مجلة حكمة
برغسون هنري

برغسون – جيل دولوز / ترجمة: وليام العوطة


إنّ فيلسوفًا كبيرًا هو ذاك الّذي يبتكر أفاهيمَ جديدةً: أفاهيمٌ تتجاوز، في الآن عينه، ثنائيات الفكر العادي وتمنح للموضوعات حقيقةً جديدة، توزيعًا جديدًا، وتقطيعًا غير مألوف. يبقى اسم برغسون مرتبطًا بمقولات الديمومة،  الذاكرة، الدفعُ الحيويّ  و الحدس.  يُقيّم تأثيره وعبقريته بالشكل الّذي فُرِضَت فيه هذه الافاهيم، الّذي استُخدِمَت فيه واُدخِلَت وأمسَت في العالم الفلسفي.

منذ المعطيات المباشرة ، تشكّل الأفهوم الأصيل للديمومة؛ في المادة والذاكرة ، تشكّل أفهوم الذاكرة؛ وفي التطوّر الخلّاق، افهومُ الوثبة الحيويّة. على الصلة بين هذه المقولات المتجاورة أن تدّلنا الى نمو وتقدّم الفلسفة البرغسونية. ما هي اذًا هذه الصلة؟

          في المقام الأول، ومع ذلك، نقترحُ فقط أن ندرس الحدْس، ليس لأنه جوهريّ، بل لأنّه قادرٌ على أن يُطلِعنا على طبيعة المسائل البرغسونية. وليس عبثًا، بالكلام عن الحدس، أن يبيّن برغسون لنا ما الأهمية، في الحياة وفي الروح، التي يحوزها نشاطٌ يطرحُ ويكوِّنُ المسائل[3]: هناك مسائل خاطئة أكثر ممّا هناك حلول خاطئة، و قبل أن يكون لدينا حلول خاطئة لمسائل صحيحة. ولكن، وإن كان حدسٌ ما في قلب عقيدة فلسفةٍ ما، فإن واحدة من أصالات برغسون تكمن في عقيدته الخاص بأنه نظّم الحدس تمامًا كما لو كان ،فعليًا، منهجًا ، [أي] منهجًا من أجل استبعاد المسائل الخاطئة لكي يطرح مسائلَ بحقيقةٍ، منهجٌ يطرحُ هذه بمصطلحِ الديمومة Durée:  “يجب على المسائل المتعلقة بالذات وبالموضوع، في حالة التمايز بينهما وبإتحادهما، أن تُطرَح من حيث الزمان أكثر ممّا تُطرحَ من ناحيةِ الفضاء Espace “[4]. لا شك أن الديمومة هي التي تحكمُ على الحدْس كما ذكر برغسون أكثر من مرّة، ولكن يبقى أنّ الحدس هو فقط ما يستطيع، حين يعي نفسه كمنهجٍ، أن يبحث عن الديمومة في الأشياء، أن يستدعي الديمومة و أن يستلزمها، بالتحديد لأنّ ما ينطبق عليه ينطبق عليها. و متى لم يكن الحدس متعةً فحسب، ولا ضغينةً، وليس ببساطة مسلكًا إنفعاليًا، علينا قبل كل شيء أن نحدد سماته المنهجية فعليًا.

السمة الأول للحدس تكمن في ،أنّ به ومن خلاله، يحضرُ شيءٌ ما ، شيءٌ يحضر بشخصه بدل أن يكون مستخلصًا أو مستنتجًا من شيءٍ أخر. المسألة هنا هي ،مسبقًا، الوجهة العامة للفلسفة، لأن لا يكفي القول أنّ الفلسفة هي اصلُ العلوم وأنها بمثابة امٍّ لها، فالآن لأنّ العلوم قد نضجت وترسّخ تكوينها يلزم أنّ نتساءل حول [ضرورة] وجود الفلسفة حين لا يكفيَ العلم. ولكنّ الفلسفة لم تردّ ابدًا على سؤال كهذا إلاّ بطريقتين، لأنّ، وبلا ريب، لا يوجد الاّ طريقتين ممكنتين:

مرةً بالقول أنّ العلم يمدّ الفلسفة بمعرفة بالأشياء، اي أنّه في صلةٍ خاصةٍ بها، و[يمكن] للفلسفة أن تستبعد التنافس مع العلم، يمكن لها أن تترك الأشياء كما هي، وأن تقدّم نفسها فقط كطريقةٍ نقديةٍ، كتفكيرٍ بالمعرفة التي نمتلكها.

أو بالأحرى، وبالعكس، تدّعي الفلسفة تأسيس، أو بالأحرى ترميم، علاقةٍ أخرى مع الأشياء، وبالتالي معرفةً أخرى، معرفة وعلاقة يخفيها العلم عنّا، نفتقر إليها لأنّه لا يسمح لنا سوى بالاستدلال وبالاستنتاج من دون أن يقدّم لنا ابدًا الأشياء في ذاتها.

في هذه الوجهة الثانية، انخرط برغسون متبرّئًا من الفلسفات النقدية، حيث يبيّنُ لنا أنّ في العلم، كما في النشاط التقني، في الذكاء، في اللغة اليومية، وفي الحياة الاجتماعية والحاجات العملية، وأخيرًا وخصوصًا في الفضاء، [هناك] الكثير من الاشكال والعلاقات التي تفصلنا عن الأشياء وعن داخلانيتها intériorité.

