الكاتب | غاريت هاردن |
ترجمة | محمد الحربي |
مراجعة | محمد الرشودي |
يستخدم علماء البيئة مجاز يصف الأرض بـ “سفينة الفضاء” كمحاولة لإقناع الدول والمصانع والناس بالتوقف عن إهدار وتلويث مواردنا الطبيعية. وفي حين أننا كلنا نتشارك الحياة على هذا الكوكب، يقولون أنه لا المؤسسات ولا غيرها يملك الحق بتدمير أو إهدار أو استخدام أكثر من حصته العادلة من الموارد.
لكن هل يملك الجميع نفس الحق بحصة متساوية من موارد الأرض؟ قد يشكل مجاز “سفينة الفضاء” خطرا حينما يستخدمه المثاليون المغرر بهم ليشرعنوا السياسات الانتحارية التي تدعوا للمشاركة بمواردنا بالهجرة الغير المنظمة وبالمساعدات الخارجية. فهم يخلطون بكرمهم الحماسي وغير الواقعي أخلاقيات سفينة الفضاء بـ أخلاقيات قارب النجاة .
ستحتاج سفينة فضاء الحقيقية إلى قائد، فلا يمكن لسفينة الفضاء أن تنجو إن كان مصيرها في يد لجنة. وقطعًا، ليس لسفينة الفضاء الأرضية قائد؛ فالأمم المتحدة ليست إلا نمرًا بلا أنياب، لا تملك إلا القليل من القوة لتفرض أي سياسة على أعضائها المتخاصمين.
سيكون ثلثي العالم فقير جدا وثلث غني نسبيا، حيث يترأسها الولايات المتحدة كأغنى دولة، إذا قسمنا العالم بسطحية إلى دول غنية وفقيرة. من الممكن أن ننظر مجازا لكل دولة غنية على أنها قارب نجاة ممتلئ بأغنياء نسبيا. يصبح فقراء العالم راجين صعودهم على القارب أو على الأقل المشاركة ببعض الثراء في المحيط حول كل قارب النجاة . فما على ركاب قارب النجاة هذا أن يفعلوا؟
أولا, يجب علينا أن نعي القدرة المحدودة لأي قارب نجاة. فعلى سبيل المثال، لكل أرض دولة لها قدرة محدودة في استيعابها لعدد السكان، وكما أظهرت أزمة الطاقة الحالية، فإننا بشكل ما قد تجاوزنا حد الاستيعاب لدولتنا.
بلا وجهة في بحر الأخلاق
لنفترض أن عددنا في قارب النجاة كان 50 شخصًا، وكان لدينا متسع لعشرة أشخاص آخرين. ولنفترض أننا الـ50 رأينا 100 آخرين يسبحون حولنا راجين أن نسمح لهم بالصعود معنا أو أن نساعدهم. نحن أمام عدد من الخيارات: قد تؤثر فينا التعاليم “حراسة أخينا” المسيحية، أو تعاليم “لكل حسب حاجته” الماركسية. وبما أن كل من في المياه لديه نفس الحاجة وجميعهم ممن نعتبرهم “أخوتنا”، فإننا نستطيع أن نأخذهم كلهم على متن القارب جاعلين عدد الركاب 150 في قارب يتسع لـ60. فينخفض القارب على الكل ويغرق. عدالة كاملة وكارثة كاملة!
لن نستطيع السماح إلا لـ10 بالصعود بما أن القارب يملك حيزا شاغرا لـ10 ركاب آخرين. لكن أي 10 أشخاص سنسمح لهم؟ كيف نختارهم؟ هل نختار أفضل 10؟ أو أول 10؟ وماذا ردنا على التسعين الباقين؟ سنخسر عامل السلامة وهو مبدأ هندسي في غاية الأهمية إذا سمحنا لعشرة بالصعود على القارب. قد يسبب لنا عواقب كارثية إن لم نوفر حيزا للاستيعاب الإضافي كعامل سلامة في زراعة دولتنا، كمرض نباتي طارئ أو تغيير سيء في حالة الطقس.
