مجلة حكمة
الإنسانية في الليل

الإنسانية في الليل

الكاتبسارة فاين
المترجمريما العمري

عازف كمان يعزف في معسكر اعتقاله، لاجئ يحمل كتاب شعر. يجعلنا الفن نصمد عندما لا تكون فرص نجاتنا أكيدة.

قد يكون مفاجئاً المعرفة بوجود “آثاراً للفن” في معسكرات الاعتقال النازية. كما كتب فيكتور إي فرانكل في كتابه “رجل يبحث عن معنى  ١٩٤٦ ” كان هناك ما يصفه فرانكل بـ أمسيات فنية في المعسكر.

في المساء كان يجتمع هواة العزف السجناء العاملون الذين لا يتوجب عليهم ترك المخيم لمسيرات بعيدة، عند كوخ تم تطهيره مؤقتاً، وصنعوا من أخشابه مقاعد تشغر حتي بزوغ الفجر.

يأتون ليحصلوا على بعض الضحكات أو الدموع،  أو للنسيان على كل حال، كان هنالك أغانٍ وشِعر ونكات وهجاء ضمني، كلها كانت لأجل مساعدتنا على النسيان، ولقد ساعدتنا بالفعل.

كان التجمع مؤثراً إلى درجة أن البعض من المساجين يأتون بغض النظر عن مدى تعبهم وإعيائهم وتفويتهم لنصيبهم من الطعام عند موعد توزيعه.

والأكثر غرابة بأن فرانكل يؤكد على أهمية الفكاهة في المخيم، باعتبارها نوعاً من الأسلحة لحماية الذات.

خلال هذا العام كنت اقرأ سير ذاتية مختارة ليهود ناجين من الهولوكوست. ستة شخصيات من خلفيات اجتماعية وطبقية مختلفة، ومن عدة دول تمتد على أوروبا. ثلاثة منهم تمكنوا من النجاة من معسكرات الاعتقال. والموضوع الذي يظهر بشكل ضمني أو صريح من تلك النصوص هو أهمية الفن، والخيال، والحياة الثقافية، مما دفعني إلى التفكير بأسئلة أوسع عن مدى قيمة الفن للإنسانية.

وعلى غرار ما يكتب فرانكل، يكتب أيضاً “اوتو دوف كوالكا” عن المسرحيات الكوميدية في الوقت الذي قضاه في معسكر أوشفيتز، ويصف فرادة وتميز الكوميديا السوداء التي عايشها هناك.

 وُلد كوالكا في تشيكوسلوفاكيا عام ١٩٣٣، وقد زج به وهو طفل في معسكر تيريزينشتات ثم إلى معسكر أوشفيتز. ويذكر باستمرار في كتابه ” المناظر الطبيعية لمدن الموت ٢٠١٣ ” صديقه الحميم “هيربرت” الذي ترك أثراً عميقاً وعلى المدى البعيد في حياة كوالكا.

” زودني هيربرت بنسخة من رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي، وهو من جعلني اتعرف إلى بيتهوفن، وغوته، وشكسبير، والثقافة التي شكلت معالم الأدب الإنساني الأوروبي”

يتذكر كوالكا أيضاً صديقه الآخر المقرب في المعسكر، “فريدي هيرش”، الذي كرّس نفسه لتعليم الصبية والاهتمام بهم. فيعطيهم دروساً في التاريخ والعروض الفنية التي احتوت على المسرحيات القصصية، والغنائية، وأوبرا الأطفال. “كانت التجمعات التي يشرف عليها هيرش هي منبع الحياة الروحية والثقافية للمكان”

بالنسبة لكوالكا، فإن مما لاشك فيه بأن تلك التجارب كونت لديه الأسس الثابتة الثقافية والإنسانية وكل شيء في حياته، واتخذت حيزاً في نفسه منذ كان يبلغ العاشرة من عمره.

ويؤكد على وجود وحشية تربط الثقافة والفن كملاذ يلجأ إليه في “مدن الموت”. هي أماكن توقع هو ورفاقه أنهم لن يعودوا أحياء منها أبداً. فقد كانت تقام دروسهم ومسرحياتهم على بعد ٣٠٠ متر عن محرقة الجثث.

ويركز فرانكل بالمثل على أن السعي وراء أي نوع من الفن حينها كان يبدو متنافراً مع وضع المعسكر الذي يقصي كافة أشكال الحياة.

