مقدمة:
حينما نتحدث عن الشكلانيين الروس، فإننا نحصرهم جغرافيا في روسيا، على اعتبار أن منهم الروس والتشيكيون والبولونيون.
فصفة الشكلانية مرتبطة أساسا بالروس دون غيرهم، في الوقت الذي تجد لها امتدادات خارج روسيا خاصة تشيكوسلوفاكيا (حلقة براغ) وفي بولونيا، ناهيك عما عرف عن الشكلانيين في ألمانيا وفي أوربا عامة وأمريكيا فيما بعد، ثم أخيرا في العالم العربي وفي المغرب خاصة.
ليس ضروريا أن نقدم هنا عرضا تاريخيا لهذه الحركة النقدية التي عرفت بوادرها منذ مطلع القرن العشرين، فقد عاشت ما بين 1915 و 1930: عقد ونصف تقريبا لا يجب النظر إليه كتاريخ قصير في حياة الشكلانيين، بل إلى الكيفية التي استغلوا بها تلك الفترة على قصرها(1)، فقد تركوا لنا إرثا كبيرا في ميادين مثل الشعر والسرد والأجناس الأدبية وتاريخ الأدب ونظرية الأدب بشكل عام.
أننظر إليهم جميعا أم إلى أهم ممثليهم؟ الحق أنه يجب أن ننظر إلى نصوصهم التي كان لها دورها التاريخي في تحريك مؤسسة تاريخ الأدب الروسي، أولا، ثم الأدب الإنساني فيما بعد.
ما هي الشكلانية؟
قبل الحديث عن الشكلانية في خطابنا النقدي العربي والمغربي، لا بد من تبين مفهوم الشكلانية: هل هي منهج أو فلسفة أو نظرية أو مدرسة؟
من الأمثلة التي واجهت المجموعة التي وصفت “بالشكلانية” ما هي الشكلانية؟. إن الشكلانية صفة ألصقها بها مناوؤوها، حيث تفيد القدح في نظر واضعي هذه الصفة بالقياس إلى المقاربات التي كان يعرفها تاريخ الأدب الروسي، خاصة الاتجاهات النفسية والاجتماعية والدينية والأخلاقية والرمزية واللغوية.
يقول ف. شلوفسكي مؤسس المنهج الشكلي الروسي في جواب عن سؤال ما هي الشكلانية؟ وكان جوابه واضحا في ذلك.
>> المنهج الشكلي في جوهره بسيط، هو الرجوع إلى المهارة في الصنعة (CRAFTSMANSHIP)، هو تطبيق النموذج التقنولوجي على الإنتاج الفني الإنساني<<(2). وقد وصف ايخنباوم الشكلانيين بأنهم كانوا مهتمين بمسألة تقنية الأدب، ويضع السيارة في مقابل الأدب، فالشكلاني كان يوصف مثلما يوصف الميكانيكي الذي يركب أجزاء السيارة ويفككها. وهكذا كان فعلهم مثل فعل الميكانيكي في النص الشعري والسردي(3).
لقد خصص المهتمون بالشكلانيين جزءا هاما من أبحاثهم للتعرف على طبيعة ومفهوم مصطلح “الشكلي”. وبالرجوع إلى الدراسات الأولى التي اهتمت بالشكلانيين، مثل دراسة الناقد الأمريكي فكتور إرليتش في كتابه (الشكلانيون الروس، التاريخ-المذهب) الصادر في طبعة أولى سنة 1955 وكذلك كتاب (الشكلانيون الروس، الميتا شعرية) الصادر سنة 1984 لبتر ستينر PETER STEINER، وكذا رونيه ويليكي في كتابه (مفاهيم نقدية) 1963، بل يمكن الرجوع إلى كتابه الأول صحبة أو ستين وارين، الصادر سنة 1949 (نظرية الأدب) حيث أشار إلى الدراسات الشكلانية إشارات هامة.
لقد واجه الشكلانيون صعوبة تعريف وتحديث طبيعة عملهم قياسا إلى ما كان متعارفا عند الباحث الروسي والقارئ على السواء أوائل القرن العشرين. فالتقاليد الأدبية والفكرية كانت قد رسخت أنساقا فكرية ومعرفية وجمالية كانت تواجه الشكلانيين أثناء تكون حركتهم. لقد حاولوا الجواب عن السؤال الإبستمولوجي الذي يمكن أن يميزهم ويميز فعلهم داخل الفعل الأدبي الروسي، وكان ذلك الجواب يتنوع بتنوع الشكلانيين ويتوحد في مصدر إبستمولوجي ينظم اختلاف ممارساتهم التي وسعت الشعر والسرد بمختلف أشكاله وتاريخ الأدب ونظرية الأدب والأجناس الأدبية.
ولن يعتبروا أنفسهم شكلانيين يهتمون بالشكل دون المضمون في المنظور الثنائي الذي عرفته مدارس تاريخ الأدب إلى حدود نهاية القرن التاسع عشر، والصفة التي أطلقوها على أنفسهم هي صفة “المورفولوجيين” MORPHOLIGISTS” ولم يكن هدفهم هو هدف مدرسة “الفن للفن”، بل واجهوا ذلك. فالمنهجية الشكلية كانت وصفية أكثر مما كانت ميتافيزيقية.
كتب إيخنباوم في إحدى دراساته المبكرة (1922) يقول:
>>منهجنا عادة يعرف كمنهج شكلي، وافضل أن أسميه بالمنهج المورفولوجي لتمييزه عن المقاربات الأخرى مثل النفسية والاجتماعية وما شابه ذلك، حيث يكون موضوع البحث ليس هو العمل نفسه، ولكن في رأي هؤلاء الباحثين ينعكس على العمل الأدبي<<(4).
وليست المورفولوجيية هي الصفة الوحيدة التي وصفوا بها أنفسهم أو وضعيتهم المنهجية في صراعهم مع الماركسيين المتشددين، فقد قال إيخنباوم >> لسنا شكلانيين، ولكن إذا أردتم فنحن متخصصون<<(5)، منهجهم إذا بهذا المعنى وبالمعنى الأول المورفولوجي يلتقي عند الاهتمام بالأشكال أو بعلم الأشكال أو الذين يختصون بدراسة الأشكال إذا حاولنا التدقيق في مصطلح SPECIFIKATORY/SPECIFIERS.
وبهذا يكون الشكلانيون قد دققوا الصفة العامة التي أطلقت عليهم وأعطوها مدلولها العلمي لا مدلولها القدحي الذي يستمد أصله الإبستمولوجي من مفهوم الشكل في جماليات تاريخ الأدب إلى نهاية القرن التاسع عشر.
العلاقة بين الشكلانيين:
ما الذي يجمع بين الشكلانيين؟ إن الذي يجمع بين ممارسة الشكلانيين هو هذا المنهج المورفولوجي الذي يجمعون فيه آرائهم وطريقة عملهم. وتتمثل عقيدتهم في التعامل مع الأدب من خلال مستويين:
1 – مستوى التركيز على “العمل الأدبي” وعلة مكوناته.
2 – مستوى إلحاحهم على استقلال الدراسة الأدبية.
وهكذا كان التنظير الشكلاني لهذين المستويين يرمي إلى وضع حد للخلط المنهجي الذي كان يسود الدراسات الأدبية التقليدية، و”أنظمة” SYSTEMATIZE الدراسة الأدبية كحقل متميز قائم الذات. فقد حان الوقت في نظرهم لتحديد حقل الأدب الذي بقي زمنا طويلا كأرض خلاء أو مهجورة وتحديد موضوع دراسته كما قال ياكبسون(6).
لقد صرح الشكلانيون بأنه يجب أن يكون للأدب موضوعه الخاص ولا يخضع للدراسات الخارجية، يقول البولوني م.كيريدي M. KIRIDI >> يجب أن يكون للأدب موضوعه الخاص ومنهجه الخاص وهدفه الخاص.<<(7)، وقد حدد ياكبسون بشكل دقيق موضوع علم الأدب بقوله>> موضوع علم الأدب ليس هو الأدب، ولكن هو الأدبية أي ما يجعل العمل الأدبي أدبيا<<(8). ويضيف إيخنباوم >>إن الباحث الأدبي يجب أن يهتم فقط بالبحث داخل المميزات العامة للمواد الأدبيةLITERARY MATERIALS <<(9).