ولكن للحدس سمةٌ ثانية: متى ما فُهِم، يَمثلُ كعودة retour. إنّ العلاقة الفلسفية، التي تسمح لنا فعلاً أن نكون في الأشياء بدل أن تتركنا خارجها، تُرمَّمُ على يد الفلسفة أكثر ممّا تؤسَّس، تُستَرَدُ أكثر ممّا تُبتكَر. نحن منفصلون عن الأشياء، والمعطى المباشر اذًا لا يُعطى مباشرةً، ولكن ليس بإمكاننا ان نكون منفصلين بسبب طارىء بسيط، بسبب توسطٍّ يأتي منّا، لن يخص سوانا: يلزمُ، في الأشياء ذاتها أن تتأسس الحركة التي تغيّر من طبيعة [هذه الاشياء]، أن تبدأ الأشياء بفقدانِ نفسها كي ننتهي َنحنُ بأن نفقدها، ويلزمُ على نسيانٍ ما أن يتأسسَ في الكينونة. إنّ المادة هي بالضبطِ ، في الكينونة، ما يهيّأُ ويرافق الفضاء، الذكاء والعلمَ.

من هنا يقوم برغسون بما هو مختلف كلّيًا عن علم النفس، طالما أنّ المادة هي مبدأ اونطولوجيّ للذكاء أكثر مما هو الذكاءُ البسيطُ ليس بمبدإٍ نفسانيّ للمادة ذاتها وللفضاء[5]. من هنا ايضًا، لا يرفض برغسون ايَّ حقٍّ في المعرفة العلمية، قائلاً لنا انها لا تفصلنا ببساطة عن الأشياء وعن طبيعتها الحقّة، ولكنها تُمسِكُ على الأقل بأحد نصفيْ الكينونة، بإحدى ضفتيّ المطلق، بطرفٍ من طرفيْ حركة الطبيعة، ذاك حيث تمتد الطبيعة وتكون خارج الذات soi[6]. وسوف يذهب برغسون ابعد من ذلك طالما انّ العلمَ، في بعض الظروف، يمكنه أن يتحدّ مع الفلسفةِ، اي أن يتوصّلُ معها الى تفهّمٍ كلّي[7]. وإن كان الأمر على هذا النحو، بإستطاعتنا القول ، فوق ذلك، إنّنا لا نجد، عند برغسون، ادنى تمييزٍ بين النمطين، الحسّي من جهة والعقلي من جهةٍ أخرى، ولكن فقط حركتين أو بالأخرى إتجاهين للحركة الواحدة عينها: إتجاهٌ تميلُ الحركة الى التجمّد في نتاجه، في حصيلته التي تعترضها، وآخرٌ يعود أدراجه الى الوراء، و يجدُ في نتاجه الحركةَ التي تتحصّلُ عنه. كما أنّ الإتجاهين هما ، كليهما بطريقته، طبيعيان: هذا يفعلُ وفق الطبيعة ولكنه يخاطر بأن يخسرها عند كل استراحةٍ repos، حين كلّ تنفسٍّ؛ وذاك يفعلُ ضدّ الطبيعةِ، ولكنه يجدها، ويستردّها في التوتّرِ. الأول لا يمكن له أن يوجد إلاّ أسفلَ الثاني، لهذا فهو مُستعادٌ دومًا. نستعيدُ المباشرَ لأن علينا أن نعود كي نجده. في الفلسفةِ، المرةُ الأولى هي قبلئذٍ déjà الثانية، وهذا ما نعنيه بمقولة الأساس fondement. من دون شكٍّ، هو الناتج الّذي ، بطريقة ٍ ما، يكون،  والحركة التي لا تكون، التي ليست كذلك بعد.

ولكن لا يتوجّب على سؤال الكينونة أن يُطرَح بتلك المصطلحات. لا تكون الحركة عندَ كلّ لحظةٍ، ولكن تحديدًا لأنّها لا تتركّبُ في اللحظات، لأنّ اللحظات هي فقطّ توقّفاتها الحقيقية أو الافتراضية، نتاجها أو شبحُ نتاجها. لا تتركّب الكينونة في  الحُضَّر présents. بطريقةٍ أخرى، اذاً، هو النتاج الّذي لا يكون، والحركة التي كانت قبلئذٍ. في خطوة واحدة من خطوات آخيل، لا تتقطّع اللحظاتُ والنقاط. يُظهر لنا برغسون هذا الأمر في كتابه الأكثر صعوبة: الحاضر ليس كينونة وليس الماضي ما لم يعد موجودًا ، ولكن الحاضر هو ما ينفع ، و الكينونة هو الماضيّ، الكينونة قد كان l’être  [8]était. سوف نرى، من دون أن نقصيَ اللامُتنبّأ به imprévisible  و العرَضي contingent ، أنّ اطروحةً كتلك سوف تؤسسّهما.

