فن الخطابة لأرسطو وفن الشعر
-
مقدمة
تنتمي الخطابة لأرسطو وكذلك الفنون للعلوم الفعلية؛ وهذا التصنيف يختلف عن تصنيف (العلوم العملية) الذي تنتمي إليه الأخلاق والسياسة،. والتي تهتمّ بالأداء البشري، ويختلف أيضًا عن تصنيف (العلوم النظرية)، والتي تهدف إلى الحقيقة من أجل ذاتها. وبما أنّ العلوم الفعلية تهتمّ بخلق المنتجات البشرية وفقًا لفهمها الواسع،. فإنّها تتضمّن نشاطات ذات منتجات واضح أنّها من صنع البشر، كالسفن أو المباني،. لكنّها تشمل أيضًا الزراعة والطبّ، بل يزداد غموض هذا التصنيف ليشمل حتّى الخطابة، والتي تهدف إلى إنتاج خطاب مقنع (Rhet. 1355b26; cf. Top. 149B5)، وفنّ المأساة، والتي تهدف إلى إنتاج دراما تثقيفية (Poet. 1448B16–17). وإذا أخذنا بالحسبان أنّ أرسطو يقارب كلّ هذه النشاطات ضمن السياق الأوسع لإطار عمله التفسيري المستند إلى الغائية، فعندها قد نتمكّن من وضع حدود واضحة للبعض، على الأقلّ، من الصعوبات التفسيرية التي ثار حولها الكثير من الجدل في ما يخصّ كتاباته في هذا المجال، ولا سيّما كتابه (فن الشعر).
-
فن الخطابة لأرسطو
يتمحور أحد هذه الخلافات على مسألة ما إذا كان كتاباه (فن الخطابة) و(فن الشعر) في الأساس كتابين وصفيّين أو توجيهيّين.[xxv] وإذا كانا توجيهيّين فقد يتساءل المرء، بالنظر للمدى الذي يصلان إليه في توجيهيّتهما، عن ما إذا كان أرسطو قد افترض في هاتين الرسالتين أنّه يملي على أشخاص بمنزلة سوفوكليس ويوريپيديس السبيل الأمثل لتأدية مهاراتهما. ويبدو أن أرسطو قد افترض ذلك فعلًا، لكن إلى مدىً معين (وحصرًا: إلى مدىً معيّن)؛ فمن الواضح أنّ هنالك، على الأقلّ،. عناصر توجيهية في كلا النصّين، لكنّه لم يتوصّل إلى توجيهاته كحكم ماقبلي، بل من الواضح أنّ في الخطابة لأرسطو وفنّ المأساة قد جمع أفضل ما وقعت عليه يداه من النصوص المعتمدة، فدرسها ليميّز ما فيها من خاصّيات متفاوتة في النجاح، وكان يهدف في عمله هذا إلى التقاط وقوننة الأفضل في كلّ من الممارسة الخطابية وفنّ المأساة، وذلك في ما يخصّ الهدف الإنتاجي المناسب لكلٍّ منهما.
إنّ الهدف العامّ للخطابة واضح؛ إذ بأنّ فن الخطابة لأرسطو، كما يقول، هي «القدرة على أن تجد السبيل الأفضل للإقناع في كلّ حالة من الحالات» (Rhet. 1355B26). لكنّ اختلاف السياق يقتضي اختلاف التقنية المستعملة، ولهذا يقترح أرسطو أنّ الخطيب يجد نفسه في العادة في واحد من ثلاثة سياقات يكون فيها للإقناع أهميّة عظمى: مشوري (Rhet. i 4–8)، وتثبيتي (Rhet. i 9)، وقضائي (Rhet. I 10–14). وفي كلّ واحد من هذه السياقات الثلاثة هنالك في متناول المتكلّم ثلاثة سبل رئيسية للإقناع: شخصية المتكلّم، والبنية العاطفية للمستمعين، والحجّة العامّة (logos) للخطاب نفسه (Rhet. i 3). ولهذا فإنّ فن الخطابة لأرسطو يبحث في تقنيات الإقناع في ما يخصّ كلّ من هذه المجالات.
