الأصول الفلسفية لمفهوم حقوق الإنسان
تبلور مفهوم حقوق الإنسان في الغرب عبر مسارين كبيرين: أولها التجارب السياسية الغربية المتمثلة في الصراع ضد الحكم المطلق من أجل الحد من صلاحياته الواسعة. والأمثلة الكبرى الواضحة لهذا المسار هو الصراع السياسي في إنجلترا من أجل تحديد صلاحيات الكنسية الحكم السياسي المطلق وانتزاع بعض الحقوق للأفراد والجماعات كما صيغ ذلك في وثيقة الماغناكارتا (Magna-carta)، وكذا عملية تحرير الولايات المتحدة الأمريكية والوثيقة الصادرة عنها، ثم الثورة الفرنسية، والثورة الروسية… إلخ.
أما المختبر الثاني لهذه الأفكار فهو اجتهادات المفكرين وتنظيرات الفلاسفة ابتداء من الحقبة الإغريقية، والرومانية، والإسلامية ثم الحقبة الحديثة في الغرب، والتي تعتبر فلسفة الأنوار معلمتها الرئيسية.
وهذه الاجتهادات الفكرية، التي كانت بمثابة مختبر آخر تبلورت فيه حقوق الإنسان، لم تكن إسهامات معزولة عن سياق التاريخ الفعلي. بل كانت تفكيرا في هذه الصراعات والتحولات من جهة وإنارة وتوجيها لها من جهة ثانية. لذلك سيكون من باب التبسيط أن نقول بأن حقوق الإنسان هي بنت التجربة التاريخية، وأن هذه هي التي ولدت هذه الأفكار أو على العكس من ذلك أن مفهوم الحرية والحق هو الذي أنتج هذه الحقوق الفعلية في التاريخ. ولعل هذا الإشكال أصبح اليوم متجاوزا في العلوم الإنسانية. وهذا ما يبيح لنا القول بأن مفهوم حقوق الإنسان قد تبلور عبر تفاعل تجربتين تاريخيتين طويلتي الأمد: تجربة الواقع وتجربة الفكر، وأنه قد يكون من التبسيط اختزال هذه الجدلية التاريخية الحارة في أحد طرفيها فقط.
فيما يخص المختبر الفكري نفترض أن تبلور مفهوم حقوق الإنسان قد جاء نتيجة لتحولات فكرية كبرى كتلك التي عرفتها أوربا ابتداء من القرن الخامس عشر، القرن المفصلي بين نهاية العصور الوسطى والعصور الحديثة. هذه التحولات تجمل عادة فيما يسمى بالنشأة التدريجية للحداثة الأوربية، والتي تعتبر معالمها الكبرى المدشنة هي اكتشاف “العالم الجديد” وانطلاق النهضة الأوربية (La Renaissance ) في إيطاليا والإصلاح الديني الذي دشنه لوثر (M.Luther ).
وقد تولدت عن هذه الأحداث الثلاث الكبرى تحولات دينامية كبيرة على مستوى الفكر شكلت بدورها أرضية فكرية وثقافية لتبلور مفهوم الحق والتشريع. وقد أدي هذا المخاض التشريعي والحقوقي النظري إلى تبلور تدريجي لمفهوم حقوق الإنسان عبر عدة مسارات.
المعالم الكبرى لهذه الأرضية الثقافية الحديثة هي إيلاء الإنسان والوعي الإنساني مكانة مركزية سواء تعلق الأمر بالإنسان كعقل أو كإرادة أو كرغبة. فالإنسان هو الفاعل المركزي في المعرفة والطبيعة والتاريخ. وبموازاة هذا التحول الاستراتيجي في مركز الإنسان ووعيه ودوره حدث تحول تدريجي حاسم في المعرفة بتحولها من معرفة تأملية، ذاتية، قيمية وأخلاقية إلى معرفة علمية وضعية وأداتية وتقنية. وستتجه هذه المعرفة العلمية التقنية إلى أن إضفاء طابع تقني على المعرفة العلمية وإلى إضفاء طابع علمي على المعرفة في مجال الإنسانيات كلها.
العنصر الثالث الذي طالته هذه التحولات العميقة هو الطبيعة، وقد تمثل ذلك في الانتقال من نفور الطبيعة كماهيات روحية متفاوتة القيمة إلى تصور رياضي للطبيعة. بمعنى أن العلم الحديث استبعد البحث في الكيفيات المختلفة التي تظهر عليها الطبيعة أو التي تنسب لها لينظر إليها من خلال منظور يجعلها كميات ومقادير قابلة للتحكم والضبط. وذاك ما يسره التصور الرياضي للطبيعة الذي عبر عنه غاليلو بقوله أن كتاب الطبيعة مكتوب بلغة الرياضيات أو أن الطبيعة تتحدث بلغة المربعات والمثلثات والنسب والعلاقات.
وبموازاة ذلك تبلور مفهوم التاريخ كحقل لتفاعل أحداث وتلاحقها تلاحقا يعطيها معنى وتوجها. ومن ثمة أصبح معنى التاريخ رهينا بالأسباب العينية المختلفة لهذه الأحداث، وبدور الإنسان في الفعل في هذه الأحداث إما بإرادته أو خارج إرادته، وهو ما أطلق عليه إسم النـزعة التاريخانية؛ فهذه الأخيرة هي تصور للتاريخ البشري كصيرورة تحكمها عدة حتميات وتوجهها فواعل بشرية وطبيعية لا تفلت بدورها من هذه الحتمية والصيرورة. وهذا التصور يتضمن أو يصادر على تصور للزمن، لا كحركة لولبية أو دائرية بل كحركة خطية متصاعدة.
