتناهي الفيزيائي”، موقع مجلة حكمة. (المترجم)
[xxxviii]Petri Gassendi, De Motu impresso a motore translato, Paris, 1641, C, XVI, p. 62.
[xxxix]Cité par Robert Lenoble, p. 276.
[xl]Richard Westfall, « Newton and absolute space », Archives internationales d’histoire des sciences, avril-juin, 1964, 67, 121-132.
[xli]Robert Lenoble, p. 276.
[xlii]Issac Newton, Philosophiea naturalis principia mathematica, Londres, 1687, p. 5.
[xliii]G. Berkeley, Principles of human knowledge, part 110, The works of G. Berkeley Bischop of Cloyne, A. A. Luce & E. Jessop ed., Edimbourg, I. Nelson, 1948: 89. 2
[xliv]Max Jammer, Concepts of Space: The History of Theories of Space in Physics, Cambridge, MA: Harvard University Press., 1969, p. 101.
[xlv] G. Berkeley, Works, Vol. 4, p ? 47.
[xlvi]Issac Newton, Principia, p. 5.
[xlvii] حول تأثير “ه. مور” على “نيوطن”، انظر:Frank E. Manuel, A portrait of Issac Newton, Cambridge, Mass, Harvard University Press, New Republic Books, 1978, p. 87, 334.
[xlviii] انظر: Henry More, Enchiridion metaphysicum, sive de Rebus incorporeis succincta et luculenta dissertatio, Londini, 1671, chap. VII, 7, p. 55-56.
[xlix] E. Kant, Gessamelte Werke, Berlin, Akademie Ausgabe, 1905, vol. 2, p. 69ترجمتي .
[l]Alexis Philonenko, Qu’est-ce que s’orienter dans la pensée ?, Paris, J. Vrin, 1959, p. 69.
[li] أنظر:Bonamy Dobrée, English Literature in the Early Eighteenth Century 1700-1740., Oxford, Clarendon Press, 1959, p. 499-500.
[lii] “لقد كان “نيوطن” مبتهجا لكون نظريته الكوسمولوجية قد قُدِّمَت في عبارات مبسّطة نسيبيا لتبرير دور الله الفعال في العالم ( في محاضرات “بويل”Boyle التي تمّ تقديمها من قبل “ر. بانتلي”Bently)”Michael Hunter, Science and society in Restoration England, Cambridge, Cambridge University Press, 1981, p. 184.
أنظر أيضا: James R. Jacob & Margaret C. Jacob, « The anglican origins of modern science : The metaphysical foundation of the whig constitution » , ISIS 71, (Jun. 1980) : 251-267.
[liii]“اذا اعترض احدهم بالقول إننا غير قادرين على تخيّل كون لا محدود، فإنني سأقبل بذلك. ولكنني مقتنع بأننا قادرين على فهمه”Unpublished scientific paper of Issac Newton, ed., A. Rupert Hall & Marie Boas Hall, ed. Cambridge, Mass, Cambridge University Press, 1962, p. 101.
[liv]Pierre Simon de Laplace, Exposition du Système du monde, liv ; V, chap. VI, in Œuvres Complètes, Paris, Gathier Villard, 1978-1912, vol. VI, p. 477.
[lv]François Arago, Oeuvres, Paris, 1959, tome III, p. 456. Cité par Jacques Merleau- Ponty, “Situation et rôle de l’hypothèse cosmogonique dans la pensée cosmologique de Laplace”, Revue d’histoire des sciences, janvier 1976, 29 : 21-49.
[lvi] في Die Mechanik in ihrer Entwicklung, Leipzig : 1833 يتحدّث أ. ماخ E. Mach عن الفضاء المطلق باعتباره غولا تصوّريّا Beggriffsungetüme (Monstre conceptuel)
[lvii] “أصبح واضخا في انجلترا خاصة في منتصف القرن التاسع عشر أن تصور الفضاء المطلق هو تضور عديم الجدوى في الفيزياء التطبيقية” Max Jammer, Concepts of Space: The History of Theories of Space in Physics, 2e, Cambridge, MA: Harvard University Press., 1969, p. 140.
[lviii]Richard Westfall, “Newton and Absolute Space”, Archives internationales d’histoire des sciences, avril-juin 1964, 67 : 121-132.
[lix]Alexis Felonenko, L’œuvre de kant, Paris, J. Vrin, 1969, vol. I, p. 73.
[lx]”تعني هندسة الفضاء وجوبا أنه لامتناه، اذ لا يمكننا ان نعيّن حدودا للفضاء الاقليدي”A. Koyré, Newtonian Studies, Chicago, University of Chicago Press, Phoenix Edition, 1968, p. 7.
[lxi]Ronald Caliner « Kant and newtonian science », ISIS, septembre 1979, 70 : 349-362.
[lxii] حول هذه المسألة، انظر: Herbert Buterfield, The origin of modern science, ed. New-York, The Free Press, 1966, p. 177. Revised edition.
[lxiii]Friedrich Nietzsche, Diefrohliche Wissenschaft, in Werke, Karl Schlechta. Munchen: Hanser, 1954, Vol. 2, p. 125-127, N 1956.