الكاتب | جان جاك يورنبرغر |
ترجمة | عبد الوهاب البراهمي |
ضمن أيّ شروط يمكن للخيال، وبنفس مستوى العقل، أن يكون عندئذ، في قلب مشروع بناء الإنسان، ويضمن إثراء للكائن، وإيقاظا للحسّ القِيَمي، واكتسابا للحريّة؟ فيم تتمثّل تربية الخيال؟
لا يمكن للخيال أن يكون خلاّقا إلا بشرط ألاّ يبقى أوّلا رهين القوى المظلمة والفوضوية للأنا. أن نحلم ونبني قصّة خيالية، ونخلق أثرا، فذاك لا يندرج فقط في نطاق القوى الدافعة واللاإرادية. لأجل هذا يصرّ باشلار على تمييز التخيّلية العفوية، مرآة توهّمية للّيل اللاواعي، وحلم اليقظة المتولّد عن كوجيتو الحَاِلم. فالخياليّ الليليّ يدمج في الكائن انقساما ويخفي تدفّق الصور المفتّتة. وعلى العكس، فإنّ الأنا الحالم حينما يكون واعيا، يكون نَشِطا، مُنبسطا، قادرا على التقاط الموادّ والأشكال في العالم وتحويلها من خلال قوّة ، خلاّقة لصور جديدة.
بينما يكون الحالم في نومه هو ظلّ فَقَدَ أَنَاهُ، يكون الحالم في يقظته، إذا ما كان شيئا ما فيلسوفا، بإمكانه أن يصوغ، في صلب أناه الحالم، كوجيتو. وبتعبير آخر، فإنّ حلم اليقظة هو نشاط حُلْمِي يتبقّى فيه شعاع من وعي. (1)
من هذا المنظور، فليس للتربية أن تكون شريكا للإرتداد المجامل للطفل إلى الصور الطفولية، كما يفهمها التحليل نفسي الفرويدي، بل على العكس، يجب أن تَأْبَر أو تطعّم greffer الخيال بنشاطات، تسمح له أن يصبح ديناموجينيا dynamogéniqueأو تقوّى طاقته، وأن يندفع نحو العالم. لأجل هذا فإنّ الخيال حسب باشلار هو ملكة الفوق واقعي surréel أكثر منه ملكة اللاواقعي l’irréel . وعلى نحوز متلازم، لن نعرف كيف نضفي في الحال على الخيال إسرافا في الصور والرموز، كنزا داخليا حقيقيّا يكفي أن نحميه من الثقافة الخارجية والمُجَمْعَنَة، أو أن نتركه يتدفق دون موانع. فالخيال، في أغلب الأحيان، شاحب وعقيم إذا لم ننشّطه، ولم نغرسه وندرّبه؛ وغالبا لا تفضّل البيداغوجيات السخيّة والخادعة، والتي تمنح الطفل قدرة إبداعية عفوية، سوى تجسيد القوالب النمطية، والتفاهات، أو رسومات أولية سريعة الزوال.
توجد إذن بيداغوجيا الخيالي، والتي يجب عليها، ودون عنف ولا تشريط، يُلْجِم من جديد الحرية، أن تعثر على شروط تحوّل للصّور الأولى، لانتشار رمزي على عمق أرض خصبة من النماذج الأصلية …وسطًا من الصور الجوهرية، مصنوعة من الأشعار والأساطير والأعمال الفنيّة، ولغة أدبية جذّابة من أجل أن تنبجس شعرية الكلمات، بعيدا عن الدفع نحو محاكاة مجمِّدة، كي تضمن إبداعية شخصية ومحرّرة للتخيّلات.