في التمييز بين عالمين، استبدل برغسون اذًا التمييز بين حركتين، بين اتجاهين لحركة واحدة بعينها، بين الروح والمادة، بين زمانين للديمومة نفسها، الماضي والحاضر الّلذين استطاع أن يتصوّرهما كمتعايشين بالضبط لأنّهما كانا في الديمومة نفسها، الواحدُ تحتَ الآخر وليس الواحد بعد الآخر. يتعلّق الأمر في الوقت عينه بأن يجعلنا نفهم التمييز الضروري كإختلافٍ في الزمان، ولكن ايضًا أن نفهم الزمانين المختلفين، الحاضر والماضي، كمتعاصريْن  contemporains، ويكوّنان العالم عينه. و سوف نرى على ايّ نحو.

لماذا نسمّي ما نجده بالمباشَر؟ ما هو المُباشَر؟ إن كان العلم معرفةً حقيقية بالأشياء، معرفةً بالواقع، فإن ما يفقده أو ببساطة ما يخاطر بفقدانه، ليس هو بالتحديد الشيء. ما يُخاطر العلم بفقدانه ، على الأقل بأن تخترقه الفلسفة، هو اختلاف الشيء أكثر ممّا هو الشيء بحد ذاته، [اي] ما يصنع كينونته son être ، ما يجعله على هذا النحو وليس بالاحرى على نحوٍ آخر. يرفض برغسون ، بكل قوّة، ما يبدو له اسئلةً خاطئة: لماذا هناك شيءٌ بدلًا من لا شيء؟ لماذا النظام بدلًا من اللانظام؟[9] وإن كانت اسئلةٌ كهذه خاطئة، و مطروحةٌ بشكلٍ سيّء، فذلك لسببين:

أولاً، لأنّها تجعل من الكينونة عموميةً، شيئًا ثابتًا، محايدًا لم يعد بإمكانه، في المجموع اللامتحرّك حيث يؤخذ، إلاّ ان يتميّز عن العدم، عن اللا-كينونة. ومن ثمّ، حتى لو حاولنا ان نمنحَ حركةً للكينونة الثابتة المذكورة آنفًا، فإن هذه الحركة سوف تكون فقط حركة التضاد، [بين] النظام واللانظام، بين الكينونة والعدم، بين الواحد والمتعدد. ولكن، وبالفعل، بقدر ما  لا تتكوّن الحركةُ من نقاطِ الفضاء أو من اللحظات، [كذلك] لا يستطيع الكائن ان يتكوّن من وجهتي نظر متناقضتين: [اذ] سوف تكون الشبكةُ واهنةً[10].

ان الكينونة افهومٌ سيّء طالما يُستعمَل كنقيضِ كلّ ما هو عدم، أو الشيء نفسه [حين يناقض] كل ما ليس عليه: في الحالتين، لا تكون الكينونة، الّتي تهجرُ الأشياء وتفرّ منها، سوى تجريدًا. لا يكون السؤال البرغسوني ما يلي : لماذا هناك شيءٌ عوضًا عن لا شيء؟ ولكن : لماذا هذا الشيء وليس بالأحرى الشيء الآخر؟ لماذا هذا التوتّر في الديمومة؟ لماذا هذه السرعةُ وليس تلك؟ لماذا هذا التناسب  proportion؟[11] ولماذا سوف يستحضرُ اداركٌ ما هذه الذاكرة [أو تلك]، أو  بالأحرى لماذا يلتقط بعض هذه الترددات و ليس تلك؟[12] أي أن نقول ان الكينونة هي الاختلاف، وليس الثابت أو المحايد، كما أنّه ليس التناقض الّذي ليس سوى حركةً خاطئة. الكينونة هي ذاتها اختلاف الشيء، ما يدعوه برغسون ،غالبًا، الفويرق nuance. “ان تجريبيةً تستحق هذه التسمية… تجهّزُ للموضوعٍ افهومًا ملائمًا لهذا الموضوع فقط، افهومًا بالكاد نستطيع ان نقول عنه أنّه ما زال افهومًا، لأنّه لا ينطبق إلاّ على ذلك الشيء وحده”[13]. وفي نصٍ سئولٍ، حيث يستعير برغسون من رافيسّون[14] الميلَ الى معارضةِ الحدس العقلي بالفكرة العامة كما يعارضُ الضوء الابيض الفكرة البسيطة للألوان:” بدل ان يذوّبَ فكرَه في العام، على الفيلسوف ان يكثّفه في الفرديّ…إنّ هدف الميتافيزيقيا هو ان تستعيد في الوجودات الفردية، وأن تتبعَ حتى المصدَر الّذي يُطلقهُ، الشعاعَ الخاص الذي، يزوّدُ كلٍّ [من هذه الوجودات] بفويريقها الخاص، و من ثمَّ يربطها بالنور الكلّي”[15].