هذه الأرضية الثقافية الجديدة طالت كل المجالات والفروع المعرفية ووسمتها بميسمها بشكل واضح، بما في ذلك مجال التشريع وفلسفة الحق.
يتضمن هذا التوجه فرضية رئيسية مؤداها أن مفهوم حقوق الإنسان لم يظهر إلا في العصر الحديث. لكن هذه الفرضية، على قوتها، ما تزال محط خلاف ونقاش. فالعصور القديمة هي العصور التي شهدت مشروعية الرق بل حق الاسترقاق، والتعصب الإثني والديني والمذهبي ودونية المرأة، والنظرة الاستصغارية للطفل… الخ. ورغم أن معظم الديانات، وخاصة الديانات السماوية قد خطت خطوة في تحرير الإنسان من قيود النظرة البدائية وطورت شعوره النوعي بالتميز والكرامة، وجعلت الناس، مبدئيا، ونظريا، كائنات متماثلة، فإن تحول الحريات والحقوق الفردية والجماعية من دائرة الأخلاق إلى دائرة القانون لم يتم إلا ابتداء من القرن السابع عشر الميلادي. وبالتالي فإن العصور القديمة كانت تترى بالدعوات الأخلاقية إلى المساواة والأخوة والحفاظ على كرامة الإنسان وبما شاكل ذلك من الأخلاقيات الجميلة سواء في النصوص الدينية أو في التراث الأدبي للشعوب، ولكن الواقع المعيش كان حافلا بضروب الاستعباد والتمييز، والاستصغار. فحتى القانون المدني Jus civile الذي هو ابتكار روماني أصيل لم يعرف مفهوما مماثلا لمفهوم حقوق الإنسان(1).
يجمع جل مؤرخي الفكر الحقوقي على أن مفهوم حقوق الإنسان قد تولد عن مفهوم القانون الطبيعي Droit naturel ، أو أن حقوق الإنسان تجد أصلها في الحقوق الطبيعية.
إلا أنه قد يكون من الأدق الإشارة إلى أن مفهوم حقوق الإنسان قد انبثق في سياق فكر تصب فيه ثلاثة روافد:
– فكرة الحرية أو الحريات
– فكرة العقد الاجتماعي
– فكرة الحق الطبيعي
هذه الروافد أو المسارات الثلاث الكبرى قد شكلت البوتقة التي انبثق فيها مفهوم حقوق الإنسان، بل إن الرافدين الأول والثاني يصبان في النهاية في مفهوم الحق الطبيعي، ويسهمان في البلورة النظرية لمفهوم حقوق الإنسان. لذلك فإن مسار الحق الطبيعي ظل هو الطريق الملكي من وإلى مفهوم حقوق الإنسان. ويجب أن نشير هنا إلى أننا عندما نتحدث عن الأصول (أو الجذور) الفلسفية لحقوق الإنسان، فإن من اللازم التمييز بين الجذور الفكرية والأسس الفكرية. فالبحث في الجذور الفكرية يوجهنا إلى القيام بنوع من أركيولوجيا لحقوق الإنسان، كيف وأين ومتى نشأت وتطورت، بينما يوجهنا البحث في الأسس الفكرية لا إلى التتبع الأركيولوجي والكرونولوجي لهذه المفاهيم والأفكار بل إلى أسسها وخلفياتها الفلسفية. وقد قمنا بذلك جزئيا عندما حاولنا ملامسة بعض التحولات الفكرية الكبرى في سياق الفكر الأوربي. وانطلاقا من ذلك يمكن أن نربط بما سبق ذكره ونشير إلى أن الأسس الفكرية الكبرى لحقوق الإنسان هي إلى حد كبير فلسفة الأنوار، وذلك من حيث أن حقوق الإنسان قد انبثقت، في القرن الثامن عشر، عبر صراع الأنوار ضد مطلقية وتعسفية السلطة(2). فالروح التي تسكن مفاهيم حقوق الإنسان هي روح أنوارية. ومن ثمة فإن الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان هي: العقلانية، والمشروعية التاريخية – والنزعة الفردانية، والوضعانية القانونية. وهذه الأسس هي بمثابة الأرضية الفكرية التي ازدهرت على بساطها مقولات الحق الطبيعي، والعقد الاجتماعي ومبدأ المساواة، والحريات الأساسية للإنسان. فالأصول هنا تقوم على أرضية الأسس.
وهذه المقولات هي بمثابة منظومة ارتوازية يصب بعضها في البعض، وتؤاصر كل مقولة منها المقولات الأخرى وكأنها بمثابة منظومة فكر خلفية مولدة لمجرة حقوق الإنسان وقائمة منها مقام المرتكز والأساس. وكل فهم أو تأويل لحقوق الإنسان لا يراعي هذا السياق التاريخي الأصلي، وهذه المرتكزات إنما يقدم تصورا مجبوبا وقاصرا عن هذه الحقوق، لأنها في الأصل كتلة فكرية واحدة قائمة على أرضية الحداثة.
قد يعترض البعض بالقول بأن هذه المرتكزات المتمثلة إما في التعاقد وما يعنيه من استمداد لمشروعية السلطة من تحت، أو في سيادة القانون الذي هو تعبير عن السيادة القانونية للإرادة العامة، أو في شيوع فكرة المساواة كفكرة خلفية ضامنة فلسفيا لجملة من الحقوق، قد ظلت مجرد “أحلام جميلة” ومزاعم غير ذات أساس كما يقول أحد أهم فلاسفة الحق في الثقافة الفرنسية المعاصرة وأقصد ميشيل فيللي (M ;Villey ). لكن يبدو أن هذه المقولات الحقوقية السياسية ظلت دوما تتراوح بين الإيديولوجيا واليوتوبيا. فهي من جهة شعارات ومثل كبرى، لكنها لم تكن مثلا سياسية تسبح في سماء المجرد بل شكلت بالتدريج عناصر فعلية في المنظومة التشريعية والسياسية الغربية، كما أنها شكلت باستمرار معتقدات يقينية سائدة ومتواترة في الإيديولوجيات السياسية والتشريعية في الغرب(3) منذ عصر الأنوار.