وقد اعترضت مشاكل عديدة الشكلانيين أثناء مناقشتهم لمفهوم الأدبية نظرا لصعوبة تحديد مكونات هذه الأدبية، وقد وضع ذلك ياكبسون في مقالته “ما هو الشعر؟” بحيث رفض الموضوعات الخاصة بالشعر دون غيره وقال >> اليوم يصلح كل شيء أن يكون مادة للقصيدة<<(10).
وكذلك تجنبوا الحديث عن القدرة العقلية للشاعر أو المبدع، وعن الخيال والحدس والعبقرية، ومثل هذه المصطلحات التقليدية المعروفة في تاريخ مفهوم الأدب. فالأدب يجب ألا ينظر إليه من منظور نفس المؤلف PSYCHE أو القارئ، ولكن من منظور العمل نفسه(11) وذلك لتجنب السقوط في التحليلات النفسية أو الميتافيزيقية للأدب، ولكن الأمر لم يكن هينا في ظل سيادة تقاليد متواترة وسيادة قراءة راسخة في انتظارات القراء في عصرهم.
تركيب الشكلانية:
كانت الشكلانية تنقسم إلى مجموعتين:
1 – حلقة اللسانيات التي كانت في موسكو M.L.K(*) وكان يمثلها الشباب مثل رومان ياكبسون وبيتر و جاتيرف وجريجوري فينوكور، وقد تأسست سنة 1915.
2 – جمعية الدراسات اللغوية المعروفة بـOPAJAZ (**) ولدت سنة 1919 ببترسبورج، وكانت تضم بوريس إيخنباوم وفيكتور شلوفسكي ويوري تينيانوف ول.ب ياكوبنسكي واوزيب يريك وتوماشوفسكي وغيرهم.
إن الشكلانية هي ظاهرة OPAJAZ وهي التي سميت بالشكلانية في البداية، ولم تسم بها حلقة موسكو أول الأمر، ففي الوقت الذي كانت ترى فيه حلقة موسكو أن الشعر لغة في ممارستها للوظيفة الجمالية، فإن حلقة بترسبورج كانت ترى أن الحافز الشعري ليس دائما مجرد أداة لسانية معروفة.
تصنيفات الشكلانيين:
صنفت الشكلانية عدة تصنيفات نذكر منها:
*التصنيف الأول: وضع توماتسوفسكي(12) تصنيفا ثلاثيا للشكلانيين حسب اتجاهاتهم:
1 – المتشددون: وهم الذين ينتمون إلى جمعية الدراسات اللغوية OPAJAZ. ويمثلون اليسار المتطرف للشكلانيين، واشتهر منهم شلوفسكي وإيخنباوم وتينيانوف.
2 – المستقلون: هؤلاء ساهموا في خلق المدرسة الشكلانية وفي أعمالها، لكنهم لم يقبلوا دائما شروطها أو توجهاتها، فاتجهوا اتجاهات مختلفة مثل زيرمنسكي ونيونوغرادوف.
3 – المتآثرون بهم: هؤلاء من الصعب تحديد عددهم.
*التصنيف الثاني: تقسيم إيفاتومبسون EWA THOMPSON يقسم الشكلانية إلى مناهج “مثالية” و”وضعية”: فشلوفسكي يتجه نحو الجمالية المثالية وتينيانوف نحو التوجه الوضعي. ويميز يوري ستندي STENDY بين شلوفسكي وتينيانوف من خلال مفهوم تينيانوف للفن، فالفن عنده مجموعة من الأنساق، مع وظيفة التحوير أو التقريب DEFORMALIZATION مما يجعل الإدراك أكثر صعوبة، ويجعل من العمل الأدبي “نظاما” مكونا من الأنساق التي تتميز وظائفها تواقتيا وتوقتيا، ولم يكن لهذا التمييز أي شأن عند معاصريهما(13).
انسجام الشكلانيين واختلافهم:
لم يكن الشكلانيون يشكلون وحدة منسجمة في التصورات والممارسات بل حتى في عصرهم لم يكن ينظر إليهم على أنهم يشكلون كلا منسجما. فقد كتب أركادجي غورتفليد سنة 1922 قائلا >> إن الشكلانيين مختلفون جدا، فمنهم البسطاء ومنهم من يقلد المنهج الشكلي فقط، ومنهم الموهوبون مثل شلوفسكي ومنهم التوفيقي مثل زير منسكي<<(14).
ويقول بوريس ارفانوف أب الشكلانية “الاجتماعية” إن باحثي جمعية الدراسات اللغوية OPAJAZ لا يمثلون كلا منسجما وإنما العكس، ويمكن ملاحظة ثلاث مجموعات مختلفة.
1 – اليمين المتطرف الذي يلح على الفصل التام بين الشعر والبراكسيس مثل إيخنباوم وشلوفسكي.
2 – الوسط الذي ينخرط فيما يدعى بنظرية الشعرية اللغوية مثل ياكبسون وشلوفسكي.
3 – اليسار المتطرف السوسيولوجي والتقني مثل “اوينب بريك وكوشنتر”(15).
ويرى مير فيرق بأنهم يمثلون أربعة مناهج:
1 – الاتجاه الأكاديمي المتميز برغبته في شرح التناقضات وتجنب صياغة المشاكل تبعا للمبدأ الواحد مثل زيرمنسكي.
2 – الاتجاه الذي ينحو إلى المعالجة النفسية الاجتماعية الجزئية للقضايا الأدبية مثل إيخنباوم.
3 – الاتجاه نحو المنهج السويولوجي مثل توماشوفسكي وياكوزبنسكي.
4 – الاتجاه الرابع هو الشكلاني المتجمد FROZAR FORMLIST ويمثله شلوفسكي(16).
وتدل هذه التقسيمات المتعددة على صعوبة الجمع بينهم في اتجاه منسجم شأن القضايا التأليفية التي تطرح على مؤرخ الأدب، ويمكن للتقسيمات أن تتعدد وتتنوع بحسب زاوية النظر للمؤرخ الأدبي ويمكن أن يصل الباحث إلى نفس النتيجة التي توصل إليها ميرفيرف >> بأن هناك من الشكلانية بقدر ما هناك من شكلانيين<<(17) وهذا لا يعني التنقيص من شأنهم بقدر ما ينسجم والتعدد المنهجي لمقاربات الشكلانيين المفتوحة أمام الذين طبقوها.
تمييزر زيرمنسكي للشكلانيين:
في مقالة زيرمنسكي الغنية والهامة بعنوان “سؤال المنهج الشكلي” يميز الطريقة الشكلانية بالصورة التالية: >> الإسم العام والمبهم “للمنهج الشكلي” غالبا ما يدل على الأعمال المختلفة التي تتعامل مع اللغة الشعرية والأسلوب بالمعنى الواسع لهذه المصطلحات الشعرية التاريخية والنظرية، دراسات العروض، دراسة الأصوات والإيقاع والأسلوب والتركيب وبنية الحبكة، تاريخ الأجناس الأدبية والأساليب، الخ… فمن خلال هذا التعدد الذي لايريد أن يكون بشكل قطعي متباعدا، فإنه من الواضح من ناحية المبدأ أن يكون الحديث لا عن المنهج الجديد وإنما عن المهمة الجديدة للبحث وللدائرة الجديدة لمشاكل البحث…<<(18).
إن المنهج الشكلي هو مصطلح تاريخي وليس مصطلحا تعريفيا تعيينيا، وإن >>ما يميزنا ليس هو الشكلانية” كنظرية جمالية ولا “المنهجية” كنظام علمي مغلق ولكن فقط محاولتنا لوضع قواعد ممتلكات المادة الأدبية وعلم الأدب المستقل<<(19).
ما الذي يجمع بين الشكلانيين إذا؟
إن الذين تتبعوا أعمال الشكلانيين بشكل دقيق في نصوصهم الأولى واللاحقة باللغة السلافية، وتابعوا صراعاتهم كما تبدو من مسيرتهم التاريخية القصيرة المكثفة مثل ياكبسون(*) وفيكتور إرليتش وبترستينر، رأوا أن ما يجمع بينهم هو اقتسام المبادئ الإبستمولوجية التي ولدت العلم الشكلاني للأدب، والذي يجمع بينهم في نظر ستينر هو الوضعية الإبستمولوجية التي كانوا يتحركون في دائرتها كعنصر ناظم لهم.
ولا يمكن للباحث الذي يتتبع أعمال الشكلانيين الروس التي ترجمت اليوم بشكل مكثف ومبكر إلى اللغة الإنجليزية والألمانية ثم إلى اللغة الفرنسية فيما بعد بشكل متأخر وكذلك الدراسات التي أنجزت حول أعمالهم، إلا أن يسجل مثل هذه الملاحظة العلمية التي توصل إليها ستينر حيث تجمع الممارسة في إطار صعوبة تشكلها في الزمن أولا وفي إطار المقاربات الصعبة أحيانا، ثم البحث عن ذلك في الممارسة الأدبية المختلفة من شعر وسرد وأجناس أدبية ونظرية الأدب.
