مجلة حكمة
يفشل

الكل يفشل ، لكنّ الحكيم هو من يتعلّم التواضع – كوستيكا براداتان / ترجمة: إبراهيم جركس

Sept. 12, 2012; Costica Bradatan, Notre Dame Institute for Advanced Study..Photo by Matt Cashore/University of Notre Dame
كوستيكا براداتان

الفشل كالخطيئة الأصلية في التراث التوراتي، كلّنا نعاني منه. بغضّ النظر عن الفئة الاجتماعية أو العمرية أو العرقية أو الجنسية التي ننتمي لها، جميعنا ولدنا لكي نفشل ونرتكب الأخطاء. نحن نمارس الفشل طالما نحن على قيد الحياة، كما أنّنا ننقله إلى الآخرين. تماماً مثل الخطيئة، قد يكون الفشل مصدراً للخزي، والعار، والاعتراف به محرجاً. ألم أذكر أنّه قد يكون “بشعاً”؟. الفشل “بشعٌ” أيضاً _بشعٌ كبشاعة الخطيئة الأصلية، كما يقولون. وبسبب شموليته، تمّ إخضاع الفشل للدراسة والبحث، حين لم يكن بالإمكان تجاهله بكل بساطة. كأنّ مجرّد التفكير بالنظر إلى الفشل عن قرب يجعلنا نشعر بشعور غير مريح، فنحن لانرغب في لمسه أو الاحتكاك به، مخافة أن نصاب بعدواه.

ومع ذلك، يمكن ممارسة دراسة الفشل ضمن بيئة مسيطر عليها، وذات وجهين. فمن جهة، علينا النظر في داخلنا وأعماق أنفسنا (للبحث عن حالات الفشل “الأخلاقية” أو “الإدراكية”، كالفشل في “إصدار الأحكام” أو “الذاكرة”). ومن جهةٍ أخرى، علينا البحث عن حالات الفشل “هناك في الخارج”، في العالم المحيط بنا. وبقدر ما يبدو الوجه الأول جذّاباً، سأركّز هنا على الناحية الثانية: حالات الفشل التي نختبرها خلال تعاملنا مع العالم.

تخيّل نفسك في طيارة، على علوّ مرتفع. قد تلاحظ أنّ النار تعتمل في أحد محرّكي الطيارة، والمحرّك الآخر لايبدو في حال جيدة أيضاً، ثمّ تسمع نداء الملّاح بأنّه سيهبط بالطيارة هبوطاً اضطرارياً. من الصعب أن تجد نفسك في موقف مماثل، لكنّه سيكون تجربة كشفية مُجلية. في البداية، سيكون هناك الكثير من الصراخ، البكاء، والدموع، الصلوات التي تُتلى همساً، جميع الأمور الصاخبة تحدث من حولك. ستكون عاجزاً عن التفكير بطريقة منطقية مستقلّة وسط كل هذا الصخب والعويل واصطكاك الأسنان. سيتحتّم عليك الاعتراف بذلك، أنت خائفٌ حتى الموت، مثل غيرك من ركّاب الطائرة. لكن في النهاية، تهبط الطائرة بأمان، ويخرج الجميع منها سالمين. وبعد أن تتمالك نفسك وتلتقط أنفاسك، ستبدأ في التفكير بصورة أوضح حول ما قد جرى للتو.

عندها، وعندها فقط، سندرك كم كنّا قريبين من نهايتنا مثلاً. وأنّ هناك جانبٌ آخر مادي أيضاً يفرض ذاته بقوّة _إلى حدٍ مهول_ في أيّ “جولة مع الموت”. أجهوة معطوبة أو معطّلة _قطعة تحرّكت من مكانها، برغي غير مشدود بشكلٍ جيد، أنبوب مثقوب يقطر منه سائل، أو أي عطل آخر_ قد تضع حداً لوجودنا وترسم نهايتنا. ذلك كل ما يتطلّبه الأمر. عندئذٍ ندرك أننا، عندما نمرّ بتجربة الفشل، بدأنا نرى الشقوق والتصدّعات في نسيج وجودنا، والعدم الذي يتحدّق فيما من الجانب الآخر. لكن مع أنّ الفشل يدفعنا نحو حافّة الوجود الإنساني، فإنّه يمنحنا فرصة لإعادة النظر في كل شيء _في العالم من حولنا، في أنفسنا، وأهم وأغلى ما نملك_ بعيون جديدة. إنّ فشل الأشياء، الذي يحدث مع مقدار معين من التهديد الوجودي، يكشف لنا عن حقيقتنا، ويرينا مانحن عليه في الواقع. ويا له من مشهد!