– الحقوق كحريات: الحرية هي الحق الأول وهي أصل كل حق:
ليس من الصدفة أن ينص إعلان 1789 حول ” حقوق الإنسان والمواطن” على الحرية كحق أول للإنسان سابق على غيره من الحقوق. فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هو في العمق مدونة سياسية للحرية(4). بل إن الحقوق الأخرى هي، في النهاية، حريات. فمثلا حق التملك، هو حرية التملك، وحق العيش في المجتمع هو حرية العيش في المجتمع. وهذان الحقان الأساسيان المشكلان للدولة والتنظيم السياسي، هما في عمقهما ضربان من الحرية(5).
إن حقوق الإنسان هي في جانب كبير منها حريات، أو هي حريات تنتهي وتقود إلى، وتصب في الحقوق الذاتية للإنسان، كما تعبر عنها المواثيق الدولية المؤسسة وخاصة إعلان 1789(6).
وهذه الحريات التي صيغت أولا على شكل إعلانات للمبادئ ذات إلزام أخلاقي أكثر منه قانوني، ثم تحولت بالتدريج إلى مصدر للتشريعات الدولية الوطنية المقننة والمرسمة لهذه الحرية، تطال كافة مستويات الجسم الاجتماعي: حريات في مجال العمل السياسي، حريات في المجال الاقتصادي، وحريات في المجال الثقافي، وحريات في مجال الفكر والثقافة.
إن ما يسمى بالحقوق كحريات (أو الحقوق/حريات Droits-Libertés ) بمقابل الحقوق الدائنة (Droits créances ) هي في النهاية حرية الممارسة السياسية، وحرية الممارسة الاقتصادية، وحرية الممارسة الثقافية وحرية الممارسة الفكرية.
وهذه الحريات ليست حريات مطلقة، بل إن المبادئ والإعلانات والعهود الدولية والقوانين المحلية تضبطها، وتحدد شروط ومجالات وحدود تطبيقها بل إن حقوق الإنسان هي ضبط للحريات المطلقة للإنسان في الحالة المفترضة: حالة الطبيعة، لأنه إذا كانت الحرية حقا طبيعيا مطلقا للإنسان في الحالة الطبيعية كما تقول بذلك مدرسة الحب الطبيعي، فإن هذه الحرية متدورة للموت والاقتتال وهو ما يتطلب ضبطها في الحالة الاجتماعية للخروج بها من حالة أو إمكانية الحرب والاقتتال إلى حالة الاتفاق والسلام الاجتماعي. ولعل هذا هو المعنى الذي تقهم في إطاره قولة هيجل “بأن فكرة الحرية لا توجد بالفعل إلا في واقع الدولة”(7).
إن حقوق الإنسان، من حيث هي في جوهرها حريات يتم ضمانها أخلاقيا وتشريعيا، هي ضبط وتقنين لهذه الحريات في إطار تنظيم مجتمعي قائم، بتحويلها من مثال أخلاقي إلى واقع تشريعي ملموس.
ما السر في هذه المكانة الجوهرية التي اكتسبتها الحرية في العصور الحديثة، لدرجة أنها توسعت وتجذرت وأصبحت بمثابة تعريف للإنسان نفسه بل حقا طبيعيا أساسيا للإنسان وتجسيدا فعليا لكل الحقوق الأخرى(8).
تشكل فكرة الحرية قطعة أساسية ضمن أيديولوجيا النـزعة الإنسانية التي شكلت الأرضية الفكرية لعصر النهضة. فتمجيد الإنسان، هذا التمجيد الذي أرسته الديانات السماوية، إما بالقول بأن الله خلق الإنسان على صورته، وعلى شاكلته كما تقول بذلك المسيحية(9)، أو بالقول بأن الإنسان خليفة الله في الأرض كما يقول بذلك الإسلام، قد بلغ ذروته في الفكر الحديث الذي أعاد ترتيب صورة الكون بحيث جعل الإنسان كائنا مركزيا وفاعلا أساسيا في التاريخ والمعرفة. وهذا الإنسان هو كائن عقلي مزود بإرادة وقدرة على الفعل، وبحرية لا تقبل الإنكار أو السلب. العقل، الإرادة، الحرية هي الصفات الرئيسية الثلاث التي تم التركيز عليها وإسنادها للإنسان فردا ونوعا.
لذلك نرى أنه إذا كانت النـزعة الإنسانية (أو ما يدعى أحيانا بالنـزعة الذاتية) قد جعلت الذات الإنسانية أو الذاتية في مركز الصدارة، فقد نسبت لهذه الذات حرية مرادفة ومعادلة لها تماما. وقد أوضح هيجل بقوة هذا الترابط، في العصور الحديثة، بين الذاتية والحرية. فالذاتية في رأيه، من حيث أنها هي ما يميز العصور الحديثة، لا تختلف عن الحرية بل إنه في بعض الأحيان -كما يقول هابرماس- يفسر مبدأ الذاتية بالحرية وبالفكر(10). إن هيجل لا يكتفي بالتحدث عن مفهوم الحرية بل عن “الحق في الحرية الذاتية” من حيث أنه “يشكل النقطة الحاسمة والمركزية التي تجسد اختلاف الأزمنة الحديثة عن العصور القديمة”(11) ويذهب إلى حد الإفتاء بأنه يجب، ابتداء من الآن، أي من عصر هيجل نفسه، يجب على كل ميادين الحياة الإنسانية أن تتحدد انطلاقا من هذا المبدأ (الذاتية كحرية).
