مجلة حكمة
الماركسية والفلسفة لوي التوسير

الماركسية والفلسفة: حوار مع لوي آلتوسير / ترجمة: هشام صالح

%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%88%d8%b3%d9%8a%d8%b1
لوي آلتوسير


مقدمة

 

          الحوار التالي أجرته معي ( فيرناندا نافارو) وهي أستاذة شابة للفلسفة الماركسية، طرحت علي مجموعة من الأسئلة لأجيب عليها. لم أطلب من (فيرناندا) أن تسألني الأسئلة التي أردت سماعها كي أعطي الأجوبة التي تناسبني. بل ( فيرناندا) هي من اختارت الأسئلة، وهي من وضعت الأجوبة على شكل مكتوب.

          اضطرت أن تأتي للقائي في باريس شتاء 1983-84. تحدثنا لوقت طويل جداً، ثم كانت لدي الراحة لأشرح لها مواقفي بإسهاب، وكانت لديها الفرصة لتقرأ عدداً من مخطوطاتي غير المنشورة  المخزنة بعيداً التي كتبتها في فترة تمتد من الستينيات إلى 1978:  وقامت بتسجيل أحاديثنا المطولة في شريط أو شريطين – ومن ثم عادت إلى المكسيك. تاركة عندي انطباعاً إيجابياً حول فهمها الفلسفي.

          طبعاً كانت نية ( فيرناندا) التوصل إلى فهم أفضل لأسباب، وموضوعات، تدخلي الفلسفي في فرنسا منذ 1970 إلى 1978. أرادت (فيرناندا) فهم الأهمية الفلسفية والسياسية لما حاولت فعله، وأسباب الإهتمام المفاجئ الذي بدر من بعض الناس في فرنسا وباقي انحاء العالم، والدوافع للحيوية المتساوية، أحياناً حاقدة، ودائماً عدائية عنيفة التي أثيرت عند الكثير من قرائي، أولهم الشيوعيين.

          في مثل الوقت، كانت (فيرناندا) تلاحق مشروعاً آخر : أرادت أن تنشر، على شكل مقابلة، نصاً صغيراً لطلبة جامعة ميتشواكان. وبذلك أرادت شروحات مبسطة، أو نصاً موجزاً لغير المختصين.

          قبل شهرين، أرسلت لي مقابلة ذات سبعين صفحة بالإسبانية. ككل رأيت هذا النص يدخل صلب الموضوع. ووصلت إلى استنتاج حالما بدأت في القراءة وهو : أن النص ممتاز جداً إلى درجة أن من الضروري إستخدامه لغاية غير التي كانت (فيرناندا) تسعى اليها. كتبتُ إليها فوراً مقترحاً أن تصحح عدة تفاصيل، وبالاخص، تحويل هذه المقابلة إلى كتاب صغير. سينشُر هذا الكتاب، واضعاً في ذهني، صديقي (اورفيلا)، مدير مؤسسة النشر القرن الحادي والعشرين (Siglo XXI) في مدينة المكسيك، أولاً بالإسبانية وثانياً بالبرتغالية، لأجل القراء طلبة الفلسفة والناشطين السياسيين في امريكا اللاتينية ( ضمنهم البرازيليين)، وحصراً لهؤلاء القراء. أحتفظ بالحق في نشر هذا النص بالفرنسية في الوقت المناسب. [1]

لوي آلتوسير

يوليو 1986

 

  • (ملاحظة المترجم) حوارات اجرتها فيرناندا نافارو مع الفيلسوف لوي آلتوسير خلال الفترة ما بين 1984-1987. نُشر في كتيب واهدت هذا الكتيب الى مورسيو مالامود : (( إلى موريسيو مالامود، الذي ادين له لقائي التصادفي “ الإبيقوري” مع لوي آلتوسير – الرجل، وحياته، وعمله”)).

 

 


فلسفة من أجل الماركسية: على نهج ديموقريطوس

* لقد أظهرت، خلال عملك اهتماماً خاصاً بالفلسفة وعلاقتها بالسياسة. هل يمكننا البدء بالحديث عن هذه المسألة ؟

 

          بكل تأكيد. هذا الاهتمام لم يكن محصوراً بالمستوى النظري، حيث، بدايةً منذ نهاية الأربعينيات، كنت فيلسوفاً وناشطاً سياسياً. أحد أسباب ذلك هو نتيجة الظروف التاريخية التي كانت من نصيبي العيش فيها : الحرب العالمية الثانية، والستالينية، والحركة العالمية للسلام، ونداء ستوكهولم للسلام. كانت الولايات المتحدة في هذه الأيام الوحيدة التي تمتلك القنبلة الذرية، كان علينا تفادي حرباً عالمية ثالثة بأي ثمن. كنت أبذل عشر ساعات يومياً في العمل السياسي.

 

         

          * هذا يذكرني بما كتبته في مقدمة كتاب ( إلى ماركس) حول سنوات ما بعد الحرب. دعني أقتبسك :

          التاريخ : لقد سرق شبابنا منا مع الجبهة الشعبية والحرب الاهلية الإسبانية، وفي حرب كهذه قد دمغت فينا الدرس الرهيب للأفعال. قامت بمفاجئتنا حالما دخلنا العالم، وحولتنا نحن الطلاب ذوي الأصول البورجوازية او البورجوازية صغيرة إلى رجال ندرك وجود الطبقات، وصراعها وأهدافها. من خلال الدليل الذي فرض علينا توصلنا إلى الاستنتاج الوحيد، وزحفنا نحو المنظمات السياسية للطبقة العاملة، والحزب الشيوعي .. كان علينا قياس قرارنا وتحمله

 

            تبقى في ذاكرتنا الفلسفية فترة المثقفين المسلحين، يصطادون الخطأ من كل مخابئه، كنا فلاسفة من دون كتابات خاصة بنا، ولكننا نصنع السياسة في كل كتابة، ونقوم بتشريح العالم بشفرة واحدة، والفنون، والأدب، والفلسفات، والعلوم بفصل طبقي قاس..

 

            لاحقاً تمكنا من رؤية إن كانت هناك بعض المحدوديات في استخدامنا للمعيار الطبقي، وأجبرنا أن نعامل العلم، هذه المكانة التي ادعاها ماركس في كل صفحة، كمجرد شيء له حضور مبكر ما بين الايديولوجيات. كان علينا ان ننسحب، في شبهتشويش، ونعود إلى المبادئ الاساسية.

( انتهى الاقتباس)

 

            عندما انضممت للحزب الشيوعي الفرنسي في العام 1948، أردت التدخل في الحزب وفي فرنسا من أجل الصراع ضد الستالينية المنتصرة وآثارها المأساوية لسياسات حزبي. في ذاك الوقت، لم يكن لدي أي خيار : إذا كنت قد تدخلت علناً في سياسات الحزب، الذي رفض حتى أن ينشر كتاباتي الفلسفية (حول ماركس) التي اعتبرت هرطقات خطيرة، سيتم، على الاقل حتى 1970، طردي فورياً وسأظل مهمشاً بلا أي قوة في التأثير على الحزب إطلاقاً. الطريقة الوحيدة المتبقية لأتدخل سياسياً في الحزب هي : عن الطريق النظري المحض – الذي هو، الفلسفة.

          * على خلفية هذا الخلاف، حمل نقدك على عدة مفاهيم التي ساعدت على مساندة المناصب الرسمية في الأحزاب الشيوعية. أنا افكر في المادية الديالكتيكية على سبيل المثال.

          نعم، أردت أن نتخلى عن الأطروحات اللامعقولة للمادية الديالكتيكية أو “ الدايمات”. في ذاك الوقت، كانت لها سطوة لا شك فيها على كل الأحزاب الشيوعية الغربية، بإستثناء – جزئي فقط- إيطاليا ( بفضل جهد غرامشي الجبار لنقد وإعادة اعمار النظرية الماركسية).

 

           * على ماذا بنيت نقدك للمادية الديالكتيكية ؟

          بدا لي من المهم جداً التخلص من المادية الواحدية وقوانينها الديالكتيكية الكونية التي تعود إلى الأكاديمية السوفيتيية للعلوم، إنها مفهوم ميتافيزيقي ضار حيث جعل “ المادة” مكان “ الروح” الهيغلية أو “ الفكرة الشاملة”. اعتبرتُ من غريب الإعتقاد، وفرض هذا الاعتقاد، أن الواحد منا يستطيع أن يختزل العلم، وحتى الايديولوجية والسياسة الماركسية اللينينية، من خلال تطبيق مباشر  لـ “ قوانين” وهمية للديالكتيك المزعوم على العلوم والسياسة. رأيت ان الفلسفة أبداً لا تتدخل مباشرة، إلا عن طريق الايديولوجيا.

 

          * ماذا كانت العواقب السياسية لهذا الموقف ؟

          أعتقد أن هذا الخداع الفلسفي قد سبب للاتحاد السوفيتي خسائر فادحة. لا أعتقد أننا نبالغ إذا قلنا أن الإستراتيجية السياسية لستالين وكل التراجيديا الستالينية كانت، جزئياً، مبنية على “ المادية الديالكتيكية”، بشاعة فلسفية مصممة لشرعنة النظام ولتخدم كضمان نظري – تفرض نفسها بقوة على التفكير.

          تجدر الاشارة ايضاً الى إن ماركس لم يستخدم ابداً مصطلح “ المادية الديالكتيكية”، هذا “ اللوغراثم الأصفر”، كما حب أن يسمي السخافات النظرية.

          (إنغلز) هو من، في ظروف معينة، قام بتعميد المادية الماركسية بـ “ المادية الديالكتيكية”. ندم ماركس على فشله في كتابة عشرين صفحة حول الديالكتيك. كل ما هو معروف عن ما تم إنتاجه حول هذا الموضوع ( جانباً من اللعبة الديالكتيكية بمفاهيم نظرية العمل حول القيمة) هو كائن في هذه الجملة : “ الديالكتيك، الذي عادة ما يخدم القوة القائمة، هو أيضاً نقدي وثوري”. عندما يتم طرح “ قوانين” الديالكتيك، فإنها إما تطرح بشكل محافظ ( إنغلز) أو خجول (ستالين)، لكن عندما يكون الديالكتيك نقدياً وثورياً فإنه ذو قيمة بالغة. في هذه الحالة لا يمكن الحديث عن “ قوانين” الديالكتيك، مثلما لا يمكن الحديث عن “ قوانين” التاريخ.

          المفهوم المادي الحقيقي حول التاريخ يعني ضرورة التخلي عن فكرة أن التاريخ مسيطر ومحكوم بقوانين التي يكفي معرفتها من أجل الانتصار على اللا-تاريخ.

 

          * مما تألف تدخلك النظري والفلسفي في الحزب ؟

          بدأت أتفحص في نص ( رأس المال) لما يمكن أن تكون عليه الفلسفة الماركسية، كي تكون الماركسية شيئاً غير “ الصياغات الشهيرة”، إما غامضة أو واضحة جداً، التي يتم اقتباسها بشكل لا نهائي من دون توليد أي تقدم حقيقي أو أي “ نقد ذاتي”.

 

          * هل كان بمقدورك، من دون أية مخاطر كبيرة، تفسير فكر ماركس النظري الحقيقي في حزب كالذي وصفته ؟

          رغم أن الحزب كان ستالينياً وصارماً جداً، إلا أنه كان بمقدوري ذلك لأن الحزب جعل ماركس مقدساً. تقدمتُ بطريقة ما – إذا أردنا مقارنة الأشياء الكبيرة بالصغيرة – مثل سبينوزا عندما بدأ من الله نفسه من أجل أن ينتقد الفلسفة المثالية لديكارت والأساتذة. بدأ شروحاته في كتاب ( الأخلاق) بالجوهر المطلق الذي هو الله، بذلك وضع خصومه في زاوية لا يستطيعون فيها رفض التدخل الفلسفي الذي يدعي قدرة الله الكلية، حيث جميعهم، ومن ضمنهم ديكارت، سلموا أن هذه القدرة الكلية هي مسألة إيمانية و”حقيقة بديهية”. بالنسبة لهم كانت هي الحقيقة الجوهرية، يكشفها نور البشر الطبيعي.

 

          * ولكن كما قال ديكارت كل فيلسوف يتقدم متستراً.

          بالضبط. ببساطة فسر سبينوزا هذا الإله بطريقة إلحادية.

 

          * ما الذي حدث عندما تبنيت هذه الاستراتيجية ؟

          نجحت هذه الاستراتيجية كما توقعت. كان هجوم خصومي الشيوعيين، في الحزب وفي الدوائر الماركسية غير الشيوعية شرساً، وبلا رحمه، ومتجدداً بلا نهاية، لكنه خالياً بشكل كلي من أية قيمة نظرية. لم يحمل هذا الهجوم كله أي ثقل – ليس من وجهة نظر ماركسية وحسب، بل ببساطة من وجهة نظر فلسفية، التي هي وجهة نظر الفكر الحقيقي. فكنت قد انخرطت أولاً على هذا الطريق المحدود والغريب ولكن الخصب .. والنتيجة التي حصلت عليها هي ما قصدته فعلاً. من الواضح أنني تبنيت الاستراتيجية الوحيدة الممكنة في ذاك الوقت : الاستراتيجية النظرية التي أدت ( بداية من مؤتمريّ الحادي والعشرين والثاني العشرين، فيما يتعلق على سبيل المثال بديكتاتورية البروليتاريا) إلى تدخل سياسي مباشر. ولكن لم يكن بمقدور الحزب طردي لأن تدخلي السياسي كان مبنياً على ماركس الذي فسرته بطريقة “ نقدية وثورية”. كان ماركس يحميني حتى في الحزب، بفضل مكانته كـ “ الأب المقدس لفكرنا”.