ولقد أكثر أرسطو في مناقشته لهذه التقنيات من الاعتماد على المواضيع التي تعامل معها في كتاباته المنطقية والأخلاقية والنفسانية؛ ولهذا فإنّ (فن الخطابة) يسلّط الضوء على ما كتبه أرسطو في هذه المجالات التي تعدّ نظرية بالمقارنة، وذلك لأنّه طوّر فيه ما طرحه من مواضيع بطريقة ملموسة بعد أن تعامل معها في كتاباته الأخرى بطرق مجرّدة. وعلى سبيل المثال: بما أنّ حصيلة الخطاب المقنع الناجح تنبّهنا للحالة العاطفية للمستمعين حين إلقاء الخطاب، فإنّ كتاب أرسطو (فن الخطابة) يحتوي بعض أكثر معالجاته للعواطف دقّة وتحديدًا. وإذا توجّهنا إلى جهة أخرى، فستكشف لنا القراءة المعمّقة لـ فن الخطابة أنّ أرسطو يتعامل مع فنّ الإقناع بشكل قريب جدًّا من تعامله مع الجدل (راجع القسم 4. 3. أعلاه). فـ الخطابة، كما هو الجدل، تتعامل بتقنيات لا تعدّ علمية بالمعنى الضيق للكلمة (راجع القسم 4. 2. أعلاه)، وعلى الرغم من أنّ هدفها هو الإقناع فإنّها تصل إليه على النحو الأمثل إذا اعترفت بأنّ الناس بطبعهم يقتنعون بالدليل والحجّة المتينة (Rhet. 1354a1, 1356a25, 1356a30). وعليه، فإنّ الخطابة لأرسطو، كما هو الجدل أيضًا، يبدأ بمسلّمات (endoxa) على الرغم من أنّها قد تكون من نوع شعبي وليس من النوع الذي صادق عليه الحكماء فعلًا (Top. 100a29–35; 104a8–20; Rhet. 1356B34). وفي النهاية، ينتقل الخطاب من هذه الآراء إلى استنتاجات يفهم المستمعون أنّها واجبة الاتّباع بموجب الأنماط المتينة للاستنتاج (Rhet. 1354a12–18, 1355a5–21). ولهذا السبب أيضًا يُنصَح الخطيب بأن يفهم أنماط الاستدلال عند الإنسان.
ولمن يرغب بالاستزادة حول فن الخطابة لأرسطو، يمكنه الرجوع إلى المدخل المعنون (فن الـخطابة عند أرسـطو) في هذه الموسوعة.
إنّ (فن الخطابة) بتسليطه الضوء على تقنيات الخطاب الناجح وصقلها، يعدّ كتابًا توجيهيًا بشكل صريح، لكن بالاقتصار على ما يخصّ تحقيق هدف الإقناع، فهو لا يختار هدفًا خاصًّا به ولا يملي، بأيّ شكل من الأشكال، غاية للخطاب المقنع، بل إنّ هذه الغاية تمليها طبيعة هذه المهارة نفسها. وعلى هذا الأساس، فإنّ (فن الخطابة) يماثل (الأخلاق النيقوماخية) و(فنّ السياسة) في حمله للختم الأرسطي المتمثّل بالغائية الواسعة الشاملة.
الخطابة لأرسطو
-
فن الشعر
ويمكننا أن نخرج بالحكم نفسه على (فن الشعر)، لكنّ الغاية في هذه الحالة لم يُعبَّر عنها بسلاسة أو بشكل لا خلاف عليه؛ فكثيرًا ما يُفترَض بأن هدف فنّ المأساة هو التطهير (catharsis)، أي: تنقية العواطف التي تثيرها مشاهدة تمثيل فنّ المأساة أو التخلّص منها. لكنّ هذا التفسير الذي ورد على لسان أرسطو نفسه في كتابه (فن الشعر)، وعلى الرغم من شيوعه، يظلّ تفسيرًا غير حاسم في أحسن حالاته؛ إذ يدّعي أرسطو في تعريفه العامّ لفنّ المأساة:
«إذن، فنّ المأساة هو محاكاة لفعل جدّي ومكتمل، وفيه شيء من العظمة. وهو يحكي ذلك الفعل بالكلمات مزوّقة محبّبة، ينتمي كلّ نوع منها إلى جزء مختلف من أجزاء العمل الفنّي. وهو يحكي أفعال الناس من خلال التمثيل دون الاعتماد على السرد. وهو ينجز، من خلال مشاعر الأسى والخوف، التطهير الذي يحدثه هذا النوع من المشاعر» (Poet. 1449b21–29).