من ذلك الموقع الفريد _موقع الحطام الذي أصبحنا فيه_ نفهم أننا لسنا أكبر وأعظم من أي شيء آخر في هذا العالم. طبعاً، نحن أقلّ شأناً من معظم الأشياء والموجودات. فأصغر حجر نلتقطه بعشوائية عن ضفة نهر يسبقنا بوجوده، وعلى الأرجح سيبقى موجوداً بعدنا لفترة طويلة. البشر كيانات بالكاد لها وجود. كيف لنا أن نزعم لأنفسنا تلك المكانة وكل تلك الامتيازات؟ من الناحية الجوهرية، نحن مخلوقات هشّة وضعيفة، عرضة للتلف والتحطّم والفشل. وإذا كانت هبة البشر الحقيقية هي العقل_بخلاف أي شيء آخر في الوجود_ يجب أن تكون هبة العقل هذه هي من تقودنا إلى فهم مقدار ضآلة مكاننا وتواضع موقعنا في هذا الكون.

idea_deflated-florida-keys-public-library-9274473873_41c409d5f5_oلذا يجب أن تغرس فينا تجربة الفشل حسّ التواضع. فإلى جانب كون التواضع فضيلة بالمعنى المحدود للكلمة، يجب أن ننظر إلى التواضع، بصورة أوسع، كنوع من الولوج في هذا العالم، كاسلوب حياة. قدّمت آيرِس مُردوك في كتابها The Sovereignty of Good (1970)، واحداً من أفضل وأبلغ التعريفات للتواضع، وهو ببساطة ((احترام للواقع غير مشوب بالأنانية)). إنّها تعقد أنّ الأشخاص العاديون يعانون من عجز في التأقلم مع الواقع (“صورتنا عن أنفسنا قد تضخّمت للغاية”، لقد فقدنا “صورة وجود واقع منفصل عن ذواتنا”)، وتلك نظرة قد تؤذينا، وتضرّ بنا قبل أي شيء آخر. لعكس هذه العملية، لنشفي ذاتنا، من الأفضل لنا أن نتعلّم التواضع، “أصعب وأهم فضيلة بين جميع الفضائل”.

 

أنا أرى هنا ثلاث مراحل أساسية:

المرحلة الأولى، يتطلّب التواضع مسبقاً أقرار بمكانتنا المتواضعة في الكون. وهذا المطلب قديمٌ قِدَمَ عملية التفلسف الإنساني نفسه. إنّه بالضبط ما أراده يهوه من يعقوب عندما سأله قائلاً: “أين كنتَ أنت عندما أقمتُ أنا دعائم الأرض؟”، وذلك ما قصده الرواقيون عندما تحدّثوا عن “النظر من الأعلى”، وذلك ما حاولت السيدة فيلوسوفي أن تعلّمه لبويثيوس المرعوب والقابع في زنزانته، أو سعى كارل ساغان الترويج له مؤخّراً.