 

           * هل اشتبهوا على أي شيء ؟

          أعتقد ذلك. أعلم، في كل الأحوال، أنهم كانوا يشكون بي بشكل لا يصدق، لدرجة قاموا بتهميشي وجعلوا بعض الطلبة في الجمعية الطلابية الشيوعية يتجسسون  علي في مقر تدريسي ايكول نورمال سوبريور (مدرسة الأساتذة العليا). كانوا مدهوشين بالخطر المتجسد في هذا الفيلسوف الأكاديمي الغريب الذي تجرأ أن يقدم نسخة أخرى لتشكيلة فكر ماركس .. ضمناً بكل شيء. أكثر من ذلك، شكوا بكوني ملهماً شبه سري، ولكن في مثل الوقت مؤثراً، للحركة الماوية الشبابية في فرنسا، التي تطورت في تلك الفترة بشكل أصيل ومذهل.

 

فلسفة ماركسية أم مادية تصادفية [1] ؟-

 

         * حول قضاياك ونقدك : هل كان لديك مشروعاً بديلاً لتقدمه ؟

          لم يكن لدي البديل في ذاك الوقت، ولكنني أملكه الآن. أعتقد أن المادية “ الحقيقة”، المادية المناسبة للماركسية هي “ المادية التصادفية”، على نهج أبيقور وديموقريطوس. أريد أن أوضح أن هذه المادية هي ليست فلسفة يجب عرضها على شكل نسقي لتستحق اسم “ فلسفة”. لا حاجة إلى تحويلها إلى نسق، رغم أن هذا مستحيل. ما هو حقاً حاسم في الماركسية هو أنها تقدم “ موقعاً” في الفلسفة.

 

          * عندما تقول نسق، هل تقصد كلية منغلقة على ذاتها، حيث فيها كل شيء يتم التفكير فيه مسبقاً ولا يمكن مقارعة أي شيء فيها دون إسقاط هذا الكل ؟

          نعم. ولكنني أريد أن أؤكد أن ما يؤسس الفلسفة هو ليس القول البرهاني أو الشرعي. ما يُعرّف الفلسفة هو موقعها ( باليونانية thezis) في ساحة المعركة الفلسفية ( ساحة الحرب Kampfplazt لكانط) : مع أو ضد هذا الموقع الفلسفي، أو مساندة موقع فلسفي جديد.

 

          * هل يمكنك أن تقول شيئاً عن ديموقريطوس وعوالم أبيقور من أجل أن تجعل مفهومك حول المادية التصادفية أكثر وضوحاً ؟

          نعم، ولكني أود أن أشرح ما دفع تفكيري، في السنوات الأخيرة، حول الفلسفة الماركسية تحديداً. توصلتُ إلى فكرة تقول أن من الصعب جداً الحديث عن الفلسفة الماركسية، مثل صعوبة الحديث عن فلسفة الرياضيات، أو فلسفة الفيزياء، معطى أن اكتشاف ماركس كان أساساً علمياً بطبيعته، كان مكوناً من كشف عمل النظام الرأسمالي.

          من أجل هذه الغاية، اعتمد ماركس على فلسفة – فلسفة هيغل- التي يمكننا أن نقول أنها ليست مناسبة لهدفه…أو لتجعله يفكر أبعد. في أي حدث، لا يمكن المرء أن يستنتج اكتشاف ماركس العلمي وفقاً لفلسفته. نحن، من جانبنا، أعتقدنا أنه لم يصرح بالفلسفة التي كانت متضمنة في عمله. هذا يفسر أن ما كنا نفعله هو محاولة إعطاء ماركس فلسفة ستجعل فهمه ممكناً : فلسفة رأس المال، لفكره الاقتصادي، والسياسي، التاريخي.

          في هذه النقطة، اعتقد أننا لم نكن موفقين، بمعنى أننا فشلنا في إعطاء ماركس الفلسفة المناسبة لعمله. أعطيناه فلسفة تغلب عليها “ روح العصر” : كانت فلسفة ذات إلهام باشلاري وبنيوي التي لا يمكن تسميتها بالفلسفة الماركسية رغم أنها تضع الإعتبار لعدة جوانب لفكر ماركس.

          موضوعياً، جعلت هذه الفلسفة التوصل إلى رؤية متماسكة لفكر ماركس أمراً ممكناً. غير أن العديد من نصوصه تناقضها بحيث من الصعب إعتبارها فلسفته. بالإضافة، على اسس أبحاث جديدة، مثل أبحاث جاك بييديه التي نشرها في كتابه ( اكتشاف رأس مال ماركس – Que faire du “Capital”?)، نجد أن ماركس لم يحرر نفسه كلياً من هيغل رغم أنه انتقل إلى حقل اخر، الذي هو العلم، وبنى المادية التاريخية عليه.

 

          * أيعني هذا أن الانقطاعلم يكتمل ؟

          لا، لم يكن مكتملاً أبداً. كان ميلياً وحسب.

 

          * كيف تحديداً توصلت لإدراك ذلك ؟

          مثلما قلت، كان بحث (بييديه) حاسماً، فهو وضع عمل ماركس تحت ضوء جديد. تمكن بييديه من أن يصل إلى مادة كبيرة جداً، من ضمنها مخطوطات غير منشورة لم نكن نعلم بشأنها قبل عشرين سنة، هذه المادة هي فاصلة. أتى بيدييه منذ فترة قليلة ليزورني وكان لنا نقاشاً طويلاً.

          * ماذا ستقول اليوم عن وصف رايموند ارون لعملك بأنهماركسية خيالية؟

 

          سأقول إن آرون، إلى حد ما، لم يكن مخطئاً كلياً. لقد فبركنا فلسفة “ خيالية” لماركس، فلسفة لم توجد في عمله – إذا تمسك المرء بالحرف الواحد بكل دقة لنصوصه.

          * ولكن، في هذه الحالة، يمكن القول بأن قلة قليلة من الكتاب تمكنوا من تجنب الماركسية الخيالية، خصوصاً عندما تتعلق المسألة بشيء ( مثل الفلسفة في عمل ماركس) يوجد فقط في حالة كامنة.

 

          ربما. ولكن على حد علمي، أعتقد اننا واجهنا مهمة جديدة بعد هذه التجربة التنويرية : تحديد نوع الفلسفة التي تناسب ما كتبه ماركس في (رأس المال).

          أياً كانت هذه الفلسفة  لن تكون “ فلسفة ماركسية”. ستكون ببساطة فلسفة تتموقع في تاريخ الفلسفة. ستكون قادرة على أن تعتبر كل الاكتشافات المفهوماتية التي وضعها ماركس في (رأس المال)، ولكنها لن تكون فلسفة ماركسية، ستكون فلسفة من أجل الماركسية.

          * ألم تقم بتطوير هذه الفكرة سابقاً ؟ فأنت صرحت في ( لينين والفلسفة) أن الماركسية ليست فلسفة جديدة في جوهر النظرية الماركسية، انت قلت، انها علم ولكنها تتضمن، فضلاً عن ذلك، ممارسة جديدة للفلسفة التي يمكن أن تساعد على تحويل الفلسفة نفسها.

 

          هذا صحيح.

          * أنت بدأت بالإشارة إلى مفارقة الفلسفة الماركسية في محاضرة ألقيتها في 1976 في جامعة غرناطة تحويل الفلسفة. أعتقد ماركس، كما قلت، أن إنتاج الفلسفة كـ فلسفةحتى لو بشكل معكوس، كانت طريقة في الدخول الى لعبة الخصوم، وبذلك مساعدة تعزيز الايديولوجيا البورجوازية من خلال تثبيت شكلها في التعبير النظري.

 

          بالضبط. إنها مخاطرة في الفلسفة للسقوط في قبضة حزب الدولة، المؤسسة التي لم يثق ماركس بها اطلاقاً. أما بالنسبة للفلسفة، فإنها تمثل شكلاَ لتماسك الايديولوجيا المهيمنة. الإثنان واقعان في مثل آليات الهيمنة.

          * أليس هذا سبباً اخر لتفسير امتناع ماركس عن إنتاج فلسفة كتلك، حيث، بطريقة ما، إنتاج فلسفةسيكون بمثابة الانتقال نحو تمجيد ما هو قائم؟

 

          ضعي في البال عندما تحدث ماركس عن الشكل المستقبلي للدولة، استحضر دولة تُفهم كـ “ لا دولة” – بإختصار، شكلاً جديداً سيحفز اختفائها الذاتي. يمكننا أن نطبق هذا القول على الفلسفة : ما بحث ماركس عنه كان “ لا-فلسفة” التي ستختفي وظيفتها كهيمنة نظرية من أجل أن تسمح لأشكال جديدة للوجود الفلسفي.

          * هل هذا يساعدنا على استخراج مفارقة الفلسفة الماركسية ؟

 

          المفارقة تكمن في واقع أن ماركس، الذي تدرب على أن يكون فيلسوفاً، رفض كتابة فلسفة. رغم ذلك، زعزع كل الفلسفات التقليدية في أساسها عندما كتب كلمة “ ممارسة” في الأطروحة الثانية حول فويرباخ. هكذا، في كتابة ( رأس المال)، عمل علمي، ونقدي، وسياسي، مارس الفلسفة التي لم يكتبها ابداً.

          تلخيصاً لما قلناه إلى حد الان، نكرر أن المهمة التي علينا العمل بها اليوم هي ليست فلسفة ماركسية، بل فلسفة من أجل الماركسية. تفكيري مؤخراً يسير على هذا الطريق. أنا أبحث، في تاريخ الفلسفة، عن العناصر التي ستمكنا من فهم ما الذي فكرهُ ماركس وفي أي شكل فكر فيه.

          توضيح أخير : عندما اقول إنه من الصعب الحديث عن الفلسفة الماركسية، لا يجب أن يفهم هذا بشكل سلبي. ليس هناك أي سبب لِم على كل زمن أن يملك فلسفته الخاصة، ولا اعتقد أن هذا الامر هو الأكثر ضرورة أو أساسي. إذا كنا نريد فلاسفة، لدينا افلاطون، وديكارت، وسبينوزا، وكانط، وهيغل، وكثيرين غيرهم، يمكننا الاستفادة من أفكارهم من أجل تفكير وتحليل وقتنا الحاضر من خلال “ فهمها” وتطوريها.

          * هل تعتبر أن المادية التصادفية هي الفلسفة الممكنة للماركسية ؟

 

          نعم، إنها تأخذ هذا المنحى. الآن يمكننا أن نعود إلى عوالم ديموقريطوس وأبيقور لاستحضار الأطروحة الأساسية : قبل تشكل العالم كان هناك عدداً من الذرات اللانهائية التي تتساقط موازية لبعضها في الفراغ. هذا التأكيد له تداعيات قوية :

 (1) قبل أن يكون هناك عالم، لم يتشكل شيء على الاطلاق.

(2) كل العناصر كانت كائنة بإنعزال، منذ الازل، قبل أن يكون هناك أي عالم.

          هذا يعني أن قبل تشكل العالم، لم يكن هناك أي معنى، أو سبب، أو غاية، أو منطق، أو لامنطق. هذا هو نقض لكل غائية، سواء أكانت منطقية، أو أخلاقية، أو سياسية، أو فنية. أضيف أن هذه المادية هي مادية، ليست وفقاً لذات فاعلة ( سواء أكانت إله او البروليتاريا)، ولكنها وفقاً لسيرورة – من دون ذات فاعلة – تطغي على نظام تطورها، من دون أي غاية معينة.

          * لاأسبقية المعنى هي واحدة من أطروحات أبيقور الأساسية، بفضل معارضته لـ أفلاطون وأرسطو.

 

          صحيح. الآن هذا الـ “ كلينامين” [2] يتدخل : انحراف صغير جداً يحدث، لا احد يعرف أين، أو كيف، أو متى. المهم هو أن الـ “ كلينامين” يدفع الذرة نحو “ الانحراف” عن مسار سقوطها في الفراغ، مما يسبب “ تصادفاً” مع الذرة التي قربها. .. ومن “تصادف” إلى “ تصادف” عالماً يولد تدوم التصدفات هذه بدلاً من أن تبقى لوقت وجيز.

          * هل علينا أن نستنتج أن اصل كل عالم أو واقع، كل ضرورة أو معنى، يعود إلى انحراف تصادفي ؟

          بكل تأكيد. يفترض أبيقور أن هذا الإنحراف التصادفي هو أصل العالم، وليس المنطق أو السبب الأول. يجب أن نفهم، مع ذلك، أن هذا التصادف لا يصنع شيئاً من واقع هذا العالم، ولكنه يمنح الذرات بذاتها حقيقتها، التي، من دون الانحراف والصدفة، ستكون لا شيء سوى عناصر تجريدية ينقصها التماسك والكينونة. أنه فقط بعدما يتأسس العالم يتبعه سيادة المنطق، والضرورة، والمعنى.