“وهكذا فإن الحق، والملكية والأخلاق، والحكومة، والدستور يجب أن تكون ابتداء من هذا الوقت، محددة انطلاقا من مبادئ عامة ملائمة لمفهوم الإرادة الحرة والعقلانية أي لمبدأ الذاتية”(12).
وقد وقفنا بالخصوص عند بعض آراء هيجل حول مسألة الحرية باعتباره الفيلسوف الذي استخلص واستقرأ مسار أوديسة الحرية في كل التاريخ الغربي والإنساني، وربط هذه المقولة بالعصور الحديثة. فهو الذي يفسر كل التاريخ البشري باعتباره مسارا تدريجيا نحو تحقيق الحرية. ففي الشرق كان هناك إنسان واحد حر هو المستبد. وفي الإغريق وروما أصبح العديد من الناس (المواطنون) أحرارا. وفي العالم الحديث أصبح الجميع أحرارا أمام الله على الأقل. فمع الإصلاح الديني، والثورة الفرنسية التي تشكل لديه “بزوغا رائعا للشمس” يصبح كل الناس أحرارا(13).
وإذا كان هيجل قد رصد قيمة الحرية في العالم الحديث فإنه ليس الوحيد الذي فعل ذلك، وإنما يرجع إليه الفضل في ربط هذه الحرية بالتحولات التي عرفها العصر الحديث، وفي ربطها بنظام المجتمع والدولة(14).
فنحن نعثر على أشكال مختلفة من تمجيد الحرية لدى كل الفلاسفة الذين فكروا في تحولات العصور الحديثة، ومن أبرز هؤلاء جان جاك روسو الذي يعتبر الحرية صفة أساسية للإنسان و”حقا” غير قابل للتفويت. لدرجة أنه “أن يتخلى الإنسان عن حريته معناه أن يتخلىعن صفته كإنسان، وعن حقوق الإنسانية وواجباتها”(15).
– فكرة العقد الاجتماعي: الحقوق كمكاسب ينظمها ويضمنها نص تعاقدي
على الرغم من أن فكرة العقد الاجتماعي هي فكرة افتراضية أكثر مما هي فكرة واقعية، أو هي بتعبير دوركهايم “لا تربطها أية علاقة بالواقع”، فإنها قد لعبت دورا حاسما في التحول من النظرة الكنسية حول المجتمع والسلطة، وهي النظرة التي ترجع نشأة المجتمع إلى الأمر الإلهي، ومشروعية السلطة إلى الحق الإلهي، ومن النظرة الطبيعية التي ترجعهما معا إلى الطبيعة؛ إن إرجاع نشأة كل من المجتمع والسلطة إلى فعل تعاقد بين الناس معناه إرجاعهما إلى فعل بشري، أي إلى الإنسان من جهة وإلى الإرادة من جهة ثانية. وبذلك حلت إرادة الأفراد محل أية إرادة أخرى، وربما كانت إرادة الأفراد هي أساس وأصل الإرادة الجماعية نفسها.
لقد كانت نظرية العقد الاجتماعي، في نظر المفكرين الذين بلوروها، منذورة لمناهضة نظرية الحق أو الأصل الإلهي الذي تدعمه الكنيسة. فبوفندورف Pufendorf ، وهو أحد أقطاب مدرسة الحق الطبيعي، يخصص أحد فصول كتابه “حق الطبيعة والناس” لدراسة “أصل وأسس السيادة”، وهو فصل مخصص بكامله لرفض نظرية الحق الإلهي المدعومة من طرف الكنيسة، والمعروضة في كتاب هورنيوس Hornius المعنون بـ (1664) De civitate . ونظرية الأصل الإلهي للسلطة المدنية، تمثل الموقف التقليدي للكنيسة الكاثوليكية تجاه المسألة السياسية، كما نجدها لدى تلامذة القديس أوغسطين(16). مثل سواريس Suarez وبوسويه Bossuet وآخرين. وهذه النظرية هي تطوير لقولة القديس بولس: كل قوة تأتي من الله”(17).
إلا أن النقاشات والتأويلات التي تعرضت لها هذه القولة ونظرية الحق الإلهي دفعت بها في مرحلة أولى في اتجاه التمييز بين السلطة العليا المستمدة من الله والسلطة الدنيا التي يمارسها البشر، مما يعني أن الله هو المصدر الأعلى للسلطة وأن دور الناس يقتصر على تعيين أولئك الذين سيمارسونها. فليس الله هو الذي يعين الحكام، لكن بمجرد أن يتم تعيين هؤلاء من طرف الناس عبر اتفاقات بينهم فإن الحكام يتلقون ويستمدون العون من الله على ممارسة سلطتهم. فأمر تعيين الحكام ونوع الحكومة وكيفية تسمية أولئك الذين سيحكمون كلها أمور تعود إلى اتفاق البشر فيما بينهم، وإن كانت السلطة القصوى في النهاية تعود إلى الله(18).
أما في المرحلة الثانية فقد اتجهت نظرية العقد الاجتماعي إلى الاستقلال عن كل ارتباط لاهوتي، بل أصبحت، في النهاية، أداة لإضفاء طابع بشري، إرادي على نظام السلطة ومنشأ المجتمع.