لنفترض أننا قررنا الاحتفاظ بعامل السلامة ولم نسمح بصعود أي شخص آخر على القارب، حينها ستكون فرصة نجاتنا ممكنة، ولكن يجب أن نكون على يقظة دائمة من هجوم قوارب أخرى.
في حين أن الحل السابق يوفر حقا الطريق الوحيد لنجاتنا، إلا أنه مرفوض أخلاقيا عند الكثير. البعض يقول أنهم يشعرون بالذنب لأنهم أفضل حظا، وردي على هذا بسيط: “اترك مكانك وأعطه للآخرين.” قد يساعد هذا من يؤنّبه ضميره ويشعره الذنب، ولكنه لن يغير أخلاقيات النجاة. لن يشعر المحتاج الذي أخذ مكان الشخص المعذب بالذنب لحظه الجيد، فلو كان فعل لما صعد على القارب. النتيجة الكلية لتقديم من أرهقهم تأنيب ضمائرهم لمقاعدهم -التي يشغلونها ظلما- هو التخلص من ذلك النوع من الضمير من قارب النجاة .
يجب علينا أن نصل إلى حلول بواسطة هذا المجاز الأساسي. لنثري الآن الصورة خطوة بخطوة، باستخدام الإضافات الدائمة من العالم الحقيقي، عالم يجب أن يحل المشاكل الملحّة والحقيقية للازدياد السكاني والجوع.
تصبح أخلاقيات قارب النجاة القاسية أقسى حينما نأخذ في الاعتبار الفروق التكاثرية بين الدول الغنية والفقيرة. يتضاعف متوسط عدد الناس في قارب النجاة كل 87 عام، أما أولئك الذين يسبحون حول القارب، فيتضاعف متوسط عددهم كل 35 سنة، متوسط يفوق ضعف متوسط الأغنياء. لا يمكن للفارق في الرفاهية بين الأغنياء والفقراء إلا أن يتسع في عالم تتناقص فيه الموارد.
كان التعداد السكني في الولايات المتحدة في عام 1973 (210 مليون شخص)، وكان العدد في ازدياد بنسبة ٠.٨٪ في كل عام. لنتخيل أنه يوجد خارج قاربنا 210 مليون شخص آخر (مجموع التعداد السكاني لكولومبيا والإيكوادور وفينيزويلا والمغرب وباكستان وتايلاند والفلبين)، ومن كان تعدادهم يزداد بنسبة 3.3% في كل عام. ضعهم في مقارنة وستجد أن هذه الدول عدد سكان سيتضاعف كل 21 سنة في المقابل 87 عام في الولايات المتحدة.
تضاعف الأغنياء والفقراء
لنفترض أن الولايات المتحدة وافقت على مشاركة مواردها مع تلك الدول السبع بشكل متساو مع كل دولة. مبدئيا، سيكون معدل الأميريكيين لغير الأميريكيين واحدا لواحد. ومع الأخذ في الاعتبار المعدل بعد 87 عام، سيكون تعداد الأميريكيين حينها 420 مليونا يقابله 3.54 مليارا من الدول السبع! سيكون على كل أميريكي وقتها المشاركة بالموارد الموجودة مع أكثر من 8 أشخاص.
يستطيع أحدهم القول أن هذه المناقشة تفترض أن مؤشر ارتفاع التعداد السكان الحالي سيستمر ومن الممكن أن لا يحدث ذلك. وعلى الأغلب أن درجة التكاثر السكاني ستنخفض بسرعة أكثر في الولايات المتحدة مقارنة بباقي الدول، ولا يوجد ما يمكننا فعله تجاه هذا. يجب أن ندرك -حال الأخذ بمبدأ “لكل حسب حاجته”- أن التعداد السكاني يحدد الحاجات، وأن درجة التكاثر، والذي يعد حقا سياديا لكل دولة غنية كانت أم فقيرة، تحدد التعداد السكاني، وبهذا لا يمكن للحمل الإحساني الناتج عن أخلاقيات المشاركة لسفينة الفضاء إلا أن يزداد.