          * هل يمكننا التفكير في أي فيلسوف متأخر تبنى هذه الأطروحات، رافضاً مسألة الأصل ؟

 

          أفكر في هايدغر. رغم أنه ليس أبيقورياً أو ذرياً، إلا أن فكره يحمل نزعة مماثلة. من المعروف إنه يرفض مسألة أصل، أو غاية، أو نهاية العالم. ولكننا نجد عند هايدغر سلسلة طويلة من التطورات تتمحور حول تعبير ( es gibt)  – “ ما هو كائن”، “ او ما هو معطى” – مما يتقارب مع إلهام أبيقور. “هناك عالم واشياء، هناك بشر…”  فلسفة (es gibt) لما “ هو معطى”، تدحض كل المسائل الكلاسيكية حول الأصل، الخ. وأنها “ تنفتح” على احتمالية في استعادة نوعاً من ترانسندتالية تصادفية للعالم، الذي “ القينا” فيه، ولمعنى هذا العالم، الذي بالمقابل يشير إلى افتتاح الوجود، الدافع الاصلي له، الذي هو “ تخصيصه”، حيث لا يوجد ما وراءه أي شيء لتفكيره فيه أو البحث عنه. هكذا العالم هو “ الهدية” التي تم منحنا اياها.

          * هدية، يمكننا أن نضيف، لم نطلبها أو نختارها، ولكنها تفتح نفسها لنا في  كل واقعانيتها وتصادفيتها.

 

          نعم، ولكن فضلاً عن الاعتقاد أن الصدفة هي إحدى مشروطات الضرورة، أو استثناء بالنسبة لها، يجب علينا نرى الضرورة بوصفها الصيرورة-الضرورية لصدفة الحوادث.

          ما أقوم به هنا هو الإصرار على وجود تقليد مادي لم يتم إدراكه في تاريخ الفلسفة، ينتمي إليه ديموقريطوس، وأبيقور، وماكيافيلي، وهوبز، وروسو ( روسو الخطاب الثاني)، وماركس وهايدغر، بالمقولات التي دافعوا عنها جميعاً : الفراغ، والحدود، والهامش، وغياب المركز، وانزياح المركز نحو الهامش ( والعكس بالعكس)، والحرية. تقف مادية الصدفة، أو الحادثة – بإختصار، أو التصادفية، حتى ضد الماديات التي تم اعتبارها مادية، من ضمنها تلك ما يشاع انها تنتمي إلى ماركس، وإنغلز، ولينين، التي على شاكلة كل مادية من التقليد العقلاني هي مادية الضرورة والغائية ..شكل مقنع للمثالية.

          من الواضح جداً لأنها كانت تشكل خطراً، قام التقليد الفلسفي بتفسيرها وتحريفها نحو مثالية الحرية : فإذا كانت ذرات أبيقور، تمطر في الفراغ متوازية مع بعضها البعض، تتصادف مع بعضها البعض، من ذلك سنشهد – في الإنحراف التي أنتجها الكلينامين –  وجود حرية إنسانية في العالم تابعة للضرورة نفسها.

          * هل يمكن، إذن، للمرء أن يقول إن هذه الفلسفة، على قدر ما هي ترفض كل المفاهيم حول الأصل، تأخذ اللاشيء ( le néant) كنقطة انطلاقها ؟

 

          نعم، بالضبط. هي فلسفة الفراغ التي لا تقول أن الفراغ يسبق وجود الذرات التي تسقط فيه وحسب، بل أيضاً تخلق فراغاً فلسفياً من اجل أن تمنح نفسها كينونة : فلسفة، التي بدلاً من أن تبدأ بـ “ المشكلات الفلسفية” الشهيرة، تبدأ بدحضها، ومن خلال رفضها في أن تمنح نفسها “ موضوعاً” ( “ليس للفلسفة أي موضوع”) من أجل أن تبدأ باللا شيء. لدينا إذن أولية اللاشيء على كل شكل، أولية الغياب ( لا وجود لأي اصل) على الحضور. هل يوجد نقد أكثر راديكالية لكل الفلسفة، مع ذريعتها في أن تتحدث عن حقيقة الأشياء ؟

          * كيف، إذن، ستصف موقع المادية التصادفية ؟

 

 

          حول هذا الموضوع، يمكننا أن نقول إن المادية التصادفية تفترض أولية المادي فوق كل الاشياء الاخرى، من ضمنها التصادفي. يمكن أن تكون المادية مادة بسيطة، ولكن ليست بالضرورة مادة محضة. هذه المادة تختلف بطريقة واضحة عن مادة الفيزيائي أو الكيميائي، أو العامل الذي يعمل على الحديد أو الارض. يمكنها أن تكون مادية لتجهيز اختباري معملي. دعيني أحمل الأمور بشكل متطرف : يمكنها أن تكون مجرد أثر، مادية الإيماءه التي تترك اثراً وهي جاهلة عن الاثر التي تتركه في حائط الكهف أو الورقة. الأمور تذهب أبعد من ذلك : لقد بين دريدا أن أولية الأثر ( الكتابة) يمكن ايجادها حتى في الصوت الذي انتجه الصوت المتحدث. أولية المادي هي كونية. هذا لا يعني أن البناء التحتي ( يفهم خطأ على انه مجموع القوى المنتجة زائداً المواد الخام) هو المحدد في نهاية المطاف. ستكون كونية هذا المفهوم الأخير – البناء التحتي- سخيفة إذا لم يتم ربطها مع علاقات الانتاج. حين تحدث ماركس في كتابه ( المساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) عن إذا كانت الأشكال المنطقية المسبقة أيضاً تأتي اولاً تاريخياً قال : “ كل شيء يعتمد”. كل شيء يعتمد : هي عبارة تصادفية، وليست ديالكتيكية.

          لنحاول توضيح المسألة : أي شيء يمكنه أن يكون المحدد “ في نهاية المطاف”، مما يعني أي شيء يمكنه أن يكون المسيطر. هذا ما قاله ماركس حول السياسة في أثينا والدين في روما، في نظرية ضمنية حول انزياح اللحظة المسيطرة ( الذي حاولنا تنظيره أنا و(باليبار) في “ قراءة رأس المال”). ولكن، أيضاً في البناء الفوقي، المحدد هو ماديته. لهذا السبب كنت مهتماً للغاية في أن أبين الحقيقة المادية لكل بناء فوقي وكل ايديولوجيا.. كما بينت بالنسبة إلى الاجهزة الايديولوجية للدولة. هذا هو المكان الذي يجب البحث فيه عن مفهوم “ في اللحظة الاخيرة”، انزياح ما هو مادي، الذي هو دائماً المحدد “في نهاية المطاف” في كل لحظة راهنة ( conjuncture) [3].

تاريخان

 

 

          * مع مفهومك حول المادية التصادفيةفي البال، نسأل ما هي طبيعة الحدث التاريخي، أليس علينا أن نحللها بوصفها تعايش تواريخ تقوم بكثرة تحديد بعضها ؟

 

         

          يمكن القول أن للتاريخ نوعان، تاريخان : نبدأ مع تاريخ المؤرخين التقليديين، والإثنولوجيين، والسوسيولوجيين، والانثروبولوجيين الذين يتحدثون عن “ قوانين” التاريخ لأنهم فقط يضعون في الاعتبار الحقيقة المنجزة للتاريخ السالف. التاريخ، في هذه الحالة، يعرض نفسه كشيء ستاتيكي كلي ويمكن دراسة تحديداته بمثل طريقة دراسة الاشياء الفيزيقية : إنه شيء ميت لأنه من الماضي. يمكن لأحدهم أن يتساءل كيف إذن يمكن للمؤرخين ان يتفاعلوا أمام تاريخ منجز، وراسخ، ومتحجر، يتمكنون خلاله استخراج إحصائيات قطعية معينة ؟ هنا نجد مصدر الايديولوجيا العفوية للمؤرخين والسوسيولوجيين المبتذلين، ناهيك عن الاقتصاديين.

          * ولكن أمن الممكن أن نتصور نوعاً آخر للتاريخ ؟

 

          نعم. هناك كلمة بالإلمانية، Geschichte ( تاريخ/ حكاية)، التي تدل على التاريخ في الحاضر، وليس المنجز، الذي بلا شك تم تحديده بجزء عظيم، لكنه لا يزال جزءاً، من خلال السابق المنجز، أما التاريخ كما هو حاضر وموجود، هو كذلك مفتوح لمستقبل غير محدد، لا متوقع، لم ينجز بعد، وبذلك تصادفي. التاريخ الحاضر يخضع لثابت ( constant) ( وليس لقانون) : ثابت الصراع الطبقي. لم يستخدم ماركس مصطلح “ ثابت”، الذي قمت بإستعارته من ليفي-ستروس، ولكنه استخدم تعبيراً عبقرياً : “ قانون ميلي”، الذي يمكنه تغيير ( ولكن لا يناقض) القانون الميلي الأساسي، مما يعني أن الميل لا يملك شكل أو مظهر التاريخ الخطي، ولكن يمكنه أن يتشعب تحت تأثير التصادف مع ميل اخر، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. في كل مفترق طريق يمكن للميل أن يأخذ طريقاً لا متوقع لأنه تصادفي.

          * هل يمكننا أن نلخص هذا بقولنا إن التاريخ الحاضر هو دائماً نتاج لحظة راهنة فردية تصادفية ؟

 

          نعم، ومن الضروري أن نضع في البال أن “ اللحظة الراهنة ” (conjuncture) تعني “ الإندماج” (conjunction)، التي هي، المواجهة التصادفية للعناصر – جزئياً، عناصر موجودة، ولكن ايضاً عناصر غير متوقعة. كل “ حالة” هي قضية فردية، مثل كل الفرديات التاريخية، مثل كل ما هو كائن.

          لهذا السبب بوبر، اللورد بوبر، لم يفهم أي شيء من تاريخ الماركسية أو التحليل النفسي، حيث موضوعات كليهما لا تنتمي إلى التاريخ المنجز بل إلى Geschichte، إلى التاريخ الحي، المكون من، والذي استخرج من ميول تصادفية واللاشعور. هذا هو التاريخ الذي ليس لأشكاله علاقة مع حتمية القوانين الفيزيقية.

          ما يتبع من ذلك هو ما يبلغ ذروته في المادية، التي هي قديمة جداً – وفقاً لأفلاطون : أولية أصدقاء الأرض على أصدقاء الصور- هو المادية التصادفية، التي مطلوب منها أن تفكر انفتاح العالم بإتجاه الحدث، الذي لا يزال – لا يمكن تخيله، وكذلك كل الممارسات الحية، ضمنها السياسة.

          * اتجاه الحدث ؟

 

          يقول فيتغنشتاين بشكل رائع في رسالته : die Welt ist alles, was der Fall ist، جملة رائعة، ولكن على أية حال، من الصعب ترجمتها. يمكننا محاولة تقديمها على النحو التالي : “ كل شيء يحدث هو العالم”، أو،  بشكل حرفي اكثر، “ العالم هو كل شيء يقع علينا”. لكن توجد ترجمة اخرى، التي تقدمها مدرسة راسل : “ العالم هو الحالة”.

          هذه الجملة الرائعة تقول كل شيء، حيث، في هذا العالم، لا يوجد شيء سوى حالات، وقضايا، وأشياء تقع علينا دون تحذير. أطروحة أن كل ما هو كائن هو حالات فقط – مما يعني، فرديات واحدة تختلف كلياً عن بعضها البعض – هي الأطروحة الأساسية للإسمانية.

          * ألم يقل ماركس ان الإسمانية كانت مدخل المادية ؟

 

          بالضبط : وأنا سأذهب أبعد من ذلك. سأقول إنها ليست مجرد مدخل المادية، بل المادية نفسها.

          قام عدد من الاثنولوجيين بملاحظة مدهشة : في أكثر المجتمعات البدائية العائدة الى السكان الأصليين الأستراليين أو الأفارقة الأقزام ( البيغمي) تسيطر الفلسفة الإسمانية فيها بشكل فردي – ليس من الناحية الفكرية، التي هي اللغة، ولكن أيضاً في الممارسة، في الواقع. بينت الدراسات الحاسمة الأخيرة أن، بالنسبة إلى هذه المجتمعات، ما هو موجود هو كينونات مفردة، ويتم تمييز كل مفردة وكل محددة بكلمة مفردة بدورها. هكذا العالم متكون حصراً من اشياء مفردة ونادرة، كل منها اسم معين ومميزات مفردة. “ هنا والآن”، الذي لا يمكن، إطلاقاً، تسميته بأي شيء، بل فقط الإشارة اليه، لأن الكلمات نفسها هي تجريدات – سيكون علينا ان نتحدث دون كلمات، ايّ نشير. هذا يعني أولية الإيماءة على الكلمة، أولية الاثر المادي على الرمز.

          * هذا التأشير، الذي يظهر بقدم السوفسطائيين، عن كراتيليوس وبروتاغوراس

          بكل تأكيد، يمكن القول بإن الإسمانية الفلسفية موجودة سلفاً عند هومر، وهسيود، والسوفسطائين، والذريين مثل ديموقريطوس وأبيقور، رغم أنها لم تظهر حقاً بشكل معروض ونسقي إلا في العصور الوسطى، من قِبل الثيولوجيين، في مقدمتهم دانس سكوتوس وويليام الأوكامي.

