![كاي جاميسون](https://hekmah.org/wp-content/uploads/2016/11/14367-227x300.jpg)
معلقاً على نفسه و على شعراء عصره قال لورد بايرون : ” مجانينٌ نحن الشعراء ، بعضنا يتأثر بالفرح و البعض الآخر يتأثر بالترح ، لكننا كلنا بنا مس مما قل منه أو كثر”(2). يتحدث هذا الكتاب عن “ما قل وما كثر من المس” ، وتحديداً عن مرض ثنائية القطب حيث تضطرب البهجة و الأسى و يتأرجح المزاج فيه، و عن علاقة المرض بالمزاج الفني و الخيال. كما يتناول الكتاب أيضاً الفنانين و رحلاتٍ كان فيها مزاجهم هو سفينة العبور ، بالإضافة إلى الاعتقاد القديم الراسخ بوجود ما يسمى “بالجنون الخالص”.
طاقة عنيفة و نشوة و حضور ذهن ، إحساس موسيقي حالم و مزاج محموم لا يهدأ ، جميع ما سبق جوانبٌ ملهبة للفكر و الإحساس، مُرغِمةٌ لخوض الرحلة الفنية ، لكنها عادة ما تحمل بين جنباتها مزاجاً فائق الحُلكة و طاقة كالِحة و أحياناً نوبات “جنون”. حالات المزاج و الطاقة المتضاربة تلك –التي تتداخل مع بعضها عادة- قد تظهر للعالم بأنها اضطراب أو إفراط أو تقلب أو اكتئاب أو عدم استقرار أو عنف. بإيجاز تشكل تلك الجوانب النظرة الشائعة للمزاج الفني – كما سنرى لاحقاً- ، كما تمثل الأساس لمزاج ثنائي القطب . قد يصبح عباقرة الشعر و الفن بيئة خصبة للخيال و التجارب حين يتمثلون بحالات المزاج المتقطعة المتقلبة.
![ثنائي القطب](https://hekmah.org/wp-content/uploads/2016/11/1-300x181.png)
وما يزال الجدال المحموم قائماً حول الاعتقاد الذي يُلصق فيه المزاج المتقد و الذهن المشتت و الحس الفني “بالجنون الخالص”. قد تعتقد الغالبية بعدم واقعية الفكرة القائلة بأن مرضاً مدمراً و عادةً ما يكون فتاكاً – وهو ذهانيٌ غالباً- مثل مرض ثنائي القطب ربما يحمل معه مزاياً معينة (مثل القدرات الخيالية العالية و ردود الفعل العاطفية الشديدة و الطاقة المتزايدة). كما يعتبره آخرون مرضاً مقلقاً أو أنه ربطٌ غير مرجح يصور فكرة مستبسطة تعبر عن “العبقري المجنون”، يرافق هذه الفكرة اختزال أخرق شنيع و مخاوف من اعتباره أمراً تابعاً للاختلافات البشرية الحيوية في الأسلوب و الإدراك و الطباع بدلاً من اعتباره مرضاً. في الواقع أن الحكم على أي شخص يتصف بالإبداع أو الإنجاز أو الحيوية أو الحدة أو تقلب المزاج أو غرابة الأطوار بأنه مصاب بثنائي القطب يلغي فكرة الفردية في الفنون كما يهوِّن من شأن مرض خطير جداً وفتاك في العادة. هناك أسباب أخرى وراء تلك المخاوف. تمادي تكهنات التحليل النفسي إلى جانب سوء استغلال السيرة النفسية قد أصبحا محط سخرية وبجدارة و هذا بفضل التطورات الهائلة في علوم الوراثة و الأعصاب و الأدوية النفسية حيث أن معظم فكر الطب النفسي الحديث و الممارسات السريرية قد تحررا من تأثيرات التحليل النفسي القديمة نحو منظور إحيائي (بيولوجي) أكثر. يخاف البعض من المبالغة و الاستعجال في التحول الملحوظ من التحليل النفسي إلى علم الأدوية النفسية و من وجود خطر رسوخ مماثل في الأفكار و وجهات النظر لكليهما. إن تضاؤل اللغة العاطفية المعبرة في سبيل تقنين الكلمات والعبارات اللازمة للطب النفسي العلمي قد دعا الكثيرين إلى تجاهل معظم جوانب الطب النفسي الإحيائي (البيولوجي) الحديث. إن استخدام معايير تقليدية للتشخيص في الطب النفسي أضحى لعنة – بطبيعة الحال-، وعلى أيٍّ فقد أظهر علماء الطب النفسي الإحيائي (البيولوجي) اهتماماً ضئيلاً نسبياً بدراسة اضطرابات المزاج لدى الفنانين و الكتاب و الموسيقيين ، و بلا شك لن يعير الفنانون اهتماماً كبيراً بكونهم يُنظر إليهم بمنظور إحيائي (بيولوجي) أو تشخيصي. علماء الإبداع المعنيون بالدرجة الأولى بربط هذين المجالين قد بدؤوا مؤخراً بمعالجة المشكلة. لقد ركز الباحثون مسبقاً على العلاقة بين الإبداع و “انفصام الشخصية” (مرض ثنائي القطب الذي غالباً ما يُشخص بطريقة خاطئة) و على نشر أفكار علم النفس المرضي، إلا أنهم فيما بعد خلَّفوا وراءهم دور اضطرابات المزاج في الأعمال الإبداعية دون إجراء تجربة عليه.