مأساة المشاعات
الخطأ الرئيس في أخلاقيات سفينة الفضاء وما تتطلبه من مشاركة هو أنها تقود إلى ما أسميه “مأساة المشاعات.” يدركه من لديهم أملاك مع مسؤولية المحافظة عليها لأنهم إن لم يفعلوا سيعانون في نهاية المطاف في ظل نظام الأملاك الخاصة. فلن يسمح المُزارع -على سبيل المثال- بتحميل المرعى أكثر من طاقته من الماشية وإلا سيتصحر وستغطيه الحشائش ثم يخسره.
إذا أصبح المرعى متاحا للجميع، فإن حق كل شخص باستخدامه لن يكون متوافقا مع المسؤولية (المشتركة) بحمايته. ولن يجدي الطلب من الجميع استخدامه بترشيد لأن الرعاة المراعين الذين يمتنعون عن تحميل المرعى العام يعانون أكثر من الأناني الذي يقول أن حاجته أشد. في حال التزم الجميع، سيصبح كل شيء على ما يرام، ولكن تقصير شخص واحد فقط كفيل بفشل النظام. الدمار المتبادل يعد حتميا في عالم مكتظ بالمقصرين وفي ظل غياب النظام، وهذه هي مأساة المشاعات.
يجب أن تكون إحدى أهم مهام التعليم في هذا العصر خلق مستوى عال من الوعي بمخاطر المشاعات بحيث يعي الناس أوجهها المتعددة. يعود تلوث الهواء والماء -على سبيل المثال- لمعاملتهما على أنهما مرافق عامة. الازدياد في التعداد السكاني أو محصل تلويث الفرد للموارد الطبيعية سيجعل الأمر أسوأ. ينطبق الأمر ذاته على سمك المحيطات. تكاد تكون أساطيل الصيد معدومة في مناطق كثيرة حول العالم فالتطور التقني في فن الصيد يعجل من الاقتراب من الهلاك الكلي. فقط باستبدال نظام المشتركات بنظام متحكم مسؤول ستنقذ الأرض والهواء والمياه وحقول الأسماك المحيطية.
بنك غذاء العالم
كان هناك دفع في السنوات الأخيرة إلى خلق مشتركات جديدة تدعى ببنك العالم الغذائي، وهي مخزن غذائي دولي للاحتياطات الغذائية التي من الممكن أن تساهم بها الدول طبقا لقدراتهم، والتي بإمكانهم الأخذ منها طبقا لحاجاتهم. حظي هذا العرض الإنساني بدعم الكثير من المجموعات اللبرالية الدولية ومن مواطنين مهمين مثل مارغريت ميد، والأمين العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم، والشيوخ إدوارد كينيدي وجورج مكغفرن.
يحرك بنك غذاء عالمي تحريكا قويا دوافعنا الإنسانية. ولكن قبل أن نتعجل بخطة كهذه لندرك من أين يأتي أعظم دافع سياسي حتى لا تخيب آمالنا لاحقا. تجربتنا مع برنامج “الطعام من أجل السلام“
“Food for Peace”
أو القانون العام 480
تجيبنا على ذلك. حول هذا البرنامج ما يعادل مليارات الدولارات من فوائض الحبوب لدول كثيرة السكان وقليلة الغذاء خلال العقدين الماضيين. ولكن حينما أرسي قانون 480، كشف عنوان لمجلة فوربس القوة الحقيقية خلف هذا القانون: “إطعام ملايين الجائعين في العالم: كيف سيعود بالمليارات على الاقتصاد الأميريكي؟”
وبالفعل هذا ما حدث. أنفق دافعو الضرائب الأميريكيين 7.9 مليار دولار في عام 1960 وحتى 1970 على برنامج “الطعام من أجل السلام”. وقاموا كذلك بدفع ٥٠ مليار دولار إضافية بين عامي 1948 و 1970 لبرامج دعم اقتصادية أخرى، بعضها ذهب للغذاء وصناعة وتقنية إنتاج الغذاء. ومع أن جميع دافعي الضرائب الأميريكيين كانوا مجبرين على المساهمة بتكاليف القانون ٤٨٠، إلا أن بعض مجموعات المصالح الخاصة قد استفادت منه كثيرا. لم يكن على المزارعين أن يساهموا بالحبوب، فقد اشترت الحكومة -أو بالأحرى، دافعو الضرائب- منهم بأسعار السوق. رفع الطلب المتزايد أسعار المنتجات الزراعية بشكل عام. مصانع الآلات الزراعية والمخصبات والمبيدات الحشرية استفادت من جهودات المزارعين البالغة لزرع غذاء أكثر. كسبت رافعات الحبوب من تخزين الفوائض حتى يتمكن من شحنها. وكسبت القطارات من نقلها للمنافذ، وكسبت شركات الشحن من شحنها عالميا. تطلب تشغيل قانون 480 خلق بيروقراطية حكومية ضخمة والتي حصلت حينها على مصلحتها الخفية بالاستمرار في البرنامج بصرف النظر عن خواصه.
