مجلة حكمة
الأبستقراطية

الديمقراطية في مواجهة الأبستقراطية

الكاتبإيليا سومين
ترجمةرسلان عامر

يتحدى الكتاب الجديد للفيلسوف السياسي في جورجتاون جيسون برينان (Jason Brennan) “ضد الديمقراطية” (Against Democracy) مبدأ أساسيًا يعتبره معظم الناس أمرًا مفروغًا منه: أخلاق الديمقراطية، حيث تقول الحكمة التقليدية السائدة في المفاهيم اليمينية واليسارية على حد سواء،  أن جميع البالغين، أو جميعهم تقريبًا، يجب أن يكون لهم الحق في التصويت، وأن للناخبين الحق في الحكم، لكن برينان يؤكد خلاف ذلك.

1- هوبيت، هوليكانز، وفولكانيون

يبدأ برينان تحليله بإظهار أن معظم المواطنين يقومون بعمل سيئ للغاية عند النظر في القضايا السياسية، ويقسم المواطنين إلى ثلاث فئات، يسميها بشكل إبداعي الهوبيت([1])([2])، والهوليكانز([3])، والڤولكانيون([4]). الهوبيت لديهم اهتمام ضئيل أو معدوم بالسياسة، ولديهم مستويات منخفضة جدًا من المعرفة السياسية، فيما يميل الهوليغانز أو “المشاغبون” إلى معرفة أكثر مما يعرفه الهوبيت، لكنهم منحازون للغاية في تقييمهم للمعلومات، ويميلون إلى رفض الحجج المعارضة بشكل قاطع، كما أنهم يفتقرون إلى أي نوع من التطور العلمي الاجتماعي، وعلى النقيض من ذلك، يجمع الڤولكانيون بين المعرفة الواسعة والتطور التحليلي مع الانفتاح، كما أنهم لا يسمحون للعاطفة والتحيز بالتأثير على حكمهم، لكن القليل جدًا منا يقترب من مستوى أن يكون فولكانيا.

للأسف، فإن الغالبية العظمى من الناخبين هم مزيج من الهوبيت والمشاغبين، وغالبا ما يفتقرون إلى المعرفة السياسية الأساسية، وما يعرفونه، يحللونه بطريقة شديدة التحيز، وبدلاً من العمل كباحثين عن الحقيقة فإنهم يعملون “كمشجعين سياسيين” يهتفون للفريق الأحمر أو الفريق الأزرق، ويكمن جذر المشكلة في الجهل العقلاني، حيث أنه نظرًا لضعف فرصة أن يُحدث تصويت فردي فرقًا، فإن الناخبين لا يكون لديهم حافز كبير لاكتساب المعرفة ذات الصلة أو إبقاء تحيزاتهم تحت السيطرة، وجهل الناخبين وانحيازهم يجعلهم يتعاطفون بسهولة مع عديمي الضمير من السياسيين والأيديولوجيين ومجموعات المصالح، ونادرًا ما يحدث أفضل من ذلك خلال الانتخابات الحالية.

يعتمد قدر كبير من هذا الجزء من كتاب برينان ببساطة على الحكمة التقليدية لخبراء الطيف السياسي في مسألة الرأي العام، لكن معظمنا مايزال يعتقد أن للناخبين الحق في الحكم، بغض النظر عن مدى جهلهم وتحيزهم، وكما قال عالما السياسة كريستوفر آخن (Christopher Achen) ولاري بارتلز (Larry Bartels) في كتاب جديد آخر مهم عن الجهل السياسي، “يلعب النموذج المثالي للسيادة الشعبية نفس الدور في الأيديولوجية الديمقراطية المعاصرة التي لعبها الحق الإلهي للملوك في العصر الملكي”، ومثل الكثير من الملوك والأباطرة في العصور السابقة، يُنظر إلى الناس على أنهم يتمتعون بحق طبيعي لممارسة السلطة السياسية، سواء كانوا يفعلون ذلك بشكل جيد أم لا، وعلى عكس آخن وبارتلز، فإن برينان على استعداد لطرد ملكنا المتعدد الرؤوس من قاعدته.

