مجلة حكمة
الجوينيّ مع المعتزلة

نقود الجوينيّ على إيطيقا المعتزِلة – جورج حوراني / ترجمة: محمد خالد مختار


هذه مقالةٌ نشرت في يوليو/تمّوز من سنة 1975م، بعنوان Juwayni’s Criticisms Of Mu’tazilite Ethics، وهي مبنيّة على ورقة قدّمها جورج حوراني في أحد مؤتمرات الدارسات الاستشراقيّة قبل نشر هذه المقالة بسنتين. حوراني مفكّر، ومؤرخ، لبنانيّ الأصل، تركّزت بعض أعماله حول العقلانيّات والأخلاقيّات الإسلامية. وهو أخو المفكّر الشهير ألبرت حوراني، لكنّه لم يُتناول في التداول العربيّ بنفس القدر الذي حظي به ألبرت وأطاريحه. (المترجم)


 

نقودُ الجوينيّ على إيتيقا1 المعتزِلة 2

I

نظر مؤرّخو الإسلام في العصر الوسيط وكذا المعاصرون منهم إلى إمام الحرمين أبي المعالي الجوينيّ (1028-1085م) باعتباره متكلمًّا انتقاليًا هامًّا بين الكلام الأشعريّ القديم، والكلام الحديث الذي دشّنه الغزالي ومن تبِعه وخَلَفه. أهمّ ما بلغنا من أعماله قد نشر، وتُرجمت بعضُ أعماله إلى لغاتٍ غربيّةٍ. استرعى الجوينيّ اهتمامًا حثيثًا في الدراسات الكلاميّة الحديثة، كتلك التي قام بها لويس غارديه، وجورج قنواتي، وميشيل ألار3، ومع ذلك، لم يفرد أحدٌ الجوينيَّ ببحثٍ خاصٍّ به بحجم كتاب، وهو يستحقّ ذلك. هذه المقالة مكرّسةٌ لبحث جانبٍ واحد من فكره الأخلاقيّ، الذي لم يزل مفلِتًا من التناول حتّى اللّحظة.

الجانب الذي ستتمّ مقاربته هنا، هو السؤال الجوهريّ المتعلّق بطبيعة القيمة، في تطبيقها على الفعل. في الإسلام الوسيط تمثّلت القضيّة الأساسية حول مصطلحات من قبيل “حسن”، “قبيح”، “واجب”، وهل إمكانيّة تعريف هذه الألفاظ مقصورة على علاقتها بأوامر الإله ونواهيه، أم أنّ لها معانٍ موضوعيّةً في ذاتها، وهذه المعاني بدورها، ستسري حتّى على أفعال الإله. نوقش هذا السؤال كثيرًا، أحيانًا باعتباره من العناوين المتأخّرة في كتب علم الكلام، بعد مسألة الوحدانيّة وبقيّة صفات الإله، وأحيانًا أخرى باعتباره تأسيسًا للفقه، إذ أنّ طبيعة هذه المفاهيم أساسيّةٌ في فهم الكيفيّة التي يتعيّن على الفقيه أن يصف أصول الشريعة الإسلامية وِفقها، وكيف ينبغي له أن يشيّد نظريته في المعرفة التشريعيّة.

 

II

هذا الجانب من الفلسفة الأخلاقيّة، مبحوث في كتابه (الإرشاد)، الفصل 12 “في التعديل والتجوير”، والفصل 13 “في الصلاح والأصلح” 4، ومن بين الصفحات الأربع والأربعين التي تناولت هذين الفصلين في النسخة العربيّة من كتاب الإرشاد، خصّص الجويني أقلّ من صفحتين فقط لتبيين نظريّته العامّة عن القيمة الأخلاقيّة. وهذا الاقتضاب متأتٍّ وممكن، لأنّ عناصر نظريّتِه يمكن التعبير عنها بشكل مبسّط. هي نظرية إرادويّة Voluntarist، تُرجِع قيمة الأفعال مباشرةً، وبالكليّة، إلى إرادة الإله كما عبّر عنها الوحي. يبيّن الجوينيّ خلاصة هذه النظريّة في جملةٍ واحدةٍ، حيث يعرّف الحسن، والقبيح، باعتبارهما يحيلان إلى أفعال بقوله:

“فالمعنيّ بالحَسن ما ورد الشّرع بالثّناء على فاعله، والمراد بالقبيح ما ورد الشّرع بذمّ فاعله”

وقد بدا جليًّا للمؤلّف أنّ أيّ مواصلة للبحث حول هذه المسألة، غير ملائمةٍ للسياق. إذ من شأن ذلك أن يفضي بنا مباشرةً إمّا إلى علم أصول الفقه، وهو دراسة الطرائق المشروعة لاستخراج الأحكام القياسية من الوحي، أو أنّه سيعود بنا إلى السؤالات الأساسيّة في الدفاع عن العقيدة Apologetics، أي إثبات صدق الوحي الذي استُخرجتْ منه هذه الأحكام. على أيّة حال، فيما يتعلق بالاحتمال الأول، فالإرشاد أطروحة كلاميّة وليست فقهيّة؛ وفي المقابل، الأسئلة الدفاعيّة، محلّ بحثها هو الفصل التالي، “في إثبات النبوّات”.

وعليه، تتمثّل المهمّة الرئيسيّة في هذه المرحلة في تفنيد النظريّات الأخلاقيّة المعارِضة التي قد تشكّل تحدّيًا جديًّا للإرادويّة. ولعلّنا انتظرنا من الجوينيّ هنا أن ينازِل الحنابلة، أشدّ خصوم الأشعريّة في آسيا الغربيّة خلال العقود الوسطى من القرن الحادي عشر، كما بيّن ذلك جورج مقدسي بتفصيل مستفيض في كتابه حول ابن عقيل.5 لكنّ الجوينيّ لم يتعرّض لهم إطلاقًا في هذا السياق، سبب ذلك فيما يبدو، أن نظريّتهم الأخلاقية تتفق مع نظريّته في مبادئها الأساسية، أنّ أصل القيمة الأخلاقيّة ومصدرها هو الإله، وسبيل البشر لدرْكِها هو الوحي. أما موضع اختلافه مع الحنابلة فقد كان في نقطتين هامّتين. أولهما، النظريّة الفقهيّة، ولم يتناولها الجوينيّ في الإرشاد. والأخرى في المنهجيّة الإسلاميّة المثلى للتعامل مع العقائد البدعيّة، بالسبل الكلاميّة، أم بالنّص فحسب. وقد سبق للجوينيّ أن حاجج في تأييد الطّريقة الكلاميّة في الفصل الأوّل، فلم يرَ حاجة لتكرار البحث مجدّدًا ضمن الفصول الأخلاقيّة.