غير أن الذي ساعدهم على إذكاء نشاطهم وتطور حركتهم هو تحاورهم فيما بينهم ومع الفلسفات والأفكار المعاصرة لهم من وضعية ظاهراتية وحتى الماركسية.
>> فتاريخ نظرية الشكلانيين الروس هو نتيجة حوار مستمر بين الشكلانيين أنفسهم أولا، وبين معارضيهم، ولكن هو أكثر بين الشكلانيين أنفسهم الذين يعارضون بعضهم البعض… فقد كانوا في نفس الوقت مناهضين ومناجين ومشاركين في الحوار الهام الذي ينتج ويمثل المنهج الشكلي<<(20).
إن وحدتهم إذا في تعددهم وتعدد ممارستهم، في إطار البحث عما كانوا يسمونه بـ”علم الأدب” أو استقلال الأدب وقد صرح إيخنباوم سنة 1922 >بأننا تعدديون لأن الحياة متنوعة ولا يمكن اختزالها في مبدأ واحد<<(21) بل وفي رده على الماركسيين قال إيخنباوم أيضا >> إن الحياة لم تبن حسب ماركس فقط الكل هو الأحسن<<(22).
وبهذا يكون الشكلانيون >> قد زعزعوا الإبدالات القديمة وقد كافحوا من أجل فتح مجال التنظير ما أمكنهم ذلك<<(23).
وفعلا فقد خلقوا أرضا خصبة للتنظير الأدبي وفتحوا آفاقا لظهور دراسات وتصورات جديدة للأدب مثل البنيوية-حلقة براغ التي نقلت وطورت الإرث الشكلاني، وما سيستتبع ذلك من مناهج أدبية حديثة أخرى. >> فالشكلانية والبنيوية من أهم التطورات التي عرفتها الدراسات الأدبية والنقدية منذ بدايات القرن العشرين<<(24).
الشكلانية في الخطاب النقدي الأوروبي المعاصر:
يقول فيكتور ارليتش >>في سنة 1955 (وهي السنة التي ظهر فيها كتابه عن الشكلانيين الروس بالإنجليزية) لم تكن الشكلانية معروفة في الغرب، ولكن منذ ذلك الوقت، فإن كثيرا من مفاهيمهم ومصطلحاتهم قد أدخلت إلى خطابنا النقدي [يقصد الغربي ] ويرجع الفضل في ذلك إلى التقاء جهود جيلين من الدارسين الغربيين المتباينين في تمثيل وتأويل البنيوية الشكلانية السلافية، مثل ياكوبسون وديمتري تشيفسكي ورونيه ويليك<<(25).
وإذا رجعنا إلى كتاب رونيه ويليك واوستين وارين (نظرية الأدب) الذي صدر سنة 1949 بالإنجليزية، فإننا نجده يشير إلى الشكلانيين ويستعرض بعض آرائهم في تاريخ الأدب خاصة، وبعض ما يتعلق بدراسة الأدب من الداخل ولكنه لم يتوقف عند نصوصهم أو حاول إبراز أهميتهم، غير أنه أشار في الهوامش إلى بعض كتاباتهم، ولم ينتبه المؤلفان إلى أهمية هؤلاء الشكلانيين إلا في الطبعة اللاحقة، حيث أشارا إلى أهم الأعمال التي كتبت عنهم وخاصة كتاب ارليتش عن الشكلانيين الروس (1955) بل سينوه رونيه ويليك بهذا الكتاب في كتابه (مفاهيم نقدية) (1963) الذي ترجمت بعض نصوصه إلى العربية سنة 1987 (ترجمة د. محمد عصفور في سلسلة عالم المعرفة – الكويت، الرقم 110).
لقد عرفت الشكلانية في أمريكا أكثر من أوروبا وقبلها، خاصة بعد رحيل ياكوبسون إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ولا حاجة للتذكير بالتأثير الحاسم لمحاضرات ياكوبسون في نيويورك خلال الحرب العالمية الثانية وأثرها في ظهور الأنتروبولجية البنيوية. فقد ترجم بروب إلى الإنجليزية سنة 1958 في حين لم يترجم إلى الفرنسية إلا سنة 1970.
ومع تطور الدراسات البنيوية التي وجدت مرتعا خصبا في أمريكا، وما عرفته من تطور هام بحكم تميز الدراسات الأمريكية في علاقاتها بالتاريخ الذي يختلف عنه في أوروبا، وتطور الدراسات اللسانية البنيوة بشكلها التوزيعي (بلومفيلد وهاريس) وكذلك الإرث الذي أخذه دي سوسير عن الشكلانيين الروس، وتعرف الأمريكيين المبكر على حلقة براغ من جراء انتقال ياكبسون إلى أمريكا خلال الحرب العالمية الثانية، فإن كل هذا سيساهم في ظهور الأنتروبولوجيا البنيوية. وهكذا تحقق حلم البنيويين في تحقيق حلم دي سوسير في وضع علم الدلالة، وقد راود هذا الحلم أيضا فيلسوفا آخر هو “تشارلز بيرس” أكثر الفلاسفة أصالة وعمقا من الذين أنجبتهم أمريكا كما حاول شومسكي في أواخر الخمسينات بسط حدسيات أستاذه هاريس، وأقام المذهب البنيوي واكتشف البنية العميقة… كما أن البنيوة الأمريكية قد استقبلت ليفي ستراوس وعرفت مؤلفاته انتشارا كبيرا من أي كاتب أوربي آخر، لأنه وجد أرضا خصبة في التفكير الأمريكي غير المثقل بالتاريخ كما يعتمد في أوروبا.
فالمقاربات الأنتروبولوجية عرفت نشاطها في البحث الجامعي الأمريكي بشكل مكثف وأعطت له الأولوية والأهمية لتقصي البنيات الأساسية للموضوع في اللسانيات والأدب وغيرهما، بحيث يذهب إميل فان تيسلار >> إلى أن الفرنسيين لم يفعلوا ببنيويتهم سوى أنهم اكتشفوا الماء في البحر الأنجلو أمريكي. فما اكتشفه الفرنسيون في الخمسينات والستينات كان موجودا عند الأنجلو ساكسيونيين وأن ما كان تزامنيا في فرنسا قد أصبح تعاقبيا في أمريكا<<(26). ورغم هذه النظرية الأمريكية فإنه لا يمكن نكران ما قدمه النقد الفرنسي الجديد منذ الستينات في الدراسات اللسانية والبنيوية والسميائية والفلسفية…
الشكلانيون الروس والنقد المغربي المعاصر:
مقدمة:
إن الحديث عن الشكلانيين الروس يفترض الحديث عن معرفة وثقافة الآخر، ما دامت الشكلانية قد نسبت إلى الروس أولا تمييزا لها عن الشكلانية التشيكية أو البولونية مثلا. وفي جميع الحالات فحديثنا يقتضي الكشف عن انتقال المعارف والأفكار والمناهج والنظريات، انتقال معرفة أدبية أو نسق فكري من فضاء تاريخي وحضاري إلى آخر، من الروس إلى فضائنا المعرفي والنقدي العربي المغربي.
لقد أصبح الحديث عن انتقال المعرفة من مختلف أنواعها أمرا متعارفا بين الحضارات والأمم قديما وحديثا، إلا أن ما يميز عالم اليوم هو انبناؤه على التواصل والاتصال بشكل أوسع من أي وقت مضى بحكم تطور وسائل الاتصال، بعبارة أخرى إنه عالم قائم على المثاقفة “التي تتم في كل لحظة وعبر انتقال مختلف الوسائل التقنية والعلمية والفنية، بل والتنظير لهذا الفعل الإنساني وظهور مفاهيم مثل الحوار والانفتاح ومد الجسور بحيث يمكن تأويل (الإنسان حيوان اجتماعي) بأنه حيوان متثاقف، وكأن المثاقفة أخذت مكانتها في تكون الإنسان وأصبحت من ضرورات وجوده المعاصر.
ولعل حديثنا عن الشكلانيين في النقد المغربي من بعض مظاهر المثاقفة في مستوى معرفي محدد.