وقد لعب رواد مدرسة الحق الطبيعي غروتيوس وبوفندورف دورا كبيرا في الفصل بين الحق الطبيعي واللاهوت. فقد بذلوا جهدا في فك الاشتباك بين المسألة السياسية والمسألة الدينية، محققين في تاريخ الفكر السياسي، ثورة حقيقية، بتخليص العلم السياسي من ارتباطه باللاهوت المسيحي، وكذا بتخليص الدولة من هيمنة ووصاية الكنيسة(19).
فالحقوقي الهولندي غروتيوس هو الذي أقام الدولة على الميل الطبيعي نحو العيش المأمون، الذي يأمله الناس من قيام المجتمع، كما قام بالبحث عن إمكانية دوام قواعد قانونية قائمة على العقل وبقائها حقيقية حتى في حالة غياب سند لاهوتي لها. وقد أدخل بوفندورف هذا التصور غير الديني للدولة إلى ساحة الفكر الألماني.
إن السلطة المدنية، بالنسبة لكل من غروتيوس وبوفندورف وأتباعهما من أصحاب مدرسة الحق الطبيعي، هي في النهاية مؤسسة إنسانية. ولا ضرورة للصعود إلى المرتبة الإلهية للعثور على أصل السلطة والمؤسسة السياسية، فجذرها وأصلها وأساسها يقوم في الاتفاقات التي يقيمها الناس بينهم(20). “ويجب أن نشير -كما يقول غروتيوس- إلى أن الناس الأوائل الذين كونوا المجتمع المدني، لم يفعلوا ذلك نتيجة أمر إلهي، بل وجدوا أنفسهم مدفوعين لذلك عن طريق الخبرة التي شعروا فيها بضعف الأسر المنفصلة وبعدم قدرتها على أن تحمي ذاتها، بما يكفي، من عنف وسباب الآخرين. ومن ثمة تولدت السلطة المدنية التي دعاها القديس بطرس (St Pierre ) بسبب ذلك مؤسسة إنسانية؛ وذلك على الرغم من أنه، في مكان آخر، كان قد اعتبرها مؤسسة إلهية، لأن الله قد باركها كشيء يحقق مصالح البشر، الذين هم مؤسسو هذه السلطة. والحال أن الله عندما يصادق على قانون بشري فإنما يصادق عليه كقانون خاص بالبشر يوافق رغباتهم ويحقق مصالحهم”(21).
وهكذا يتخيل هؤلاء المفكرون حالة طبيعية افتراضية لم يكن الناس خاضعين فيها لأية سلطة، باستثناء قانون العقل أو القانون الطبيعي. في هذه الحالة كان الناس يعيشون في حالة من التساوي والاستقلال. فالتساوي يعني أن لا أحد يملك بالطبيعة حق حكم الآخرين. وقد ظل المشكل المطروح في هذه الحالة هو معرفة كيف تم الانتقال من حالة الاستقلال هاته إلى المجتمع المدني الذي يخضع فيه الناس لسلطة مشتركة. وقد قدمت نظرية العقد الاجتماعي حلا لهذه المعضلة.
وسواء كان الخضوع للسلطة الناشئة عن العقد خضوعا طوعيا ناتجا عن مصادقة الرعايا أم خضوعا قسريا ناتجا عن غزو أو انتصار فإن أفراد المجتمع يتخلون عن قسم من حريتهم الطبيعية لصالح حاكم فرد أو لصالح جمعية (Assemblée ) تمارسها بالنيابة عنهم.
وإذا كانت نظرية التعاقد قد وجدت صدى سياسيا في الواقع السياسي آنذاك فذلك لأنها كانت استجابة متوازنة وموفقة للتحول التدريجي الذي حدث في تركيب السلطة في أوربا. فهي من زاوية موجهة ضد السلطة الزمنية للبابا، كما أنها تحاول من زاوية أخرى أن تعيد للسلطة الملكية استقلاليتها بإقامتها على أسس دنيوية خالصة(22).
إلا أن هذه النظرية، التي انبثقت من حضن مدرسة الحق الطبيعي ستتبلور أكثر على يد جان جاك روسو J.J.Rousseau الذي عاب على غروتيوس أنه لم يتوان عن “تجريد الشعوب من كل حقوقها ليزين الملوك بها بواسطة فن رفيع” (الكتاب الثاني – الفصل الثاني من “العقد الاجتماعي”.)، مما يعني أن نظرية التعاقد ستأخذ مع روسو منحنى ديمقراطيا أوضح، وستتجه أكثر نحو التأكيد على سيادة الشعب.
لكن ما سيميز نظرية روسو، من حيث أن كل رواد مدرسة الحق الطبيعي يرجعون السيادة للشعب، هو قوله بأن هذه السيادة تعود في الأصل فقط إلى الشعب بل هي مستمدة منه وراجعة إليه دوما وأبدا. فالشعب لا يتنازل عنها ولا يكلها لأحد. فسيادة الشعب حق غير قابل للتفويت، ولا يمكن أن يكون هناك سيد آخر غير الشعب. والدولة الوحيدة المشروعة في نظر روسو هي تلك التي يمارس فيها الشعب ذاته السيادة، وهي الدولة الجمهورية(23).
وبغض النظر عن الفروق التي تفصل بين رواد نظرية العقد الاجتماعي (بوفندورف-هوبز-لوك-روسو)(24) فإن بالإمكان إبراز بعض السمات المشتركة بينها، والتي تندرج في إطار مساهمتها في بلورة حقوق الإنسان.