يذكر كوالكا كذلك تجربة فنية غريبة، عن قائد جوقة أطفال المعسكر ” إمري”، الذي اختار تعليم الأطفال أغنية تتحدث عن “الأخوة الإنسانية” والتي اكتشف كوالكا فيما بعد أن لحنها مقتبس من سيمفونية بيتهوفن التاسعة “Ode to Joy”ويسخر لحظتها أحد الصبية عن مدى “السخافة الرهيبة” و “العجب الفظيع” في تشغيل تلك الأغنية مقابل محارق الجثث في أوشفيتز. هل كان إمري يعبر عن تشبث شديد بهذه القيم السامية؟ كما يسأل كولكا نفسه، أم أن هذا الأداء “عمل من أعمال التهكم اللاذعة”؟

تظهر موسيقى بيتهوفن أيضاً بشكل مؤثر في كتاب “ليلة ايلي ويزل ١٩٥٨”. فعندما كان “ويزل” يبلغ الخامسة عشر من عمره نُفي مباشرة من رومانيا إلى أوشفيتز. ويزل هنا هو الأكثر معاناة من بين الشخصيات الستة التي نتناول سيرتها. فهو فقد أدنى إحساس بالأمل منذ اليوم الأول له في أوشفيتز. تم فصله عن أمه وأخواته، وشهد أمام عينيه المشاهد الفظيعة التي لا يمكن وصفها بأطفال رضع يُلقى بهم في النيران، لقد أماته الموت.. والتهمت وغزت روحه شرارة الموت المظلمة. ومع الجيش السوفييتي وتراجع النازيين، يصف ويزل كيف تم إجلاء جميع المعتقلين من معسكر بونا واقتيادهم بعيداً عن جبهة القتال، على إثر تقدم القوات السوفييتية وتراجع النازيين، أجبروا على الركض لساعات متتالية في الظلام، في الثلج والصقيع. وأما الذين لم يقووا على المواصلة يرمون بالرصاص، ويدهسون بالأقدام المتعثرة أو يتجمدون حتى الموت.

عند وصولهم إلى معسكر “قليوتيز” تم حشد السجناء في ثكنات حيث كان الناس يتساقطون فوق بعضهم البعض ويسحقون. في تلك الليلة، وفي الثكنة المظلمة، تسللت إلى سماع “ويزل” موسيقى “جولييك” وهو يعزف على كمانه جزءًا من مقطوعة بيتهوفن. يصف ويزل تلك اللحظة التي رآها كآخر فعل للمقاومة: “في حياتي كلها لم أسمع أجمل من ذلك الصوت”، وجدير بالذكر أن نعرف من مقدمة الكتاب أنه كان يحظر على الموسيقيين اليهود عزف الموسيقى الألمانية..

“كان يغطينا الظلام، وكل ما استطعت سماعه هو الكمان وكان الأمر كما لو أن روح جولييك أصبحت قوسه، لقد كان يعزف حياته، وكأن روحه تفلت من قبضة السلاسل، كان يعزف أمله الذي لن يتحقق، وماضيه المحترق، ومستقبله الذي انطفأ، لقد عزف ما لن يستطيع عزفه مجدداً.”

مات جولييت بتلك الليلة في النهاية.

نجد بيتهوفن أيضاً في السيرة الذاتية لـ “سارة كوفمان”: “شارع أوردنا وشارع لابات ١٩٩٤”. كانت كوفمان ووالدتها تعيشان في مخبأ لدى امرأة فرنسية، تدعوها كوفمان بـ “الجدة”، وتسترجع الذكريات واللحظات عندما كانت تقضي الوقت بأكمله مع الجدة في مجرد الاستماع لبعض الموسيقى الرائعة، ووهي من جعلتها تكتشف للمرة الأولى بيتهوفن والذي أغرمت بموسيقاه فور سماعها. كوفمان قاست مرارة التشتيت القسري لعائلتها- فوالدها الحاخام اليهودي اقتيد من منزله ١٩٤٢ ولم تره بعدها أبداً. – وفضلا على هذا فهي تبوح بشعور بالذنب والارتباك عندما شعرت بأن الجدة حلت محل والدتها عاطفياً خلال فترة صراع الحضانة ما بين والدتها والجدة بعد انتهاء الحرب. تسترجع كوفمان كذلك الكتب اللاتي كن برفقتها خلال تلك الفترة، من ضمنهن كتاب جوناثان سويفت “رحلات غوليفير ١٧٢٦” ومجموعة أعمال تشارلز ديكنز الأدبية، وكتاب جان بول سارتر “الطريق إلى الحرية ٤٩-١٩٤٥”. وتكتب بتأثر عميق عن مدام “فاغنارد”، المعلمة الأفضل في حياتها قبل فترة الاختباء:

“كنا متى ما سمعنا رنين الجرس، نذهب لبائع مكتبة “ليمير” برفقة مدام فاغنارد، لقد جعلتنا ننسى خوفنا بشأن الغارات الجوية فننشغل بالغناء واللعب أو بحكاية قصص مزعجة مثل Pied Piper of Hamelin حتى تشتت انتباهنا عن الخطر المحدق بنا. واعتادت أن تخصص دروساً مدفوعة للبيانو في منزلها، ولأنها تعلم بفقر والديّ، لم تجعلني أدفع ثمن ما درسته. كانت تأتي لمنازلنا وتجلب لنا الألعاب والقصص مثل سلسة Bicot إلى جانب كتب أخرى. أتذكر أنني حصلت منها على دمية صغيرة مغلفة بملابسها داخل صندوق مغلف بجلد ثعبان اصطناعي. وأصابني الاحباط عندما لم أستطع استرجاعها أبداً من منزلنا الذي داهمه واستولى عليه الجنود.

“عندما سرق هتلر الأرنب الوردي ١٩٧١”، هذا هو عنوان السيرة الذاتية لرواية “جوديث كير” والتي تعبر عن دمية عزيزة عليها في الطفولة، والتي فارقتها بطلة الرواية عند هروبها من برلين. في الرواية، يتوق الطفلان آن وماكس اللاجئين من ألمانيا النازية إلى الحياة الطبيعية المتمثلة في ارتياد المدرسة، وصنع الصداقات، واللعب مع الأطفال.

في كتاب “خلف النافذة السرية: مذكرات الطفولة المختبئة خلال الحرب العالمية الثانية ١٩٩٣” تروي” نيلي اس تول” محاولة هروب محكوم عليها بالفشل، عندما انضمت هي وأمها إلى مجموعة تحاول تجاوز حدود بولندا وهنغاريا، بعد الاختباء لفترة طويلة في حضيرة في الغابة، سُمح لـ تول واثنان من أصدقاءها أخيراً بالخروج من الحضيرة، لقد كانوا مفعمين بالحماس لكونهم أطفالاً قادرين على اللعب، والغناء، وتأمل الغيوم والطيور. أثناء وجودهم المحفوف بالمخاطر في الحي اليهودي Lwόw ، بعد أن تم القبض على شقيقها الأصغر، عمتها وابن عمها من قبل البوليس النازي السري والشرطة الأوكرانية ، تلاحظ تول أن والديها ، “مثل العديد من الأشخاص الراشدين  في الحي اليهودي” ، ما زالا يحاولان توفير التعليم والتجارب الثقافية لأطفالهم. عندما كانت هي ووالدتها مختبئين في غرفة صغيرة في شقة ، كان أحد الجيران في المبنى يجلب لها بعض الدهانات. وقدم لها الرسم نوعًا من الملاذ:

“منذ بدأت الرسم، شعرت وكأن العالم يفتح أبوابه لي، وكأن صندوق الألوان المائية صنع لي طريقاً مضيئاً يخترق جدران الشقة إلى الخارج، في مخيلتي تلك لم يكن هنالك من وجود للحرب، ولا للخطر، ولا الجنود، ولا الدموع.”

أحضر الجار كذلك لها بعض الكتب من المكتبة، تتذكر تول بأنها كانت تقرأ تولستوي، ودوستويفسكي، وغوته ودوماس، بالإضافة لأدباء آخرين، مثل هاريت ستو في روايته “خزنة العم توم ١٨٥٢”. أحبت أيضا تعلم الأساطير الاغريقية والتاريخ برفقة والدتها.

عبر كل تلك التجارب الفردية للمعاناة والبقاء، صادفنا على الأقل بعض الإشارات إلى الفن والتعلم والحياة الثقافية. يناقش معظمهم الموسيقى والأدب، والكتابة، والتعليم، والإبداع. فهؤلاء الذين كانوا أطفالاً يعيشون في الخفاء يركزون على مدى الأهمية التي مثلها لهم اللعب. ويجدر بي أن أضيف معلومة أن فرانكل أصبح أكاديمياً، وكير روائية ورسامة ، و كوفمان فيلسوفة ، وكوالكا مؤرخاً، وتول رسامة وأكاديمية، وأصبح ويزل كذلك صحفياً وكاتباً.

بمعنى ما إذاً، الأمر يبدو أقل إثارة للدهشة بأن تصبح تلك الاهتمامات اختصاصاً لهم، كوالكا يشير بأن دروسه التاريخية التي تلقاها في أوشفيتز كانت هي الأساس الذي كون اختصاصه:

وعموماً، فإن خلفية الفن في كل من التجارب الستة المتنوعة هو أمر ملحوظ وجدير بالاستطلاع.