الشكلانية والنقد العربي:
إن الشكلانية هي ممارسة لنوع من المعرفة في مستواها النظري والمنهجي في مجال الدراسات الأدبية التي نهتم بها هنا، ولهذه المعرفة الشكلانية نصوص ومؤلفات ودراسات قامت بها مجموعة من الباحثين الروس أولا، تلتها فيما بعد دراسات أخرى لباحثين تشيكيين وبولونيين وغيرهم.
وللشكلانيين إرث كبير وصل إلى ثقافات أخرى مثل الإنجليزية والألمانية والفرنسية وغيرها قبل أن يصل إلينا، وهنا لا بد من التذكير ببعض المفاصل التاريخية لهذه المعرفة.
يمكن أن نسجل بأن اللغة العربية لم تحظ بهذه المعرفة ولم تترجم إليها قبل السبعينات، ولم يكتب لها التداول في المؤسسات العلمية الأكاديمية والجامعية، ولا في الأوساط الثقافية العامة قبل ذلك، وحتى إذا نظرنا إلى تاريخ النقد العربي الحديث منذ بدايات هذا القرن إلى الستينات، فإننا لا نعثر على شيء هام عن الشكلانيين ونظرياتهم ومناهجهم، ويكفي أن ننظر في الكتابات العربية النقدية المعروفة للتأكد من ذلك.
حقا هناك كتاب ترجم إلى العربية سنة 1972 بعنوان (نظرية الأدب) لرونيه ويليك واوستين وارين، ترجمه محي الدين صبحي وراجعه الدكتور حسام الخطيب في سوريا، ووصل إلى المغرب في الفترة نفسها، وتداولته الدراسات الجامعية والأوساط الأدبية لكنه بالرغم من ذلك لم يثر انتباه القارئ أو الباحث العربي في المشرق أو المغرب إلى ظاهرة الشكلانيين، لقد مر إذا هذا الكتاب إلى الثقافة العربية بهدوء رغم أهميته المدرسية والعلمية، مع العلم أن في ثناياه إشارات عديدة إلى أعمال الشكلانيين مثلا في :تاريخ الأدب، ملامح الدراسة الداخلية للأدب، مفهوم النسق والمهيمنات، الإشارة في المراجع إلى بعض المؤلفات التي اهتمت بالشكلانيين مثلما فعل رونيه ويليك في الطبعة الثانية التي ترجم منها الكتاب إلى العربية، حيث أشار إلى أعمال فيكتور ارليتش “الشكلانيون الروس: التاريخ – المذهب 1955”.
هل يمكن تفسير ذلك بأن المراجع والمصادر التي يحيل إليها الكتاب مكتوبة بالإنجليزية؟ يمكن أن نفهم عدم انتباه القارئ أو الباحث المغربي إلى ذلك بحكم عدم تمكنه من اللغة الإنجليزية لأسباب تاريخية وتربوية في مرحلة معينة، غير أن الباحث المشرقي الذي ترجم (نظرية الأدب) إلى العربية لم يتوقف بدوره عند مصادر الشكلانيين الروس ولم تدفعه إلى الاهتمام بهم لا من قريب ولا من بعيد، معنى هذا أن اللغة ليست هي العائق بل هناك سبب آخر.
إن عدم الاهتمام بالشكلانيين الروس في النقد العربي الحديث عامة في وقت مبكر يمكن فهمه في إطار الرأي العام الأدبي العربي السائد آنذاك في العالم العربي حيث كان يتعامل مع النظريات أو المناهج التي تثير القضايا الاجتماعية في إطار الواقعية والاشتراكية، وتهتم بالجوانب الإيديولوجية والسياسية وما يرتبط بجماليتها الأدبية، وربما نطرح هنا هذا السبب العام لنعفي أنفسنا من البحث في الجوانب الأخرى، وربما نذهب إلى نوع من الافتراض هو أنه حتى لو كشف عن الشكلانية في الخمسينات أو الستينات ربما لم تكن لتجد من يتعامل معها بنوع من الحماس، وربما كانت ستبقى في الظل كما بقيت كثير من الأفكار والآراء والمذاهب الأدبية التي تحتاج إلى زمنها لتقرأ، كما أظهرت ذلك نظرية القراءة وتاريخ القراءة.
ولعل تأخر بعض الأفكار أو المناهج الفكرية والأدبية في أدب إنساني معين يخضع إلى ملابسات كثيرة ومتنوعة منها ما هو ثقافي ومنها ما هو خارج عن ذلك، فتأخر ظهور الشكلانيين الروس في النقد العربي الحديث لا يقتصر عليه فقط، فالنقد الفرنسي مقارنة مع النقد الأنجلوساكسوني أو الجرماني نجده متأخرا عنهما، وربما حين ظهرت الشكلانية في فرنسا فقد أعطيت لها حيوية أكثر من منظورنا في العالم العربي على الأقل.
طريق الشكلانيين إلى النقد المغربي:
إذا كانت الشكلانية لم تعرف في الخطاب النقدي العربي المشرقي. الذي كان متداولا في الستينات، فإنه يجب أن نقرر بأن الشكلانية لم تدخل إلى النقد المغربي عن طريق الخطاب المشرقي. وستشكل هذه المسألة نوعا من أخذ المبادرة من طرف النقد المغربي المعاصر الذي سيبادر إلى اختيار مصادره ومراجعه خارج المنظومة النقدية العربية أو خارج سيرورته، فالمرجع الشكلاني المغربي ليس مرجعا عربيا مشرقيا، في حين أنه يمكن أن نتحدث عن المرجعية العربية المغربية في المناهج التاريخية واللغوية والاجتماعية. وهذه نقطة تحول أولى في مسار النقد المغربي ستسمح للناقد المغربي أن يتخذ مثل هذه المبادرة وغيرها ليساهم في إغناء النقد العربي عامة أو على الأقل يكون عنصرا منتجا فيه لا متلقيا أو متعلما فقط، في وقت كانت فيه المبادرة وقفا على أخيه في المشرق العربي زمنا طويلا ومازالت في بعض المجالات.
مع توفر شروط اتخاذ المبادرة لم يصبح النقد المغربي يتلقى فقط وإنما سيحاول تكسير المفهوم الخطي لتداول الأفكار الأدبية ويؤثر في التراتبية المعرفية والنقدية منها خاصة، التي تشكل السيرورة الأدبية في المغرب، بحكم ارتباط النهضة الأدبية المغربية بالمؤسسة الأدبية العربية في المشرق من الأستاذ المشرقي والمجلات والكتب والبعثات وسيادة النموذج المشرقي في المجال الأدبي، وبحكم عوامل سوسيوتاريخية وسوسيوثقافية وقعت تحولات كثيرة في أواخر الستينات سواء في المغرب أو العالم العربي أو العالم الأوروبي والأمريكي أيضا.
ففي المغرب كانت المبادرة لإثارة السؤال على الفكر العربي المعاصر للباحث عبد الله العروي في كتابه (الإيديولوجية العربية المعاصرة) المترجم إلى العربية سنة 1970، حيث سيكشف عن بعض الأنساق الفكرية العربية الحديثة التي سيكون لها تأثير على مغرب السبعينات الفكري والإيديولوجي والأدبي، وتبدأ في الظهور معالم انحسار البنية التقليدية في مختلف صورها، وسيكون لهذه المرحلة التاريخية مع نهاية الستينات وبداية السبعينات أثرها في البحث عن تصورات جديدة للعالم ومنها التاريخ الأدبي المغربي والنقد المغربي، ولعل إعادة اكتشاف الذات في المغرب قد عبرت عنها كثير من المظاهر الفنية والفكرية والاجتماعية مع بداية السبعينات.
الشكلانية في المغرب:
إذا رجعنا إلى الدراسات النقدية التي أنجزت قبل بداية السبعينات في تاريخ النقد المغربي، فإننا نجدها كانت تتراوح بين الدراسات اللغوية للنص والدراسات الانطباعية والاجتماعية والتاريخية، حيث تم تصنيف النقد المغربي في هذه المرحلة إلى المنهج التقليدي اللغوي الانطباعي والوصفي والمنهج الاجتماعي والجدلي والبنيوي التكويني فيما بعد(27).
إلا أن المناهج التقليدية خاصة ستخضع للمساءلة بل المواجهة مع نهاية الستينات بحكم ما تميزت به هذه المرحلة على الصعيد العربي والمغربي والعالمي أيضا، إذ أصبحت لا تنسجم والوضعية الإبستمولوجية التي أفرزتها المرحلة. ولهذا سيعيش النقد المغربي بعض مظاهر ما عرفه الشكلانيون في بداية مراحلهم وخاصة من جماعة الشباب الذين أخذوا على عاتقهم مواجهة النقد الأكاديمي الروسي الموروث عن القرن التاسع عشر.