1 – أن هذه النظرية شكلت العتلة الفكرية للانتقال من المشروعية السياسية المستندة إلى الكنيسة، والمبررة لسلطتها، بل لاستبدادها، باسم المتعالي، وذلك على الرغم من أن نظرية العقد الاجتماعي قد خرجت من صلب نظرية الحق الإلهي في الحكم، عبر صراع تأويلي طويل أدى إلى التمييز بين السلطة الروحية العليا المستمدة من الله، والسلطة الدنيوية المستمدة من الشعب، والتي يتم ترسيمها وترسيخها عبر العقد الذي ينص على مبدأ السيادة للشعب.
2 – تتفاوت هذه النظريات، بل تتراوح في إثبات مبدأ السيادة للشعب. فهي في صيغها الأخيرة، ذات المنحى الديمقراطي، وخاصة مع روسو، تنتهي إلى الإقرار على الأقل بحق الشعب (حقوق الشعوب) في السيادة، وهو حق ثابت، دائم غير قابل للتنازل أو الانتقال أو التفويت. وهذا المبدأ الذي هو حق أساسي، هو أصل كل الحقوق السياسية للشعوب أولا وللأفراد بالتالي. تفترض فكرة العقد إذن وجود حق أو حقوق غير قابلة للتفويت، وهذه الحقوق تجد ضمانتها وتجسيدها في المشروعية السياسية المتولدة عن نظام سياسي قائم على العقد. فالعقد يفترض الحقوق (السياسية على الأقل) ويدونها ويشكل نواة نظام سياسي كفيل بحمايتها وصونها(25).
– فكرة الحق الطبيعي: للإنسان حقوق طبيعية راسخة
الطريق الملكي أو الرافد الفلسفي الكبير والأساسي لحقوق الإنسان هو فكرة الحق الطبيعي كما بلورتها وطورتها مدرسة حقوقية كاملة هي مدرسة الحق الطبيعي.
وقد نصت أولى إعلانات حقوق الإنسان على وجود حقوق طبيعية للناس، أي حقوقا سابقة على وجود المجتمع والسلطة بحيث لا ينسخها ولا يلغيها أي نظام لأنها حقوق طبيعية بمعنيين: فهي من جهة مسجلة في طبيعة الأشياء، وهي من جهة أخرى مدونة في طبيعة الإنسان نفسها ومرتبطة بها. إنها حقوق جبلية راسخة في الطبيعة الإنسانية. فالفصل الأول من إعلان الحقوق فرجينيا (سنة 1776) ينص على أن “كل الناس خلقوا بالتساوي أحرارا ومستقلين. إن لهم حقوقا أكيدة، أساسية وطبيعية، لا يمكنهم، بأي عقد، التفريط فيها، وهي حق الاستمتاع بالحياة والحرية، مع وسائل الحصول على واحتياز ممتلكات والبحث عن كيفية الحصول على السعادة والأمن”.
لا تشكل مدرسة الحق الطبيعي اتجاها فكريا متجانسا. بل هي تيار فكري واسع يضم العديد من الأسماء: غروتيوس (Grotius 1645-1583 ) وبوفندورف (Pufendorf 1694-1632 ) وتوماسيوس ( 1728-1655 ) وليبنتز ( 1716-1646 ) وكريستيان فولف ( 1674-1754 ) وإيميل دوفاتيل (E.De Vattel 1767-1714 ) وبورلاماكى ( 1798-1694 ) وباربيراك ( 1744-1674 )(26).
وينسب بعض الدارسين إلى هذه المدرسة تجاوزا كلا من هوبز وروسو وسبينوزا ولوك. ومن ثمة يشيرون إلى الاختلافات الكبيرة بين هؤلاء فيما يخص الحالة الطبيعية والقانون الطبيعي، والحق الطبيعي نفسه. فالحالة الطبيعية بالنسبة لأحدهم هي القابلية للإجتماع بينما هي، بالنسبة لمفكر آخر هي الانعزال، وهي الغزيرة بالنسبة لأحدهم، والأخلاقية بالنسبة للآخر، وهي الحرب بالنسبة لأحدهم والسلام بالنسبة للآخر(27).
يصنف مؤرخو الفكر الحقوقي اتجاهات مدرسة الحق الطبيعي، من حيث بحثها عن أصل الحق خارج المجتمع، إلى النظرية اللاهوتية للحق الطبيعي، والنظرية العقلانية التي ترجع أصل الحق إلى العقل الإنساني، وهذه الأخيرة يمثلها الحقوقي النمسوي فرانس فون زيلر F.V.Zeiller واضع المدونة المدنية النمساوية في بداية القرن 19(28). وقد ظل مفهوم الحق الطبيعي محط تنازع بين نظرية لاهوتية ترجع الحق الطبيعي إلى نظرية الخلق، ونظرية عقلانية ترجعه إلى العقل البشري(29). وهذه النظرية الأخيرة تجد تعبيرا عنها لدى أحد أكبر ممثلي مدرسة الحق الطبيعي وهو بوفندورف حيث يقول: “إن الحق الطبيعي يأمر بهذا الشيء أو ذاك لأن العقل المستقيم يجعلنا نحكم عليه بأنه ضروري للحفاظ على المجتمع الإنساني عامة”(30). وأصحاب الاتجاه العقلي في هذه المدرسة وضعوا نصب أعينهم تخليص الفلسفة والسياسة من تأثير الكنيسة الكاثوليكية وكذا تأسيس الحق على أساس العقل والإرادة البشريين(31). كما أنهم جميعا تقريبا يقولون بفكرة العقد الاجتماعي بل إن أصحاب النظرية التعاقدية (هوبز-لوك-روسو) قد استعاروا منهم الكثير من الأفكار. ولعل هذين الاتجاهين يلتقيان معا في جعل العقل أساسا للحق، وفي إفساح المجال للإرادة والفعل البشريين، وكذا في تأسيس كل من المجتمع والسلطة على مبدأ التعاقد الإرادي بين الناس.