يشير برينان إلى أننا في معظم الحالات نفترض بسهولة أنه لا ينبغي السماح للأشخاص باتخاذ قرارات مهمة للآخرين ما لم يكن لديهم على الأقل درجة معقولة من الكفاءة للقيام بذلك، وهو يطلق على هذه الفكرة اسم “مبدأ الكفاءة” (Competence Principle)، حيث لا نسمح للمشعوذين باتخاذ قرارات طبية على سبيل المثال، وهذا صحيح بشكل خاص عندما تكون القرارات الطبية المعنية في غاية الأهمية، ولا يكون لدى “المرضى” خيار سوى الانصياع لأوامر الطبيب.

غالبًا ما ينطوي التصويت، بالطبع وبالمعنى الحرفي، على مسائل مصيرية، والسياسيون الذين يتم انتخابهم هم من يحكمون المجتمع بأسره، بما في ذلك أولئك الذين صوتوا ضدهم أو اختاروا الامتناع عن التصويت، والقرارات الجاهلة أو غير المنطقية من قبل الناخبين يمكن أن تؤدي بسهولة إلى حروب متهورة، وركود اقتصادي، وإنفاذ لقانون تعسفي، وكوارث بيئية، وغيرها من الكوارث التي تعرض حياة وحرية ورفاهية أعداد كبيرة من الناس للخطر، فإذا كنا نرفض التسامح مع الممارسات الطبية الجاهلة أو حتى السباكة الجاهلة، فيجب أن ننظر نظرة قاتمة بنفس القدر نحو التصويت الجاهل.

لا يجادل برينان بأن “الفولكانز” الجيّدي المعرفة (knowledgeable) يتفوقون أخلاقياً على الآخرين ولديهم نوع من الحق في الحكم.، إنه يدعي فقط أن الهوبيت والمشاغبين ليس لديهم مثل هذا الحق، ومثل جون ستيوارت ميل (John Stuart Mill)، هو يؤكد بأن التصويت ليس مجرد اختيار فردي، ولكنه ممارسة “للسلطة على الآخرين”، ويجب استخدام هذه السلطة بشكل مسؤول، على كل حال.

2- البديل الأبستقراطي

حتى لو كانت الديمقراطية معيبة، فقد يجادل الكثيرون -على غرار تشرشل- بأنها أسوأ شكل من أشكال الحكم، باستثناء جميع الأنظمة الأخرى، وكما يقر برينان نفسه، ثمة أكوام من الأدلة على أن أداء الديمقراطية بشكل عام أفضل من الديكتاتورية أو الأوليغارشية، لكنه يجادل بأن هذه ليست البدائل الوحيدة الممكنة للديمقراطية، فهناك أيضًا “الإبستقراطية” (epistocracy)([5]) أي “حكم العارفين”.

قد يتخذ الناخبون قرارات أفضل إذا تم تحديدهم لجعلهم أكثر دراية وأقل تحيزًا، وبالنسبة لمعظم الناس، تبدو أفكار مثل الإبستقراطية وكأنها مناصرة لحكومة نخبة صغيرة، يمكن أن تسيء استخدام سلطاتها بسهولة، لكن برينان يقدم مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات التي يمكن من خلالها تحسين جودة الناخبين، مع الحفاظ على سعة جمهور الناخبين وتمثيليتة الديموغرافة، وعلى سبيل المثال، يمكن أن يقتصر حق الانتخاب على أولئك الذين يمكنهم اجتياز اختبار أساسي للمعرفة السياسية؛ أو بدلاً من ذلك، يمكن لمن لديهم معرفة أكبر أن يحصلوا على أصوات إضافية (كما دعا إلى ذلك جون ستيوارت ميل لأول مرة في القرن التاسع عشر)، وإذا كان الناخبون الأكثر دراية الناتجون عن ذلك غير تمثيليين (unrepresentative) (على سبيل المثال – على أساس العرق أو الجنس أو العمر أو الثروة)، فيمكن إعطاء أصوات الأعضاء ذوي المعرفة الجيدة من هذه المجموعات “ناقصة التمثيل” (underrepresented) وزناً أكبر؛ أو بدلاً من ذلك، يمكننا أن نجعل جمهور الناخبين أكثر معرفة وتمثيلًا مما هو عليه الآن باستخدام “يانصيب حق الانتخاب”([6]).