المباشَر هو بالتحديد تماثلُ الشيء مع اختلافه، ذلك الّذي تستحضره الفلسفةُ أو “تستعيده”. في العلم وفي الميتافيزيقا، يشجبُ برغسون خطرًا مشتركًا: السماح بفرار الاختلاف، لأنّ أحدهما [العلم] يتصوّر الكينونة كنتاج وكمحصّلة، والثاني [الميتافيزيقا] يتصوّرها كشيءٍ ثابتٍ يصلحُ كمبدأ. كلاهما يدّعي الوصول الى الكينونة أو اعادة تركيبها ابتداءًا من التشابهات و من التعارضات التي تتوسّع أكثر فأكثر، ولكنّ التشابه والتعارض هما ،تقريبًا على الدوام، فئات عملية وليست اونطولوجية. ومن هنا اصرار برغسون على ان يُظهِر أنّه، وتحت التسمية عينها، و تحت خانة التشابهِ، نخاطرُ بأن نضعَ معًا اشياءًا كلية الاختلاف، اشياء تختلف من حيث الطبيعة[16].

تفيد الكينونة الاختلاف، لا الواحد ولا المتعدد. ولكن ما هو الفويرق، اختلاف الشيء، ما هو الاختلاف في قطعة سكّر؟ هو ليس، ببساطة، اختلافًا مع شيء آخر: لن نكون هنا سوى بإزاء علاقة خارجية محضة، تُرجِعنا في خاتمة المطاف الى الفضاء. [كما] هو ليس ببساطة اختلافه مع كل ما ليس ما هو عليه حيث نُحالُ الى ديالكتيك التناقض. إنّه افلاطون الّذي، مسبقًا، لم يقبل بأن نخلطَ الغيرية altérité مع التناقض؛ ولكن، بالنسبة لبرغسون، الغيرية لا تكفي ايضًا لجعل الكينونة تلتحق بالأشياء وتكون فعلاً كينونة الأشياء. بدل التصوّر الافلاطوني للغيرية، يحّلُ برغسون تصوّرًا ارسطيًا، هو التغاير Altération، لكي يجعل منه الجوهر بحد ذاته.  الكينونة هي تغايرٌ، والتغاير جوهر[17]. وهذا تمامًا ما يسمّيه برغسون الديمومة، لأنّ كل السِّمات التي عُرِّفَت بها منذ المعطيات المباشَرة ، تحيلُ الى هذا: الديمومة هي ما يختلف أو ما يغيّر في طبيعته، [هي] الكيفية، التنافر [ اي] ما يختلف مع ذاته. ان كينونة قطعة السكّر سوف تُعرَّف بالديمومة، بضربٍ من الدوام، بتراخٍ أو توترٍّ في الديمومة.

كيف تمتلك الديمومة المقدِرة Pouvoir هذه؟ ويمكن ان نطرح السؤال بصيغةٍ أخرى: إذا كانت الكينونة هي اختلاف الشيء، ما الّذي ينتج عن ذلك بالنسبة للموضوع بذاته؟ نلتقي بسمةٍ ثالثةٍ للحدس، وهي أعمقُ من السمات الاسبق. الحدس كمنهجٍ هو منهجٌ يبحثُ عن الاختلاف، يظهرُ و هو  يبحثُ و يجدُ الإختلافات الطبيعة، “تمفصلاتِ الواقع”. الكينونةُ متمفصلةٌ، والسؤال الخاطىء هو ذاك الّذي لا يأخذ بعين الاعتبار اختلافاتها. يحبّ برغسون ان يذكر نصّ افلاطون مقارنًا الفيلسوف بالطبّاخ الماهر الّذي يقطّع وفق التمفصلات الطبيعية؛ يعيبُ بإستمرارٍ على العلم كما على الميتافيزيقيا أنّهما نسيا هذا المعنى للإختلافات في الطبيعة، بأنّهما لم يتناولا سوى الاختلافات البسيطة في الدرجة، هنا حيث وُجِد شيءٌ مختلفٌ تمامًا، بأنّهما انطلقا من “مزيجٍ” سيّء التحليل.

إحدى فقرات برغسون الأكثر شهرةً تُظهِرُ لنا أنّ الكثافة تغطّي ،حقيقةً، اختلافات في الطبيعة بإمكان الحدس ان يكتشفها[18]. ولكننا نعلم أنّ العلم وحتّى الميتافيزيقيا لا يبتكران اخطاءهما الخاصة أو أوهامهما: شيءٌ ما يؤسس هذه الأخيرة في الكينونة. في الواقع، بقدر ما نجد انفسنا أمام نتاجات، بقدر ما تكون الأشياء ،التي نرتبط بها، نتائجَ، لن يمكننا ان نميّز اختلافات الطبيعة لسببٍ بسيط هو انها ليست موجودة: بين شيئين، بين نتاجين، لا توجد ولا يمكن ان توجد إلاّ اختلافات في الدرجة، في التناسبِ. ليس الشيء هو ما يختلف في الطبيعة بل الميل tendance. ليس الاختلاف في الطبيعة، ابدًا، اختلافًا بين نتاجين، بين شيئين، ولكنه اختلافٌ في نفس الشيء الواحد بين ميلين يعبرانه، في نفس النتاج الواحد بين ميلين فيه يلتقيان[19].