تعود الجذور البعيدة لفكرة الحق الطبيعي إلى المدرسة الرواقية حيث كانت تعني لديهم، كما لدى الحقوقيين الرومانيين، حقا مشتركا بين كل الناس، وهو حق يمكن التعرف عليه بفعل أنوار العقل، كما أنه يرجع إلى مبدأ القابلية للاجتماع(32).
لكن لحظة التحول الكبرى في تاريخ فكرة الحق الطبيعي ترجع إلى سنة 1540 ميلادية عندما أعلن Victoria ، في وقت كانت فيه الأوغسطينية القانونية تحرم الوثنيين من كل الحقوق، أن الهنود هم أيضا بشر لهم حقوق ملازمة لطبيعتهم، وعلى رأس هذه الحقوق حق الملكية. وهكذا اعتبر حق الملكية، حقا طبيعيا للإنسان، بل كان أول حقوق الإنسان الحديثة(33).
إلا أن فكرة الحق الطبيعي الحديث تختلف في أسسها عن فكرة الحق الطبيعي الكلاسيكية. فالحق الطبيعي عند الأقدمين غير قائم على فكرة المساواة. وما ذلك إلا جزء من تصور للطبيعة والكوسموس في الفكر الإغريقي غير قائم على فكرة التساوي والتعادل. فالعالم المغلق القديم يتضمن تصورا تراتبيا وتفاوتيا للكائنات والأمكنة والأزمنة، وذلك حسب درجة كمال كل منها: ففي الأعلى توجد الدوائر المكتملة، الكمالية، المضيئة، غير الفانية وغير القابلة للفساد، وفي الأسفل توجد الأجسام الثقيلة، العتمة، المادية. وهذه الصورة التراتبية والتفاوتية تتناقض مع فكرة قانون طبيعي مساواتي صالح لكل الكائنات ويشمل كل الإنسانية(34).
أما في العصر الحديث فقد تطور مفهوم الحق الطبيعي تطورا متسارعا ومذهلا ابتداء من القرن 17، وخاصة تحت تأثير التطورات المتسارعة في مجال الفيزياء وعلوم الطبيعة، وعلى وجه الخصوص مع غاليلي وديكارت ونيوتن(35 ). فقد حطمت فيزياء غاليلو حول المكان اللامتناهي والمتماثل النموذج الطبيعي التقليدي لمجتمع غير متساو كما عرضته الكوسمولوجيا الأرسطية. وبذلك مهدت فيزياء غاليلو الطريق أمام انتقال نموذج المساواة من الطبيعة إلى الثقافة السياسية.
وبالتوازي مع تطور العلوم الطبيعية فإن فكرة الحق الطبيعي بانغراسها في الطبيعة الإنسانية، أي بتذويتها للحق تكون قد واكبت تطورا آخر حدث في الفلسفة وعبر عنه الكوجيتو الديكارتي وهو حلول الذات البشرية، كعقل وإرادة، محلا مركزيا في كل معرفة وفي كل وجود.
هذا التحول إذن في مفهوم الحق والحقوق يزامن بل يواكب تحولات كبيرة حدثت في مجال تصور الطبيعة في العلوم الفيزيائية، وتطورا كبيرا حدث في مجال الفلسفة عكسته فكرة قدوم الذات البشرية الفاعلة واحتلالها لمركز الصدارة في المعرفة والتشريع والعمل.
– خاتمة:
تشكل هذه الروافد الثلاث الكبرى، التي تصب كلها في دائرة حقوق الإنسان، عائلة فكرية واحدة.
فهي جميعا تعكس التحولات الكبرى التي حدثت في التاريخ الحي وفي الفكر، والتي أسهمت في إحداث تعديلات كبرى على أساس الثقافة الغربية الكلاسيكية في اتجاه إثبات دور أكبر للعقل في الكون (العقلانية)، وإثبات صورة الطبيعة كنظام مستقل له نواميسه الخاصة (الوضعية)، وإقرار إرادة الإنسان بما لها من قدرة على الوعي بالحتميات المختلفة والتخلص من تأثيرها (النـزعة الإرادية)، وذلك ضمن منظور الصيرورة والتحول في سياق التاريخ الحي (النـزعة التاريخانية)، وفي أفق منظور نمطي متصاعد للزمن(36).
وفي مناخ تنويري، تميز بالنضال ضد النـزعة المطلقة في الحكم وضد النـزعة التعسفية والاستبدادية(37)، ارتبطت فكرة حقوق الإنسان بالنـزعة الفردانية، الممجدة لحرية الفرد ولإرادته وعقله، بفكرة العقد الاجتماعي، كفكرة ضابطة للأصل البشري التعاقدي لكل سلطة، بفكرة الحق الطبيعي القائمة على وجود حقوق طبيعية راسخة وقبلية لدى الإنسان، أهمها الحرية أم الحقوق الإنسانية جميعا. ولعل الجملة التي أوردها هوبز في “اللفياتان” سنة 1651 تجمع بشكل لماح هذه العناصر الثلاثة الحرية-التعاقد-الحق الطبيعي حيث يقول: “الحق الذاتي الطبيعي -الذي تعود الكتاب على تسميته بالحق الطبيعي- هو الحرية التي يملكها كل إنسان في أن يستعمل كما يشاء قدراته الخاصة”(38).
وهذه الأفكار، في مراوحتها الجدلية بين نضالات وصراعات الواقع التاريخي والاجتهادات الفلسفية في ميدان الفكر ستنتقل بالتدريج من بطون الكتب ودوائر الخاصة إلى رحاب الواقع السياسي، كما ستتحول بالتدريج من معايير أخلاقية ملهمة وموضوعية إلى تشريعات وقوانين ضابطة وملزمة سواء على الصعيد الداخلي أو على صعيد العلاقات بين الدول.