إنّ تقبّلنا لمكانتنا المتواضعة في الكون يمثّل قاع وجودنا الإنساني _نقطة الصفر، حيث لايمكننا المضي لأبعد من ذلك. عند هذه النقطة، حيث نستلقي محطّمين جرّاء شعورنا بالفشل، ومغمورين بإدراكنا بهشاشة وجودنا، سرعان ما سنشعر “بالانكماش”، “الانسحاق”، “وأننا مجرّد غبار منثور”. التواضع يضعنا في مكاننا الصحيح، حيث ننتمي حقاً، إنّه يعيدنا إلى حالتنا الطبيعية العارية. لكنّ هذه الخطوة ليست بالخطوة الضئيلة: فبالتماشي مع إدراكنا لأهميتنا الحقيقية ومكانتنا الضئيلة، سنصبح قادرين على التخلّص من ذلك المزيج من العادات الخادعة والنفاق الذاتي، الذي يبقينا على جهل بحقيقتنا.

في الخطوة الثانية، وبفضل عودتنا إلى عالم الواقع من عالم الخيال، نردك أنّنا بتنا في حال أفضل، لأننا وقفنا الآن فوق أرضية صلبة ومتماسكة. بإمكاننا الآن الوقوف على قدمينا _لقد شهدنا للتو ولادة جديدة. النقطة المهمة أنّنا بتنا ندرك الآن أن لا مجال للانحدار والتدنّي أكثر من هذه المرحلة التي وصلنا إليها لأننا _بتقبّلنا لمكانتنا المتواضعة في الكون_ أصبحنا صادقين مع أنفسنا. قد نكون ضعفاء ومساكين في هذا المستوى، لكنّنا نُزَهاء مع أنفسنا لأبعد حد. وهذه النقطة هي أفضل نقطة للانطلاق من عندها، إلى أي مكان نريد المضيّ إليه، إذ أنّها ستكون رحلة تقدّم ودفع للذات. ناهيكم عن القول أنّ لاشيء أفضل وأصَحّ _وخصوصاً بالنسبة للعقول التي اعتادت التحليق في سماء الأحلام بقوّة خيالاتها_ من العودة إلى أرض الواقع ومغادرة عالم الأحلام من حين لآخر.

الخطوة الثالثة فسيحة وواسعة: بفضل رسوّنا على أرض الواقع، واستقرار مرساتنا فوق قاع وجودنا، فإنّنا نكون قد استعدنا توازننا الوجودي، أصبح بإمكاننا الآن الاستمرار والمضي نحو أمور أبعد وأوسع. لقد أصبحت أحلامنا معزّزة بثقلها الضروري لنخوض فيها بطريقة مناسبة. في هذه المرحلة، لم يعد التواضع عائقاً، بل أصبح دافعاً للتصرّف، ففي بعض الأحيان لا شيء أكثر جرأةً وشجاعة من فعل التواضع. بمعنى آخر، التواضع على النقيض تماماً من الهَوَان: لا شيء مُخجِل أو مُذِل بشأنه، بل على العكس تماماً، التواضع تجدّد، إثراء، جرأة فائقة. إذا كان الهوان يجعلنا مشلولين وخاضعين مذلولين، فالتواضع يقوّينا ويعزّز ذواتنا بشكل كبير. كتب الحاخام جوناثان ساكس قائلاً أنّ التواضع الحقيقي: ((فضيلة من أكبر الفضائل وأكثرها إثراءاً للحياة))، فالتواضع لايتطلّب منك أن (تقلّل من تقدير نفسك))، بل ((الانفتاح على عظمة الحياة)).

التواضع كردّة فعل على تجربة الفشل، هو في صلبه علاج، دواء، بداية مرحلة الشفاء. إذا فهمنا الفشل بطريقة مناسبة وصحيحة، فإنّه يمكن أن يكون علاجاً للغرور والعجرفة والتظاهر الزائف. قد يسحقنا الفشل، لكن ينبغي أن نسعى لخوض تجربته.

 

المصدر

 


كوستيكا براداتان Costica Bradatan: أستاذ مساهم في الدراسات والعلوم الإنسانية بجامعة تكساس تِك، وأستاذ مشارك برتبة شرف في الفلسفة بجامعة كوينزلاند، استراليا. ومؤلّف كتاب Dying for Ideas: The Dangerous Lives of the Philosophers (2015) ويعمل حالياً على إنهاء كتابه: في مدح الفاشل In Praise of Failure.