استخراج الدولارات
يندر أن تجد من قدم ودافع عن برنامج فوود فور بيس من العامة ذاكرًا لأهميته لأي من تلك المصالح الخاصة. ما كان يركز عليه العامة دائما هو الآثار الإنسانية. أنتج التقاء المصالح الأنانية الصامتة بالمدافعين الإنسانيين من ذوي الصوت المسموع لوبي قوي وناجح لاستخراج المال من دافعي الضرائب. والآن يمكننا أن نتوقع أن يقوم هذا اللوبي بالدعم لتكوين بنك الأغذية العالمي World Food Bank.
يجب ألا تكون محاججة قوية ضد برنامج إنساني حقيقي مهما كانت عظمة الفوائد المحتملة للمصالح الأنانية. يجب أن نسأل ما إذا كان برنامج كهذا سيعود فعلا بالخير أكثر من الشر لفترة غير مؤقتة فحسب، بل ممتدة على المدى البعيد. عادة ما يرجع مناقشو بنك الغذاء لأزمة أو حالة طارئة في مصطلحات توفير غذاء عالمي. لكن ما هي الحالة الطارئة؟ ومع أن حالات الطوارئ تكون مفاجئة ونادرة، فإن الجميع يعلم أنها تحدث من فترة لأخرى. ستتهيأ أي عائلة تدير عملها، أو شركة، أو منظمة، أو دولة جيدا لاحتمالية حدوث حوادث أو طوارئ. ستتوقعها وستتدخر لها وسيخصصون لها ميزانية.
التعلم بالطريقة الصعبة
ماذا سيحدث حال وضعت بعض المنظمات أو الدول ميزانية للحوادث بينما لم يفعل الآخرون ذلك؟ ستعاني الدول ذات الإدارة الضعيفة إن كانت كل دولة مسؤولة عن صحتها فقط، لكنهم سيتعلمون من تجربتهم. قد يحاولون إصلاح أسلوبهم ويضعون ميزانية للحوادث النادرة ولكن المؤكد حدوثها. على سبيل المثال، الطقس يتغير من عام لآخر، وفشل الحصاد الدوري سيحصل حتما. ستتدخر الحكومة الحكيمة من محصول السنوات الجيدة تحسبا للسنوات الصعبة المقبلة. علّم النبي يوسف هذه السياسة لفرعون قبل أكثر من 2000 عام، ومع هذا تجد معظم الحكومات في العالم اليوم لا يتبعونها. هم يفتقدون إما للحكمة، أو للأهلية، أو للاثنين معا! هل من الواجب على الدول التي تستطيع أن تتدخر شيئا مساعدة الدول الفقيرة كلما مروا بأزمة؟
سيقول بعض الطيبيبن اللبراليين أن “هذا ليس خطأهم!”، “كيف يمكننا أن نلوم المساكين المتورطين بأزمة؟ لم يجب عليهم أن يدفعوا ثمن أخطاء حكوماتهم؟” مفهوم إلقاء اللوم لا علاقة له هنا. فالسؤال الحقيقي هو ما العواقب التشغيلية من تأسيس بنك غذاء عالمي؟ إذا كان البنك متاحا لكل دولة في كل مرة تحتاجه، لن يتشجع القادة اللا مبالين على الأخذ بنصيحة النبي يوسف فهناك دائما من يساعدهم. ستقوم بعض الدول بإيداع الغذاء في البنك وستقوم دول أخرى بأخذه، وعلى الأغلب لن يكون هناك أي تداخل. فلن تحسّن الدول الفقيرة من أساليب تعاملها مع أزمات نقص الغذا نتيجة لحلول كهذه، وستعاني باستمرار من أزمات أكبر بازدياد سكانها.