تجاهلَ الجوينيّ الأخلاقيّات الفلسفيّة الشائعة حينها كذلك، نظريّة الأفلوطينيّة المحدَثة في الخير كفيض، أو كصُدور، كما تبنّاها ابن سينا، ومسكويه، وغيرهم من فلاسفة القرن العاشر والحادي عشر. وصَمتُه في هذا المقام لا يمكن أن يكون ناجمًا عن موافقة، ولا عن جهل بالحركات الفلسفيّة. بل يقْرُب أن يكون السبب في ذلك، كونه يرى الفلاسفة خارج المجتمع العلميّ لعلماء المسلمين، الذين يتوجّه لهم أصالةً بما يكتب، وكذا لعدم مشاركتهم إيّاه في الافتراضات والمنهجيّات الإسلاميّة.

ما تبقّى إذًا، هو مقارعة الموضوعيّة العقلانيّة عند المعتزلة، والتي يعارضها بشدّة، وهي كذلك ضمن نطاق علم الكلام الإسلاميّ، وإن كانت بدعيّة. وقد وقع نقده لهذا الموقف في ستِّ وثلاثين صحيفة، شكّلت مجمل قوله في الأخلاق. لِمَ كرّس الجوينيّ كل هذا الاهتمام للمعتزلة، الذين كانوا آنذاك، أي زمن تأليف الإرشاد في سبعينيّات القرن الحادي عشر، قد أفلَ نجمهم، ولم تعد مدرسةً مؤثّرة؟ لعلّ ذلك راجع إلى كون المدرسة الإعتزاليّة، بالرغم من قلة أتباعها، وانعدام الدعم السياسيّ لها في الدولة السلجوقيّة السنيّة، ما زالت لنظريّتها الأخلاقيّة مكانةً، ووجاهةً فكريةً، كونها النظريّة الوحيدة في علم الكلام التي يمكن أن تشكّل تحدّيًا للإرادوية. وعقليّة الجوينيّ الهادئة قد قادته للتعاطي مع المواقف الفكريّة والنظريّة لذاتها، بدلاً من مناكفةِ خصومه المعاصرين حول قضاياهم الراهنة المثيرة والمؤقّتة.6 علاوة على ذلك، فإن فجوةً زمنيّة بقدر جيلٍ، أو قرنٍ، أو أطول من ذلك، ليست بالأمر المستغرب في الجدل القروسطيّ. وعلى تلك المقاييس الزمنيّة، لم يكن يُنظر إلى القاضي عبد الجبّار (ت: 1025م)، بل وحتى إلى أبي هاشم (ت: 933م) ووالده الجبّائي (ت: 915/916م) باعتبارهم مفكّرين قدماء، بل مؤلفينَ لكتبٍ مؤثّرة، ما زالت تُقرأ وتُتداول بين المسلمين في القرن الحادي عشر، أو على أيّة حالٍ، مفكّرين، لهم أطاريحم المشهورة والمعروفة بمصادر غير مباشرة. أخيرًا، تفنيد العقلانيّة الأخلاقيّة المعتزليّة يستلزم هذه المساحة الضخمة، لأنّ النّظرية، التي نعرفها الآن بتمامها كما قررّها عبدالجبّار 7، معقّدة، فتطلّب ذلك ردًّا مطوّلاً تفصيليًّا.

 

III

شنّ الجوينيّ هجومه على أخلاقيّات المعتزلة ضمن نطاقين، الإبستيمولوجيّ [المعرفيّ]، والأنطولوجيّ [الوجوديّ]، وقد استهلّه بالإبستيمولوجيّ.

تزعم النظريّة المعتزليّة للمعرفة الأخلاقيّة (أ) أنّ أيّ شخص عاقل في مُكْنتِه أن يدرك صحّة بعض أحكام الحُسن والقُبح “على الضّرورة” أو <فورًا>، بالبداهة العقليّة. مثل: ” الكفر قبيح”. و (ب) أن بقيّة الأحكام الصحيحة راجعةٌ إلى هذه المعارف الضروريّة الأوليّة، ويمكن أن تُستشفّ منها “بالنّظر العقليّ” (ص. 259).

يعارِض الجوينيّ القضيّة الأولى، والتي مفادها أنّ هناك معارف أخلاقيّة ضروريّة تقرّ بصحتها كلّ الكائنات العقليّة، عن طريق الإشارة إلى وجود منازعة واختلاف حول كلّ هذه الأحكام الضروريّة المزعومة. وأنّ هناك أنماطًا متنوعة من المعارضة وعدم القبول لها.

أولها، أنّ المعتزلة أنفسهم، مختلفين فيما بينهم حول تلك القائمة التي تتضمّن المبادئ الأخلاقيّة الأوليّة والتّي تدرَك بالبداهة، وعليه، فلا يمكن أن تكون حقائقَ ضروريّة. ولمّا كانت المعرفة الأخلاقيّة جميعها مشتقّةً منها حسب زعمهم، فإن النّظرية كلها تنهار بذلك (ص. 260). هذه الحجة قدّمها الجوينيّ في اختصار وعجالة، دون أن يسوق عليها أيّة أمثلة، لكنّها كما يتّضح، أُريدَ لها أن تكون نقضًا حاسمًا.