قد تبدو مثل هذه الأفكار راديكالية للغاية، وفي بعض النواحي هي كذلك، لكنها في كثير من النواحي مجرد امتدادات متواضعة للوضع الراهن، فقد استبعدنا بالفعل أكثر من 20٪ من سكاننا من حق الانتخاب لأننا نعتقد أنهم جاهلون ولديهم حكم سيئ، ونحن نسمي هؤلاء الأشخاص بـ “الأطفال”، ولا نشعر بالذنب لاستبعادهم بشكل منهجي من السلطة السياسية، والكثيرون منا يبدو لهم مثل هذا الإجراء مجرد حس سليم، لكن فكرة السماح للبعض بالتصويت إذا تمكنوا من إثبات أنهم أكثر دراية من الشخص البالغ العادي تعتبر فكرة راديكالية وخطيرة، فنحن لا نسمح للمهاجرين القانونيين بالحصول على حق التصويت ما لم يتمكنوا من اجتياز اختبار الحقوق المدنية (civics test) الذي من المحتمل أن يفشل فيه معظم الأمريكيين المولودين في البلاد، والعديد من الولايات أيضًا تستبعد العديد من المجرمين المدانين والعديد من المرضى عقليًا من حق التصويت.

لكن إذا كان من الجيد تمامًا استبعاد جميع الأطفال الذين تبلغ أعمارهم 17 عامًا بشكل قاطع من الانتخاب، فلماذا لا يستبعد من عمرهم 19 عامًا أو 40 عامًا، الذين يكون فهمهم للقضايا سيئًا أو أسوأ من فهم الطفل العادي؟ وإذا استطعنا استبعاد المهاجرين الجهلة، فلماذا لا نستبعد المواطنين الجاهلين؟ بموجب القانون الأمريكي الحالي، لا يوجد شيء تقريبًا يمكن لأي شخص دون سن 18 عامًا أن يفعله للحصول على حق التصويت، وعلى النقيض من ذلك، يمكن للبالغين (وربما حتى الأطفال) الذين حرموا من حق الانتخاب في ظل الإبستقراطية أن يعالجوا وضعهم ببساطة عن طريق الدراسة واجتياز الاختبار.

هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة المماثلة التي طرحها كتاب برينان يجب أن تجعلنا، على الأقل، غير مرتاحين، لكن حتى إذا كنتم – مثلي- متشككًين في مقترحات برينان للإبستقراطية، فإنه يقدم حجة قوية مفادها أن حق الناخبين الحاليين في الحكم لا يمكن الدفاع عنه تقريبًا كما قد نرغب في الافتراض، وهو يتشابه مع الحق الإلهي للملوك أكثر مما نود أن نعتقد.

في النهاية، على الرغم من أنني أتفق مع معظم تشخيص برينان للمشكلة، إلا أنني متشكك في حلوله المقترحة، وكما يعترف هو، هناك احتمال كبير بأن حكومات العالم الحقيقي لا يمكن الوثوق بها لتطبيق الإبستقراطية بأي نوع من الطرق غير المنحازة، فبدلاً من قصر التصويت على ذوي المعرفة الجيدة، فمن المرجح أن تقوم بهيكلة الاختبارات أو اليانصيب أو غيرها من الآليات المماثلة، بطرق تزيد من تمثيل مؤيدي الحزب الحاكم وتستبعد الخصوم، وهذه الآليات أيضا تحتوي على مجموعة متنوعة من العيوب العملية الأخرى.

وحتى لو كانت آليات الاختيار الأبستقراطية تعمل بشكل أفضل مما أتوقعه، فربما ما يزال الناخبون الأكثر كفاءة الناتجون عن ذلك يفتقرون إلى المعرفة اللازمة لمراقبة أكثر من جزء صغير من أنشطة الدولة الحديثة الضخمة والشديدة التعقيد، وقد تتجاوز هذه المهمة الشاقة حتى كفاءة الفولكانز، ومن المفارقات، أن العيب الرئيسي للإبستقراطية قد يكون أننا لا نملك المعرفة اللازمة لإنجاحها.