توجد هذه الظاهرة أيضاً في سياقات أخرى من التجريد والاضطهاد. في مقال صدر مؤخراً عن حركات اللاجئين، ذكرت مسبقا زيارتي إلى معرض “نادني باسمي، قصص من كاليه وما خلفه ٢٠١٧” في متحف الهجرة بلندن. يركز المعرض على تجارب اللاجئين ومهاجرين آخرين في كاليه -معسكر الغابة-، وتأملت ذلك الانطباع الذي تنقله تلك اللوحات الفنية، من الابداع والحياة الثقافية والتي كانت من الأساسيات المهمة لدى اللاجئين في المعسكر. يكتب كذلك الكاتب والصحفي الأكاديمي “باهروز بوجاني” والذي كان معتقلاً لدى مركز الاحتجاز الاسترالي في جزيرة “مانوس”، عن مدى أهمية الفن للنجاة، والتعبير، وتعزيز قوة الاحتجاجات في معسكر اعتقال مانوس. ويقتبس كلمات مؤثرة للموسيقي المعتقل “مصطفى أزيميتابار” حول فنه: ” الموسيقى هي الوسيلة التي تحافظ على إحساسي بذاتي، هي التي لم تجعلني أنسى كوني إنساناً.”

في كتابه ” لا صديق لي سوى الجبال ٢٠١٨” يصف بوجاني بعضاً من تجاربه الخاصة كلاجئ هارب من إيران. يغادر طهران وهو لم يحمل معه من المتاع شيئا سوى الزي الذي يرتديه، وبعضاً من السجائر، وكتاب شعر. ويفسر توصله إلى استنتاج جيد عندما قضى فترته في مانوس: ” لا يستطيع النجاة والتغلب على كل المعاناة التي يسببها السجن، إلا أولئك الذين يمارسون الإبداع.”

ويتذكر “الغناء الهادئ للقصائد الشعبية” التي أعادته بذاكرته إلى كردستان، بالإضافة إلى عروض الرقص الحية في المخيم والتي مثلت، من بين أمور أخرى، “شكلاً من أشكال المقاومة”.

أحد أسباب بروز هذا الموضوع بالذات بالنسبة لي هنا والآن، بما أننا نواجه أزمة عالمية عميقة ومزعزعة للاستقرار، هو أنه يعرض لنا درساً حول الأهمية الأساسية للفنون، والعلوم الإنسانية ومساحة الإبداع في حياتنا. الدرس مستمد من أسوأ الحالات والتجارب، لكنه يمتلك صدى أوسع.

مع ذلك تم تجاهل هذه الرسالة في أماكن عدة، ونحن نشهد فشلاً ذريعاً في دعم هذه المواضيع المهمة، في الممارسات والصناعات، تعامل على أنها قابلة للتجاهل، وجعلها في أسفل قائمة الأولويات. وبالفعل نحن نرى محاولات نشطة في صد الطلبة والموارد المالية عن البحث والتعلم في الفنون والعلوم الإنسانية في الجامعات والمدارس. فعلى سبيل المثال، أعلنت الحكومة الأسترالية عن خططها في مضاعفة رسوم شهادات العلوم الإنسانية. وفي المملكة المتحدة تم اعتماد “نظام إعادة هيكلة التعليم العالي بسبب تداعيات لـ كوفيد ١٩”.معنى هذا أن هؤلاء المانحين الذين يحتاجون إلى دعم من نظام ” إعادة الهيكلة” سيطلب منهم إحداث تغييرات تمكنهم من توفير مساهمة قوية لمستقبل الأمة”.. من ذلك: 

يُنظر إلى البحث والتعليم الجامعي على أنهما وسائل تنتج “خريجين جاهزين للعمل”، و “عنصر حيوي” للاقتصاد.

فضلاً عن التعليم، تواجه الفنون والمجالات الثقافية مشاكلها الخاصة، مثل إلغاء الملتقيات الفنية، وقلة الإيرادات، وخسارة الوظائف وإغلاق المعارض الفنية. وعلى الرغم من أن حكومة المملكة المتحدة وعدت مؤخراً بوضع ميزانية مخصصة لدعم الفنون لكن هذا الإعلان جاء بعد فوات أوانه (فقد أغلقت الكثير من المعارض منذ أشهر، والعديد من ممارسيها عاطلون عن العمل). بشكل عام، يبدو جلياً بأن القائمين على المناهج الوطنية والتمويل و “إعادة هيكلة الأنظمة” لا يقدرون قيمة الفنون والعلوم الإنسانية والإبداع.