مازاد الأمور تعقيداً هو الدور الذي تلعبه أنماط حياتية معينة في التغطية على السلوك المنحرف و الغريب، و لطالما أفسحت الفنون مجالاً رحباً حد الإفراط أمام السلوك و المزاج، بل إن “جورج بيكر” قد لاحظ استخدام شعراء المذهب الرومانسي لفكرة العبقري المجنون من أجل ” الحصول على اعتراف بمكانة خاصة و الظفر بحرية من القيود التقليدية التي تحيط بها”.3 :
![](https://hekmah.org/wp-content/uploads/2016/11/2-300x88.png)
أكسبت هالة “الهوس” العبقري سمةً غامضة لا يمكن تفسيرها، و أسهمت تلك السمة في التمييز بين الرجل العادي و البرجوازي(*) و الجاهل و الموهوب “فحسب” –و هو الأهم تقريباً-؛ فقد جعلته وريثاً للشعراء و العرافين الإغريق القدامى و مكنته من ادعاء بعض الصلاحيات و الامتيازات التي مُنحت له بصفته “ممسوس ” و “موحى إليه من السماء”4
كتب “روبرت بورتون” في القرن السابع عشر: “كل الشعراء مجانين” ، ومنذ ذلك شاع هذا الرأي لدى الكثير. بصرف النظر عن مدى دقته- يظهر هذا الرأي للبعض بأنه يميل إلى مساواة الأمراض النفسية بالتعبير الفني. من أمثلة الافتراضات الشائعة أن الجنون يُعتبر أمراً طبيعياً إلى حد ما في الأوساط الفنية، خير توضيح لذلك هو الحلقة التي وصفها “إيان هاملتون” في ترجمته لسيرة الشاعر “روبرت لويل“، حيث وصف ردود فعل زملاء الشاعر “لويل” حين تعتريه هالة الهوس :
أطلع “لويل” جميع معارفه في جامعة سينسيناتي على عزمه على الزواج مرة أخرى و أقنعهم على الوقوف إلى جانبه في تحقيق طموحه، و قد لاحظ بعض أعضاء هيئة التدريس خلال هذه الفترة أن “لويل” سريع الانفعال و ثرثار ، إلا أنه حديثه كان بارعاً و عادة ما يكون متملقاً لهم؛ لذا لم يكن هناك مبرر لهم في الاعتقاد بأن لويل “مريض”، بل تصرف وفق ما يحبون أن يتصرف أي شاعر مشهور. لقد تعهدوا بأن يحموا تلك الجذوة المتوهجة من التدخلات المثبطة القادمة من مدينة نيويورك حيث تقطن “هاردويك” –زوجة “لويل”- التي اقتنعت بأن “لويل” مريض بالفعل؛ فخلال فترة امتدت لأسبوعين أصبحت مكالماته الهاتفية لزوجته محيرة و مطولة و بذيئة، لذا جابهت حاجز العدائية الذي شيده بطيب نية مؤيدو “لويل” في الجامعة.
كانت وجهة نظرها على النقيض من وجهة نظرهم، حتى حينما كانوا يتناقشون في أمر الأعراض ذاتها التي تظهر عليه؛ فما هو “جنون” بالنسبة لها كان علامة لعبقرية “لويل” بالنسبة لهم.(5)
إن السبب وراء هذا الكتاب هو إقامة حجة أدبية و سِيَريَّة و علمية لإثبات ربط مقنع-لا أقول تداخل فعلي- بين مزاجين هما مزاج فني و مزاج ثنائي القطب – ، بالإضافة إلى علاقة كل منهما بإيقاعات العالم من حولهما أو دوراته أو سماته. سينصب تركيز الكتاب على فهم العلاقة بين حالات المزاج و الخيال و على طبيعة المزاج –بمختلف أحواله وسماته المتناقضة والمتعاكسة و تقلبها وشدتها (التي تسبب للبعض نوبات “جنون” أحياناً). كما سيركز الكتاب على أهمية المزاج في إيقاد شعلة الفكر و تغيير المفاهيم وخلق الفوضى و تنظيم هذه الفوضة عنوة و إتاحة التحول.
![41bm0an7vil-_sx309_bo1204203200_ ثنائي القطب والإبداع](https://hekmah.org/wp-content/uploads/2016/11/41bm0aN7vIL._SX309_BO1204203200_-187x300.jpg)