المراجع:
1 – بالفرنسية:
– Batiffol H. : La philosophie du droit, PUF, que sais je ? N°857.
– Brimo Albert : Les grands courants de la philosophie du droit et de l’état, Ed. pedone, Paris 1978.
– Barttroly (S.D) : Le pouvoir (Textes), Paris Magnard 1977.
– Benachour : Etat nouveau, Tunis 1980.
– Derathé Robert : J-J. Rousseau et la science politique de son temps, paris, PUF 1950.
– Fouquet et Stalloni : Le droit, Ellipses, Paris 1988.
– Haarscher : Philosophie des droits de l’homme, Ed. de l’université de Bruxelles 1987.
– Haarscher : La raison du plus fort, Madaga, Bruxelles 1988.
– Barret-Kriegel, Blandine : Les droits de l’homme et le droit naturel, PUF, Quadrige 1989.
– Mourgeon J. : Les droits de l’homme, PUF, que sais je ? N°1728, PUF 1978.
– Havet Jaques (S.D) : Tendances principales dans les sciences sociales et humaines, Tome II, unesco-Mouton 1978.
– Goyard Fabre et sève : Les grandes questions de la philosophie du droit, PUF, questions 1986.
– Huisman et Ribes : Les philosophies et le droit (Textes), Bordas 1988.
– Laqueur et Rubin (S.D) : Anthologie des droits de l’homme, Nouveaux horizons 1979.
– Villey Michel : Le droit et les droits de l’homme, PUF 1983.
– Habermas J.: Le discours philosophique de la modernité, Gallimard 1985.
2 – بالعربية:
– برناند غروتيوزن: فلسفة الثورة الفرنسية، عويدات – بيروت 1982.
– سيفان ماتون: حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس، ترجمة محمد الهلالي الرباط.
– عبد الله العروي: مفهوم الحرية، الدار البيضاء.
– هيجل: مبادئ فلسفة الحق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير بيروت.
– جون لوك: رسالة في التسامح، ترجمة عبد الرحمان بدوي، بيروت 1962.
– جون لوك: في الحكومة المدنية، ترجمة ماجد فخري، بيروت دار صابر.
– مونتسكيو: روح الشرائع، ترجمة عادل زعيتر، القاهرة 1953.
– روسو: في العقد الاجتماعي، بيروت 1982.
(1) Villey, 94-95.
(2) Haarscher, p. 23.
(3) Y. Benachour : L’Etat nouveau et la philosophie politique et juridique occidentale, Tunis 1980, p.166.
(4) نفس المرجع، ص: 181.
(5) Généalogie des droits de l’homme in Droits N°2, 1985.
(6) بنعاشور، ص: 180.
(7) انظر العروي: مفهوم الحرية، ص: 64.
(8) هناك نقاش دائر حول ما إذا كان من الصائب إرجاع كل الحقوق إلى حريات، أم أن حقوق الإنسان أوسع من مفهوم الحريات حيث يرى الأخيرون بأن كل الحريات حقوق للإنسان، ولكن ليست كل حقوق الإنسان حريات.
G.Soulier : Nos droits face à l’état, Seuil 1981, in le Droit, Ellipses 1988, p. 147.
(9) يشير M.Villey إلى أننا نجد نظيرا لهذه الفكرة لدى سيشرون حيث يقول “إن الإنسان يشبه الله”.
(10) Habermas : Le discours philosophique de la modernit, Gallimard 1985, p. 19.
(11) هيجل: مبادئ فلسفة الحق، ص: 34، (1992).
(12) ص: 320 (راجع هابرماس ص:19-20).
(13) انظر العقل في التاريخ (هارشر 91).
(14) يقول ذ.عبد الله العروي في مفهوم الإيديولوجيا إن الكلاسيكيين كانوا يرون الحرية في توافق إرادة الفرد مع إرادة الخالق المبدع، في حين أن هيجل يضعها في توافق هدف الفرد مع عقلانية الدولة وهدف التاريخ، ص: 65.
(15) عن: Blandine Barret-Kriegel : Les droits de l’homme et le droit naturel, PUF, Quadrige, p.75
فيما يخص مكانة مقولة الحرية في منظومة روسو السياسية.
Derathé : Rousseau et la science politique de son temps, P.U.F. 1950.
(16) Derathé, p. 172.
(17) Derathé, p. 33-34.
(18) Ibid, p. 34.
(19) Ibid, p. 39.
(20) Ibid, p. 41.
(21) Grotius : Droiy de la guerre et de la paix in Derathé, p. 41, Note 4.
(22) Derathé, p. 44-45.
(23) Derathé, p. 46-49.
(24) Brimo : Les grands courants de la philosophie du droit, Paris Pedone 1978, Section II ch II Les doctrines du contrat social, p. 109-130.
(25) Rials p. 142.
(26) Kriegel : Les droits de l’homme et le droit naturel, p. 60-61.
(27) Unesco : Tendances 1000.
(28) Unesco : Tendances 1002.
(29) Derathé, p. 390.
(30) Brimo, p. 95.
(31) Derathé, p. 390.
(32) Rials, p. 142.
(33) Kriegel, p. 46.
(34) Kriegel, p. 48.
(35) Kriegel, p. 49.
(36) عياض بن عاشور: العالم العربي: الدولة وحقوق الإنسان، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 72-73، ص:52-53.
(3) Haarscher, p. 12 et 23.
(38) Villey, p. 136.