          ملاحظة أخيرة حول مسألة الحدث التاريخي. يمكننا نقول أن لا ماركس ولا انغلز اقتربا أبداً من طرح نظرية حول التاريخ، بمعنى الحدث التاريخي غير المتوقع، والنادر، والتصادفي : وكذلك لم يطرحا نظرية حول الممارسة السياسية. أنا أقصد الممارسة السياسية-الأيديولوجية-الاجتماعية للناشطين السياسيين، والحركات الشعبية، ومنظماتها في حال وجودها.. إنها ممارسة ليست في حوزتها مفاهيم، ناهيك عن نظرية متماسكة تجعل من التفكير أمرا ممكناً. في حين فكر لينين، وغرامشي، ماو، حول هذا الامر جزئياً فقط. كان ماكيافيلي الوحيد الذي قام بإستنباط نظرية حول التاريخ السياسي، حول الممارسة السياسية في الحاضر. هناك هوة كبيرة تنتظر ان يتم سدها. إنها في غاية الاهمية، ومرة أخرى تشير لنا نحو الفلسفة.

2

 

الفلسفة الايديولوجيا السياسة

 

 

 

          * هل يمكنك شرح لماذا قمت بالتشديد إلى حد كبير على ثلاثية الفلسفةالايديولوجيا السياسة في عملك ؟

 

          أعتقد من الأنسب أن أبدأ ردي من خلال مناقشة مفهومي حول “ الفلسفة”، ونشأتها ووظيفتها. نشأت الفلسفة، تاريخياً، إلى حد ما، من الدين، الذي توارثت منه الاسئلة الإستثنائية التي تم لاحقاً تحويلها إلى  مواضيع فلسفية عظيمة، رغم اختلاف المقاربات والإجابات : مسائل مثل الاصل، الغاية، أو مصير الانسان، والتاريخ، والعالم.

          مع ذلك صرحتُ أن الفلسفة كما هي، الفلسفة بالمعنى الصارم، تأسست مع تأسيس أول علم : الرياضيات. لم يكن هذا حادث، حيث تأسيس الرياضيات حدد، بالتحديد، الانتقال من الحالة التجريبية إلى النظرية. بدأ الناس يفكرون، من هذه اللحظة وصاعداً، بطريقة مختلفة حول مختلف الموضوعات : الموضوعات التجريدية.

          * هل تزعم أن الفلسفة لم يكن بمقدورها أن توجد دون وجود العلم أولاً ؟

 

 

          لا أعتقد أن يمكن لها أن توجد دون وجوده، حيث الفلسفة أخذت شيئاً لا يقدر بثمن من العلم : نموذج التجريد المنطقي الأساسي له.

          في الواقع، وجدت الفلسفة عندما تم التخلي عن طرق التفكير الميثولوجي والديني، والوعظ الأخلاقي والفصاحة السياسية والشعرية، لصالح أشكال التفكير النظري التي هي تأسيسية للعلم. بإختصار، لا يمكن للفلسفة أن توجد من دون وجود خطاب منطقي محض سلفاً، النموذج الموجود في العلوم.

          * ما هي الخصائص الأخرى التي دمغت خصوصيتها على الفلسفة في طور تطورها ؟

 

          عينت الفلسفة التقليدية لنفسها مهمات تاريخية ثابتة بالحديث عن الحقيقة حول كل شيء : الأسباب الأولى والمبادئ الأولى في كل شيء كائن، وبذلك عن كل شيء معروف، حول الغاية المطلقة أو قدر الإنسان والعالم. هكذا تحدد نفسها كـ “ علم” الكل، فهي ليست قادرة على توفير معرفة أعلى ويقينية وحسب، بل وكذلك تمتلك الحقيقة نفسها. هذه الحقيقة هي المنطق ( logos) ، والأصل، والمعنى …. حالما يتم افتراض التماثل الأساسي ما بين الكلمة (logos) والخطاب، وما بين الحقيقة والقول، ستكون هناك، في هذا العالم، وسيلة وحيدة لجعل الحقيقة معروفة : الشكل- القولي. لهذا السبب لا تستطيع الفلسفة إطلاقاً أن تترك خطابها الخاص، الذي هو هو عرض الحقيقة كـ قول ( logos).

          * بالنسبة إلى تركيب/تأسيس النسق الفلسفي، توجد هناك ارتباطات صارمة ما بين كل عناصرها النظرية، على سبيل المثال أطروحاتها ( أو فرضيات فلسفية) ومقولاتها. هل يمكنك أن تفسرها وما هي وظيفتها ؟

 

          تعني الكلمة اليونانية Thezis “ موقع”. لهذا السبب كل أطروحة تستدعي أطروحتها النقيضة. أما بالنسبة إلى المقولات، التي هي أكثر المفاهيم عمومية، التصويرات التي تأتي في البال هي “ الجوهر” و” الذات”. لمقولة “ الذات” اهتمام خاص. يجد المرء ما بين القرني الرابع عشر والثامن عشر، فوق كل شيء، أن مقولة “ الذات” كانت تستخدم لعدد من الايديولوجيات والممارسات المقابلة لها. هذه المقولة نشأت على أساس الايديولوجية القانونية والعلاقات السلعية، التي فيها كل فرد هو ذات قانونية لقدراته القانونية بوصفه مالك ملكية، وهكذا. مثل المقولة التي اقتحمت مجال الفلسفة مع ديكارت ( الذات “ أنا افكر”)، ولاحقاً، الايديولوجية الاخلاقية مع كانط ( الذات “ الوعي الاخلاقي”). منذ فترة طويلة اقتحمت المجال السياسي مع “ الذات السياسية” للعقد الاجتماعي. هذا يبرهن إحدى اطروحاتنا التي ندافع عنها : الفلسفة “ تعمل على” مقولات قادرة على توحيد لقاء الايديولوجيات والممارسات المقابلة لها.

الفلسفة : ساحة معركة

 

 

 

          * وما هي وظيفة الفلسفة ؟

 

          دون أن أدعي أن أكون شاملاً مانعاً، أزعم أن كل فلسفة تنتج ضمن ذاتها، بطريقة أو اخرى، الصراع الذي تجد نفسها فيه في العالم الخارجي. كل فلسفة تحمل ظل نقيضها في ذاتها : تحمل المثالية ظل المادية، والعكس بالعكس.

          * أنت غالباً ما تشير إلى أن كانط يقول إن الفلسفة هي ساحة معركة Kampfplatz

 

          صحيح. إحدى أهداف الفلسفة هي شن معركة نظرية. لهذا يمكننا القول بأن كل أطروحة هي دائماً، بطبعها، أطروحة نقيضة. الأطروحة دائماً تطرح كنقيضة أطروحة أخرى، أو دفاعاً عن أطروحة جديدة.

          * بما أننا في موضوع المعركة النظرية هذه، هل تظن أن الحقل الفلسفي هو منقسم على نحو كتلتين عظيمتين أو موقعين متنافسين، المادية والمثالية ؟

 

          لا. أعتقد أن، في أي فلسفة، سيجد المرء فيها عناصر مادية ومثالية، حيث واحدة من النزعتين تسيطر على الأخرى في فلسفة معينة. بكلمات أخرى، لا يوجد تقسيم راديكالي مانع مطلق لأن في الفلسفات المثالية، نستطيع أن نمر على عناصر مادية، والعكس بالعكس. ما هو مؤكد هو أن لا توجد فلسفة محضة. ما يوجد هو نزعات.

          * هل يمكنك أن تستشهد بفيلسوف ما لتوضح هذا الكلام ؟

 

          باسكال هو نموذج مثير الاهتمام، لأنه متناقض. تظهر، من خلال طرحه للمسائل الدينية، قضايا إبستمولوجية وقضايا نظرية تاريخ العلوم ونظرية العلاقات الاجتماعية، بذلك يمكننا التأكيد إنه يعرض ملامح مادية بعمق. اندهشت عندما رأيت، بعدما قمت بإعادة قراءة باسكال في السنوات الاخيرة، أنني استعرت منه، من دون الادراك بذلك، عدداً قليلاً من الافكار الفلسفية : النظريتان حول الايديولوجيا وحول الإدراك وعدم الإدراك، موجودتان عند باسكال. عندما سألت نفسي أين حدث هذا اللقاء معه، أدركت فوراً أن الكتاب الوحيد الذي قرأته في السنوات الخمس التي أرغمت أن أكون في معسكر ألماني للأسرى هو كتاب باسكال  : “ الافكار “ ( Pensées). نسيت كل هذا في المرحلة الانتقالية.

          كتب باسكال أشياءً مدهشة حول تاريخ العلوم. كان رياضياً وفيزيائياً عظيماً : ابتكر الآلة الحاسبة، وفي النهاية طور نظرية كلية حول تاريخ العلم.

          * هنا نرى ما قلته للتو : كل فلسفة تحمل نقيضتها في ذاتها.

 

          طبعاً. أكثر من ذلك، التناقض في الفلسفة هو ليس تناقضاً ما بين (أ) والـ لا (أ)، أو بين (نعم) و(لا). إنه نزعاتي، ويتم تجاوزه من خلال النزعات. في الواقع، كل فلسفة هي ادراك – بطريقة مكتملة اكثر او اقل-  لإحدى النزعتين النقيضتين : النزعة المثالية والنزعة المادية. ما يتم إدراكه خارج كل فلسفة هو ليس النزعة، بل “ التناقض الضدي” ما بين النزعتين.

          * كيف تفسر هذا ؟

 

          هذا له علاقة بالطبيعة نفسها للحرب الفلسفية. عندما تقرر فلسفة ما أن تحتل مواقع خصمها، من الحاسم أن “ تأسر” على الاقل عدداً من “ جنود” العدو، مما يعني، أنها تحاصر الحجج الفلسفية لخصمها. إذا اراد احدهم أن يهزم العدو، عليه أن يعرفه اولاً، ليس من أجل أن يستحوذ على أسلحته، وجنوده، وأرضه، ولكن، فوق كل هذا، حججه – حيث بمساعدتها سيتم الظفر بانتصارات عظيمة.

          * هنا أتذكر مقولة لغوته : الذي يريد معرفة العدو عليه أن يذهب إلى أرضه.

 

          هذا صحيح. هكذا كل فلسفة عليها أن تحمل عدوها المنهزم ضمنها لكي تؤسس ذاتها كفلسفة جديدة. ومن ثم يمكنها تجنب كل الاحتجاجات والهجومات مقدماً، لأنها حملت نفسها داخل نسق العدو سلفاً وتعمل عليه، وبذلك تعدله، من أجل أن تحمل مهمة هضم خصمها والسيطرة عليه. بذلك كل فلسفة ذات نزعة مثالية بالضرورة تتضمن حججاً مادية، والعكس بالعكس. أكرر : ليس هناك نقاءً محضاً. حتى الفلسفة المادية “ الماركسية” لا يمكنها أن تدعي أن تكون حصراً “ مادية”، لأن إذا كانت كذلك، سيكون عليها أن تتخلى عن الصراع، وتترك، مسبقاً، فكرة اجتياح المواقع المحتلة من قبل المثالية.

          * ما تقوله يستدعي الـ ليفياثان لهوبز، حالة الحرب الدائمة.

 

          رغم ذلك إلا أن هذه “ الحرب الفلسفية” هي ليست “ حرب الكل ضد الكل” التي ناقشها هوبز في  إنكلترا القرن السابع العشر. إنها ليست حرباً بين أفراد، ولكنها بين المفاهيم الفلسفية، وبذلك بين استراتيجيات فلسفية التي، في اللحظات الراهنة الفلسفية والثقافية العظمى، تحارب من أجل هيمنة فلسفية في تلك الدولة أو تلك القارة، أو في العالم كله – بما أن العالم أصبح عملياً كلاً اقتصادياً واحداً.

          * هل لهذا علاقة بتعريفك الأخير للفلسفة بوصفها صراعاً طبقياً في النظرية؟

 

          نعم، شكل نظري يحملها الصراع الطبقي. ولكنك نسيتِ عنصراً حاسماً للتعريف وهو : “ في اللحظة الاخيرة”.

          يجب أن لا ننسى “ في اللحظة الاخيرة”، حيث لم أقل أبداً أن الفلسفة هي ببساطة صراع طبقي في النظرية. هذا التحفظ “ في اللحظة الاخيرة” هو هناك ليشير إلى أن هناك اشياءً في الفلسفة غير الصراع الطبقي في النظرية، ولكنه كذلك يشير إلى أن الفلسفة بالفعل تمثل مواقع طبقية في النظرية، مما يعني في العلاقات التي هي تحافظ عليها مع اكثر الاشكال النظرية للممارسات البشرية، وخلالها، أكثر الأشكال الملموسة للممارسات البشرية، ضمنها الصراع الطبقي …. ولقد بينت أن، في الفلسفة، يأخذ الصراع الطبقي شكل التناقضات ما بين الأطروحة والأطروحة النقيضة، ما بين مواقع النزعة المثالية وأخرى للنزعة المادية.