ولاشك أن جماعة من الشباب في المغرب ستحاول أيضا البحث عن مناهج جديدة لمواجهة النقد المغربي الذي ساد في أواخر الستينات. قد نقول إن بعض الأوضاع التاريخية المتماثلة قد تنتج أفعالا ونشاطا متماثلا أيضا في مستواه الإبستمولوجي على الأقل. وسيكون لهذا البعد بعض تجلياته حينما يريد الناقد المغربي أن يقوم في الدراسة الأدبية المغربية بما يقارب ما قام به الشكلاني في دراسته الأدبية أول الأمر، وهو النزوع إلى تطبيق مناهج ساهمت في خلق مفاهيم جديدة ومغايرة للأدب والنشاط الفني، خاصة وأن المنهج الشكلي كان قد عرف تطورا وحضورا هاما في الدراسات الفرنسية في الستينات.
لم يكن لينتبه الناقد المغربي إلى إنجازات الشكلانيين الروس إلا بعد أن وصلت أعمالهم إلى النقد الفرنسي حيث لم تسعفه سيرورة النقد العربي على الاطلاع على ذلك، لأن النقد العربي في المشرق لم ينتبه إلى أعمالهم لسبب أو لآخر. وسيلتقي الناقد المغربي مع أعمال الشكلانيين الروس وقد خضعت لكثير من الدراسات واعترتها عدة تطورات. هكذا كان على الناقد المغربي أن ينتظر حتى تترجم أعمال الشكلانيين إلى الفرنسية ليتمكن من الاطلاع عليها في تلك اللغة، وينقل المنهج الشكلي من الفرنسية مباشرة بعد أن انكبت الدراسات الفرنسية على أعمالهم ترجمة ودراسة، فظهرت كتب مثل (نظرية الأدب، نصوص الشكلانيين الروس) ترجمة تزفيطان تودوروف سنة 1965، و(مورفولوجية الخرافة) لبروب سنة 1970، و(نظرية النثر) لشلوفسكي سنة 1973، و(شعرية النثر) لتودوروف سنة 1971، وظهرت كتب أخرى منذ ذلك الوقت مترجمة إلى الفرنسية.
ومنذ أواخر الستينات ظهرت أبحاث وأعداد خاصة من المجلات والدوريات العلمية والأكاديمية الفرنسية خاصة بالشكلانيين الروس مثلا:
–Change 1969
–Semiotica n°1 1969
–Langue Française n°7 1970
–Revue d’histoire littéraire n°5/6, 1970
–Poétique 1970/1971
–Revue d’esthétique n°24, 1971
–Degrés n°1, 1973, n°3/4n 1973
–Critique n°322, 1974
–L’arc n°60, 1975
–La quinzaime littéraire n°352, 1982
–Le Magazine littéraire n°192, Fev. 1983
–Tel quel n°35.
هكذا سيعتمد الناقد المغربي على المرجع الفرنسي والمرجعية الفرنسية الشكلانية في الاطلاع على بعض أعمال الشكلانيين ونقلها إلى النقد المغربي وربما ستكون هذه هي الفرصة التي سيتخذ فيها النقد المغربي مبادرة لتنويع مراجعه إلى جانب مرجعه العربي المشرقي. وقد يسمح هذا الفعل بالمشاركة في إغناء النقد العربي عامة ويعلن عن بعض قدراته أيضا.
ولإبراز علاقة النقد المغربي بالشكلانيين الروس، سأحاول أن أتتبع أعمال حالة نقدية خاصة، أي القيام بتتبع ما قام به الناقد المغربي إبراهيم الخطيب دون غيره، لا لأنه هو الناقد الوحيد الذي قام بذلك، ولكن فقط لأنه أكثر النقاد المغاربة اهتماما بأعمال الشكلانيين الروس، وفي مرحلة مبكرة من حياته النقدية، ولأنه أيضا من الأوائل الذين ترجموا بعض أعمالهم من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية. وكانت له مشاريع طموحة في نقل أعمالهم أنجز منها جزءا مهما. وربما اختيار ناقد واحد فقط يعود أيضا إلى اختيار منهجي يبرره كون البحث لم يستوف كل الأعمال التي قام بها النقاد الآخرون إلى الآن، ويبقى البحث مشروعا لإتمام ذلك مستقبلا. والتعامل بالنموذج النقدي هو اختيار منهجي فقط يقربنا أكثر إلى معالجة الموضوع بدقة في مرحلته الأولى، حتى لا أتقول على النقد المغربي أو أسقط في تحليل لاتقوى فرضياته على تحمل نتائجه.
وأعتبر أن مثل هذه المقاربة للمنهج الشكلي تفترض تتبعا دقيقا لكل الأعمال التي أنجزت في هذا الباب، كما يفترض ذلك البحث المقارن أو البحث في تاريخ الآداب والنقد وتاريخ الأفكار. ولا أدعي بأنني قد تمكنت من القيام بهذا العمل الآن. وقد يكون لمنهج التعامل مع ناقد واحد ما يسمح بتعميم ذلك على نقاد آخرين واستجماع متنهم النقدي المتنوع والمتفرق.
الخطيب والمنهج الشكلي:
يرجع الخطيب اهتمامه بالشكلانيين إلى بداية السبعينات في استجواب له نشر في جريدة أنوال (1983)(28) بعد صدور كتاب (نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس)(29) حيث اطلع على ما كتب بالفرنسية عن الشكلانيين خاصة كتاب (نظرية الأدب لتودوروف(30)، ويظهر أنه كان ينوي ترجمة كثير من النصوص التي لم تنقل بعد العربية، خاصة كتاب حول نظرية النثر لسلوفسكي(31)، غير أنه لم يتمكن من ذلك.
يقول الخطيب في استجواب جريدة أنوال >> لقد كان ذلك أول لقاء لي بكتاب نظري يهدف إلى وصف ما يسميه بارت “بالأشكال الفارغة” [ النقد والحقيقة] وفي نفس الوقت أول لقاء بتراث في التحليل النظري للأدب ظل مجهولا في النقد الأدبي العربي إلى حدود السنوات الأخيرة<<.
هنا يتحدث عن كتاب تودوروف (نظرية الأدب، نصوص الشكلانيين الروس، 1965) الذي كان الحافز الأول للخطيب على تبين ممارسة جديدة للأدب.
ويشير في نفس الاستجواب إلى أن الترجمة استغرقت منه سنتين، وتطلب منه ذلك مجهودا لشرح عدد كبير من الإشارات والمفاهيم والمصطلحات. بمعنى أن الترجمة دفعته إلى قراءة بعض المؤلفات أو المؤلفين الشكلانيين، وهذا واضح في كتابه (نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس). وقد شجعه محمد برادة على نشر الترجمة بعد اطلاعه على المخطوط المترجم، كما طلب منه عبد الكبير الخطيبي وضع ملحق توضيحي يتناول شرح المصطلحات المحورية لنصوص الشكلانيين. ويظهر في الاستجواب المذكور، أنه اطلع على الملابسات التي أحاطت بظهور الشكلانية حيث وصفها بأنها ظهرت في ظروف معقدة، >>فقد عبرت الشكلانية من جهة عن معارضة النقد الأكاديمي الذي كان يستمد معارفه من كل شيء إلا من النص الأدبي، كما كانت من جهة ثانية تدعيما للحركة المستقبلية التي أعطت للشكلانية نصوصا تثير مشاكل نظرية متنوعة بخصوص الوظائف المختلفة للغة الأدبية. ومن جهة ثالثة فإن الشكلانية استطاعت أن تلبي الحماس المشتعل الذي خلقته ثورة أكتوبر 1917 في المثقفين الروس لكل ما هو جديد، وإن كانت لم تجار التوجهات الإيديولوجية للسلطة بخصوص الوظائف العلمية للكتابة والقول الأدبي، على أن أبرز عنصر في هذا السياق هو الحوار المنتج المستمر الذي دار فيما بين اللسانيات وأبحاث الشكلانيين ثم تباين هدفهما<<(32).
ويرى الخطيب أن أهمية هذه النصوص الشكلانية تكمن فيما أفادت به الدراسات البنيوية والتكوينية والمورفولوجية والدلالية، إذ أن كثيرا من المفاهيم المتداولة في هذه المحاولات مستمدة من أعمال الشكلانيين الروس >> غير أن هذه الأهمية التاريخية تتضاعف عندنا بأهمية (منهجية) فالنقد العربي الحالي يكاد يجهل المصطلح الشكلي، وربما شعر إزاءه بنوع من الإزدراء نظرا لهيمنة المنطق الإيديولوجي<<(33).