الطريقة القاسية لتحديد النسل
يكون متوسط ازدياد عدد سكان الدول الفقيرة 2.5٪ سنويًا، ويقابله 0.8% في الدول الغنية. والأخيرة وحدها من يدّخر مخزونها غذائي، وحتى إن لم يدّخروا بالقدر الواجب عليهم. في حين لا تملك الدول الفقيرة شيئا. إن معدل تكاثرهم سيمتحن دوريا كل ما مروا بفشل في الحصاد أو مجاعة إن لم تستلم الدول الفقيرة الغذاء من الخارج، وهذا ممتنع في حال استطاعوا الاستعانة ببنك الغذاء في كل أزمة يمرون بها. بإيجاز، قد يخفف بنك الغذاء من حاجاتهم ولكن على المدى البعيد سيزيد منها بلا حدود.
قد يستقر تفاوت الدول الغنية بالفقيرة دون نظام مشاركة غذاء عالمي، سيقل عدد سكان الدول الفقيرة المكتظة سكانيا، بينما يزيد العدد في الدول الغنية التي لم تكن مكتظة. ولن يتوقف فارق النمو بين الدول الغنية والفقيرة، بل سيكبر بنظام مشاركة حسن النية كبنك غذاء العالم. سيولد 88% من أطفال العالم اليوم فقراء بسبب النسبة العالية للنمو السكاني في الدول الفقيرة، وقلة من الأغنياء تقدّر بـ12%. ويصبح التفاوت في كل سنة أسوأ مع نمو الفقراء السريع مقابل نمو الأغنياء البطيء.
بنك غذاء العالم ليس إلا مشاعا متخفيا. سيتشجعى الناس بالأخذ منه أكثر من الإضافة فيه. وسيضاعف الأقل عطاءا وقدرة الأعباء على الأقدر والأكثر عطاءً مما سيجلب الهلاك في النهاية لكل من يشارك في المشاعات. بالإضافة إلى ذلك، يحمل أي نظام “مشاركة” يقوم على المساعدات الخارجية من الدول الغنية إلى الفقيرة وصمة الصدقة، والذي لن يساهم بالكثير لتحقيق السلام العالمي كما هي رغبة من يدعم فكرة بنك غذاء العالم.
كشفت برامج المساعدات الخارجية الأميريكية السابقة بوضوح أن الصدقات العالمية كثيرا ما تقابل بسوء ثقة وحقد من قبل المستفيدين منها بدلا من الامتنان. راجع [“What Other Nations Hear When the Eagle Screams,” by Kenneth J. and Mary M. Gergen, PT, June].
السمك الصيني ومعجزة الأرز
يركز المنهج الحديث للمساعدات الخارجية على تصدير التقنية والنصيحة أكثر من تقديم المال والغذاء. كما يقول مثل صيني قديم: “أعط رجلا سمكة وسيأكل يوما، علمه الصيد وسيأكل كل يوم.” باتباع هذه النصيحة، مولت مؤسسات روكفيلر وفورد عددا من البرامج لتحسين الزراعة في الدول الجائعة. قادت هذه البرامج التي تعرف باسم “الثورة الخضراء” لنشوء “الرز المعجزة” و “القمح المعجزة” والتي تكون خطوطا جديدة توفر حصادا أوفر ومقاومة أكبر لضرر المحاصيل. أنشأ نورمان بورلوغ -المهندس الزراعي الحاصل على جائزة نوبل للسلام- مدعوما بمؤسسة روكفيلر “القمح المعجزة”، وهو يعد واحدا من أهم المحامين عن بنك غذاء العالم.