          هناك مثال في تاريخ الفلسفة يثبت أن الفلسفة هي، في اللحظة الاخيرة، صراع طبقي في النظرية. لنأخذ مصطلحات كانط التي استشهدت بها سلفاً : الفلسفة هي ساحة معركة. انطلق كانط ليؤسس فلسفة غير سجالية، ليست في حالة صراعية. عندما يرسم كانط مشروعاً لإستبدال المعركة الدائمة ما بين الفلسفات بـ “ السلام الدائم”، هو لا يستدعي الصراع الطبقي، ولكنه يدرك الطبيعة السجالية، الطبيعة التناحرية، لأي فلسفة. من خلال تحديد هدف الحصول على فلسفة خالية من الصراع، في السلام الدائم، هو يدرك – في شكل إنكار – وجود صراع في الفلسفة.

          ملاحظة أخيرة : فيما يتعلق بالصراعات التي حفزتها الفلسفة في طور تاريخها، توجد هوامش أو مناطق تستطيع أن تهرب من التحديد القاطع من قبل الصراع الطبقي. أمثلة : أجزاء معينة في تأمل اللغويات، الإبستمولوجيا، الفن، العاطفة الدينية، العادات، الفلكلور، الخ. هذا يعني، ضمن الفلسفة، توجد جزر أو فجوات.

فلسفة الفلاسفةوالفلسفة المادية

 

 

          * لنختم هذا الموضوع، هل يمكنك أن تلخص المميزات المحددة التي تميز هذين الموقعين أو النزعتين الفلسفيتين ؟

 

          بكل تأكيد. ولكن عندما يقول الناس “ الفلسفة”، دائماً يقصدون بذلك الفلسفة التقليدية ذات النزعة المثالية، “ فلسفة الفلاسفة”. ولكن هذه المرة، سآخذ الموقع المادي في الفلسفة كنقطة مرجعية.

           الحديث عن “ المادية” هو آن تفتح أكثر المواضيع الحساسة في الفلسفة. ينتمي مصطلح “ المادية” إلى تاريخ فلسفتنا التي ولدت في اليونان، تحت رعاية أفلاطون وضمن إشكاليته العامة. أنه عند أفلاطون نجد التفرقة الاساسية ما بين “ أصدقاء الصور” و”أصدقاء الارض”. كلتا العبارتين في هذا الثنائي تم وضعهما كأساسين لتأسيسهما، حيث كلتا العبارتين تسيطر على الأخرى.

          بذلك يوجد أصدقاء الارض فقط لأن اصدقاء الصور موجودين، وهذه التفرقة وهذه المعارضة هي من عمل الفيلسوف الذي دشن تاريخ فلسفتنا والذي يعتبر نفسه “ صديق الصور” بمعارضة “ أصدقاء الارض”، الذي يصنف التجريبيين، والحسيين، والمشككين، والتاريخانيين ضمنهم. يجب الإشارة إلى أن في زوجي المتعارضين المثالية/المادية، أصبحت المثالية – بقدر ما هي النزعة المسيطرة في كل الفلسفة الغربية – هي الأساس الذي وجد وتأسس عليه هذا الزوج.

          عندما ننطلق من كل ما قاله هايدغر حول سيطرة التمركز حول العقل ( logocentrism) على كل الفلسفة الغربية، لن يكون من الصعب نشرح أن حالما يرى المرء بسهولة، في كل مرة تتعلق المسألة بالمادية المعلنة في تاريخ فلسفتنا، أن مصطلح “ المادية” يعاد انتاجه، إذا جاز التعبير، بنقضه ومرآته المعاكسة، مصطلح “ المثالية”. كان هايدغر سيقول إن المثالية، مثل المادية، تخضع لـ “ مبادئ العقل”، التي هي المبدأ الذي وفقاً له كل ما هو كائن، سواء أكان المثالي أو المادي، يخضع لمسألة سبب كينونته.

          بذلك سأقول إن في التقليد الفلسفي، استحضار المادية هو مؤشر لضرورة ما، إشارة أن يجب رفض المثالية – وفي مثل الوقت من دون التحرر، من دون القدرة على التحرر، من زوجي المثالية/المادية. فهو مؤشر ولكنه فخ في مثل الوقت، لأن لا أحد يتحرر من المثالية من خلال نقضها ببساطة، أو تصريح ما هو عكس المثالية، أو حتى “جعلها تقف على رأسها”. فعلينا، إذن، معاملة مصطلح “ المادية” بشك، حيث هذه الكلمة لا تعطينا شيئاً، وفي نظرة مقربة ستظهر أغلب الماديات مجرد مثاليات مقلوبة. أمثلة : ماديات التنوير، وعدد قليل من كتابات إنغلز كذلك.

          * ما هي الملامح الأخرى التي يمكن قولها لوصف المثالية التي تعتبر كالقطب العكسي للمادية ؟

 

          يمكننا أن نميز المثالية، على ما أعتقد، من خلال حقيقة أنها مطاردة من قبل قضية أساسية تنقسم إلى اثنين، حيث لا يحمل مبدأ العقل الأصل وحسب، بل الغاية أيضاً. بالفعل، يشير الأصل دائماً وبشكل طبيعي إلى الغاية. يمكننا أن نذهب إلى أبعد من ذلك : مسألة الاصل هي مسألة نشأت على أساس مسألة الغاية. ولأن الغاية ( معنى العالم، معنى التاريخ، الغاية المطلقة للعالم والتاريخ) تتوقع ذاتها فهي تعرض نفسها مرة أخرى على / ونحو/ وفي مسألة الاصل. دائماً تعرض مسألة أصل أي شيء كوظيفة لما يتخيل أن تكون غاية هذا الأصل. دائماً تعرض مسألة “ الأصل الراديكالي لكل شيء” ( لايبنتز) على أساس ما يتخيله المرء لما سيكون نهايتها، وغايتها، سواء أكانت مسألة غاية الإله أو اليوتوبيا.

          * هل تمكنت أي فلسفة من الهروب من زوج المثالية المادية ؟

 

          إذا هربت فلسفات معينة من زوج المادية-المثالية هذا، سيتم التعرف عليها عبر حقيقة إنها هربت من، أو حاولت الهروب من مسائل الأصل والغاية، التي هي، في نهاية التحليل، غاية أو غايات العالم والتاريخ الإنساني. هذه الفلسفات مثيرة للإهتمام، حيث، من أجل أن تتجنب الفخ، عبرت عن ضرورة التخلي عن المثالية والمضي قدماً نحو ما يمكن أن يسمى ( إن شئت) المادية، بذلك تميز ذاتها من كل فلسفة الأصل – سواء  أكانت مسألة الوجود، أو الذات، أو المعنى، أو الغاية – حيث بالنسبة لها كل هذه الموضوعات تنتمي إلى الدين والأخلاق، وليست إلى الفلسفة.

          هناك الكثير من تلك الفلسفات اللامهادنة وغير دينية بشكل حق في تاريخ الفلسفة : ضمن الفلاسفة الكبار أرى  فقط أبيقور، وسبينوزا، وماركس – عندما يتم فهمه جيداً، ونيتشة، وهايدغر.

          رفض الأصل الراديكالي بوصفه بنك الإصدار الفلسفي يعني أن المرء عليه كذلك أن يرفض العملة المصدرة من قبل هذا البنك من أجل وضع مقولات اخرى، مثل الديالكتيك.

          * أعلم أن سبينوزا هو أحد الفلاسفة الذين أنت معجب بهم بشدة بسبب، ضمن أشياء أخرى، إسهاماته للموقع المادي. أود أن استفسر إذا كان هو قد هرب من إغواء الحقيقة؟.

 

          نعم بكل تأكيد. يتحدث سبينوزا، إكلينيكياً، عما هو “ حقيقي” وليس عن الحقيقة. اعتبر أن “ الحقيقي هو مؤشر ذاته ويبين الزائف”. هو مؤشر ذاته ليس كوجود بل كمنتج، بمعنيين : (1) كنتيجة لعملية العمل الذي يكتشفه، و(2) يثبت ذاته في ضمن انتاجه نفسه.

          * إذن مع هذا المفهوم المحايث للحقيقة، يترك سبينوزا مسألة معيار الحقيقة في جانب واحد.

 

          ما أكثر من ذلك هو أنه يرفض مسائل الأصل والذات مما يعزز نظريات المعرفة.

          * ما هي الملامح المميزة التي تعرضها الفلسفة المادية ؟

 

          بادئ ذي بدء، أنها لا تدعي أن تكون مستقلة أو لتؤسس قوتها وأصلها الخاص. أنها ايضاً لا تعتبر ذاتها علماً، ناهيك عن علم العلوم. بهذا المعنى هي تعارض الوضعية كلها. يجب الإشارة إلى أنها، بالتحديد، تنبذ فكرة أنها تمتلك الحقيقة.

          الفلسفة ذات النزعة المادية تدرك وجود واقع موضوعي خارجي، كما أنه مستقل عن الذات أو عن من يفهم أو يعلم هذا الواقع. إنها تدرك أن الكائن أو الواقعي موجود وهو سابق على اكتشافه، على حقيقة معرفته أو إدراكه. في هذا الصدد، احياناً نُسئل كيف يمكننا أن نتأكد أن الفلسفة هي ليست هذياناً نظرياً تابعاً لطبقة اجتماعية في البحث عن ضمان أو بلاغيات منمقة. الكثير من المنظرين الهواة قاموا، في كل ما انتجوه عبر القرون، بتصميم فلسفة وفقاً لأهوائهم الشخصية، أو أوهامهم، أو تفضيلاتهم الذاتية – أو، ببساطة، بدافع رغبتهم في التنظير.

          * ألا يمكننا القول، تحديداً، بأن الموقع المادي يسجل انعطافاً راديكالياً من فلسفات التمثيل التي تستمر في التقليد المثالي القائل إننا نعلم أفكار الاشياء وليست الاشياء ذاتها ؟

 

          إحدى تداعيات مما قيل هي : الفلسفات المادية تؤكد أولية الممارسة على النظرية. الممارسة التي هي غريبة كلياً عن العقل ( logos)، هي ليست الحقيقة ولا يمكن إختزالها – او حتى تتجلى بذاتها في – إلى القول والنظر. الممارسة هي عملية تحويل تخضع دائماً  لشروطها الخاصة في الوجود ولا تنتج حقيقية، بل “ حقائق”، أو نوعاً من الحقيقة : الحقيقة، دعينا نقول، لنتائج أو لمعرفة، كلها ضمن حقول ظروف وجودها. رغم أن للممارسة “أشخاص فاعلين”، إلا أن ليست لها – للممارسة – اية ذات فاعلة كالأصل الترنسندنتالي او الانطولوجي لهدفها أو تصورها، ولا تملك هدفاً كحقيقة سيرورتها. إنها سيرورة من دون ذات فاعلة أو هدف ( آخذين كلمة “ ذات فاعلة” للدلالة على عنصر لا تاريخي).

          هكذا تهز الممارسة أسس التقليد الفلسفي وتمكننا من توضيح ما هي الفلسفة، حيث الممارسة راسخة في إمكانية تغيير العالم.

          إن ظهور الممارسة هو استنكار للفلسفة المنتجة كـ “ فلسفة”. إنها تؤكد بشكل قاطع – في وجه ادعاء الفلسفة  إنها تضم كل الافكار والممارسات الاجتماعية، وانها، كما قال أفلاطون “ تنظر إلى الكل”، من أجل أن تفرض هيمنتها على هذه الممارسات ذاتها – إنها تؤكد بشكل قاطع، في وجه ادعاء الفلسفة القائل بإن ليس لها ما هو خارج عنها، بإن لها بكل تأكيد ما هو خارج عنها، وتحديداً، أنها موجودة من خلال ومن أجل هذا الخارج. هذا الخارج، الذي تحب الفلسفة أن تتخيله بأنه أتى بحكم الحقيقة، هو الممارسة، الممارسات الاجتماعية.

          علينا أن نفهم الطبيعة الراديكالية لهذا النقد عبر فهم تداعياته. إنه يقارع العقل ( logos)، الذي هو الممثل الأعلى لشيء يدعى “ الحقيقة”.

          إذا أخذنا مصطلح “ الحقيقة” بمعناه الفلسفي، من أفلاطون إلى هيغل، وواجهنا الممارسة – سيرورة من دون ذات فاعلة او هدف وفقاً لماركس – سيكون علينا بعدها تأكيد أن ليس للممارسة أية حقيقة.

          الممارسة هي ليست بديلاً عن الحقيقة لإنتاج فلسفة ثابتة، بل على العكس، إنها ما يهز أسس الفلسفة، إنها هذا الشيء الآخر – سواءً في شكل “ السبب المتغير” للمادة أو في الصراع الطبقي – التي لم تتمكن الفلسفة أبداً من السيطرة عليه. إنها هذا الشيء الآخر الذي لا يجعل من الممكن هز أسس الفلسفة وحسب، بل البدء في النظر بوضوح ما هي الفلسفة أيضاً.

          * أنت قلت للتو إن الممارسة تمكن الفلسفة من معرفة أن لها خارج.

 

          نعم. ملحوظة هيغل هي معروفة جداً : للوعي الذاتي شيء وراءه، ولكنه لا يدرك ذلك. هذه الملحوظة تجد صداها عند اعتراف فرنسوا مورياك أنه في طفولته اعتقد أن ليست للكبار أي مؤخرات. ظهور الممارسة يهاجم الفلسفة من الخلف، سنرى كيف.