وفي رأيه أيضا أن نصوص الشكلانيين وإذا كانت ذات توجه نظري، فإنها ليست ذات توجه نقدي معياري >>وفي هذا الإطار لا أستبعد أن يؤدي نشر نصوص الشكلانيين الروس إلى بلورة بعض مشاكل النقد الأدبي في المغرب أو إلى خلخلة بعض توجهاته الأحادية<<(34). ويقول بأن له مشروعا لقراءة كتاب (حول نظرية النثر) لشلوفسكي،قصد إعداد أرضية لترجمته: >>إن هذا الكتاب يعبر عن الطبيعة العميقة لعمل الشكلانيين، وهي ترددهم المستمر فيما بين العمل الجزئي والقصد الشامل، وتلك وضعية منهجية وسمت تجربتهم بالتوهج ووصمتها ببعض القصور<<(35).
إن المتتبع للخطاب النقدي عند إبراهيم الخطيب منذ أواخر الستينات سيلاحظ في فترة من فترات ممارسته أنه بدأ يفكر في كتابته ويعيد بناءها في الوقت الذي التقى فيه بأنماط من الكتابة النقدية الأوروبية الحديثة. واتخذت الكتابة عنده مسارا آخر فأصبح لا يتقدم بنفس السرعة والسهولة التي كانت عنده من قبل ذلك عندما كان يكتب من مرجع عربي. وعندما بدأ يكتب من منظومة مرجعية أوروبية انتبه إلى ما يعتري كتابته من فجوات وضعف منهجي، ولذلك ركن إلى الحذر والكتابة المركزة التي تكتب وتنكتب، كتابة تفصح عن نفسها قبل أن تصف موضوعها.
يتحدث الخطيب في أقلام المغربية سنة 1978 عن الكتابة بواسطة الغرب، عن قيمة الغرب كظاهرة، كتابة تشغل قسطا هاما من النوع الروائي العربي. ويرى >> أن الغرب جزء من كياننا الأنطولوجي، فمن يكتب الرواية يكتب عن الغرب وبالغرب<<(36)، >> وأن اللغة الروائية الأوروبية أحدثت هزة في الأساليب الروائية العربية، الأسلوب المنقطع، أسلوب التعاقب<<(37).
ويمكن أن نقول بأن الغرب قد ظهر أيضا في كتابته النقدية بالشكل الذي حاكى به الشكلانيين الروس في مقاربتهم للنص الأدبي والسردي خاصة. وبهذا يريد الخطيب إدخال الخطاب النقدي المغربي في إطار الإنساني بعيدا عن الجغرافية النقدية الضيقة، وهذا اتجاه بدأ يظهر في بعض المقاربات النقدية المغربية المعاصرة كمفهوم الشعرية الكونية عند محمد بنيس مثلا في كتابه (التقليدية)(38).
ترجمة الخطيب لنص إيخنباوم: “نظرية المنهج الشكلي”
ترجم الخطيب هذا النص مرتين: الترجمة الأولى نشرها في مجلة الثقافة الجديدة، عدد4، 1975، ثم ترجم النص ترجمة كاملة ووضع له تقديما وهوامش، ونشره في مجلة أقلام عدد 10، أكتوبر 1979. ويتبين من الترجمة الثانية اهتمام الخطيب بترجمته وتقدم قراءته للشكلانيين أيضا. كما اهتم بصياغة مصطلحاته فأصبح مصطلح الإنشائية هو الشعرية وعلم شكل الحكاية مورفولوجية الحكاية. وهذا المصطلح الأخير هو الذي سيعتمده في ترجمته لكتاب بروب فيما بعد (مورفولوجية الحكاية).
ويظهر من المقدمة التي كتبها لنص إيخنباوم بأن الخطيب بدأ يهتم أكثر بالشكلانيين ويبحث فيهم كثيرا، ويحاول أن يقدم للقارئ العربي جملة المعارف والشروط التي تساعد على قراءة هذا النص، والفرق واضح بين ترجمته الأولى (1975) والثانية (1979). ففي هذا النص نلاحظ تتبعه لأعمال الشكلانيين وتقديم ملاحظات تاريخية ونقدية عن الشكلانيين، ومحاولة التمكن من منهجهم وقراءة نصوصهم المترجمة إلى الفرنسية خاصة.
ماذا قرأ الخطيب للشكلانيين؟
من الصعب القول بأنه أحاط بكل أعمالهم، ولكنه أطلع على أهم النصوص التي أتاحها له المرجع الفرنسي الذي اعتمد عليه، خاصة ما ترجمه تودوروف أولا، ثم ما ينشر في المجلات العلمية الفرنسية خاصة: POETIQUE و CHANGE، كما ركز على النصوص التي تثير اهتمامه خاصة تلك التي تهتم بالسرد والنصوص النظرية العامة أو النصوص التطبيقية التي ستكون لها علاقة بالنصوص المغربية التي سيجرب عليها بعض المفاهيم الشكلانية.
ولم يكن الخطيب مهتما بالدراسات الشكلانية حول الشعر بل سيكون ذلك الاهتمام من نصيب بعض النقاد المغاربة الذين اشتغلوا بالنص الشعري.
المنهج الشكلي في أعمال الخطيب:
من الصعب فرز الدراسات الشكلانية وعزلها داخل الصيرورة الزمنية التي كان يعرفها النقد المغربي منذ السبعينات. فالممارسة الشكلانية ترجمة وتطبيقا على النص المغربي لم تكن لتمنع الخطيب من ممارسة مناهج أخرى كانت متزامنة في الفضاء النقدي للسبعينات، وهكذا كانت تظهر له أحيانا مقاربات شكلانية لـ”سأبكي يوم ترجعين” و”اللوز المر”، ثم تظهر مقاربات بنيوية تكوينية حينما يعتمد على لوكاش وجولد عمان، خاصة في دراسته الهامة للرواية المغربية المكتوبة بالعربية (أقلام عدد4، 1977).
في هذه الدراسة يتحدث عن الروائي والتاريخي في مجموعة من الروايات المغربية: (في الطفولة) لعبد المجيد بنجلون (المعلم علي) و(دفنا الماضي) لعبد الكريم غلاب، (المرأة والوردة) لمحمد زفزاف، (الطيبون) لمبارك ربيع، (الغربة) لعبد الله العروي، مع الإشارة إلى (الماضي البسيط) لإدريس الشرايبي، وتوقف الخطيب في هذه الدراسة عند تيمة (موضوعة) الواقعية في علاقتها مع التاريخ الوطني والسياسي، ومحاولة الإبقاء عنه في شكله المعاش كما هو الحال عند العروي وزفزاف، وكان نموذجه هنا هو عبد الكبير الخطيبي الذي قام بدراسة مماثلة للرواية المغربية الفرنسية من قبل، ترجمها محمد برادة إلى العربية، خاصة في بعض مفاهيمه عن الواقعية والإتنوغرافية والنقد التيولوجي.
كما اعتمد أيضا في هذه الدراسة على مفاهيم البطل الإيجابي، وسوسيولوجية الرواية والرواية التاريخية في مفهومها المتقدم عند لوكاش.
لم يكن ليبتعد الخطيب عن الرأي العام الأدبي والنقدي الذي هيمن في السبعينات مثل النقد الاجتماعي والإيديولوجي والبنيوي والتكويني. فكان لا بد له أن ينخرط من حين لآخر في النسق النقدي المهيمن مع الرجوع من حين لآخر إلى قناعاته العلمية والمنهجية التي بدأ يكتسبها من جراء قراءته للشكلانية ومحاولة كشفه وإلقائه في الساحة النقدية المغربية بنصوص الشكلانية النظرية التي كانت تستأثر باهتمامه، وهكذا كان يخرج بين الفينة والأخرى نصا مترجما في 75. 78. 81. 83. 1986.
كان الخطيب إذا يشتغل في ممارسته النقدية على ثلاثة مستويات:
1 – قناعته بضرورة إدخال النص الشكلاني والبنيوي إلى الخطاب النقدي المغربي.
2 – ممارسة لعبة الانخراط في الصراع الثقافي والنقدي الذي كان يتزعمه المنهج الاجتماعي والبنيوي التكويني على مستوى الرأي العام النقدي، الذي يتجاوب والأجواء الاجتماعية والثقافية والسياسية أكثر من أي منهج آخر في تلك المرحلة.
