مجلة حكمة
عن الحلم جاك لاكان

عن الحلم – جاك لاكان (ترجمة مداخلتين للمحلّل النفسي والفيلسوف جاك لاكان. الأول بعنوان “الرغبة بالموت، الحلم والاستيقاظ”، والثانية بعنوان “حلم أرسطو”) / ترجمة: وليم العوطة


  • الرغبة بالموت، الحلم والاستيقاظ

تتوافق الرغبة بالنومِ مع فعل فيزيولوجي مثبِط. الحلم إثباطٌ فاعل. هذه هي النقطة حيث يمكننا أن نتصوّر عندها الارتباط بالرمزيّ. واللغة ترتبطُ بالجسدِ، بسببِ المفارقة البيولوجية الّتي تكون فيها بمثابةِ إلحاحٍ يمنع انقطاع النوم. وبفضل الرمزيّ، يكون الاستيقاظ التامّ  بمثابة الموت بالنسبةِ للجسد، ويسمحُ النومُ العميق باستمرارية الجسد.

أبعد من الاستيقاظ

ما تصوّره فرويد نزوة موتٍ ينطوي على كون استيقاظ الجسدِ يعني هلاكه. لأنه وبالاتجاه المعاكس لمبدأ اللّذة، فإنّ فرويد يصفُ هذه الأخيرة باعتبارها أبعد au-delà: هذه الأبعد هي تضاد.

من ناحيتها، تكون الحياة أبعد من كلّ استيقاظ. الحياة ليست متصوَّرة، والجسد لا يأخذ منها شيئًا، بل هو ببساطة يحملها. حين يقول فرويد: تصبو الحياة إلى الموتِ، يعني ذلك أنها ما دامت تتجسّد، ما دامت تكون في جسدٍ، فإنّها ستصبو إلى وعيٍ كلّي و ممتلىء. بمقدورنا أن نقول أنّ هذا ما يحصل أيضًا في الاستيقاظ المطلق، إذ يوجد أيضًا جزء من الحلم يكون بالضبطِ حلم استيقاظ.

لا نستيقظُ أبدًا: الرغبات تبقي على الأحلام. وبين أحلام كثيرة تطيل أمد الحياة، يكون الموت حلمًا يمكثُ في الأسطوريّ. يكون الموت من جهةِ الاستيقاظ، والحياةُ هي ممّا يستحيل تمامًا وما  يستطيع أن يحلمَ بالاستيقاظ المطلق. مثلاً في الديانة النرفانية تحلمُ الحياة بالهروب من نفسها. ولكن يبقى أن الحياة  واقعية وأنّ هذه العودة أسطورية. هي أسطورية وتشكّل جزءًا من تلك الأحلام الّتي لا ترتبطُ إلاّ باللغة. لو لم تكن اللغة موجودة لن يكن بامكاننا أن نحلمَ بأننا سنموت. هذه الامكانية متناقضة في تطلّعاتها ليس فقط الاسطورية بل الصوفية أيضًا، بحيث أننا نظنّ أننا سنلتقي الواقع المطلق الّذي لم يُصَغ إلاّ حسابيًا.

نحلمُ بأننا نختلطُ مع ما نعمّمه extrapoler بفعلِ أننا نسكن اللغة. ولكن، ولأننا نسكن اللغة، فإننا نرتسمُ لشكلانية formalisme – من النمط الحسابيّ بالضبط – ونتخيّل أنّه يوجد في الواقعيّ علمٌ مطلق. في نهاية المطاف، وفي النيرفانا، يكون الاستغراق في هذا العلم المطلق، حيث لا أثر له، هو ما نصبو إليه. نعتقدُ أننا نندمجُ مع هذا العلم الّذي يُفترَض أنه يوطّد العالم، بينما هذا العالم ليس سوى حلم كلّ جسد.

وإن اتّصلت بالموت، ستكون اللغة وحدها، في نهاية المطاف، الشاهدَ عليه. فهل هذا هو المكبوت؟ صعبٌ أن نثبتَ ذلك. يُعتقَد أن كلّ لغةٍ لم تُصنَع إلاّ من أجل تفادي التفكير بالموت، وهذا الأخير هو، فعليًا، أقلّ الأشياء المفكّر بها. ولهذا السبب بالتحديد نتصوّره كاستيقاظ. وأذكر هنا شيئًا تتضمّنه انشوطتي الصغيرة (الرمزي، الخيالي، الواقعيّ).

أميل إلى الاعتقاد أن الجنس والموتَ ملتحمان مثل ما نعرفه عن كون الاجساد الّتي تتوالد جنسيًا هي موضوعات الموت. ولكن ومن خلال كبتِ اللا-علاقة الجنسية non-rapport تستطيع اللغة أن تنفيَ الموت. وإن الاستيقاظ التام الّذي يكمن في القبضِ على الجنسِ – أي ما هو مستبعَد – يمكنه أن يأخذ، من بين أشكالٍ عديدة، شكلَ حصيلة الجنس، أي الموت.