إن مسألة الثورة الخضراء القادرة على إنتاج الغذاء كما يدعي أبطالها قابلة للجدال، ولكنها قد تكون مسألة غير ذات صلة. يجب أولا على هؤلاء الداعمين للجهود الإنسانية الحسنة النية أن يأخذوا بعض أساسيات علم البيئة الإنساني بعين الاعتبار. من المثير للسخرية أن أحد الذين قاموا بذلك هو آلان غريغ -نائب رئيس مؤسسة روكفيلير- والذي كان قبل عقدين قد عبر عن شكوك قوية عن حكمة محاولات تهدف إلى زيادة إنتاج الغذاء كهذه. شبه النمو والانتشار السكاني حول العالم بانتشار السرطان في الجسم البشري، قائلا:
“النمو السرطاني يحتاج الغذاء لكن على حد علمي لم يسبق لأحد معالجته بتوفيره.”
تحميل البيئة فوق ما تحتمل
يستهلك كل مولود من كل مكونات البيئة: الماء والهواء والغابات والشواطئ والحياة البرية والعزلة والمشاهد. من الممكن أن يزداد إنتاج الغذاء ليوافق طلب النمو. لكن ماذا عن الشواطئ النظيفة والغابات غير المدنسة والعزلة؟ سينخفض تزويدنا من الموارد الأخرى للشخص الواحد إذا قمنا بتوفير الحاجة الغذائية للسكان.
يسكن الهند -على سبيل المثال- 600 مليون شخص، ويرتفع العدد بـ15 مليون سنويا. يضع هذا التعداد حملا ثقيلا على بئية فقيرة نسبيا. تشكل غابات الدولة الآن جزءا صغيرا مما كانت عليه قبل 3 قرون، فيما تستمر الفياضانات والتصحر بتدمير المزارع العاجزة الباقية. يشكل كل شخص من الـ15 مليون المضافين سنويا عبئا على البيئة ويزيد من تكاليف الازدحام الاقتصادية والاجتماعية. مهما كانت نيتنا إنسانية، يقلل كل شخص هندي تنقذ حياته بعلاج أو دعم غذائي من الخارج من جودة حياة الآخرين والأجيال القادمة. هل ستشكرنا الأجيال الهندية المستقبلية على تسريع تدمير بيئتهم إذا استطاعت الدول الغنية بالمساعدات الخارجية أن تضاعف 600 مليون هندي لـ1.2 مليار في غضون 28 سنة؟ هل ستكون نيتنا الطيبة عذرا شافعا لعواقب أفعالنا؟
الهجرة هي مثالي الأخير عن تطبيق المشاعات، وهو أقل ما يهتم العامة بنقاشه عقلانيا. سيتهم كل من شكك بشكل علني بسياسة الولايات المتحدة فورا بالتحامل أو الشوفينية أو الأنانية أو العنصرية أو الانعزالية. يفضل أن نتكلم عن الأمور الأخرى بدلا أن نواجه اتهامات كهذه تاركين سياسة الهجرة تنغمس في التيارات المضادة للمصالح الخاصة التي لا تهتم بمصلحة الكل أو باهتمامات الأجيال القادمة.
ربما ما نزال نشعر بالذنب بسبب ما قلنا في الماضي. قبل جيلين سابقين، كانت الصحف الجماهيرية كثرا ما تشير بمصطلحات ازدرائية للجنوب أوروبيين والصينيين والألمان والبولنديين في مقالات تتكلم عن كيف كانت أميريكا مجتاحة بواسطة أجانب ينتمون إلى سلالات يفترضون أنها دونية. راجع:
[“The Politics of Genetic Engineering: Who Decides Who’s Defective?” PT, June].
لكن لأن الدونية الملمح إليها كانت تستخدم في ذلك الوقت كمبرر لإبعادهم، يفترض الناس الآن أن السياسات المقيدة لا يمكن أن تكون مبنية إلا على أفكار ضالة ولكن في الواقع هناك أسس أخرى.