 لكن في الوقت الحالي على الأقل، من المرجح أن نخفف الضرر الناجم عن الجهل السياسي من خلال الحد من سلطة الحكومة والعمل على لا مركزتها (decentralizing)، بدلاً من محاولة نقلها إلى أيد أكثر دراية، ولكن حتى وإن كانت الإبستقراطية الكاملة غير ممكنة التطبيق، فمن المحتمل أن تكون الحركة المتواضعة في هذا الاتجاه ممكنة، وبرينان نفسه، يقترح تجربة بعض إصلاحاته المقترحة على نطاق ضيق، ربما على مستوى الولاية أو المستوى المحلي، ويفضل أن يكون ذلك في مناطق قضائية ذات مستويات منخفضة من الفساد وليس لها تاريخ من التمييز العنصري والعرقي في قواعد التصويت، وعلى أقل تقدير، يعد مبدأ برينان للكفاءة تحديا قويا للحكمة التقليدية حول الديمقراطية، وتحليله للبدائل الأبستقراطية للديمقراطية يستحق الدراسة، حتى وإن كانت معظم هذه الأفكار  ليست جاهزة في أي مكان للتطبيق على نطاق واسع.


  • [1] – إيليا سومين (Ilya Somin) هو أستاذ قانون في جامعة جورج ميسون (George Mason University) في الولايات المتحدة، وهذا المقال منشور على “واشنطن بوست” بتاريخ 03\10\2016.
  • [2] –  الهوبيت (Hobbits) هم جنس خيالي من أشباه البشر القصار القامة، وهم أحد أجناس روايات الكاتب البريطاني ج. ر. ر. تولكين (J. R. R. Tolkien) الملحمية مثل “الهوبيت” و”سيد الخواتم”، وهم  في هذه الروايات كائنات ريفية مسالمة، طيبة القلب، رقيقة المشاعر، تعشق الاستمتاع بالحياة وتحب الطعام، وقد ظهرت كائنات مشابهة تحمل نفس الاسم في أعمال أدبية خيالية لكتاب آخرين.
  • [3] –  الهوليغانز (Hooligans)، هذا المصطلح يدل على “المشاغبين” أو “مثيري الشغب”، ويقصد بـ “الشغب” السلوك التخريبي أو العنفي مثل العدوان والتنمر والبلطجة والتخريب وسواها من أعمال العنف، وكثيرا ما تكون هذه الظاهرة مرتبطة بالحشود المشجعة للأندية الرياضية ولاسيما في كرة القدم.
  • [4] – الفولكانز أو الفولكانيون (Vulcans) هم جنس خيالي من الكائنات العاقلة المشابهة للبشر من خارج كوكب الأرض في  سلسلة مسلسلات وأفلام “طريق النجوم” (Star Trek) الخيالية، وقد نشأ هذا الجنس في كوكب فولكان، وهم أول الأجناس الفضائية في عالم ستار ترك  التي أنشأت بروتوكولا للاتصال مع البشر، ويتميزون بالسعي للعيش بالعقل والمنطق دون تدخل العاطفة.
  • [5] – الإبستوقراطية (epistocracy) تعني “حكم العارفين”  وهي تدل على “الحكم أو النظام السياسي المستند إلى المعرفة” الذي يحكم فيه مواطنون ذوو معرفة سياسية، أو تعطى فيه السلطة السياسية للمواطنين حسب معرفتهم، والمصطلح مركب من كلمتين إغريقيتي الجذور هما ” “epistḗmēأي “معرفة” و” “krátos أي “حكم أو سلطة”.
  • [6] – يانصيب حق الانتخاب (enfranchisement lottery) هو فكرة سياسية مفادها أنه يجب اختيار جمهور ناخبين عارفين عبر يانصيب يقتصر فيه التصويت على مجموعة مختارة عشوائياً من المواطنين الذين يتم تزويدهم بمعلومات معمقة غير متحيزة ذات صلة بالانتخابات، ويعتبر فيه الأشخاص المطلعين بشكل كامل على الحقائق والحجج ذات الصلة المطروحة في محاكمات الأمور، هم  وحدهم من يجب أن يصدروا الأحكام والقرارات المهمة في هذه الأمور.