وهكذا، ما هو محضٌ ليس ابدًا الشيء، فهذا هو دومًا مزيجٌ يلزم تفكيكه، و وحده الميل محضٌ: اي أنّ الشيء الصحيح او الجوهر هو الميل نفسه. ويظهر الحدس كمنهجٍ فعلي للقسمةِ: يقسمُ المزيجَ بين ميلين يختلفان في الطبيعة. نتعرّف على معنى الثنائيات العزيزة على قلب برغسون: ليس فقط في عناوين الكثير من مؤلفاته، ولكن في كلّ فصلٍ، وفي الإعلان الّذي يسبق كل صفحة، كلّها تشهدُ على ثنائية كهذه. الكمية والكيفية، الذكاء والغريزة، النظام الهندسي والنظام الحيوي، العلم والميتافيزيقيا، المغلَق والمفتوح ، [هذه] هي الصور الأكثر شهرةً. نعلمُ أنّها وفي خاتمة المطاف سوف تقودنا الى التمييز المُكتشَف دائمًا بين المادة وبين الديمومة. ولا تتميّز هاتان بالمرّة كشيئين، بل كحركتين، كميلين، مثل الارتخاء والتقلّص. بل يجب الذهاب أبعد من ذلك: إنْ كان لموضوع ولفكرة المحضية Pureté اهمية كبيرة في فلسفة برغسون، فذلك لأنّ الميلين، في كلّ حالةٍ، ليسا محضين، أو لا يتساويان مع المحضية. احدهما محضٌ، أو بسيطٌ، والآخر يلعب، بالعكس، دور اللامحضية التي تأتي من أجل تسويته أو تعكيره[20].

إنّنا نجد ، على الدوام، نصفًا مستقيمًا في تقسيمِ المزيج ، هو الّذي يحيلنا الى الديمومة؛ زدْ على أنّه لا يوجد [في هذه الأخيرة] بالفعل اختلافًا في الطبيعة بين ميلين يقطعان الشيء، فإن إختلاف الشيء ذاته يكون واحدًا من الميليْن. وإن رفعناه حتى ثنائية المادة والديمومة، نرى جيدًا ان الديمومة تمثّلُ لنا الطبيعة عينها للاختلاف، اختلاف الذات مع الذات، بينما المادة هي فقط اللامختلِف، ما يتكرر أو أنّه الدرجة البسيطة، ما لا يمكنه أنّ يغيّر من طبيعته. ألاّ نرى في الآن نفسه أنّ الثنائية هي لحظةٌ سبَق وتمّ تجاوزها في فلسفة برغسون؟ لأن إن وُجِدَ نصفٌ حازَ إمتيازًا في القسمةِ، يلزم ان يمتلك هذا النصف في ذاته سرَّ الآخر. إن كان كل اختلافٍ من جهةٍ، يلزم ان هذه الجهةِ تتضمّن اختلافها مع الأخرى، وبطريقةٍ ما، [تتضمّن] الأخرى ذاتها أو إمكانيتها. تختلف الديمومة مع المادة، لكن وبسبب أنّها، بادىء ذي بدء، ما يختلف مع ذاته بذاته، مع أنّ المادة التي تختلف عنها تبقى من المادة. و طالما نقف عند الثنائية، فإن الشيء هو عند نقطة الالتقاء لحركتين: الديمومة، التي لا تمتلك درجات بنفسها، تلتقي المادة كحركة مضادة، كنوع من العائق، كشكل من اللامحضية التي تشوشّها، التي تعترض وثبتها، والتي تمنحها هنا درجةً ما، وهناك درجةً أخرى[21].  لكن وعلى مستوى أعمق، فإنها وبذاتها تكون الديمومة عُرضةً للدرجات، لأنّها ما يختلف مع ذاته، بالرغم من أنّ كل شيء يُعرَّف بكليّته في الديمومة، بما في ذلك المادة نفسها.

في منظور ثنائيّ ايضًا، تتعارض الديمومة والمادة كمثل ما يختلف في طبيعته وما لا يمتلك سوى الدرجات؛ ولكن، وعميقًا أكثر، هناك درجات للإختلاف نفسه، المادة هي فقط أدناه، النقطة حيث لا يكون الاختلاف سوى إختلافًا في الدرجة[22]. وإن كان صحيحًا أنّ الذكاء هو الى جانب المادة بإعتبار الموضوع ، يبقى أنّنا لا نستطيع تعريفه بذاته إلاّ بأن نبيّن بأيّ طريقةٍ يدوم، هو الذي يهيمن على موضوعه. وإن كان يجدر في الختام تعريف المادة نفسها، فلن يكفيَ بأن نُظهِرها كعائقٍ وكلامحضية، [بل] يلزم دائمًا ان نبيّن كيف تدوم، هي التي تحتلّ موجاتها لحظاتٍ كثيرة. وهكذا، يُعرَّف كل شيء بالتمام من الجهة الصحيحة، من خلال ديمومةٍ ما، عبر درجةٍ ما للديمومة نفسها.

ينقسمُ مزيجٌ ما الى ميليْن، حيث أحدهما هو الديمومة، بسيطٌ ومتعذّر القسمةِ؛ ولكن ، وفي الآن عينه، تتخالف se différencier الديمومة في اتجاهين، ثانيهما المادة. ينقسمُ الفضاءُ الى مادةٍ والى ديمومة، ولكنّ هذه تتخالفُ بالإنكماش وبالإرخاء، الإرخاء من حيث هو مبدأ المادة. وبالتالي، إن تم تجاوز الثنائية الى الواحدية monisme  ، فهذه تعطينا ثنائية جديدة، هذه المرّة مُدارة، متحكّم بها؛ لأن ليس بالطريقة عينها ينقسم المزيج ويتخالف البسيط.