دولة من المهاجرين
تأمل الأرقام المضمّنة هنا. تقر حكومتنا بتدفق شبكة من 400,000 مهاجر كل عام. في حين أننا لا نملك أرقام وبيانات عن حجم الدخول الغير القانوني إلا بواسطة تخمينات مدروسة تشير إلى أنها تقارب الـ600,000 سنويا. منذ أن أصبحت الزيادة الطبيعية (زيادة حالات الولادة على الوفاة) تصل إلى 1.7 مليون سنويا وصلت الإضافة من الهجرة لنسبة تعادل 19% من الزيادة السنوية الكلية، ومن الممكن أن تصل -حال أضفنا العدد التقريبي للمهاجرين الغير شرعيين- إلى 37%. بأخذ وسائل التحكم بالنسل في الاعتبار، فإن التأثير المحتمل للحملات التعليمية بواسطة منظمات مثل
Planned Parenthood Federation of America and Zero Population Growth
وبتأثير التضخم والعجز السكني، على معدل الإخصاب عند المرأة الأميريكية قد ينخفض كثيرا مما قد يجعل الهجرة تشكل كل الازدياد السنوي للسكان. ألا يجدر بنا على الأقل أن نتساءل إن كنا نريد ذلك؟
من أجل أولئك القلقين ما إذا كانت “جودة” المهاجر العادي تقارن باستسحان مع جودة المواطن العادي، فلنفترض أن المهاجرين والمواطنين المولودين هنا بنفس الجودة تماما بصرف النظر عن تعريف “الجودة”. سنركز هنا على الكم فقط، وبما أن استنتاجاتنا ستعتمد على لا شيء غير ذلك فالاتهامات بالعنصرية والشوفينية ليست ذات صلة.
الهجرة مقابل التزويد بالغذاء
تنقل بنوك غذاء العالم الغذاء للناس، مما يزيد من سرعة إنهاك بيئة الدول الفقيرة. في المقابل تنقل الهجرة غير المقيدة الناس للغذاء، وبالتالي تسرع من تدمير بيئة الدول الغنية. يمكننا بسهولة فهم دوافع تفضيل الفقراء للانتقال الثاني، لكن لم يجدر بالأغنياء المستضيفين تشجيع ذلك؟
تحظى الهجرة بالدعم من المصالح الأنانية والنزعات الإنسانية كما هو الحال في برامج المساعدات الخارجية. المصلحة الأنانية الرئيسة من الهجرة غير المقيدة، هي رغبة أصحاب الأعمال بتشغيل عمالة غير مكلفة بشكل خاص في الصناعات والتجارة ذات العمل المهين. جُلب في الماضي دفعات من الأجانب للولايات المتحدة للعمل في الأعمال المتدنية بدخول المتدنية. وحظي العمال في السنوات الأخيرة من كيوبا وبويرتو ريكا والمكسيك بهذا الشرف المثير للشك. مصالح أصحاب أعمال العمالة الرخيصة تنسجم جيدا مع الصمت المذنب للنخبة المثقفة من لبراليي البلد. نجد الأنجلو ساكسون البروتستانت مترددين بشكل خاص بالمطالبة بإغلاق أبواب الهجرة خوفا من أن يوصفوا بالعنصرية.
لكن ليس كل الدول لديها قيادة مترددة. على سبيل المثال، يعي غالبية أهل جزر هاواي حدود بيئتهم جيدًا، تحديدا فيما يخص النمو السكاني. فلا يوجد مكان كاف على الجزيرة، وسكانها يعرفون ذلك. يشكل المهاجرون من الولايات الـ49 الأخرى بالنسبة للهاوايين تهديدا كبيرا، كما هو الحال مع مهاجري الدول الأخرى. شعرت بفرحة ساخرة في اجتماع قريب لموظفي الحكومة الهاوايية الرسميين في هونولولو حينما سأل أحد المتحدثين والذي كان من أصول يابانية -كما هو الحال مع أغلب جمهوره- عن الطريقة العملية والدستورية التي تستطيع بها الدولة إغلاق أبوابها عن المزيد من المهاجرين. رد فرد من الجمهور:
“كيف يمكننا إغلاق الأبواب الآن؟ لدينا العديد من الأقارب والأصدقاء في اليابان، ونود أن نحضرهم هنا يوما ما ليستمتعوا بهاواي أيضا.”