وعلى الرغم ممّا لا يعدّ ولا يحصى من آراء العلماء الذين قدّموا فنّ المأساة عند أرسطو على أنّه (من أجل التطهير)، فإنّ أرسطو نفسه أكثر دقّة في التعبير عن مراده؛ فهو يحاجج بأنّ فنّ المأساة يحدث التطهير أو ينجزه، لكنّه في الوقت نفسه لا يستخدم في التعبير عن رأيه هذا لغة توحي بوضوح بأنّ التطهير بحدّ ذاته وظيفة لفنّ المأساة. وعلى سبيل التشبيه، إنّ سرعة شفرة خلّاط الطعام الجيّد ستنجز سرعة (36,000 دورة/دقيقة) لكنّ هذه ليست وظيفتها، بل إنّها تنجز هذه السرعة خدمةً لوظيفتها، والتي هي (الخلط). وعلى نحو مشابه، يمكن القول وفقًا لمقاربة ما أنّ فنّ المأساة ينجز التطهير، لكنّ ذلك ليس لأنّ وظيفته هي التطهير، وذلك حتّى وإن كان من صلب أدائه لوظيفته أن ينجز التطهير، لأنّ من صلب أدائه لوظيفته أيضًا، وعلى المستوى ذاته من الأهمّية، أن يستخدم المحاكاة (mimêsis)، وأن يستخدمها من خلال الكلمات المقرونات بالمزوّقات المحبّبة (تحديدًا: الإيقاع، والتناغم، والغناء) (Poet. 1447b27).
وممّا يؤسف له أنّ أرسطو لا يعتمد الصراحة الكاملة في مسألة وظيفة فنّ المأساة؛ ومن المؤشّرات التي يستدلّ بها على موقفه هو ما ورد في مقطع يفرّق فيه بين فنّ المأساة وكتابة التاريخ:
«لا يكمن الفرق بين الشاعر والمؤرّخ في أنّ أحدهما يراعي أوزان العروض في كتابته بينما يهملها الآخر؛ فمن الممكن أن تُعاد كتابة مؤلّفات هيرودوتوس بالوزن العروضي دون أن ينقص ذلك من مكانتها كمؤلّفات تاريخية، سواء كتبت شعرًا أو نثرًا؛ إنّما يكمن الفرق في أنّ أحدهم يتحدث عن ما حدث، والآخر يتحدّث عن ما ربّما حدث. وعليه، فالشعر أكثر تفلسفًا وأهمّية من التاريخ. والشاعر يتحدّث عن الشموليات أكثر من المؤرّخ الذي يتحدّث عن الخصوصيات. والشمولية تعني أن يتصرّف المرء أو يتكلّم، بحكم الاحتمال أو الضرورة، على نحو ما عندما يتغيّر مسار الأمور؛ وهذا هو ما يسعى خلفه الشاعر وإن كان يضع أسماء محدّدة للأوضاع التي يذكرها» (Poet. 1451a38–1451b10).
الخطابة لأرسطو
إنّ تخصيص أرسطو للشعر بأنّه أكثر تفلسفًا وشمولًا وأهميّةً من التاريخ هو إشادة بالشعراء لما لهم من قدرة على تقييم الميزات العميقة لشخصية الإنسان، وتحليل الطرق التي يتعامل بها الحظّ مع الإنسان ويختبر شخصيته، وعرض الكيفية التي تتزايد بها نقاط ضعف الإنسان في ظروف غير عادية. لكنّ التفكّر بالشخصية ليس في أساسه لأهدافه الترفيه، إذ ينظر أرسطو، بشكل عام، إلى هدف فنّ المأساة بمنظور فكري واسع، فيعتقد بأنّ وظيفة فنّ المأساة هو «التعلّم، أي: التوصّل إلى معرفة كلّ شيء» (Poet. 1448b16–17)؛ إذن، يرى أرسطو بأنّ فنّ المأساة يعلّمنا بشأن أنفسنا.