ثانيًا، يخالف المعتزلة أكثريّةَ الناس خارج مجموعتهم الصغيرة.8 بل الواقع أنّ مخالفيهم من المسلمين قد بلغوا في كثرتهم ما يتجاوز حدّ التّواتر. وهو التأسيس لحقيقةٍ بناءً على عدد كبيرٍ من شهودها. لكنّ الكعبيّ المعتزليّ (ت: 932م) وأشياعه من المدرسة البغداديّة يقرّون بأنّ المتواتر يفيد علمًا استدلاليًّا وضروريًّا (ص. 260-261). فكان حريًّا بهم أن يقولوا أنّه إن تحقّقت أيّ معرفة أخلاقيّةٍ ضروريّة فهي لدى خصومهم. قدّم الجوينيّ هنا مفهومًا غير ملائم للسياق، وهو التواتر، إذ أنّ معياريّته في الأحكام التاريخيّة، لا الأخلاقيّة. لكنّه قد فعل ذلك لينشئ إلزامًا جدليًّا يعتمد على إقرار بعض خصومه.

بعد ذلك، يمضي الجوينيّ بالنقاش إلى قضيّة أعمق، وذلك بإثارة تفريقٍ تمّ تجاهله في النقود السابقة، والذي سيمكّن المعتزلة من الاعتراض عليها. هناك نوعان من المنازعة والاختلاف في الأخلاقيّات، النوع الأوليّ يتمثّل في الأحكام المعياريّة [الأخلاقيّة]9 نفسها، الاختلافات الاعتياديّة بين الناس، حول ما إذا كان فعل، أو جنسٌ من الأفعال، حسنًا أو قبيحًا، واجبًا أو محظورًا. هذا المستوى هو الذي يزعم المعتزلة ضرورته المعرفيّة (مثلاً: الكفر قبيح، الكذب خاطئ) وأنّ الاتّفاق حوله بالإجماع. لكنّ معارضات الجوينيّ لم تبدِ منازعة على هذا المستوى، وإنّما على مستوىً آخر: مستوى النّزاع النّظري حول مناهج المعرفة في الأحكام الأخلاقيّة، معارضات الدرجة الثانية Second Order، والتي تُبحث بين مفكّرينَ يناقشون أسس الأخلاق. ولم يزعم المعتزلة إمكان تحقّق العلم الضروريّ في هذا المستوى، بل يقرّون بوجود اختلافات في هذا المستوى. فالحاصلُ، أنّ هذه الاعتراضات التي قدّمها الجوينيّ غير واردة عليهم.

جواب الجوينيّ على هذا الاعتراض مثيرٌ للاهتمام، لأنه يبيّن حجم الهوّة السحيقة، التي كانت بين مدرستي الإرادويّين Voluntarists والموضوعيّين Objectivists في الإسلام الوسيط. يقول الجوينيّ بأنّ الواقع أن، لا وجود لتمايز بين مستويين في القضيّة الأخلاقيّة، لأنّنا إذا أطلقنا حكمًا أخلاقيًّا، فإنّا في الوقت عينه نطلق حكمًا عن منهج المعرفة. وفي الإقرار بوجوب فعل ما، مثلاً، إقرارٌ على أنّ هذه السّمة للفعل [أي: الوجوب] مستنبطة من مصدر آمِر، وهو الوحي. وليس هناك صفة حسنٍ أو قبحٍ تضاف لفعل من الأفعال فوق كونه فعلاً مأمورًا به أو منهيًّا عنه من قِبل الإله، فليس في إمكاننا إذًا، فصل المضمون الحقيقيّ، أي قيمة ما أُوجِب أو حُظر، عن وسيلة معرفته (ص. 261). محصّل هذا الجواب المحتملُ، هو أنّه لو كانت كلّ الأحكام الأخلاقيّة هي أحكامٌ نظريّة [معرفيّة]، فإذًا كلّ حكم نظريّ، هو حكم أخلاقيّ أيضًا. وبالتّالي فما سبق من حجج حول الاختلاف والمنازعة، تنطبق بنفس الدرجة على الأحكام النظريّة، وهكذا يُنقض زعم المعتزلة بوجود أحكامٍ أخلاقيّة بدهيّة، وبالتالي متّفق عليها كونيًّا.

لدينا مغالطتان منطقيّتان أوليّتان هنا، وهما (أ) استنتاج الجوينيّ بأنّ “كلّ الأحكام النظريّةِ، أخلاقيّةٌ” من القضيّة: “كلّ الأحكام الأخلاقيّةِ، نظريّةٌ” أمرٌ متعذّر. و(ب) حتّى وإن ثبت إقرار المعتزلة بمعياريّة الأحكام التي وقع الخلاف فيها، سيظلّ في حوزتنا أحكام أخرى محتمَلة ومرشّحة لتكون بدهيّة وكونيّة. زعْمُ المعتزلة كان حول كون بعضِ الأحكام الأخلاقيّة بدهيّةً وكونيّةً، لا كلّها. هكذا خرج الجوينيّ عن عمقه مُحاولاً تفنيد المعتزلة بناءً على أسسه ومسلّماته الإرادويّة في انعدام الفارق بين الحكم النظري [المعرفيّ] والحكم الأخلاقيّ.

علاوةً على ذلك، فإنّ هذا الافتراض في ذاته لا يستقيم، ولو على أصول الإرادويّة. إذ التفريق متأتٍّ، حتّى بالنسبة للإرادويّين، بين مضمون الحكم، أي الفعل المأمور به، وبين حقيقة كونه قد صار واجبًا من حيث كونه مأمور به؛ بل إنّ الأشعريّة منذ الأشعريّ فمن تلاه، حاججوا عن مواقفهم النظريّة بناءً على هكذا تفريقٍ. فإن أُقرّ ذلك، جاز للمعتزلة بعد كل هذا أن يجادلوا قائلين: “اعتقادنا أنّ السرقة خاطئةٌ في ذاتها، له نفس المضمون العمليّ والأخلاقيّ لاعتقادكم أن السرقة خاطئة، بناءً على الحظر الشرعيّ النصّي؛ وعليه، فكلّ البشر متّفقون حول ماهو خاطئ، في بعض الحالات على الأقلّ، وهذا يدلّ على معرفة عقليّة، بدهيّة”.