وفي نهاية الأمر، يجب على الخيالي أن يجد تدريجيا وضعه الأكسيولوجي الذي يمنحه، في نظر الذات، كرامة واعترافا. فاستدراج الطفل إلى أن يألف الخياليّ، وإلى أن يروّض صوره، فذاك يعني أن نفتح له فضاء مكوّنا في ذات الوقت من الحرية والإلغاز، من التحكّم والفجائية. ذلك أن النشاط التخيّلي ليس له نهاية، لأنّ الصورة تفلت عن التجسيد، عن الحساب، عن الانضباط. فالخيال هو هذه الوظيفة التي يعيش بها الإنسان تجربة الآخر، والناحية الأخرى واللامحدود والكلّ. فهي إذن لا تنفصل عن البعد الإيتيقي.
إذن، يبدو أن دعوة باشلار إلى استكشاف حياة الخيال ومنطق الخيالي لا تردّ إلى اهتمام تأملي و لا حتّى جمالي. يبدو له الخيال قبل كلّ شيء مثل أداة للإنسان تريحه لا بل تشفيه من اضطراباته النفسية، من بنيته العصابية، بل من ضائقته الوجودية، المتّسمة بالقلق والمخاوف البدائية. تملك الصور إذن عامل توازن، وتحرّر وسعادة. ويمكن للخيال أن يجد، حتّى في صلته بصور سلبية، ملاذا للتعويض عن وجهها المظلم وللانخراط في حلم يقظة سعيد، بالخصوص بإتباع القوى النشيطة التي تقترحها الصور العمودية، التي تساهم في بناء الإرادة، وإخراج ظلمات صور السقوط.(2) وقد يكون لنا فائدة في استخدام خياليّ الموادّ وحتى صور اشتغال على الموادّ للتخفيف عن منظومة نفسية متألمة وتحويرها، وباختصار لتوجيه تدخّل علاجي وطبّي (على منوال النموذج العلاج النفسي لروبار دوزال Desoille أو لودوينج بنسواقر Binswanger). لأجل هذا يرفق باشلار غالبا تحليلاته بتوصيات عملية موجّهة لتحكّم أفضل في ديناميكية الصور لنحيا على نحو أفضل، لا بل لنبلغ ضربا من الحكمة، استكمالا جامعا للكائن. تصبح بسيكولوجيا الخيال إذن، غير منفصلة عن أنطولوجيا وحتى عن ميتافيزيقا، غايتهما فنّا للعيش.
لأجل ذلك فالخيال، في نهاية الأمر، حامل لطاقة أخلاقية، لتوجّه الكائن نحو الاستقامة، لمجابهة القوى السلبية بإرادة حياة إيجابية، تسمح بأن يصبح الإنسان إنسانا بحقّ. تشهد الصفحات التي خصّصت لنيتشه ( في الهواء والحلم ) من وجهة النظر هذه ، بوشائج القربى بين باشلار وإيتيقا طوعيّة، تحفّزها رغبة في تجاوز، بفضل ديالكتيك مستمرّ للقيم، التعارض التراجيدي للشرّ والخير.
ولكن، حتّى نثمّن ما قد يقدر عليه الخيال، فإنه لن يطالب الخيال بأن يصبح إمبراطورية داخل إمبراطورية ؛ فقيمة الخيال النشيط تقاس بمقاومته التي يوفّرها الواقع والعقلي، والوجود المعطى للأشياء الخبرية و الإعلام الموضوعي المتأصّل في المفاهيم. وأبعد ما يكون عن إهمال أو التقليل من أهمية حدّة الحواس أو دقّة العمليات الذهنية، فإنّ على بيداغوجيا الخيال أن تقوم على توتّر دائم بين الضرورة والحريّة، بين الموضوعية الذاتية. بل أكثر من ذلك، ربما بالحفر في التعارض، قد نرجع لكل قطب من تمثّلاتنا وجهته الحقيقية. (4)
هوامش:
1- باشلار : “الشعرية وحلم اليقظة”ص 129
2- النظر مثلا في “الأرض وأحلام الإرادة” ص344 لباشلار
3- “الهواء والأحلام” ص 163 باشلار.
4- نفس المصدر ص211-213