لامعنى الواقعيّ

يخطىءُ فرويد حين يتصوّر أن الحياة قد تصبو إلى العودةِ إلى عُطالةِ l’inertie الجسيمات، المتخيَّلة ماديةً. لا تقوم الحياة إلاّ على مبدأ اللّذةِ. ولكنّ هذا المبدأ عند الكائنات الّتي تتكلّم يخضع للّاوعيّ، أي للّغةِ. بنهاية الأمر، تبقى اللغة غامضة: فهي تستكملُ غياب العلاقة الجنسية وبالتالي تحجبُ الموتَ، في الوقت الّذي تستطيع فيه أيضًا أن تعبّر عنه كنوعٍ من الرغبةِ العميقة. ولا يقللّ من الأمر شيئًا أننا لا نملك أدّلة عند الحيوان، في نظائر اللغةِ، عن وعيٍ للموت. لا أعتقدُ أنّنا نملك أدلّة أكثر في حالةِ البشرِ نتيجةِ اللغةِ: فحقيقة أن اللغة هذه تتكلّم عن الموت ليس برهانًا على أنّها تمتلك أيّ معرفةً به.

هذا هو الحدّ الأبعد الّذي لا يمكن للّغة أن تصل إليه إلاّ عبر واقع الجنس. الموت هو استيقاظ يشاركُ في الحلمِ طالما أن الحلمَ مرتبطٌ باللغةِ. أن تكون بعض الرغبات هي رغبات هؤلاء الّذي يستيقظون يدلّ على كونها مرتبطة بالجنس أكثر ممّا هي بالموتِ.

تتعلق الأحلام، لدى الكائنات الناطقة، بهذا البلا – معنى ab-sens، هذا اللامعنى non sens لواقعيّ مكوّنٍ من لا-علاقة جنسية، والّذي لا يحفّز أكثر من الرغبةِ بمعرفة هذا اللا-علاقة تحديدًا. إذا كانت الرغبة متعلّقة بالنقصِ، من دون أن نقول شيئًا عن سبب هذا النقص، فإنّ اللغة تكون عند مستوى ما  تسرف فيه المحاولات من أجل تأسيس هذه العلاقة،  والإسراف هذا هو بذاته علامة على أن هذه العلاقة لن تنجحَ أبدًا. يمكن تصوّر اللغة على إنّها ما ينتشر على مستوى اللا-علاقة من دون أن يكون بمقدورنا نقول إنّ هذه العلاقة موجودة خارج اللغة.


النصّ الأصلي للمداخلة الأولى: Lacan, J. (2020). Improvisation désir de mort, rêve et réveil. La Cause du Désir, 104(1), 8-11. https://doi.org/10.3917/lcdd.104.0008


  • حلمُ أرسطو

نضع اختلافًا بين الموضوع والتمثّل. نعلمُ أنه ومن أجل تمثّل الموضوع ذهنيًا تكفينا الكلمات الّتي، كما نقول، “تذكّر” بالتمثّل أو “تطلبه”.

كيف تصوّر أرسطو التمثّل؟ لا نعلم ذلك إلاّ عن طريق عددٍ من تلاميذه. كرّر هؤلاء ما قاله معلّمهم، ولكن بشرطِ أن المعلّم هذا كان يعلم ما يقول. ومن بامكانه أن يحكم على ذلك غير التلاميذ؟ إذًا، هؤلاء كانوا يعلمون. لسوء الحظّ – وهنا عليّ أن أدليَ بشهادتي كمحللٍ نفسي – كانوا يحلمون أيضًا!

مثل الكلّ، كان أرسطو يحلم أيضًا. هل كان يعتقد أنّ من واجبه أن يأوّل حلم الاسكندر الكبير الّذي كان يحاصر مدينة صور؟ ساتيروس Satyros [إله الشبق] – ها هي صور بين يديك. لعبة تأويلية نموذجية.

وهل يتأتّى القياس [المنطقي] – الّذي استخدمه ارسطو – عن الحلم ؟ يلزمنا أن نذكر أن القياس أعرجٌ دائمًا – وفق المبدأ الثلاثيّ، ولكن في الحقيقة كتطبيق على ما هو خاصّ في الكليّ. “كل البشرِ مائتون”، وبالتالي يوجد بينهم واحدٌ هو فانٍ أيضًا. هنا يتدخّل فرويد ويقول أن الانسان يرغب بالموت.

ما يبرهن على الموت هو الحلم. لا يوجد ما هو مرعب أكثر من أن نحلّم إننا محكومون بأن نحيا مرارًا وتكرارًا. من هنا فكرة نزوة الموت. يأخذ الفرويدو-ارسطويين نزوة الموت هذه في اعين الاعتبار وهم يفترضون أن أرسطو ربط بين الكليّ و الجزئيّ، أي يجعلون منها شأنًا من شؤون التحليل النفسي.