يتراجع الجوينيّ بعد ذلك إلى حجّةٍ أكثر تحرُّزًا، فيقبل ضمنيًّا بتفريق المعتزلة بين مستويي الاختلاف، ثمّ يؤكّد وقوع خلافات معياريّة حقيقيّة حول قضايا صرّحت المعتزلة بصحتّها عقلاً. يتبنّى الجوينيّ موقفًا جدليًّا قويًّا، عن طريق اختياره اختلافًا متحقّقًا بين الأخلاق العقلانيّة المزعومة، وبين الإسلام ذاتِه، كما ورد في نصوصه المقدّسة. وفقًا للأخلاقيّات العقلانيّة، فإنّ إلحاق الألم بأحد من غير استحقاقٍ، ولا تعويض عن الألم، قبيحٌ دومًا، وإن كان هذا الفعل من الإله (بالرّغم من أنّ صدور مثل ذا عن الإله مستحيل). لكنّه، وفقًا الإسلام، كما فهمته الأشعريّة، (جائز) أن يقع ذلك من الإله (بالرغم من أنّه لن يفعل)، لكنّه إن شاء أن يفعل ذلك، فإنّ فعله سيكون حسنًا، لمجرّد كونه صادرًا عنه (ص. 261-262).

معارضة موقف الأشعريّة بين العموم، كانت من الصعوبة بمكان، في تلك البيئة الإسلاميّة في القرن الحادي عشر، لأنّ القول بإمكان قبحِ فعل الإله يتطلّب شجاعة بالغة، وإقرار أحدهم بذلك إنّما كان بحذرٍ. مع ذلك، فإنّ الجوينيّ ما زال يتحاشى السؤال المركزيّ بين الفِرَق في هذه القضيّة: هل (قبيح) إذا حُملت على أفعال الإله، لها عين معنى (قبيح) إذا أُطلقت على أفعال البشر، أم أنّها غير ذات معنى؟ يرجع بنا الجواب إلى سؤال تعريفات المفاهيم، وهو الخطّ الأساسيّ الفاصل بين المعتزلة وخصومهم، لكنّ الجوينيّ لم يوف هذا السّؤال حقّه.

حتّى الآن، مازال السؤال متأطّرًا بحدود المجتمع المسلم. وقد منح ذلك الأشعريّةَ نوع امتيازٍ، إذ من الممكن دائمًا الزّعم بأنّ أحكامَ الناس الأخلاقيّة مأخوذةٌ من الوحي الإسلاميّ، سواءً أقرّ النّاس بذلك أم أنكروا. لكنّ في جعبة المعتزلة ورقةً أقوى لم تُستخدم بعدُ، وذلك بالبحث خارج دائرة الإسلام عن أحكامٍ أخلاقيّة صحيحة، صدرت ممّن لم يسبق لهم قراءة القرآن، أو لم يسمعوا بوجوده أصلاً. لهذا الغرض اضطرّ المعتزلة لتجاوز المسيحيّين واليهود، فهم في النّهاية ممن تلقّوا تعليمهم في ظلّ النصوص الإبراهيميّة. كان النّموذج القياسيّ الذي وقع عليه الاختيار هو براهمة الهند. فقد تحقّق أنّ لديهم علمٌ بالحسَن والقبيح، ويتوجّب أن يكون هذا العلم متحصّلاً بالتفكير العقليّ، لأنّهم ممّن لم تبلغهم كتبُ الله ولا رسلُه.

أمّا التكتيك الذي اتبعه الجوينيّ في معارضة هذه الحجّة فيتمثّل في أنّها مصادرةٌ واحتجاجٌ بمحلّ النّزاع. هل لدى البراهمة معرفة أخلاقيّة صحيحة؟ مجرّد اعتقادهم أنّ لديهم ذلك لا يثبت شيئًا. بل في الواقع، هم مفتقرون لذلك. فالبراهمة يعتقدون، على سبيل المثال، أنّ ذبح البهائم وتعريضها للشدائد أمرٌ قبيح. وهذا الاعتقاد (جهلٌ) أخلاقيّ وليس (علمًا) (ص. 262-263). (الإسلام يجيز ذبح الحيوانات للغذاء، أو الحماية، أو في الأُضحيات والقرابين الدينيّة).

مجدّدًا، يثبتُ الإمام وقوع منازعة أخلاقيّة، ومن ثمّ يبطِل البداهة. لكن، مرّةً أخرى، حجّته غير واردة، لأن المعتزلة لم يزعموا صحّة جميع أحكام البراهمة الأخلاقيّة، وليسوا مضطرّين لقبول استقباح البراهمةِ ذبحَ الحيوانات على أنّه بداهةٌ حقيقيّةٌ.

بعد ذلك، يسعى الجوينيّ لنقض مثالٍ آخر يعوّلُ عليه المعتزلة، ويعتبرونه حاسمًا: الحقيقة المفترَضة أنّ الرجل العاقل سيفضّل الصدق على الكذب دائمًا، طالما أنّ كليهما قد تساوا كوسائل لإبلاغه إلى غايتِه. يستدلّ المعتزلة بهذا لإثبات أنّ حسنَ الصدق يُدرك عقلاً (ص. 263).

أجاب الجوينيّ بأربع حُجج،10 لكنّ أولها غير مهمّ، وثانيها وثالثها قد تأسّسا على سوء فهمٍ، فلنتجاوزهم إلى الرابع. عندما زعم المعتزلة أنّ العاقل، يختار الصدق، دون اعتماد على وحي أو نصّ، كان الصدق مساويًا لغيره في حقّه، لكنّ ذلك لا يكون إلّا إن كان هذا العاقل معتقِدًا أنّ الكذب مستحقٌّ للذمّ عقلًا، أي عندما يكون مسلِّمًا بأصول المعتزلة الأخلاقيّة، أمّا من لم تكن حاله كذلك؛ فلن يجد كعاقل، فرقًا أو تفضيلًا بين الصدق أو الكذب، طالما أنّ كليهما يبلّغانه مرادَه بالكفاءة نفسها (ص. 264-265). ثمّ طرح الجوينيّ سؤالاً عميقة في الفلسفة الأخلاقيّة: هل هناك أيّ حالة يمكننا أن نصفها حال كونها أخلاقيّة، بأنها أكثر عقلانيّةً منها حال كونها لا أخلاقيّة، بمعزلٍ عن نجاعتها كوسائل في بلوغ الأغراض الشخصيّة؟ لكنّ الجوينيّ لم يمضِ بهذا النقاش إلى أبعد من ذلك.