          سيان أن يكون لها خارجاً، سيتم معارضته، كأنما تملك خلفاً. أن تملك “ خلفاً” يعني أن تملك خارجاً لا يتوقعه المرء. والفلسفة لا تتوقع ذلك.

          ألم تجلب الفلسفة كلية ما هو كائن ضمن بوصلة فكرها ؟ حتى الطين، تحدث عنه سقراط، وأرسطو عن العبد، وهيغل عن وتراكم الثروة في قطب واحد وفقر رهيب في القطب الاخر.

          * من وجهة النظر هذه، كل شيء بالفعل متضمن داخل الفلسفة.

 

          يمكننا أن نسأل أين الفضاء الخارجي ؟ أليس للعالم الحقيقي، العالم المادي،  وجود في كل الفلسفات، حتى الفلسفات المثالية ؟ لماذا، إذن، نقوم بتسوية هذه الاتهامات التي لا أساس لها ضد الفلسفة ؟ من أجل أن تجلب كل الممارسات ضمن نطاق فكرها، ومن أجل أن تفرض نفسها عليها من خلال الإعلان الموضوعي بأنها حقيقتها، تقوم الفلسفة بالخداع : عندما تستوعبها وتعيد صياغتها وفقاً لشكلها الفلسفي، إنها لا تكاد تلتزم بواقع – الطبيعة المعينة – للأفكار والممارسات الاجتماعية كتلك. وإلا كيف يمكنها، إذن، أن تضبط،  وتفكر، الممارسات كلها وفقاً لحقيقة موحدة ؟ ” فلاسفة الفلسفة” الذين انطلقوا للسيادة على العالم بوسيلة الفكر الذي دائماً مورس بعنف المفهوم، الفكرة (Begriff)، القبضة ( de la mainmise). إنهم يؤكدون قوتهم من خلال جلب كل الممارسات الاجتماعية للبشر الذين يستمرون في الكدح والوجود في الظلام تحت سيطرة قانون الحقيقة.

          * هذه النظرة ليست غريبة عن بعض معاصرينا.

 

          إنها ليست غريبة، بأي حال، عن الذين يبحثون عن، وبطبيعة الحال يجدون، النموذج الأصلي للقوة في الفلسفة، نموذجاً لكل سلطة. يكتبون صيغة : المعرفة = القوة، يعلنون – بكونهم مثقفين فوضويين حداثيين – أن العنف، والطغيان، واستبداد الدولة، هو ذنب أفلاطون. بمثل الطريقة، التي قيل فيها سابقاً، ليس طويلاً، أن الثورة هي ذنب روسو.

           أفضل طريقة للرد عليهم هي الذهاب إلى أبعد مما هم عليه نحو طبيعة الفلسفة، من خلال الخرق الفاضح الذي أحدثته الممارسة. هنا، على الارجح، أكثر مكان يُشعر بتأثير ماركس بعمق.

          بالإضافة، يجب وضع في الاعتبار أن القوة هي ليست “ القوة من أجل القوة”، ولا حتى في السياسة، إنها لا شيء سوى ما يجعل المرء منها، أيّ ما ينتج كنتيجة لها. ولئن كان الفيلسوف هو بالفعل “ الشخص الذي يرى الكل”، فإنه يراه من أجل أن يقوم بترتيبه، ايّ فرض ترتيب معين على عناصر الكل.

          الاختلاف الأخير عن المثالية هو مفهوم ماركس حول “ الوحدة”. علينا ألا نفترض وجود نموذجاً واحداً للوحدة وحسب : وحدة الجوهر، أو الماهية، أو العقد، تلك المفاهيم المتشوشة الموجودة عند المادية الميكانيكية ومثالية الوعي. وحدة ماركس هي ليست وحدة الشمول البسيطة. الوحدة التي تتحدث عنها الماركسية هي ليست التطور البسيط لجوهر فريد من نوعه أو لجوهر بسيط أولي. إنها وحدة التعقيد نفسه، حيث نمط تنظيم أو تشكيل هذا التعقيد يتحول إلى وحدة. لهذا الكل المعقد وحدة بنية تشكلت في السيطرة.

          * لنختم هذه النقطة، أود أن أذكرك بعرضك الرائع للنزعتين الذي قدمته من خلال تقديم مقارنة ظريفة بالركاب في قطار ما.

 

          صحيح، أنا قلت إن الفيلسوف المثالي هو الشخص الذي، عندما يركب قطاراً ما، يعرف بداية المحطة التي ينطلق منها والمحطة التي سيصل إليها، إنه يعلم بداية ونهاية طريقه، بمثل طريقة معرفته لأصل وقدر الإنسان، والتاريخ، والعالم.

          أما الفيلسوف المادي، على العكس، هو الشخص الذي على الدوام يركب قطاراً ما، مثل بطل أفلام الغرب الامريكي. قطار يمر امامه : بإمكانه ان يسمح له بالمرور ولا شيء يحدث بينه وبين القطار، ولكنه كذلك بإمكانه أن يلحق بهذا القطار المتحرك. هذا الفيلسوف لا يعرف الأصل، ولا المبدأ الاولي، ولا محطة الوصول. إنه يركب قطاراً متحركاً ويجلس على أي كرسي متوفر أو يتجول بين العربات، متحدثاً مع المسافرين. هو يشاهد، دون أن يتنبأ، كل شيء يحدث بطريقة تصادفية غير متوقعة، يجمع عدداً لا نهائياً من المعلومات ويقوم بمشاهدات لانهائية، بقدر القطار نفسه، والركاب، والريف الذي يراه عبر النافذة. بإختصار، يسجل تسلسلات لحوادث تصادفية، على العكس من الفيلسوف المثالي، الذي يسجل تعاقبات مستخرجة من أصل ما الذي هو اساس كل معنى، أو من مبدأ أولي أو سبب مطلق.

           بكل تأكيد، يمكن لفيلسوفنا القيام بتجارب على تتابعات لتسلسلات صدفية التي تمكن من مشاهدتها، ويمكنه أن يستخرج ( مثل “هيوم”) قوانين التتابع، قوانين “ عاداتية” أو “ ثوابت”، التي هي أشكال نظرية مبنينة. هذه التجارب ستؤدي به أن يستخرج قوانين كونية لكل نوع من تجربة، اعتماداً على نوعية الكيانات التي خدمت بوصفها موضوعاته : هكذا سيرورة العلوم الطبيعية. هنا نقابل مرة اخرى مصطلح ووظيفة “ الكونية”.

          ولكن ماذا يحدث عندما لا تتعلق المسألة بموضوعات تكرر ذاتها بشكل غير محدود حيث يمكن إجراء تجارب عليها بشكل مكرر ومعاد من قبل المجتمع العلمي من طرف واحد إلى آخر من العالم ؟ ( انظري إلى ما قاله بوبر : “ التجربة العلمية تستحق هذه التسمية عندما يمكن تكرارها بشكل غير محدود تحت مثل ظروف التجريبية”). هنا المسافر- الفيلسوف المادي، المهتم بحالات “ مفردة”، لا يمكنه أن يحدد “ قوانينها”، حيث حالات مثل تلك هي مفردة/ ملموسة/ فعلية وبذلك غير مكررة، لأنها فريدة. ما يمكنه فعله هو، كما بين ليفي ستروس فيما يتعلق بالأساطير الكونية للمجتمعات البدائية، هو استخراج “ ثوابت عامة” ضمن التصادفات التي تم مشاهدتها، و“ الاختلافات” المتمكنة من محاسبة مفردية الحالات التي قيد الدراسة، وبذلك إنتاج معرفة من نوع “إكلينيكي” بالإضافة الى التأثيرات الايديولوجية، والسياسية، والاجتماعية. هنا أيضاً لا نجد كونية القوانين ( كما هي في الرياضيات، او الفيزياء، او المنطق)، ولكن عمومية الثوابت التي، من خلال اختلافاتها، تمكنا من فهم ما هو حقيقي في هذه أو تلك الحالة.

          * هنا أيضاً يظهر السؤال حول وظائف الفلسفة. أي من وظائفها تعتبرها الأكثر أهمية ؟

 

          سأذكر عدداً قليلاً فقط منها مثل : لعب دور الضمان أو الأساس للدفاع عن أطروحات معينة التي يحتاجها الفيلسوف من أجل أن يفكر في الاكتشافات العلمية أو أي نوع اخر من حدث ( event).

          وظيفة أخرى للفلسفة تكمن في رصد “ الخطوط الفاصلة” ما بين ما هو علمي وما هو ايديولوجي من أجل تحرير الممارسة العلمية من السيطرة الايديولوجية التي تعيق تقدمها.

          مرة اخرى، يمكن مقارنة الفلسفة بالمختبر حيث فيه يتم توحيد مجموع العناصر الايديولوجية.  لعب في السابق الدين هذا الدور التوحيدي، أو حتى أقدم من ذلك، لعبت أساطير المجتمعات البدائية هذا الدور. أقنع الدين ذاته مع الأفكار الكبرى ( الايديولوجية) مثل وجود الله أو خلق العالم، قام باستخدامها من أجل ضبط كل النشاطات البشرية والايديولوجيات الموازية لها، مع نظرة تأسيس الايديولوجيا الموحدة التي احتاجتها الطبقات المسيطرة لتأكيد سيطرتها. يوجد هناك، في كل الاحوال، محدودية : الفلسفة المسيطرة تذهب الى أبعد ما يمكنها الذهاب إليه في دورها كموحدة عناصر الايديولوجيا والايديولوجيات المتعددة، ولكن لا يمكنها “ تجاوز وقتها”، كما قال هيغل، أو “ تتجاوز ظروفها الطبقية”، كما قال ماركس.

          تقوم الفلسفة بوظيفة أخرى في الحقل السياسي. تقليدياً لعبت دور إما المهادن والرجعي أو إما الثوري فيما يخص النظام السياسي المسيطر، سواء أقامت بذلك في الخفاء أو في العلن.

          * هذه العلاقة بالسياسة كانت واضحة منذ أيام أفلاطونعلى الصعيدين النظري، في الجمهورية، والعملي، عندما قبل أن يكون مستشار طاغية سيراقوسة.

 

          هذا مثال جيد. تجدر الإشارة إلى أن هذه الفلسفات حتى لو أخذت موقفاً مهادناً بالنسبة إلى السلطات، فإنها نسبت لنفسها موقعاً مسيطراً، كائناً فوق كل شيء آخر، بذريعة أنها كانت وصية الحجج الحقة لدعم السلطة. التواطؤ هذا يمكنه أن يكون مباشراً، ولكن في التقليد الفلسفي أظهرت الفلسفة ذاتها كوصية الحقيقة – قبل أن يظهر ماركس الذي مكنا من أن نضع الفلسفة في مكانها الصحيح. على هذا النحو، تم الاعتقاد أن القوة الحقيقة، بطريقة ما، انتمت إليها : قوة المعرفة.

          * هل تعمل الفلسفة مباشرة في العالم الواقعي ؟

 

          قد تبدو الفلسفة أنها تقيم في عالم منفصل بعيد، ولكنها في مثل الوقت تعمل، بطريقة خاصة جداً : من بعيد. إنها تعمل من خلال الايديولوجيات، على ممارسات حقيقية ملموسة، على سبيل المثال على الممارسات الثقافية مثل العلوم، والسياسة، والفنون، وحتى التحليل النفسي. وإلى حد أنها تحول الايديولوجيات، التي تعكس الممارسات حتى عندما تقوم بتوجيهها في وجهة معينة، هذه الممارسات يمكن تحويلها بدورها، اعتماداً على الاختلافات أو الثورات في العلاقات الاجتماعية. الأطروحات الفلسفية بالفعل تنتج تأثيرات مختلفة على الممارسات الاجتماعية.

          هنا يجب علينا نؤكد حقيقة أن التناحرات ( ولا اقول “ تناقضات”، لأنني اشك بهذه المقولة، التي يتم استخدامها بكل طريقة) هي حتمية. إن وجدت فلسفات التي تعارض بعضها البعض بطريقة تناحرية، فهذا يعود إلى أن الممارسات الطبقية التناحرية موجودة – لحسن الحظ.

          * ستخدم الاسئلة المتبقية الاخيرة انتقالنا إلى مسألة علاقة الفلسفة بالايديولوجيا. هذه العلاقة التي قمت بها تناقض المفهوم التقليدي حول الفلسفة بوصفها عالماً مستقلاً يقف فوق الواقع. هل يمكنك أن تقول لنا شيئاً حول العلاقة ما بين الفلسفة والايديولوجيا ؟

 

          هذا هو موضوع عملت عليه لمدة طويلة، مع هدف تكوين نظرية حول الايديولوجيا. ولكن علينا أولاً تفسير ما نقصد بـ “ ايديولوجيا”.

          * يمكننا فعل ذلك من خلال اقتباس بعض من تعريفاتك التي نجدها في نصوصك :

 

          – الأيديولوجيا هي بالضرورة تشويه مضلل للواقع. إنها التمثيل الخيالي الذي يشيده الناس من ظروف عيشهم الحقيقية..

 

          – الأيديولوجيا هي نسق الافكار الموحدة التي يعمل عليه وعي ناس.

 

          – الأيديولوجيا تقوم بوظيفة اجتماعية : وهي ضمان انسجام أعضاء المجتمع.