3 – ممارسة النقد التطبيقي-التجريبي لبعض أدواته المنهجية للشكلانية من حين لآخر بشكل هادئ وهو يعلم أنها تخلخل الخطاب النقدي التقليدي وتغرس نقلات جديدة في النقد المغربي.
تجريب المنهج الشكلي عند الخطيب:
لقد حاول إبراهيم الخطيب أن يعطي للنصوص الشكلانية التي ترجمها مفعولا ما وأن يغرس مفاهيمها في النقد المغربي من خلال تجربته وتطبيقه لذلك على عدة نصوص سردية مغربية. وسنرى إلى أي حد طوع هذا المنهج الشكلي أو طاوعه في النص المغربي. وسنعتمد على بعض الدراسات التي يظهر فيها المنهج الشكلي واضحا.
1 – >> رفقة السلاح والقمر(39) – ملاحظات في السرد الروائي<< آفاق، عدد1، السلسلة الجدية، 76/1977.
لم يهتم إبراهيم الخطيب في هذه الرواية القومية إلا بالجانب الشكلي حينما قال >> ليس من اللازم محاكمة الكاتب على نيته، وما يهمنا الآن هو معرفة النص كما هو، وأننا سنفترض أن الإسهام الحقيقي لهذا النص هو إسهام لا يمكن تقييمه إلا على مستوى الشكل. لقد كان ربيع يجرب إمكانياته…<<(40)، ويستخرج الخطيب نوعي السرد اللذين تقوم عليهما الرواية.
1 – السرد المباشر
2 – الخط السردي الثاني، حديث الراوي عن “حرب” سلام بن ميمون الذي يتميز باتساعه وتعدد لحظاته.
كما يستخرج فروع الحكاية >> في الواقع فإن هذا الخط السردي يتالف من “فروع” حكائية صغيرة، حكاية أوباها وسامية وأبو الحديث..<< ثم حاول أن يوظف مفهوم “التوازي” الذي يحكم السرد في الرواية، >> غير أنه من الضروري الإشارة إلى أن هذين الخطين السرديين اللذين يشكلان عمق الرواية يأتيان في النص بحالة التداخل والتوازي<<(41).
إن الذي نظر إليه الخطيب في دراسته الرواية هنا هو الشكل الذي كتبت به ومحاولة تجريب الاشتغال بالمفاهيم الشكلانية المتمثلة في أنواع السرد ومفهوم التوازي، ولم يهتم إلا بهذين المفهومين وحاول بناءها من خلال الرواية، ولهذا جاءت دراسته مقتضبة اهتمت بالنسق فقط، وإثبات صلاحية الاشتغال بمفاهيم شكلانية محدودة، حتى إنه لم يكلف نفسه عناء كتابة المراجع، ولخص قراءته بنوع من الاقتضاب والسرعة بحكم ما مكنته منه تلك المفاهيم المحددة الشكلية.
ونفس الاهتمام بمفاهيم شكلانية محددة نجده في:
2 – “ظلال، الكتابة وخارج الكتابة”. آفاق عدد2، السلسلة الجديدة 77/1978.
في هذه المقاربة لمجموعة إدريس الخوري (ظلال)(42) يتحدث الخطيب عن مفهوم النسق حيث يرى هيمنة لأنساق الحديث الفردي على حساب أنساق الحديث القائم على التبليغ.
>> إن هذه الأزمة القائمة بشكل “طبيعي” في قصص إدريس الخوري، هي ما يفسر لنا لماذا نتوقف أحيانا القراءة لنساءل هل تضيف هذه الجملة “شيئا” إلى البناء الحكائي أم لا؟<<(43).
ويفصح الخطيب عن توجهات قراءته التي تبحث عن شكل الحكاية وكيف صيغت، كما بحث قبله الشكلاني إيخنباوم عن كيف صيغ معطف غوغول. ولهذا يقول الخطيب إن >>قراءتنا لنصوص الخوري قراءة مزدوجة:
1 – من جهة نبحث عن تفاصيل البناء الحكائي (قراءة طولانية)
2 – تنظيم الهيكل اللغوي الذي يتشكل إلى جانب الحكاية (قراءة عرضانية)<<(44).
3 – >> قبور في الماء(45). الواقعية ونسق الاستطراد<<. آفاق، عدد4، 1979.
يهتم في هذه الدراسة بالمادة الحكائية وبمفهوم البناء الذي استعمله تينيانوف، حيث يحيل عليه الخطيب ويحاول تقصي آثاره. ومرجعه هنا هو تودوروف (نظرية الأدب، نصوص الشكلانيين الروس)، يقول الخطيب >>يجب التنبيه مقدما إلى أن هذا التحليل يتناول مستوى السرد LA NARRATION وليس مستوى الحكاية LA FICTION<<(46) وسيهتم بمحاولة الربط بين “الاستطراد” كمبدأ منظم والانطباع الواقعي الذي تتركه رواية (قبور في الماء) لدى القارئ.>>إننا نعني “بالمبدأ المنظم” قيام أحد عناصر البناء الروائي بدور المهيمن بحيث لا تتحدد وظائف باقي العناصر إلا في إطار علاقتها به.. ومن البديهي الاستنتاج بأن تحليلنا لن ينصب على ما يسمى “موضوع” الرواية وإنما على مادتها الحكائية<<(47).
هنا يظهر الخطيب بأنه يقدم مفهوما وأداة للتحليل ويشير بأنه سيركز على المادة الحكائية أي الشكل الحكائي ثم يحلل الرواية بعد استعراض تكوينها من أصل القصة القصيرة إلى انبنائها بالشكل الذي يسمح له بالتعامل معها وكأنها كذلك، ويحدد وحداتها الحكائية والمبدأ المنظم لها.
لقد اشتغل الخطيب إذا بمفهوم البناء الحكائي لتينيانوف في رواية (قبور في الماء)، بحيث أسعفته تلك الأداة الإجرائية على تبين تكون هذه الرواية التي كانت في الأصل قصة قصيرة كما أثبت ذلك، وأثبت قدرة “البناء الحكائي” على الإمساك بهذا البناء الذي يقدر على الإمساك بالمبدأ المنظم الذي يجمع عنده خيوط سرد الحكاية ويوزعها.
لاشك أن تشغيل مفهوم البناء الحكائي لتينيانوف في الرواية المغربية (نص قبور في الماء لزفزاف) يثير الاهتمام إلى الجانب الشكلي الذي يقوم عليه السرد المغربي. ويبدأ الاهتمام بهذا الجانب الذي يؤطر التخييل العربي المغربي. وسيعرف هذا المفهوم انتشارا وتداولا واستثمارا في نصوص أخرى، وبذلك سيكون لهذا النسق المعرفي والإجراء المنهجي دور في توجيه الدراسة النقدية المغربية، ومن جهة أخرى تمكنه من ضبط ممارسته وإغناء تصوراته.
4 – >>ملاحظات في السرد والتركيب في “اللوز المر”<<. الملحق الثقافي لجريدة المحرر، عدد 3،05،1981.
يحاول الخطيب في هذه المقالة النقدية أن يمسك بالنموذج الشكلي الذي بني عليه نص (اللوز المر)(48) لكي يتوصل إلى إجابة ممكنة أو جزئية عن فرضية طرحها على نفسه تتعلق بمشاكل الكتابة لدى محمد الهرادي. لهذا حاول إبراهيم الخطيب البحث عن النموذج الشكلي أو عن نسيج الكتابة أكثر مما عبر عنه بالكتابة، وهو نفس ما عبر عنه الشكلانيون بقولهم:>>إننا لا نبحث عما يقوله الأدب ولكننا نبحث عن الكيفية التي قال بها الأدب<<.
يهتم الخطيب إذا بالشكل الذي ينتج المعنى أو المعاني الفارغة بتعبير رولان بارت، وهدفه أن يتثبت فيما إذا كانت هذه المعاني الفارغة قادرة على احتواء معنى مملوء، ولأمر ما كان الخطيب يركز في خطابه النقدي على نسق الكتابة السردية. كان الخطيب يبحث عن بنية القصة أكثر من أي شيء آخر، فحاول عزل بنيتها عن كتابتها ليرى مدى استجابة هذا النموذج الشكلي للمحكي الروائي. وتكفي الإشارة إلى أنه كان يبحث عن المتن الحكائي ووضعية الراوي وبناء الرواية كنسق تركيبي ليبني النموذج الشكلي فيصل في النهاية إلى>>عدم وضوح وظيفة المتن الحكائي العام كمرجع نهائي لظواهر الكتابة المترتبة عن التركيب<<(49).