ايضًا، إنّ لمنهج الحدس سمةٌ رابعة وأخيرة: لا يكتفي بتتبّع التمفصلات الطبيعية من أجل تقطيع الأشياء، أنّه يلتقطُ “خطوط الوقائع”، خطوط الإختلافية differenciation ، لكي يستعيد البسيط على شكل تلاقي (تساتل) convergence إحتمالات؛ لا يقطعُ فقط بل يستردّ [23].

الاختلافية هي مقدرة ما هو بسيط، غير منقسم، ما يدوم. هنا نرى تحت ايّ هيئةٍ تكون الديمومة نفسها وثبةً حيوية. يجد برغسون في البيولوجيا، بالتحديد في إرتقاء الأنواع، علامةً على سيرورةٍ ضروريةٍ للحياة، بالضبطِ تلك الخاصة بالإختلافية كإنتاجٍ لإختلافات حقيقية، سيرورة سوف يبحث عن افهومها ونتائجها الفلسفية. إنّ الصفحات المحترَمة التي كتبها في التطوّر الخلاّق و  مصدرا الاخلاق و الدين تُظهِرُ  لنا نشاطًا كذلك للحياة، وصولاً الى النبات والى الحيوان، أو الى الغريزة والى الذكاء، أو  الى الاشكال المتعددة للغريزة الواحدة. يبدو  لبرغسون أنّ الاختلافية هي نمطُ ما يتحقق، ما يترهّن أو يتمّ. الإفتراضية التي تتحقق هي في الوقت عينه التي تتخالف، اي ما تقدّم سلاسل متباعدة، خطوطَ تطوّر، وأنواع. ” إنّ جوهر  الميل هو ان ينمو على شكل  حزمة، خالقًا بالفعل الوحيد لنموّه اتجاهات متباعدة.”[24] هكذا، تصيرُ الوثبة الحيوية الديمومةَ عينها طالما تترهّن، من حيث هي تتخالف. إنّ الوثبة الحيوية هي الإختلاف من حيث ينتقل الى الفعل. ايضًا، لا تتأتّى الإختلافيةُ ببساطة من مقاومةٍ للمادة، ولكن، وبشكلٍ أعمق، من قوّة تحوزها الديمومة في داخلها: الإثنينية Dichotomie هي قانون الحياة. وما يعيبه برغسون على الآلية و الغائوية Finalisme في البيولوجيا، كما على الديالكتيك في الفلسفة، هو ،دائمًا ،من وجهات نظر مختلفة، ان يتم التعامل مع الحركة على أنّها علاقة بين المُهَل الراهنة، بدل ان نرى فيها تحققَّ الإفتراضيّ virtuel.

ولكن، إن كانت الاختلافية، بالتالي، نمطًا اصيلاً لا يقبل الإختزال وتتحقق عبرها الإفتراضية، وإن كانت الوثبة الحيوية هي ديمومة ما يتخالف، هكذا، تكون الديمومة هي نفسها الإفتراضية. يمدّ التطوّر الخلاّق المعطيات المباشرة بالتعميق كما بالإطالة الضرورييْن. لأن، ومنذ المعطيات المباشرة، ظهرَت الديمومة على أنّها الإفتراضي أو  الذاتيّ، لأنّها كانت ما يتغيّر بالطبيعة وهو ينقسم أكثر ممّا هي ما يمنع الإنقسام[25]. ونحنُ نفهم أنّ الإفتراضي ليس راهنًا، بل ليس ايضًا نمطَ كينونة، مع أنّه بشكلٍ أو بآخر الكينونة عينها: لا الديمومة، ولا الحياة، كما ليست الحركة هي المترّهنة، ولكن ما يترّهن كل شيء بداخله، [حيث] يتمايز  كل واقعٍ ويُفهَم، ويتجذّر. التحقق هو دومًا فعلاً للكلّ لا يصبح بالكامل واقعيًا في الآن عينه، ولا حتى في نفس الشيء، وهو بذاته إختلاف الطبيعة ذاك بين الأنواع التي ينتجها. يقول برغسون، على الدوام، ان الديمومة هي التغيّر في الطبيعة، في الكيفية.” بين النور والظلمة، بين الألوان، بين الفويرقات، يكون الإختلاف مطلقًا. وأنّ الانتقال من واحدٍ الى آخر  هو  ايضًا ظاهرة واقعيةً بالمطلق”[26].