حجّةٌ أخرى يقدّمها المعتزلة، وهي أنّ تعقّل مفاهيم (الحُسن) و(القُبح) وفهمها، ضرورةٌ سابقةٌ على فهمنا لها حين ورود الشّرع بها. يجيب الجوينيّ غير متكلّفٍ، ويبرز كونها حيدة ومصادرة. فما معنى هذه المفاهيم إذا وردت في نصوص الشرع؟ إن عنت ما يسمّيه الفقهاء (واجب) و(محرّم) فيتعيّن علينا فهمها قبل ورود الشرع، وذلك متأتٍّ بيُسر. وهو بمثابة فهمنا الكيفيّةَ التي تُثبِت بها المعجزةُ صدق نبيٍّ، قبل أن يأتي هذا النبيُّ بمعجزةٍ (ص. 265).

بعد حجّتين، أقصر طولاً، وأقلّ أهميّة، يختتم الجوينيّ النّقاش حول نظرية المعرفة بتبيان باعثه لمناقشة أغلاط المخالفين، قبل بسطه حقيقةَ الدّين بالتّفصيل، مخالفًا بذلك الترتيب الاعتياديّ القويم. فيقول بأنّه قد فعل ذلك ليتحاشى اعتراضاتهم على الموقف الإرادويّ، والمبنيّة على دعواهم الضرورةَ في معرفة الحُسن والقبح. يبدو من توضيح الجوينيّ هذا أنّه يعكس اعتقادًا بأنّ المعتزلة فترةَ حياته، ما زالت قوّة حيّة يجب تلافي اعتراضاتهم بروحٍ جادّة.

 

IV

بعد التعاطي مع إبستيمولوجيّة المعتزلة الأخلاقيّة، يتقدّم الجوينيّ ليُغِير على أنطولوجيّتهم الأخلاقيّة، نظريّة الصفات الأخلاقيّة الموضوعيّة، “حسن”، “قبيح” إلخ. وهذا هو الجزء الأكثر أهميّة من أخلاقيّاتهم، باعتبار أنّ تبنّيه ممكنٌ حتّى من أولئك الذين لا يقولون بضرورة بعض المعارف الأخلاقيّة وبداهتها (“من انحطّ عن دعوى الضرورة”، ص. 266) يجوز للموضوعيّ أن يقرّ بوجود صفاتٍ من هذا القبيل، كمكوّن أساسيّ ومقوّم لعالم الأشياء والموضوعات، دون القول بإمكان تحصيلنا لمعرفتها إلى حدّ الضرورة اليقينيّة. يدرك الجوينيّ وجود صيغتين مختلفتين للموضوعيّة الأخلاقيّة، وسيحاول تفنيد كليهما تباعًا.

(أ) الصيغة الأولى، والأبسط، وتتمثّل في النظر إلى فئات معيّنة من الأفعال، كالقتل مثلاً، على أنها قبيحة في ذاتها وجوهرها، وبالتالي، كلّ ما انتمى إلى هذه الفئة من الأفعال، فهو قبيحُ بغض النظر عن الظروف والسياقات. هذه مطلقيّة أخلاقيّة [نسبة للمطلق]، قال بها الكعبيّ، وفقًا لعبد الجبّار.11 وبلغة الجوينيّ التخصّصيّة، فإنّ قُبحيّة الفعل، طبقًا لهذه النظرة، راجعةٌ للفعل ذاته. أي، إلى (صفة نفسيّة) لفعل القتل. ومناقضته لذلك بسيطة: لا فرق بين القتل ظلمًا، وبين القتل المبرّر، في عقوبة الإعدام. إذ أنّ جوهر فعل القتل في الحالتين واحد، ويتمثّل في إنهاء حياةٍ بوسائل عنيفة. مع ذلك فإنّا نعتبر القتل قبيحًا، والقصاص حسنًا. وعليه، فلا يمكن أن تكون قيمة هذا الفعل راجعةٌ إلى الصّفات الجوهريّة لهذه الفئة من الأفعال. مثال آخر يقدّمه الجوينيّ: عينُ الفعل المستقبح من البالغ، ليس مستقبحًا من الطفل الذي لم يكلّف بعدٌ (ص. 266-267).

(ب) الصيغة الأخرى للموضوعيّة الأخلاقيّة تخلّت عن تلك المطلقيّة بعقباتها البيّنة وانسداداتها، وتبنّت شكلاً نسبويًّا للموضوعيّة، وقدّمت لنا بدورها تفسيرًا أكثر تعقيدًا للحسن والقبيح. وهي مذهب عبدالجبّار وأسلافه من المدرسة البصريّة. وسأبيّن هذه الصيغة كما قررها عبد الجبّار، حيث أنّ الجوينيّ لم يوضّحها بنحوٍ يلائم القارئ المعاصر حتّى يتسنّى له فهم نقضِه.

يردّ عبدالجبّار تلك المطلقيّة بقوله: “ولا يصحّ أن يكون ما له قبُح القبيح: جنسُه …”12 والمراد بقوله (جنس) فئة (من الأفعال)، معرّفةٌ بذاتيّاتها، دون إحالةٍ إلى القيمة، مثل: فئة القتل السالف ذكرها. أن تدخل بيت أحدهم هو أمر حسنٌ إن كان بإذنه، قبيح إن كان بغيره. لكنّ فعل الدخول من الجنس نفسه في كلتا الحالتين. أن تسجد لله في الصلاة، حسن؛ وللشيطان، قبيح، لكنّ السجود هو هو.13 تسليط الآلام قد يكون حسنًا، إن كان مستحَقًّا، أو جالبًا لنفعِ أكبر، لكنّه قبيح بغير ذلك.14

الحكم الأخلاقيّ الصحيح، وفقًا لعبد الجبّار، هو ما أُخِذ فيه بعين الاعتبار، فئةُ الفعل مجردّةٌ -قتل، إيلام، إلخ- في كلّ واقعة بالنّسبة إلى سياقها، ومحاكمتها بمختلف العلاقات بين الفاعل والمتلقّي، وكذلك بين الأسباب وآثارها: علاقات كالاستحقاق، وزيادة المنفعة، والإيفاء بالعهد، والشكر، وأضدادها. هذه هي حيثيّات (أو: وجوه، معاني، علل) القيمة، والتي بموازنة جميعها يكون الفعل حسنًا أو قبيحًا.