تظهر هذه المقاربة بأنها تهتم بالمنهج وتريد الوصول إلى نتائج تثبت صلاحيته وجدواه. ثم إن المصطلحات والمفاهيم التي استعملت من هذه المقاربة تعرف جذورها في المنهج الشكلي عند شلوفسكي وإيخنباوم في دراستهما للنصوص السردية، وإن كان لا يشير إلى أصول هذه المصطلحات ومراجعها. وربما لأنها كادت تصبح معروفة لدى القارئ العربي المغربي في نظره…
ومن أهم نتائج هذا المنهج الشكلي في نقد الخطيب أنه كان على وعي بجدة هذه الكتابة وضرورة تبسيطها ليكون قارئه الجديد أيضا. من ذلك أنه كان يشرح مصطلحاته في الهامش مثل النموذج الشكلي-المتن الحكائي، ومثل هذا العمل أو هذا الوعي لم يكن عنده في مقارباته الاجتماعية السابقة للمرحلة الشكلانية والبنيوية عند الخطيب.
خلاصة:
يمكن لهذه النصوص النقدية التي اخترناها للخطيب أن تكون قد قربتنا إلى موضوع هذه الدراسة، بحكم ما حملته سواء في طريقة معالجتها لموضوعها أو في قصدها المنهجي، لتدل على مدى سعي الخطيب إلى استنبات المنهج الشكلي في النقد المغربي. وقد أسعفته تطبيقاته على إبراز أهمية ذلك المنهج في مقاربة النص السردي المغربي بشكل يبرز التفاوت بين مقاربته هو أولا غير الشكلانية، ومقاربات أخرى كانت سائدة في النقد المغربي قبل ترجمة النصوص الشكلانية والتعامل معها، وحتى أثناء تزامن مقارباته الشكلانية مع مقاربات أخرى اجتماعية أو إيديولوجية أو بنيوية تكوينية. ولهذا يمكن أن نميز في خطابه النقدي ذي التوجه الشكلاني بعض الخصائص التي ميزته عن كتاباته الأخرى:
1 – تقديم أدواته الإجرائية في بداية المقاربة والمنهج الذي سيتبعه في ذلك، مكتفيا أحيانا بمفهوم أو مفهومين يبني بهما النص الذي يعالجه.
2 – اتسمت مقارباته الشكلانية بالاختصار والاقتضاب حتى يتحكم في أدواته ومنهجه ولا يريد من خطابه أكثر مما تسمح له به تلك الأدوات. ولهذا لم تكن مقارباته هنا طويلة النفس بحكم نزوعها إلى التقنية التي تخاف من الاستطراد غير المبرر.
3 – حذر المجرب لأدوات يعرف قصدها المنهجي وحدودها، وكأنها تحمل بعدا تربويا قويا، مما كانت له نتائجه الهامة في استنبات مفاهيم الشكلانيين بطريقة تمكن القارئ العربي من استيعابها ضمن منظومته المعرفية العربية. ويتجلى ذلك بشكل واضح في انتهاء الخطيب دائما في مقالاته النقدية إلى خلاصات نظرية ترسخ ما كان يهدف إليه، ولو كانت تلك الخلاصات مقتضبة، وهذا يبين أيضا أنه حينما كان يروج للمنهج الشكلي، فإنه كان مدركا ومستحضرا لقارئه الذي يريد أن ينتج معه النص. وهذا ما سيظهر فيما بعد حينما ينتشر المنهج الشكلي في النقد المغربي ويصبح متداولا بشكل أوسع موازاة مع المنهج البنيوي والبنيوي التكويني وغيرهما.
والخلاصة الأخيرة أن ما قام به إبراهيم الخطيب كنموذج نقدي مغربي، كرس جهدا لا ينكر في ترجمة نصوص الشكلانيين وتجريب ذلك على نصوص مغربية بشكل ساهم في توليد خطاب نقدي جديد وخاص يمكن أن يكون بداية لمرحلة نقدية جديدة في المغرب، ربما كان لها أثرها في إغناء الممارسة النقدية العربية عامة، وهذا يؤكد أهمية تنويع وإغناء المراجع والمرجعيات النظرية للنقد العربي، والمغربي خاصة، إذا أراد أن يوسع من دائرة أفقه النظري والمنهجي ويقدم إضاءات أوسع للأدب المغربي والعربي عامة.
مجلة الجابري – العدد التاسع
الهوامش:
1 – مقدمة كتاب: ERLISH VICTOR, RUSSIAN FORMALISH, HISTORY, DOCTRIN (1 ST ED 1955) 3ED. YALE UP 1981
2 – أنظر: SETEINER PETER, RUSSIAN FONALISM, A METAPOETICS, CORNELL. UNIVERSITY PRESS, LONDON 1983 – P. 44-45.
3 – نفسه، ص 45
4 – إرليتش (1981)، ص 171
5 – ستينز (1984) ص 17 وأرليتش (1981) ص 171.
“WE ARE NOT FORMALIST BUT IF YOU WILL SPECIFIERS“
مصطلح “SPECIFERS” يحتاج إلى ترجمة دقيقة لم أجدها في النصوص الفرنسية ولا العربية، وإنما هي متداولة في الدراسات الأنجلوساكسونية، غير أنها تفيد جانبا مهما مما يفيده مصطلح مورفولوجي MORPHOLOGIE.
6 – إرليتش، ص173
7 – نفسه، ص371
8 – TODOROV TZVETAN, THEORIE DE LA LITTERATURE, TEXTES DES FORMALISTES RUSSES, 1965, p. 35.
الأدبية LITTERATURE, LITERATENESS, LITERATURNOST
9 – لنينجراد 1927
10 – إرليتش، ص 173
11 – إرليتش، ص 173
12 – LA NOUVELLE ECOLE D’HISTOIRE LITTERAIRE EN RUSSIE, IN REVUE DES ETUDES SLAVES, 8, 1922, p. 239-240 – STERINER, p.19.
13 – ستينر، ص 20
14 – ستينر، ص 20
15 – نفسه، ص21
16 – نفسه، ص 21
17 – نفسه، ص 21
18 – نفسه، ص 21-22
19 – نفسه، ص 22
20 – نفسه، ص 22 نقلا عن:
THE RUSSIAN FORMALISM, THEORY OF PROSE; P.T.L. 1972, IRAS BOY M NICOTSON.
21 – نفسه، ص 22
22 – نفسه، ص 260
23 – نفسه، ص 268
24 – نفسه، ص 270
25 – إرليتش، ص 11
26 – LA QUIZAIME LITTERAIRE N° 330
الفكر العربي المعاصر، عدد 6/7 أكتوبر، نوفمبر 1980.
27 – ينظر في هذا الشأن في رسالة الأستاذ محمد الدغمومي “النقد القصصي والروائي بالمغرب منذ بداية الاستقلال إلى سنة 1980″، 1986-1987، كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط.
28 – جريدة أنوال، عدد 48، 20، 1-1983، السنة الرابعة.
29 – إبراهيم الخطيب، نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، ط 1، 1982.
30 – THEORIE DE LA LITTERATURE, TEXTES DES FORMALISTES RUSSES REUNIS PRESENTES ET TRADUITS PAR TZVETANE TODOROV (TEL QUEL) ED. Seuil, 1965.
31 – CHLOVSKY (V), SUR LA THEORIE DE LA PROSE, “SLAVIA L’AGE D’HOMME, LENVANNE, 1973.
32 – جريدة أنوال، عدد 48، 20، 01/1983 السنة الرابعة.
33 – نفسه
34 – نفسه
35 – نفسه
36 – مجلة أقلام، عدد5، نوفمبر 1978، ص 90
37 – نفس العنوان، ص 90-91
38 – محمد بنيس، الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاته 1-التقليدية، دار توبقال،1989.
39 – مبارك ربيع، رفقة السلاح والقمر، دار الثقافة البيضاء، 1976
40 – مجلة آفاق، عدد1، السلسلة الجديدة 76-1977، ص77
41 – نفسه، ص 77
42 – إدريس الخوري، ظلال، دار النشر المغربية، 1977
43 – مجلة آفاق، عدد2، السلسلة الجديدة، 77-1978،ص 89
44 – نفسه، ص 89
45 – محمد زفزاف، قبور في الماء، الدار العربية للكتاب -ليبيا – فرنسا- 1978.
46 – مجلة آفاق، عدد7، 1979
47 – نفسه، ص 36
48 – محمد الهرادي، اللوز المر، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1980.