يعي المتمرسون والمختصون في الفنون والعلوم الإنسانية والمؤسسات بقلة تقدير الحكومة لهذه الأعمال. لقد اعتدنا كذلك على المحاولات المتنوعة لتبرير هذه المساعي. من ضمنها ما يعمل ضمن الشروط المهيمنة للقيمة الاقتصادية، إنهم يسعون مثلاً إلى رؤية الجامعات تتحول إلى مكينة مولدة للطاقة المتنامية حيث يكتسب فيها الطلاب من الفنون والعلوم الإنسانية المهارات القابلة للتحول إلى مهارات نفعية تجعلهم عمالاً أكفاء، وأن يكون للإنتاجات المبتكرة دور بارز في دعم الاقتصاد. وكثيرا ما نسمع بأن الفنون والعلوم الإنسانية تعزز من قوة الثقافة الديمقراطية، وبالأهمية ذاتها لسعادة السكان العقلية والجسدية. تركز بعض الدفاعات بشكل أساسي على القيمة غيرالفعالة لملاحقات الآداب والعلوم الإنسانية، ليس فقط كوسيلة لتحقيق غايات أخرى جديرة بالاهتمام، ولكن كغاية بحد ذاتها.

مع ذلك، توجد طريقة بسيطة، ولكنها قوية حول التفكير بشأن هذه الملاحقات، وهو الاستيعاب والاقرار بجدارة وأهمية الفنون، فكما رأينا، فهي لا غنى عنها بالنسبة للأشخاص الذين عايشوا معنى الحياة والجمال، والأمل ومواساة الذات في رحلة الهروب والبحث عن الحرية. إنها مهمة للناس كتعبير عن إنسانيتهم ورباطة جأشهم، إنها التعبير عن الحب والتحديات والناس عموماً يستوعبون فعلاً قيمة تلك المشاعر ويريدونها في حياتهم.

والأكثر من ذلك، إنهم يستشعرون قيمتها في الأزمات التي تلم بهم، ومن يضع لها تلك القيمة هم الأشخاص الذين بجعبتهم الكثير ليعلمونا ما هو معنى الحياة. والذين قدمت لهم تجاربهم معرفة خاصة حول الإنساني واللاإنساني، فعلى حد تعبير “بوجاني”، فإن اللاجئين في معتقل ماوس، قد غيروا فهمهم للحياة، ويجب أخذ هذا بالاعتبار من منظور المعرفة.

الكتّاب الذين أسلفنا الحديث عنهم هنا اضطهدوا تم نفيهم من أوطانهم، وفصلوا عن أحبائهم، وحرموا من ممتلكاتهم، وكرامتهم، وفي بعض الحالات، حرموا من الإحساس بأن بإمكانهم العيش حتى يوم آخر. وحتى في أشد الحالات بؤساً لهؤلاء الأشخاص، وفي أحلك الأماكن ظلمةً، كان ويزل يصف “جولييك”الذي يحتضر وهو يؤدي معزوفة بيتهوفن على الكمان ويصفه كأجمل صوت سمعه على الإطلاق. تلك اللمحات هي من أشخاص أحسوا بالاضطرار لتدوين تجاربهم، والذين بحسب تعبير الكلمات ذات الوقع الخاص للكاتب الفرنسي “روبرت أنتليم” الناجي من معسكرات الاعتقال: “لقد تمنينا التحدث، حتى يتم سماعنا أخيرا”.

وكما يقول ويزل: “فقط أولئك الأشخاص الذين جربوا أوشفيتز يعرفون ما كانت حقيقته، الآخرون لن يعرفوا أبداً.” نحن لن نعرف أبدآ، ولكن علينا الانصات.

لا ننسى ملاحظة “فرانكل” لبعض الأشخاص الذين تركوا حصصهم الضئيلة من الطعام وتناسوا الجهد والإعياء حتى لا تفوتهم العروض الفنية في معسكر الاعتقال.  بالنسبة لي، هذا تذكير بالغ الأهمية في تحدي الأساليب البحتة للاحتياجات الإنسانية الأساسية، والعناصر المكونة لحياة إنسانية كريمة. نحن بلا شك في حاجة للطعام والمأوى حتى نبقي على حياتنا، ولكن فرانكل لفت انتباهنا لحاجتنا أيضاً إلى أسباب تساعدنا على العيش. فنحن أدركنا أن الضحك، والحكايات، والمسرحيات، والرقص، والموسيقى هم أيضاً احتياجات أساسية وعناصر تؤسس لحياة إنسانية كريمة.

المصدر