“اِعلم أنّ القبائح، وإن جمعها حدٌّ واحدٌ على ما قدمنا [ما استحقّ فاعله الذمّ]، فالوجوه التي لها تكون قبيحة تختلف، وذلك غير منكر، لأنّ الذي يجب الاتّفاق فيه حقائق الصفات. فأمّا ما له حصل الموصوف على الصفة يجوز أن يختلف. وقد بيّنا ذلك في كتاب الصفات. وإذا صحّ ذلك، فالكذب يقبح لأنّه كذبٌ، والظّلم لأنه ظلم.. إلخ” 15

وبذلك، تقرّرت لدينا مفاهيم ثلاثة: (1) أعمّ المفاهيم القيميّة، كحسَن وقبيح، يمكن تعريفها من حيثيّة استحقاق الثناء أو الذمّ، (2) الجنس الطبيعيّ للأفعال، كالقتل والإيلام (3) الحيثيّات المتصلة بأفعال معيّنةٍ في سياقاتها، ككونها غير مستحقّةٌ، أو جالبة للضرّ بلا منفعة، إلخ. لنُجلّي قيمة فعلٍ معيّن، يجب أن نعيّن الحيثيّات والجوانب المتصلة به، ومن ثمّ موازنتها معًا. طوّر عبدالجبّار نظريةَ الحيثيّاتِ هذه بطريقةٍ تذكّرنا بنظرية وليام روس W. D. Ross في الأخلاق Prima Facie Rightness.

يردّ الجوينيّ على رأيٍ مشابه لهذه الصيغة، دون أن يعيّن عبد الجبّار أو يذكر اسمه. لكنّ تعقيبه في غاية الاختصار، ويحتاج لتفسير، وفي ترجمة كلامه سأضيف إليه بعض التوضيحات التفسيريّة. 16

“وإمّا أن يقال [من قِبل المعتزلة]: إنّما يقبح لأمرٍ غير الشّرع وغير القبيح [في ذاتِه].17 فإن هم قالو ذلك، قيل لهم: إذا لم يقبُح لنفسه [كما في المطلقيّة الأخلاقيّة]، ولم يُحمل قبحُه على تعلّق النّهي به [كما في الإرادويّة]، فيستحيل أن تقبح صفة لأجل صفة أخرى [لأجل حيثيّاتها]، وليست تلك الصفة [الأولى] صفةً للقبيح، نفسيّة ولا معنويّة” (ص. 267)

هذه عبارة عسِرة، لكنّ مقصدها يتضّح إجمالاً من خلال المقارنة بين الجوينيّ وعبد الجبّار. يرفض الجوينيّ نظريّة الحيثيّات، بقوله إنّ صفةٌ ما (الأجناس الطبيعيّة، وليكن لفعل القتل مثلاً) لا يمكن أن تقبُح لصفة أخرى متصلّة بها (وجه، أو حيثيّة القيمة). لم يوضّح الجوينيّ علّة الاستحالة، لكنّه يجزم بها فحسب. هكذا كانت مناقشته مخيّبة للآمال حول هذه النّقطة المحوريّة في الجدل الأخلاقيّ كلّه. لأن ردّه على عقيدة خصومه المقرّرة بعناية ودقّة، جاء مقتضبًا، وغامضًا، ودوغمائيًّا.

 

V

في القسم الثاني، من الفصل 12، يتقدّم الجوينيّ في بحثه نحو مفهوم (الواجب)، عنوان القسم: “في أنّه لا واجب عقلًا على العبد أو الله” (ص. 268). فيما يتعلّق بالبشر، فإنّ الحجج العامّة التي قُدّمت حول التحسين والتقبيح تسري على هذه المسألة أيضًا. ثمّ تلا ذلك نقاشٌ حول جنس واحدٍ من الأفعال، وهو الوجوب العقليّ المفترَض في شكر المنعِم (ص. 268-271). فيما يتعلّق بالإله، يحاجج الجوينيّ في انتفاء معنى مقبول “للوجوب” في حقّ الإله. هناك ثلاثة معانٍ محتملة، وكلّها مردودة: (1) صدور أوامر في حقه، وهو محال، لأنّه هو الآمِر. (2) توقّع الضرر من ترك فعلٍ، وهو محال، فالإله منزّه عن التضرّر والانتفاع. (3) حُسن الفعلِ، وقبحُ تركِه، كصفةٍ لفعل الإله. وقد تقدّم ردّ هذا الاحتمال من قبل: لا وجود لصفاتٍ من هذا القبيل (ص. 271-272). هذا الجواب الثلاثيّ، موعِب وكافٍ، لكنّ الجوينيّ استطرد، فأورد نقدًا جدليًّا على الوجوب المفترَض على الإله، في إثابة عباده على طاعاتهم. فبيّن أنّه لا يجب، حتّى على مباني العقلانيّين (ص. 272). ولا حاجة للخوض في تفاصيل الحجّة التي قدمها.