ابتسم المتحدث الياباني الأميريكي بتعاطف وأجاب:
“نعم، ولكن لدينا أطفال الآن، ويوما ما سيكون لنا أحفادا كذلك. نستطيع أن نحصر المزيد من اليابانيين فقط في حال تخلينا عن جزءا من الأرض التي نأمل أن نورثها أحفادنا يوما ما. ما الحق الذي نملكه لنقوم بفعل كهذا؟”
هنا يمكنني أن أتخيل اللبراليين الأميريكيين يسألون:
”كيف يمكنك تبرير إغلاق الباب بعد عبورك؟ تقول أن علينا رفض دخول المهاجرين ولكن ألسنا جميعا مهاجرين أو نسل مهاجرين؟ ألا يجدر بنا قبول الآخرين كلهم في حال أصررنا على البقاء؟”
تدفعنا الرغبة في تحقيق نظام ثقافي إلى البحث عن القواعد والأخلاق المتطابقة وتفضيلها: قاعدة واحدة لي وللجميع؛ القاعدة نفسها للأمس، ولليوم، وللغد. نعتقد أن العدالة لا يجب أن تتغير بالوقت والمكان.
نستطيع نحن الأميريكيون من غير الأصول الهندية أن نعتبر أنفسنا نسل اللصوص المذنبين أخلاقيا -إن لم يكن قانونيا أيضًا- الذي سرقوا هذه الأرض من ملاكها الهنود. هل يجب علينا إذن أن نرجع الأرض للأحفاد الأميريكيين الحاليين لهؤلاء الهنود؟ أنا عن نفسي -مهما بدا هذا الطلب أخلاقيا أو منطقيا- لست مستعدا أن أتقبله، وأعلم أن لا أحد مستعد كذلك، بالإضافة إلى أن العواقب المنطقية ستكون غير معقولة. لنفترض أننا -مغيبين بحس العدالة النقية- قررنا إرجاع أراضينا للهنود، وبما أننا صنعنا كل ثروتنا من هذه الأرض، ألن نكون أخلاقيا ملزمين على رد هذه الثروة لهم؟
العدالة النقية في مواجهة الواقع
من الواضح أن مفهوم العدالة النقية يؤدي إلى تردٍ لا متناهٍ حتى العبث. اخترع رجال حكماء في قرون مضت قوانين تحديدية ليبرروا رفض تلك العدالة النقية ليمنعوا الفوضى المستمرة. القانون يدافع بحماسة عن حقوق الملكية، إلا أنه مقتصر فقط على الحقوق الملكية الحديثة نسبيا. قد يكون رسم حد بعد مرور زمن عشوائي غير عادل، ولكن البدائل أسوأ.
نحن جميعا أحفاد لصوص، وموارد العالم موزعة بلا إنصاف، ولكن علينا أن نبدأ رحلة الغد من حيث نكون اليوم. نحن لا نستطيع أن نعيد الماضي، ولا أن نقسم الثروة على الناس بشكل آمن ومنصف طالما أن الناس يتكاثرون بدرجات مختلفة. قيامنا بذلك سيضمن لأحفادنا وأحفاد الجميع عالما مدمرا يعيشون به.
سخاؤك بما تملك مختلف عن سخائك بما تملكه الأجيال القادمة. يجب أن نوضح هذه النقطة لأولئك الذين سيقومون -بحبهم المحمود للعدالة والمساواة- بإنشاء نظام مشاعات إما في هيئة بنك غذاء العالم أو الهجرة غير المقيدة. يجب علينا إقناعهم إذا كنا نريد إنقاذ على الأقل بعض مناطق العالم من الدمار البيئي.
ستكون أخلاقيات المشاركة في سفينة الفضاء مستحيلة بدون حكومة عالمية حقيقية للتحكم في التكاثر واستخدام الموارد المتاحة. يتطلب بقاؤنا للمستقبل القريب أن نحكم أفعالنا بـ أخلاقيات قارب النجاة حتى وإن كانت قاسية، فلن يرضي الأجيال القادمة بأقل من ذلك.