يتبيّن لنا بلا شكّ، بناءً على ما سبق، أنّ التطهير مفهوم أساسي في كتاب (فن الشعر)، وأنّه مفهوم أدّى، بالترافق مع المحاكاة (mimêsis) إلى إثارة جدل هائل.[xxvi] وتتمحور أوجه الخلاف حول ثلاثة محاور للتفسير: (موضوع) التطهير، و(مادّته)، و(طبيعته). ولإيضاح المقصود بهذه المحاور، نقول: وفقًا للفهم البسيط للتطهير، وقد يكون فهمًا صائبًا بالرغم من بساطته، يخضع المستمعون (موضوع التطهير) للتطهير عندما يُخلَّصون (طبيعة التطهير) من عواطف الأسى والخوف عندهم (مادّة التطهير). ولقد استخدم العلماء هذه الإمكانيات الثلاثة لإنتاج تفسيرات متنوّعة، ومنها: أنّ الممثّلين في فنّ المأساة، أو حبكتها، هم (مواضيع) التطهير، وأنّ ما يحدث من تنقية هو أمر إدراكي أو بنيوي وليس عاطفيًا، وأنّ التطهير تنقية وليس تخليصًا. ولتبيين التضادّ الأخير، نقول: إنّ الأمر يشابه لما يحدث بتنقية الدم من الموادّ غير المرغوبة، فهو يختلف عن تخليص الجسم من الدم بالفصد، وعليه فقد ننقّي عواطفنا بتنظيفها ممّا بها من عناصر غير صحّية، وذلك عوضًا عن تخليص أنفسنا من هذه العواطف بإزالتها كلِّيًّا. والفرق كبير بين الأمرين، وذلك لأنّ العواطف وفقًا لأحدهما تُعتَبر هدّامة بذاتها ولذلك يجب التخلّص منها، بينما تُعتبَر وفقًا للثاني سليمة تمامًا وإن كان من الممكن تحسينها بالتنقية، كما في الحالات النفسانية الأخرى. وهذه الخلافات لا يمكن حسمها بشكل قاطع بالاعتماد على مجرّد السياق المباشر في كتاب (فن الشعر).
ولقد تكلّم أرسطو أكثر عن المفهوم الرئيسي الثاني (أي: المحاكاة) في كتابه (فن الشعر). وعلى الرغم من أنّ هذه المفهوم أقلّ إثارةً للخلاف من مفهوم (التطهير)، فإنّ فهم أرسطو له قد أثار الجدل أيضًا.[xxvii] إذ يعتقد أرسطو بأنّ المحاكاة من الميول البشرية العميقة، وهو يحاجج بأنّها (طبيعية)، كما هو حال التنظيم السياسي؛ فالإنسان يمارس المحاكاة منذ الصغر، فنجدها في تعلّم اللغة من خلال تقليد من يتكلّمها بطلاقة، وتستمرّ حتّى مرحلة لاحقة من العمر حين يبدأ الإنسان باكتساب شخصيّته عبر الاقتداء بالآخرين؛ فالإنسان بهذين الطريقين يمارس المحاكاة لأنّه يتعلم وينمو بفضلها، والتعلّم عند الإنسان أمر طبيعي وممتع في آن واحد (Poet. 1148B4–24). وهذا الميل ذاته هو الذي يقودنا نحو ممارسة الدراما، وإن كان في هذه الحالة أكثر تفصيلًا وتعقيدًا؛ فعندما ننخرط في أشكال أكثر تقدّمًا للمحاكاة، تؤدّي المحاكاة إلى (التمثيل) و(التجسيد)، حيث يجب أن لا تُعتبَر هذه الممارسة محاولة لـ(استنساخ) أيّ أحد أو أيّ شيء بأيّ معنى ضيق من معاني الاستنساخ، وذلك لأنّ فنّ المأساة لا يبتغي مجرّد استنساخ هذه الحالة أو تلك، بل، وكما لاحظنا من قبل في تمييز أرسطو بين التاريخ وفنّ المأساة، أن تتحدّث عن ما قد يكون، وأن تتناول مواضيع شاملة على نحو فلسفي، وأن تنوّر المستمعين من خلال تجسيدها. ولهذا، فإنّ المحاكاة، وإن كانت في أصلها عملية تقليد بسيطة، تنمو عند خدمتها لأهداف فنّ المأساة لتصبح أكثر تعقيدًا وقوّة، لا سيّما على أيدي الشعراء القادرين على توظيفها بنجاح.
فن الخطابة لأرسطو و فن الشعر
[xxv] لمن يرغب بمراجعة ماهرة حول هذه المسألة، يمكن الرجوع إلى (Halliwell 1986).
[xxvi] يقدم هاليويل (Halliwell 1986, Appendix 5) عرضًا شاملًا موجزًا للمقاربات المتنوّعة التي تعامل بها العلماء مع فكرة التطهير عند أرسطو. في الخطابة لأرسطو
[xxvii] يـقـدم هالـيويل (Halliwell 1986, 109–137) مقدّمة ممتازة لبعض القضايا المعرفية والفلسفية المتعلّقة بمفهوم أرسطو للمحاكاة. (فن الخطابة لأرسطو)