القسم الثالث، ويتناول مشكلة العدل الإلهيّ، تبرير الآلام التي سلّطها الإلهُ على البشر والحيوانات. موقف الجوينيّ مقرّر ببساطة في مطلع القسم. فيقول بانعدام الحاجة لتبرير هذه الآلام بأنّها جزاءٌ مستحَقّ على ذنوب. أو أنّها معاناةٌ تلحقها تعويضاتُ. يكفي أن نعلم أنّها من إيجاد الإله، وكل ما أوجده الإله فهو حسنٌ، لمجرد كونه من إيجاده (ص. 273). ثمّ يتعرّض الجوينيّ بالعرض والنقد لأخطاء مختلف المذاهب، الثنويّة، والبكريّة، والروافض، والمعتزلة، والتي نالت النّصيب الأكبر من الرّد (ص. 282-286). هنا، يدرس الجوينيّ أربعة أسباب قدّمتها المذاهب لتبرير الآلام التي سلّطها الإله، وفي كلّ حالة يجيبهم بإبراز غلطهم في فرضهم تشابهاً بين الإله والبشر. مثالٌ سيوضّح هذه الحجّة باختصار. أحد الأسباب المقدَّمة لتبرير إيلامِ الإلهِ البشرَ، هي أنّه يفعل ذلك أحيانًا لمنع ضررٍ أكبر. وجواب ذلك يسير: ليس الإله بحاجةٍ لتوسّل الألم، ليحقّق غاية كهذه.

يناقش الفصل 13 نوعًا معيّنًا من الوجوب على الإله قالت به المعتزلة في حقّ الإله: فعل الأصلح للبشر. هنالك موقفان حيال ذلك. ارتأت المدرسة البغداديّة أنّه ينطبق على جميع مجالات حياة الإنسان [الدينيّة والدنيويّة] (ص. 287). يُبدِ الجوينيّ تقديرًا ضئيلاً لهذا الموقف، ويردّ عليه بالإشارة إلى أنّ رحمة الإله البشرَ، لو كانت واجبة عليه، فلا مجال لتفضّل الإله، ولا لشكر العبد (ص. 289-295). وهذا جواب جدليّ، لأنّه يسلّم بافتراض المخالف في جواز وجوب شيءٍ على الإله. الموقف المقابل، وهو موقف مدرسة البصرة: أنّ فعل الأصلح للإنسان، واجب على الإله إلى حدّ زيادة فرصة خلاص الإنسان ونجاته (لأنّ هذا هو المجال [الدينيّ] الذي ترتّبت عليه عقوبات في حالة الإخفاق) (ص. 288-289). حظيَ هذا الموقف بتقديرٍ أكبر من سابقه لدى الجوينيّ. يعود الجوينيّ للاعتراض العام في استحالة وجوب شيءٍ على الله، ثمّ يُتبع ذلك بأجوبةٍ جدليّة (ص. 295-300). يُختتم هذا الفصل بقسمٍ موجزٍ عن “اللطف”، ويتعلّق بمشكلتين طال النّزاع حولهما. معنى اللطف، وإمكان أن يلطف الإله بالكفّار فيؤمنوا (ص. 300-301).

 

VI

رأيٌ نقديّ عام، حول نقود الجوينيّ على أخلاقيّات المعتزلة، وهو أنّه يبدو أقوى قليلًا في حِجاجه ضدّ نظريّتهم البديهيّة في المعرفة الأخلاقيّة، وهو، على الأرجح، الجانب الأضعف من فلسفتهم الأخلاقيّة. أمّا فيما يتعلّق بالجانب الأنطولوجيّ من نظريّتهم، أي دعوى وجود صفات أخلاقيّة حقيقيّة، وتحليل ماهيّة هذه الصفات، فلم يقدّم الجوينيّ أجوبةً وافيةً حول نظريّتهم المتقنة والدقيقة، كما نراها الآن مبثوثة في أعمال عبد الجبّار. هناك مواضع أساء فيها فهم موقف المعتزلة، وأخرى صادر فيها وحاد عن موضع النّزاع.

يقترن الانحطاط في معايير الحجاج عادةً بغياب المعارضة أو ضعفها، بحيث لا يُتوقّع صدور أيّ ردّ منها. هذه الحالة يمكن أن تفسّر، جزئيًّا، أخطاء الجوينيّ. بحلول ستينيّات القرن الحادي عشر كانت تصريحات الخلفاء ضدّ المعتزلة قد ظهرت آثارها السلبيّة، فابن الوليد، رأس المدرسة البغدادية، كان مضطرًّا للاقتصار على التدريس في بيته.18 يُحتمل أنّ تاريخ كتاب الإرشاد يرجع إلى العقود التالية لتلك الفترة، كونُه تلخيصًا لكتاب أطول، وهو (الشّامل).

تظلّ نقود الجوينيّ على أخلاقيّات المعتزلة، بالرغم من بعض الخلل الذي اعتراها، موضع اهتمام بالغ ومعتبَر. لأنّ هذا المبحث لم يطرق بهذه الاستفاضة من قِبل أيّ متكلّمٍ أشعريّ قبل الجوينيّ 19 ولأهميّة الجوينيّ في تطوّر العقيدة الأشعريّة.

 

 

 


 (1) Ethics: أثبتُّ في العنوان لفظة إيتيقا لسببين، أولهما تفاديًا للّبس المتحصّل جرّاء ترادف المصطلحين Ethics وMorals على ألفاظ عربيّةٍ مشتقّة من جذر واحد، ولم يتمّ الاستقرار بعدُ على مقابل عربيّ دقيق لكلًّ منهما، مع أنّهما كثيرًا ما يستعملان على الترادف في الإنجليزيّة، لكنّ ذلك في العربية مشكِلٌ أحياناً. والسبب الثاني، والثانويّ، لئلّا يساء فهم لفظة (أخلاقيّات) -وهو المقابل العربيّ الأشهر لـ Ethics، والمستعمل في هذه الترجمة- في هذا السياق وتُحمل على كونها نقودًا لأفراد المعتزلة وسلوكيّاتهم، لا لتأسيسهم الفلسفيّ للأخلاق، خصوصًا عند من تكوّنت لديهم تصوّرات مسبقة معيّنة، وغير واقعيّة إلى حدٍّ بعيد، حول طبيعة الجدل الكلاميّ الوسيط بين الفِرق. (المترجم)

(2) هذه المقالة مبنيّة على ورقة قدّمت في المؤتمر الدوليّ التاسع والعشرين للمستشرقين، باريس، يوليو 1973م.