 

          أود إضافة توضيحين. التوضيح الاول :الإنسان منظم جداً لدرجة أن لا نشاط انساني يخلو من الفكر واللغة. بناء على ذلك، لا ممارسة بشرية من دون نسق من الافكار ( أفضل القول نسق من المفاهيم مدرجة في الكلمات، هذا النسق إذن يؤسس أيديولوجية الممارسة المقابلة). التوضيح الثاني : أصر على حقيقة أن الايديولوجيا هي نسق من المفاهيم فقط بقدر ما يرجع إلى نسق من العلاقات الإجتماعية. هي ليست مسألة فرد قام بإبتكار فكرة ما من خياله، ولكنها مسألة نسق من المفاهيم يمكن عرضها اجتماعياً، عرض يمكنه أن يؤسس  جسماً من المفاهيم المؤسسة اجتماعياً. تبدأ الايديولوجيا فقط من هذه النقطة. ما ورادها يوجد حقل المتخيل أو التجربية الفردية المحضة. على المرء، إذن، أن يرجع دائماً إلى الواقع الاجتماعي الذي هو مفردي، وفريد، وواقعي.

          * ولكن أيمكنك أن تفسر كيف يمكن لوعي الفرد الملموس أن يكون تحت سيطرة مفهوم ايديولوجي أو نسق من المفاهيم الايديولوجية؟

 

          يمكنني أن ابدأ بالرد أن هذه هي آلية تعمل كلما “ أدرك “ وعي ما هذه المفاهيم الايديولوجية بأنها “ حقيقية”. ولكن كيف يأتي هذا الإدراك ؟ نعلم سلفاً أن ليس مجرد ظهور الحقيقي هو الذي يجعله يُفهم كحقيقي. هنا تقع المفارقة، عندما أؤمن بمفهوم ( أو نسق من المفاهيم)، فلا أكون أنا من تعرف عليه ، وبمواجهته يمكنني القول : “ هذا هو، وجدته، إنه حقيقي”. على العكس، عندما أؤمن بفكرة ما، الفكرة هي التي سيطرت علي وأرغمتني على التعرف على وجودها وحقيقتها خلال ظهورها. أنه “ كما لو” – هنا تم استبدال الادوار- الفكرة هي من قامت بإستدعائي ( interpellated)، شخصياً، وألزمت علي أن اتعرف على حقيقتها. هكذا تصبح الافكار ايديولوجيا تفرض نفسها بعنف مباغت، على “ الوعي الحر” للناس : من خلال إستدعاء ( interpellating) الافراد على نحو يجدون أنفسهم مجبرين “ بحرية” على التعرف على هذه الافكار كحقيقة – مجبرين على أن يؤسسوا أنفسهم كـ “ ذوات حرة” (free subjects) قادرين على التعرف على الحقيقة أينما وجدت، وفي قول ذلك، داخلياً او خارجياً، بمثل الشكل والمضمون للأفكار المؤسسة للإيديولوجيا المدروسة.

          هذه هي الآلية المبدئية للممارسة الايديولوجية، الألية المحددة التي تحول الافراد إلى ذوات. الأفراد هم دائماً ذوات جاهزة، مما يعني، ذوات خاضعة دوماً لأيديولوجية ما.

          * يتبع مما قلته للتو إن الانسان هو بالطبع كائن أيديولوجي.

 

          بكل تأكيد حيوان ايديولوجي. اعتقد أن للأيديولوجيا خصيصة متجاوزة للتاريخ، انها دائماً وجدت وستوجد دائماً. يمكن لـ “ مضمونها” ان يتغير، ولكن وظيفتها لن تتغير. لو رجعنا الى قديم الزمان، سنجد ان الانسان عاش  دائماً تحت سيطرة علاقات اجتماعية أيديولوجية.

          * نكتفي بهذا القدر إذن حول الايديولوجيا بشكل عام. في بدايات 1970، على أية حال، قمت بتفرقة ما هنا، مؤكداً أن للأيديولوجيات المعينة تاريخاً، حتى لو كانت محددة، في اللحظة الاخيرة، من قبل الصراع الطبقي.

 

          صحيح : ولكنني أصررت على أن ليس للأيديولوجيا بشكل عام تاريخاً. تهتم نظرية الايديولوجيا بما هو الأصعب في فهمه وشرحه في أي مجتمع : الوعي الذاتي للمجتمع، الفكرة التي تشكلها لنفسها وللعالم. هذه ليست منظومة أفكار حول العالم، ولكن تمثيل واضح لعالم الآفكار بوصفه منتجاً اجتماعياً.

          * يحضرني شيء قاله لك روبرت فوسيرت حول هذه المسألة. منذ الانقسام الذي حدث في الحركة الشيوعية العالمية ( 1961-1970)، والثورة الثقافية الصينية وأزمة مايو 1968، أصبح من الواضح للمسألة الايديولوجية خصوصية واستقلالية معينة. هذه الأحداث كشفت بوضوح التناقض او نسق التناقضات في الماركسية أو مختلف الماركسيات.

 

 

          بالتأكيد. أصبح من الصعب، منذ ذاك الوقت، التخيل أن هذه الايديولوجيات المعينة الأقليمية ليس لها أي تاريخ، بأي شكل كانت – ديني، أو اخلاقي، أو قانوني، أو سياسي.

          في النهاية، دعيني أشير إلى أنها ليست مسألة معاينة المجتمع بقدر ما ينتج أو ينظم، ولكن، بقدر ما يمثل نفسه وعالمه الواقعي أو المتخيل.

          * ماذا يمكنك أن تخبرنا عن شكل وجود الايديولوجيا، الشكل التي توجد فيه بشكل مادي ؟

 

          عندما نلاحظ الوجود الاجتماعي للأيديولوجيات، نرى أنها غير قابلة للإنفصال عن المؤسسات بالطريقة التي تتجلى فيها، بشفراتها، ولغاتها، وتقاليدها، وشعائرها وطقوسها.

          يمكننا أن نؤكد أن في المؤسسات مثل الكنيسة، والنظام المدرسي، والعائلة، والأحزاب السياسية، وجمعيات الأطباء أو المحامين، الخ، تواجه الايديولوجيات العملية ظروفها، وأشكالها المادية للوجود، ودعمها المادي، أو للدقة أشكالها المادية، حيث جسم الأفكار هذا هو غير منفصل عن هذا النظام للمؤسسات.

          * أيمكننا أن نقول أن الأجهزة الايديولوجية هي من خلق الطبقة المسيطرة ؟

 

          لا، إنها توجد قبل سيطرة هذه الطبقة. ما يحدث هو، تحت غطاء الوظائف الاجتماعية التي تخدم موضوعياً غاية الوحدة الاجتماعية، تستثمر وتوحد هذه الأجهزة الايديولوجية من قبل الايديولوجيا المسيطرة.

          أود أن أضيف كلمة حول الطبيعة الثنائية للأيديولوجيا. في الواقع، لا توجد ايديولوجيا اعتباطية محضة. إنها دائماً تشير إلى مشكلات واقعية، رغم أنها تحت غطاء شكل عدم الإدراك وبالضرورة الشديدة الوهم.

          * تحدثت عن الذات الايديولوجية. ماذا تقصد بذلك تحديداً ؟

 

          أنا أقصد الذات التي تعتبر نتاجاً للبنى التي سبقت ووجدت كينونتها – فرداً تعرض او تحدد بالعلاقات الاجتماعية الايديولوجية.

          أن إعادة الإنتاج الاجتماعي لا تتم حصراً على اسس إعادة إنتاج العمل، بل تفترض التدخل الاساسي للأيديولوجيا. لنأخذ مثالاً على ذلك : العامل الذي يذهب إلى مقر عمله قد اجتاز، سلفاً، طريقاً طويلاً عبر ظروف اجتماعية – فردية أو جماعية- حفزته أن يقدم، بإرادته أو لا، ويوفر خدماته بمقابل شراء قوة عمله : الوقت، والطاقة، والتركيز، الخ. ورغم أن الوسائل المادية لإعادة إنتاج قوة- العمل هي الأجور، إلا أنها كما هو معروف، لا تفي بالغرض. منذ أيام المدرسة وما بعد ذلك، تم “ تأسيس” هذا العامل  لكي يوافق على عادات اجتماعية معينة التي تضبط تصرفاته : الإنضباط، والجدارة، والطاعة، والمسؤولية، وحب العائلة، والاعتراف بكل أشكال السلطة.

          يفرض هذا التشكيل الخضوع للأيديولوجيا المسيطرة. بكلمات أخرى، إنها ذات متعرضة بنيوياً للأيديولوجية المسيطرة – أو غير المسيطرة-، مما يعني، التعرض لعادات وقيم المجتمع المهيمنة والثانوية.

          * بالطبع، تسبق بنية التذويت الذات. عندما يولد المرء، الظروف، والمؤسسات، والأجهزة، التي ستقوم بتذويته موجودة سلفاً.

          بالضبط. تظهر علاقة خاصة ما بين الايديولوجيا والفرد يتم تأسيسها من خلال آلية الاستدعاء (interpellation)، الأداء الذي فيه يتم إخضاع الفرد للأيديولوجيا، تعين له دوراً اجتماعياً وهو يتعرف عليه كدور له. ما هو اكثر، إنه لا يمكن أن يفشل في القبول بهذا الدور.

          فعالية قبوله لهذا الدور يضمنه النمط الذي يعمل في تأسيس الذات ككائن اجتماعي. إذا نجح في التماثل مع نفسه، تحتاج الذات إلى – من أجل أن تتأسس – أن تتميز مع “ آخر” الذي هو نظيرها : إنه – الشخص- الذات- يتعرف على نفسه كموجود من خلال وجود الآخر ومن خلال التماثل معه. سيبدو أن الايديولوجيا هنا تعمل كصورة “ الآخر”، الصورة التي تم إدخالها في مطابقة، اجتماعياً وعائلياً، مع ما يتوقعه المجتمع/العائلة من كل فرد يأتي إلى هذا العالم، منذ الصغر. يفترض الطفل هذه الصورة المقررة سلفاً كالطريقة الوحيدة التي يمكن أن يكون فيها ذاتاً اجتماعية. هذا ما يضفي فرديته عليه. يتطلب الفرد/الذات أن يتم التعرف عليه كفردية ووحدة، كـ “ شخص ما”. ولكن “ الواحد” (الذات) يجب أن يتم التعرف عليه من خلال “ الآخر”. يبدو أن للمرء حاجة سايكواجتماعية  ليتماثل مع “ الاخر” من أجل أن يتعرف على نفسه بأنه موجود.

          هكذا، في الممارسة، يحقق الأفراد الأدوار والمهمات التي تم تعيينها لهم من خلال الصورة الاجتماعية للتشابه التي قاموا بالتعرف عليها، وعلى أسس فيها سيرورة تأسيسهم كذوات اجتماعية قد بدأت. يتم ضمان إعادة الانتاج للعلاقات الاجتماعية للإنتاج بهذه الطريقة.

          * ما قيل إلى حد الآن يفرش الطريق لتقدم نظري مهم، لسببين لأن هذه المقاربة لمسألة تصرف الفرد يتغلغل في اللاشعور ( الذي تركه فرويد بحيادية من الوضوح الايديولوجي) مع السياسة، ولأن يأخذنا الى ابعد من التفسيرات النفسانيةالفردانية للتاريخ. ولكن ألا يعني هذا افتراض مسبق لنوع من حتمية تُعامل الفرد كنتيجة لبنى كائنة سلفاً وجدت كينونته ؟

 

          لهذا السبب إن واحدة من الإهتمامات المركزية لنظريتنا هي بطريقة ما اختزال الفجوة النظرية ما بين التحديد والمحدد.

          * استعمالاً التشكيلة الكاملة لأدواتك النظرية، هل يمكننا تفكير التحويل للذوات ليس على مستوى الوعي الذاتي وحسب، بل أيضاً الوعي بالواقع والحاجة لتحويله ؟

 

          نعم، وإلا لن يكون هناك أي تغيير، والناس لن يأخذوا المواقع التي تقارع وتعارض ما هو قائم، الذي هو المسيطر. لن تكون هناك “ ذوات ثورية”. ولكن الذات هي دائماً ذات ايديولوجية. يمكن لأيديولوجيتها أن تتغير، تنتقل من الايديولوجيا المسيطرة الى الايديولوجيا الثورية، ولكن ستظل هناك دائماً ايديولوجيا، لأن الايديولوجيا هي ظرف كينونة الافراد.

          * لماذا من الضروري أن تحصل الايديولوجيات، مجتمعة، على وحدتها وتوجهاتها من الفلسفة، تحت هيمنة مقولات مثل الحقيقة ؟

 

          لفهم هذا، من الضروري، من وجهة نظر ماركس، إحضار ما سأطلق عليه الشكل السياسي لوجود الايديولوجيات في مجموع الممارسات الاجتماعية. من الضروري إحضار الصراع الطبقي ومفهوم “ الايديولوجيا المهيمنة”.

          كما نعرف منذ ماكيافيلي، كي تصمد قوة الطبقة المهيمنة، على هذه الطبقة تحويل قوتها من قوة مبنية على العنف إلى قوة مبنية على الرضا. من خلال الرضا الحر لتوابعها، عليها أن تكسب الامتثال الذي لا يمكن أن يُكسب أو يُحافظ عليه من خلال العنف وحده.