.يُقايسُ المحلَّل نفسيًا psychanalysant  أحيانًا، أي إنه يؤرسِط aristotélise [الفعل من أرسطو]. وهكذا يستمر ارسطو في استاذيته. من  يرفض أن يقول أنه يعيش، هو يعيشُ في أحلامه. داخلِ كلّ محلَّل يوجد تلميذٌ لأرسطو. ولكن يجب القول أن الكليّ يتحقّق أحيانًا في التمتمة bafouillage.

أن يتمتم الإنسان، فهذا أمرٌ مؤكّد. يمنحه ذلك رضا عن الذات. ويظهر ذلك حين يعود المحلَّل في الموعد المحدد إلى المحلِّل النفسيّ. يؤمن المحلَّل بالكليّ، ولا نعرف السبب، طالما إنّه كفردٍ محدّد يسلّم نفسه لرعاية ما نسمّيه محلِّلاً نفسيًا.

بقدر ما يحلمُ المحلَّل على المحلِّل أن يتدخّل. هل كان عليه أن يوقِظ المحلَّل؟ ولكنّ هذا الأخير لا يريد ذلك البتّة – فهو يحلم، أي يتملّك خاصّية عرَضه.

لا يثير  كتاب النفس  Περὶ Ψυχῆς / Peri psychèsأيّ شكوكٍ حول تلك الحقيقة الّتي تشكّل مقاومة للتحليل النفسي. لهذا السبب عارض فرويد أرسطو ، الّذي، في ما خصّ شأن الروح، لم يكن على صواب – طالما أن ما بقيَ مدوّنًا من كلامه أمينًا.

إن التفريق بين to ti esti  و to ti en einaiأي ما نترجمه تباعًا بالـ”ماهية” والـ”جوهر” بقدر ما يبدو ذلك محدودًا to horismon  – يعكسُ [أي التفريق] تمييزًا في الواقعيّ، بين اللفظيّ والواقعيّ الّذي يتأثّر به. وهو ما قمت بتمييزه كرمزي و كواقعيّ.

إذا كان صحيحًا كما أسلفتُ أنّه لا يوجد علاقة جنسية، مع العلم أنه لا يوجد لدى النوع البشريّ كلّيّ انوثيّ، أنه لا وجود لـ”كلّ النسّاء”، فينتج عن ذلك أن هناك دائمًا، بين المحلِّل و المحلَّل، شخصًا إضافيًا. يوجد ما سأعلن عنه ليس كتمثّلٍ  représentation، بل كعرضٍ présentation للموضوع. هذا العرض هو ما أسمّيه أحيانًا بالموضوع أ l’objet a. وهو على درجة عالية من التعقيد.

يُهمِل أرسطو ذلك لأنه يعتقد بوجود التمثّل، وهذا يجرّ فرويد للكتابة عنه. يفكّر أرسطو – وهذا، مع ذلك، ما لا يستنتجه – يفكّر بالعالم، الّذي يحلم به كما يفعل الكلّ، أي الناس. إن العالم الّذي يفكّر به، يحلمه، ككلّ الّذين يتكلّمون. والنتيجة هي – كما قلتُ سابقًا – أن العالم هو من يحلم. المجال الأول هو ما يسمّيه النوص noûs [العقل].

ليس بمقدورنا أن نعلَم إلى أي مدى يهذي الفيلسوف. وفرويد، طبعًا، يهذي أيضًا. هو يهذي، ولكنّه يذكر أنه يتكلّم عن الأعداد والأسطح. كان يمكن لـ أرسطو أن يتكلّم عن الطوبولوجيا، لكن لا يوجد أثرٌ لذلك.

تكلمتُ عن الاستيقاظ. وحدث أن حلمتُ منذ وقتٍ قريب أن الاستيقاظ يرنّ. قال فرويد أنّنا نحلم بالاستيقاظِ حين لا نريد أبدًا أن نستيقظ. في بعض الأوقات، يقتبس المحلَل أرسطو ، وهذا جزء من عدّته. إذًا، يوجد أربعة أشخاصٍ بين المحلِّل والمحلَّل. وفي بعض الأحيان، يقدّم المحلَّلُ أرسطو ، ولكن خلف المحلِّلِ يوجد لاوعيَه الّذي يصلحُ، أحيانًا، ليقدّم تأويلاً.

هذا كلّ ما بمقدوري قوله. حين أهلوس في حلمي عن الاستيقاظ المدوّي، أعتبر ذلك علامةُ جيدة، لأن، وعلى عكس ما قاله فرويد، سيحصل أنني، أنا، سأستيقظ. على الأقل، سأكون في هذه الحالة مستيقظًا.

 


النصّ الأصلي للمداخلة الثانية: Lacan, J. (2017). Le Rêve D’Aristote: Conférence à l’unesco : Colloque pour le 23e centenaire d’Aristote. La Cause du Désir, 97(3), 7-9. https://doi.org/10.3917/lcdd.097.0007