(3) ل. غارديه و ج. قنواتي، Introduction à la Théologie musulmane (باريس، دار Vrin، 1948م). م. آلار،Le problème des attributs divins dans la doctrine d’al-Aš’arī et de ses premiers grands disciples (بيروت، المطبعة الكاثوليكية، 1965)، ص. 372-404.
[ترجم كتاب غارديه وقنواتي إلى العربية تحت عنوان (فلسفة الفكر الدينيّ بين الإسلام والمسيحية) ونشر عن دار العلم للملايين، 1967م. (المترجم)]

(4) كتاب الارشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الاعتقاد، تحقيق م. ي. موسى، وع. ع. عبد الحميد (القاهرة، مكتبة الخانجي، 1950). وهذه هي الطبعة التي سنحيل إليها في هذه المقالة. الفصل 12 “القول في التعديل والتجوير” ص. 257-286؛ فصل 13 “القول في الصلاح والأصلح” ص. 287-301.
لم ينشر سوى الفصل الأوّل من مؤلف الجويني الكلاميّ الأكبر، كتاب الشامل في أصول الدين. تحقيق ع. س. النشّار، ف. بدير عون، س. م. مختار (الإسكندريّة، منشأة المعارف، 1969) واقتصر على سؤال مخصوص: هل معرفة الله واجبة بالنظر والاستدلال أم لا، (ص. 115) أمّا الردّ على إيجابات المعتزلة العقليّة المتعدّدة، فمحلّه فصل ” في التعديل والتجوير” والذي بدوره لم يصل إلينا. فاقتصرت هذه الدراسة على ما ورد في الإرشاد.

(5) جورج مقدسي، Ibn ‘Aqil, Et La Resurgence De L’Islam Traditionaliste Au Xi Siecle، (دمشق، المعهد الفرنسي بدمشق، 1963).
[وقد نشر مترجمًا إلى العربية مؤخرًا تحت عنوان (ابن عقيل؛ الدين والثقافة في الإسلام الكلاسيكي) عن مركز نماء للبحوث والدراسات. (المترجم)]

(6) انظر آلار، مشكلة الصفات، ص. 381-382.

(7) انظر جورج حوراني، Islamic Rationalism: The Ethics of ‘Abd al-Jabbâr (أكسفورد، جامعة أكسفورد للنشر، 1971).

(8) في نقاش حول معرفةٍ زعم الفلاسفة ضروريَّتها، تتعلّق بمسألة إرادة الإله وآثارها، يردّ عليهم الغزالي في (تهافت الفلاسفة) بأن الأشعريّة لا يشاركونهم تلك “المعرفة” الضروريّة.

(9) Normative: (معياري) و(أخلاقي) مستعملان على الترادف في هذه الترجمة. (المترجم)

(10) هذه هي الحجج الثلاث الأولى، مع تعقيبات نقديّة مختصرة: (1) أن المعتزلة يناقضون أنفسهم في الاستدلال بحجة على معرفة اتفقوا على ضروريّتها (ليس ذلك باحتجاج، بل هو اقتراح لحالة تدرك بالبداهة العقليّة) – (2) يناقضون أنفسهم، مجدّدًا، في التأكيد على قبح الكذب في نفسه، في مقابل الصدق، وفي الوقت نفسه يفترضون تساوي الصدق والكذب، وتكافؤ غاياتهما. (ليس هناك تناقض، المساواة في فعاليّتهما كوسائل للغايات عينها، والاختلاف في الصفات الأخلاقيّة) – (3) إن كان العاقل مضطرًّا لاختيار الصدق على الكذب، فلا معنى للجزاء والعقاب، لأنّه مُلجأُ ومجبر، وبالتالي غير مكلّف (التصرف بناء على التفكير العقليّ، ليس جبراً)

(11) انظر حوراني، Islamic Rationalism: The Ethics of ‘Abd al-Jabbâr، ص. 64.

(12) المغني في أبواب التوحيد والعدل، مجلّد 6، تحقيق أ. ف. الأهواني، إ. مدكور (القاهرة، المؤسّسة المصريّة العامّة للتأليف والترجمة، 1962)، ص. 59.

(13) شرح الأصول الخمسة، تحقيق ع. عثمان (القاهرة، مكتبة وهبة، 1965)، ص. 310.

(14) المغني، مجلّد 6/1، ص. 77؛ مجلّد 13، تحقيق أ. ع. عفيفي، إ. مدكور (القاهرة، المؤسّسة المصريّة العامّة للتأليف والترجمة، 1962)، ص. 279-292.

(15) المغني، مجلّد 6/1، ص.61. يبدو عبد الجبّار متردّدًا في موقفه من الكذب، فتارة، كما في هذه الفقرة يشير إليه كحيثيّة للأفعال، وتارة أخرى، كجنس من الأفعال. انظر حوراني، Islamic Rationalism: The Ethics of ‘Abd al-Jabbâr، ص. 79-81.

(16) يقصد في ترجمته عبارة الإرشاد إلى الإنجليزيّة. (المترجم)

(17) “غير القبيح” هذه العبارة يمكن أن تفهم في ضوء ما سبق [أي: من تلخيص موقف عبد الجبار] (1) تعريف القبح باستحقاق الذمّ، أي أنه شيء “غير القبيح” إذًا، وهو الحيثيّة التي زعم عبد الجبار وجوب وجودها كسبب يصحح إطلاق القبح على الأفعال.
في نظرة الجوينيّ الرافضة لهذا الموقف وللموقف المطلقيّ (أ)، لعلّنا توقعنا بدلاً من ذلك (2)، “غير القتل” والقتل يقدّم في المطلقيّة كعلة للقبح بذاته. على أيّة حال، (1) و (2) صحيحتان، لأنّ (3) الحيثيّة، تختلف عن كليهما.

(18) مقدسي، Ibn ‘Aqil، ص. 332-340.

(19) الباقلّانيّ، كتاب التمهيد، تحقيق ر. ي. مكارثي (بيروت، المكتبة الشرقيّة، 1957)، ص. 121-131، جزء من فصل في الردّ على البراهمة.