          إنها تحافظ على العنف كإحتياط، كملاذ أخير. هذه هي إحدى المهمات تم تحقيقها من قبل النسق – النسق المتناقض- للأيديولوجيات.

          * هل الطبقة التي تستولي على القوة تشكل ايديولوجيتها الخاصة بشكل، وهل تنجح في فرضها كالايديولوجيا المهيمنة ؟

 

          كلا، تبين التجربة التاريخية أن هذا الامر يأخذ وقتاً – أحياناً وقتاً طويلاً- لتفعل ذلك. علينا فقط أن نذكر حالة البورجوازية، التي احتاجت خمس مئة سنة، منذ القرن الرابع عشر إلى التاسع عشر، لتحقق ذلك. ولكن علينا أن نضع في البال شيئاً آخر هنا. إنها ليست مسألة ابتكار ايديولوجيا مهيمنة وفقاً لمرسوم ما فقط لأن هناك حاجة لها، أو ببساطة تأسيس واحدة في مسيرة الصراع الطبقي. على الايديولوجيا المهيمنة أن تتأسس على أسس ما هو قائم، بدءاً من العناصر وأقاليم الايديولوجيا القائمة والإرث لماض متشعب ومتناقض، مروراً بالمفاجآت المتمثلة بالحوادث التي تندفع دوماً في العلم والسياسة.  في خضم الصراع الطبقي وتناقضاته، إنها مسألة تأسيس ايديولوجيا لتجاوز كل هذه التناقضات، أيديولوجية موحدة حول كل المصالح الأساسية للطبقة المسيطرة لغاية ضمان ما أطلق عليه غرامشي هيمنتها.

          * لنعد إلى موضوع العلاقة ما بين الفلسفة، والايديولوجيا، والسياسة.

 

          إذا فهمنا واقع الايديولوجيا المهيمنة بهذه الطريقة، يمكننا فهم الوظيفة المميزة للفلسفة. الفلسفة هي ليست عملية مجانية أو نشاط تأملي. كان لدى الفلاسفة الكبار مفاهيم مختلفة جداً حول مهماتهم، كانوا يعلمون أنهم يردون على الأسئلة السياسية العملية الكبرى : كيف يتجه المرء في الفكر والسياسة ؟ ما على المرء أن يفعل ؟ أي اتجاه عليه أن يأخذه ؟ لقد كانوا على علم أن هذه المسائل السياسية هي تاريخية. من الممكن أنهم آمنوا أن هذه المسائل هي أبدية، ولكنهم كانوا يعلمون أن هذه المسائل وضعت من قبل المصالح الضرورية للمجتمع الذي فكروا بالنيابة عنه.

          يبدو لي – وهذا ما مكنا ماركس من فهمه- أن من المستحيل فهم المهمة الصارمة للفلسفة إلا إذا، أولاً وقبل أي شيء، وضعناها في علاقة مع السؤال المركزي للهيمنة، لتأسيس الايديولوجيا المسيطرة.

          في النهاية، المهمة المعينة والمفوضة من قبل الصراع الطبقي هي مساعدة توحيد الايديولوجيات في ايديولوجيا مسيطرة، الوصية على الحقيقة.

          * وكيف تساعد الفلسفة القيام بهذه المهمة ؟

 

          بالتحديد من خلال عرض لتفكير الظروف النظرية لإمكانية حل التناقضات القائمة، وبذلك لتوحيد الممارسات الاجتماعية وايديولوجيتها. هذا يتضمن العمل المجرد، عمل الفكر المحض، التنظير المحض.

          في حمل مهمة التوحيد تشعب الممارسات وايديولوجياتها، – التي تعايشها كضرورة داخلية، رغم أن هذه المهمة عينت لها من قبل الخلافات الطبقية والحوادث التاريخية الكبرى –  ماذا تعمل الفلسفة ؟ إنها تنتج مجموعة كاملة من المقولات التي تخدم التفكير ووضع مختلف الممارسات الاجتماعية تحت الايديولوجيات. تنتج الفلسفة إشكالية عامة : التي هي طريقة عرض، وبذلك حل، أي مشكلة تظهر. في النهاية، تنتج الفلسفة مخططات وأشكال نظرية تخدم كوسيلة لتجاوز التناقض، وكروابط لربط العناصر المختلفة للايديولوجيا. بالإضافة، أنها تضمن حقيقة هذا النظام، بطرحه بشكل يقدم كل الضمانات لقول عقلاني.

          * يتبع كل ذلك أن الفلسفة لا تقف خارج العالم أو خارج الخلافات أو الحوادث التاريخية.

 

          الفلسفة، حتى في أكثر أشكلها تجريدية، كما هي موجودة في اعمال الفلاسفة الكبار، موجودة في مكان ما بجوار الايديولوجيات، كشكل من مختبر نظري حيث يتم فيه وضع المشكلة السياسية الأساسية للهيمنة الايديولوجية – التي هي تأسيس الايديولوجيا المسيطرة- اختبارياً للإختبار، في المجرد. لا يبقى العمل المنجز من قبل أكثر الفلاسفة تجريداً ميتاً : ما تستقبله الفلسفة من قبل الصراع الطبقي كمطلب، تعيده إليه بشكل انساق فكرية تعمل لاحقاً على الايديولوجيات من أجل توحيدها وتحويلها.

          مثلما يمكننا الملاحظة بشكل تجريبي ظروف الوجود المفروضة تاريخياً على الفلسفة، يمكننا كذلك بشكل تجريبي ملاحظة آثار الفلسفة على الايديولوجيات والممارسات الاجتماعية.

          * هل يمكنك ذكر مثال تاريخي ؟

 

          العقلانية الفرنسية في القرن السابع عشر وفلسفة التنوير مثلاً، حيث انتقلت نتائج العمل التابع لتفصيل فلسفي إلى الايديولوجيا والممارسات الاجتماعية. المرحلتان للفلسفة البورجوازية هما لحظتان تأسيسيتان للأيديولوجيا البورجوازية كأيديولوجية مسيطرة. تم تأسيسها كأيديولوجيا مسيطرة في خضم صراع ما، حيث  لعبت الفلسفة دورها كأسمنت نظري من اجل توحيد هذه الايديولوجيا.

          نحن نشهد اليوم مسألة اخرى، تحت تأثير الامبريالية الانجلو-ساكسونية. انزياح للسيطرة على قيد التنفيذ.لم تعد تفاهة ايديولوجيات حقوق الانسان، ولا حتى الايديولوجيا الاخلاقية- الثانوية البورجوازية، هي المسيطرة، بل – هذا الانتقال بدأ منذ 1850- ايديولوجيا وضعية-جديدة، منطقية، رياضية ذات اصل انجلو-ساكسوني، مربوطة بالإحيائية الاجتماعية، والبرغماتية، والسلوكية. من وجهة النظر هذه، الايديولوجيات المسيطرة حقاً في الممارسة الواقعية ( لا أعني المادية الديالكتيكية) هي شبيهة في الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية.

          في اللحظة الراهنة الايديولوجية، مهمتنا الأساسية هي تأسيس لب ايديولوجيا مادية حقة وفلسفة صحيحة [4]، ودقيقة، من أجل المساعدة في ظهور ايديولوجيا تقدمية.

 

 

للتواصل مع المترجم:

h.aqeel.saleh@gmail.com

 

 


[1] الترجمة الحرفية لـ (Aleatory Materialism) ستكون : المادية العشوائية، ويستخدم آلتوسير أحياناً مصطلح (Materialism of the encounter) التي ستكون ترجمتها الحرفية : مادية اللقاء. لكننا أخترنا كلمة : “التصادف” فضلاً عن ذلك. فرغم أن العناصر العائمة، أياً كانت، تلتقي ببعضها البعض، بشكل عشوائي، إلا أنها تلتقي بالصدفة وتدخل في “ مسكة” توحدها. لغوياً، وفلسفياً، ستكون كلمة “ تصادف” أنسب، حيث تتضمن كلمة “ تصادف” مفهومي “ اللقاء” و”الصدفة”، والتصادف (أيّ اللقاء والصدفة) يعني وقوع هذا الأمر بشكل مفاجئ وعشوائي (دعنا لا نخلط ما بين : وقوع الأمر بلا سبب ووقوعه بشكل تصادفي .. فلكل شيء يقع أسباب – وليس سبب – وقوعه، دون أن يعني هذا أن هذه الأسباب قُررت مسبقاً لتكون سبب الشيء (أ). فنحن فقط ندرك، عبر جينالوجية العناصر وأسبابها، أن تلك الأسباب التي أنتجت الشيء (أ) بعد أن صار حقيقة منجزة، أي بعد إنتاجه.) وهذا ما يقصده آلتوسير بالضبط. أيّ المادية التصادفية.  – ملاحظة المترجم

[2] الكلينامين ( Clinamen) هو مصطلح لاتيني قديم يعني : ميل أو انحراف، أستخدمه الفيلسوف لوكريتيوس ليفسر “ الميل” اللامتوقع الذي يسبب تصادماً للذرات الأبيقورية التي تسقط بشكل متوازٍ لبعضها البعض في الفراغ. أفضلُ لو نبقي على المصطلح “ الكلينامين” دون تغييره من أجل إستخدامه كمفهوم فلسفي مفردي بحد ذاته.

يعرف جيل دولوز مفهوم الكلينامين في كتابه ( منطق الحس) كالتالي : (( تصدم الذرات في سقوطها، ليس بسبب أوزانها غير المتجانسة، بل بسبب الكلينامين. الكلينامين هو سبب التصادم هذا، أنه يشبك الذرة بالأخرى. أنه مرتبط بشكل وثيق بالنظرية الأبيقورية حول الزمن ويشكل جزءاً لا يتجزآ من النسق ككل.)) ( ترجمتنا).

– ملاحظة المترجم

[3]الترجمة الحرفية لمصطلح ( conjuncture) هي : “الإقتران”، ولكن كلمة “إقتران” بحد ذاتها ليست كافية في ترجمة المعنى الحقيقي لهذا المفهوم. من المهم إعتبار مصطلح (conjuncture) على أنه مفهوم محوري في السياسة الإستراتيجية الماركسية اللينينية. في قاموس آلتوسير الذي ترجمه وأعده (بين برويستر) تم الموازاة ما بين مفهومي (conjucture- الإقتران) و(current moment- اللحظة الراهنة) التي تحدث عنها لينين. ما هي العلاقة التي تجمع ما بين “ الإقتران” و”اللحظة الراهنة” ؟ تتكثف تناقضات متعددة متفاوتة في تطورها و”تقترن” ببعضها البعض في ظرف ولحظة معينة في ظل علاقات معقدة تخضع للتحديد المضاعف، كل ذلك يطرح نفسه كحالة خاصة للصراع الطبقي كـ “ لحظة راهنة مفردية” في بنية إجتماعية ما، أيّ حالة توازن القوى. فهنا لم نعد نتحدث عن إقتران وحسب. لذا يصبح أكثر دقة إذا استخدمنا “اللحظة الراهنة” كمفهوم وليس كمصطلح وحسب.. كمفهوم يجمع ما بين : إقتران، ولحظة مفردية خاصة، وتكاثف التناقضات المتفاوتة في تطورها في نقطة عقدية معينة، وتوازن القوى. وكل “ لحظة راهنة” تولد معها حالات معينة تضع المشكلة، أو الحالة، السياسية، هذا إذا حصرنا كلامنا بالسياسة، والمهمة السياسية لحل هذه المشكلة ( فكر في لينين عندما وضع الإشتراكية كالمهمة السياسية الثورية في مقابل المشكلة، أو الحالة، السياسية التي فرضتها اللحظة الراهنة للإمبريالية. أو فكر في ماكيافيلي عندما وضع تأسيس الوحدة القومية البورجوازية كالمهمة السياسية الثورية لتشتت إيطاليا على شكل دويلات صغيرة متعرضة للغزو الأجنبي والحروب الداخلية). بذلك أفضل ترجمة مفهوم (conjuncture) بالـ “ اللحظة الراهنة”.

-ملاحظة المترجم

[4] يجب التفرقة ما بين “ صحيحة” و” حقيقية”. أساساً، تشير سمة “ الحقيقي” إلى العلاقة بالنظرية وتثير اهتمام المعرفة العلمية. أما بالنسبة إلى الحقيقة، إنها اسطورة ايديولوجية ودينية وظيفتها ضمان ما هو قائم. أما ما هو “ صحيح” أو “ دقيق” فهو يتعلق  بالممارسة. الأطروحات التي تؤسس الجسم الفلسفي لا تعترف بأي دليل أو برهنة علمية، ولكن تدعو لتبريرات عقلانية من نوع خاص. يمكن، إذن، أن نقول عنها “ دقيقة” أول “ صحيحة” ( ليس بمثل معنى العدالة – التي هي مقولة أخلاقية- ولكن بمعنى “ الضبط بشكل جيد”، مقولة عملية تشير إلى تلاؤم الوسيلة بالغاية). يمكننا بذلك القول أن ما هو “ صحيح” لأنه يرجع الى العمل، أيضاً يرجع إلى التعريف لأي استراتيجية أو خط “ صحيح” أو “ دقيق” في أي معسكر كان. أو بكلمات أخرى : “ العمل الصحيح” مقولة يتم تطبيقها على كل ممارسة، مهما كان لونها السياسي.

– ملاحظة آلتوسير