نأخذُ، إذًا، كطرفين أقصييْن، الديمومة والوثبة الحيوية، الإفتراضيّ وتحققه. ايضًا، يلزم القول أنّ الديمومة هي قبلئذٍ وثبة حيوية، لأنّ جوهر الإفتراضي هو الّذي يتحقق؛ يلزمُ، هكذا، هيئةٌ ثالثة تبدو  لنا، بشكلٍ أو بآخر، وسيطةً بين الهيئتين السابقتين.  بالتحديد، و بما يتعلق بهذه الهيئة الثالثة،  تُسمّى الديمومة ذاكرةً. عبر كلّ هيئاتها، الوثبة الحيوية هي، بالفعل، ذاكرة، ذلك أنّها تمدُّ الماضي إلى الحاضر، ” أكان الحاضر ينغلقُ بشكلٍ متمايزٍ على الصورة من دون الكفّ عن تكبير الماضي، أو بالأحرى لأنّه يُبرهِنُ عبر تغيّره المستمر في الكيفية على الحمل الثقيل الّذي نجرّه خلفنا بقدر ما  نتقدّم بالسنّ قُدمًا” [27].  فلنتذكّر أنّ برغسون يقدّم، دائمًا، الذاكرة بطريقتين: ذاكرة-ذكرى و ذاكرة-انقباض contraction، وأنّ هذه الأخيرة هي الأساسية. لماذا هاتان الصورتان اللّتان سوف تقدمان للذاكرة مقامًا فلسفيًا كامل الجِدَّة؟ تحيلنا الصورة الأولى الى بُقيا survivance الماضي. ولكن من بين كل أطروحات برغسون، ربما هي الأعمق والأقل قابلية للفهم، تلك التي بموجبها يبقى الماضي حيًا في ذاته[28]. لأن هذا البقيا عينه هو الديمومة، و الديمومة في ذاتها ذاكرة. يُظهر برغسون لنا أنّ الذكرى ليست تمثيلاً لشيءٍ كان؛ ان الماضي هو حيثُ نتموضعُ توًّا  لكي نتذكر[29]. لا يبقى الماضي سيكولوجيًا، ولا فيزيولوجيًا في دماغنا، لأنه لم يكفّ عن أن يكون، فهو كفَّ فقط عن كونه نافعًا، أنّه يكون، وهو يبقى في ذاته. وهذه الكينونة في الذات للماضي ليست سوى النتيجة المباشرة لـ موضعٍ جيّد للمشكلة: لأن إن كان على الماضي أن ينتظر ألاّ يكون بعد، إن لم يكن توًّا ومنذ الحين كأنّه ماضيًا، “ماضٍ بشكلٍ عام”، لن يستطيع ابدًا ان يصبح ما هو عليه، ابدًا لن يقدر ان يكون هذا الماضي. إنّ الماضي هو، بالتالي، الـ في الذات، اللاوعي، أو بالضبط، كما يقول برغسون، الإفتراضيّ [30]. ولكن بأي معنى هو افتراضيّ؟  هاهنا سوف نجد الوجه الثاني للذاكرة. لا يتكوّن الماضي بعد  أن كان حاضرًا، [بل] انه يتعايش مع ذاته بإعتباره حاضرًا. إن فكّرنا بذلك، سوف نجد ان الصعوبة الفلسفية للماضي في مقولته ذاتها تتأتى ممّا انحصرَ بشكلٍ ما بين حاضرين: الحاضر الّذي كان و الحاضر الراهن والّذي بالنسبة له يكون ماضيًا.

يكمن خطل علم النفس، حين يطرح القضية بشكلٍ سيّء، في أنه أبقى على الحاضر الثاني، منذ بحث عن الماضي من خلال شيءٍ راهن، و في النهاية في أنه ،الى هذا الحد أو ذاك، وضعه في الدماغ. ولكن، وبالفعل، ” لا تعني الذاكرةُ أبدًا تقهقر الحاضر الى الماضي”[31]. ما يبيّنه برغسون هو إن لم يكن الماضي ماضيًا في الوقت عينه الّذي يكون فيه حاضرًا، فلن يمكنه أن يشكّل نفسه فقط، بل، زد على ذلك أيضًا، لن يمكن له أن يعيد تشكيل نفسه إنطلاقًا من حاضرٍ لاحقٍ. ها هو اذًا معنى ان يوجد الماضي في اللحظة عينها مع نفسه على انه حاضرٌ: ليست الديمومة سوى هذا التعايش نفسه، تعايش الذات مع الذات. هكذا، يلزم أن نفكّر بالماضي و بالحاضر كدرجتين قصوتين متعايشتين في الديمومة، درجتان تتمايز أولهما بحالة من الإرخاء، و الثانية بحالة من الانقباض. تخبرنا استعارة شهيرة انه عند كل مستوى من مستويات المخروط يوجد كل ماضينا ولكن بدرجات مختلفة: الحاضر هو فقط الدرجة الأكثر انقباضًا من الماضي:” تتكرر الحياة النفسية عينها لعدد غير محدد من المرات، في المراحل المتتالية للذاكرة، ويمكن لفعل الروح عينه  أن يشتغل بإرتفاعات مختلفة”؛ “يحصل كل شيء كما لو ان ذكرياتنا قد تكررت لمرات لا محدودة في آلاف الإختزالات الممكنة لحياتنا الماضية”[32]. كل شيء هو تغيّرٌ في الطاقة، و التوتّر tension و لا شيء آخر. في كل درجةٍ هناك الكل، و لكنه كلّ يتعايش مع كلٍّ، أي مع الدرجات الأخرى. نرى، بالتالي،  ما هو  إفتراضيّ: انها الدرجات المتعايشة بنفسها و كما هي. يحقّ لنا أن نعرّف الديمومة كتتابعٍ، ولكننا نخطىء إذ نشدد على ذلك، فهي ليست تتابعًا حقيقيًا بالفعل إلاّ لأنها تعايشٌ إفتراضيّ.

في ما خصّ الحدس، يكتب برغسون: ” وحدها الطريقة التي نتكلم عنها تسمح بتجاوز المثالية كما الواقعية، بإثبات وجود الاشياء الأدنى و الأعلى بالنسبة إلينا، مع كونها [أي الأشياء] بالمقابل و بمعنىً ما داخلية بالنسبة لنا، و [تسمح] بتعايشها مع بعضها البعض من دون صعوبةٍ”[33]. وإذا بحثنا فعلاً المسار من مادة و ذاكرة  الى التطور الخلاّق ، نرى ان الدرجات المتعايشة هي في الآن عينه ما يجعل الديمومة شيئًا من الإفتراضي، وما يجعل اليدمومة، مع ذلك، تترهّن في كل لحظة، لأنها [اي الدرجات] تعيّن العديد من المسطحات و المستويات التي تحدد كل  خطوط الإختلافية الممكنة. بإختصار، تولّد السلاسل المتباعدة حقًا، في الديمومة، درجاتٍ إفتراضيةٍ متعايشة. بين الذكاء و الغريزة، يوجد اختلافٌ في الطبيعة، لأنهما عند نهاية السلسلتين اللتين تتباعدان؛ ولكن هذا الاختلاف في الطبيعة، عمّا يعبّر إن لم يكن عن درجتين تتعايشان في الديمومة، عن درجتين  للإرخاء و للإنقابض مختلفتين ؟ وهكذا، فإن كل شيء، كل كائنٍ هو الكل، ولكنّه الكل الّذي يتحقق عند هذه الدرجة أو تلك. أمكن للديمومة أن تظهر، في مؤلفات برغسون الأولى، كحقيقةٍ سيكولوجية؛ ولكن ما هو سيكولوجي هي فقط ديمومتنا، أي درجةٍ ما محددة بشكلٍ دقيق.” إن، وبدل زعم تحليل الديمومة (أي ، في العمق، توليفها مع افاهيم)  ، نتعيّن فيها ، في البدء،  عبر مجهودِ حدسٍ، و نشعر بنوعٍ محددّ جدًا من التوتر، حيث يظهر التحديد نفسه كإختيارٍ بين لانهايةٍ من الديمومات الممكنة. من هنا ، نميّز ديموماتٍ كثيرةٍ بقدر ما نريد، مختلفة جدًا الواحدة عن الأخرى…”[34].

هاكم لماذا يوجد سر البرغسونية، و من دون شك، في المادة والذاكرة. يخبرنا برغسون، في موضعٍ آخر، أن عمله يفيد التفكير حول هذا: أن الكل ليس معطى. كون الكل لا يُعطى هو واقع الوقت. و لكن ماذا يعني هذا الواقع؟ في الوقت عينه الّذي يفترض المعطى فيه حركةً يبتكرها أو يخلقها، وأن هذه الحركة لا يجب تصوّرها كصورةٍ للمعطى. ما يقوم برغسون بنقده في فكرة الممكن، هي أن هذه تقدم لنا كزًا بسيطًا للمنتَح، يتم لاحقًا اسقاطه أو ردّه على حركة الانتاج، على الابتكار. ولكنّ الافتراضي ليس هو الممكن عينه: ان واقع الوقت هو، أخيرًا، إثبات إفتراضيةٍ تتحقق، و تُبتكَر كي تتحقق. لأن إن لم يكن الكلُّ معطى، يبقى ان الافتراضي هو الكل. فلنتذكر ان الوثبة الحيوية قد انتهت:  الكل هو ما يتحقق في الأنواع التي لا تكون على صورته بقدر ما لا تكون على صورة أحدها الآخر؛ في الآن عينه، ينتمي كل نوعٍ الى درجة من الكل، و يختلف بالطبيعة عن الآخرين، بحيث يظهر الكلّ بحد ذاته و في نفس الوقت كإختلافٍ بالطبيعة في الواقع، و كتعايشٍ للدرجات في الروح.

إنْ تعايش الماضي مع ذاته على انه حاضرٌ، و إن كان الحاضر الدرجة الأكثر انقباضاً للماضي المتعايش، يبدو أن هذا الحاضر عينه، ولأنه النقطة المحددة حيث ينطلق الماضي نحو المستقبل، يتحدد على انه ما يتغيّر بالطبيعة، الجديد دومًا، أزلية الحياة. نفهم أن ثيمة غنائية تعبر كل مؤلف برغسون: غناء فعلي على شرف الجديد، اللامتوقَّع، الابتكار، على شرف الحرية. لا يوجد هنا كفٌّ عن الفلسفة، ولكن محاولة عميقة و اصيلة لإكتشاف الميدان الخاص بالفلسفة، من أجل بلوغ الاشياء بحد ذاتها ومن ثمّ نسق الممكن، الاسباب و الغايات. تكون الغائية، السببية، والإمكانات، دومًا، على علاقة مع الشيء متى تم تكوينه، و تفترض دائمًا ان “كلاًّ” معطى. حين ينتقد برغسون هذه المقولات، حين يحدّثنا عن اللاتحديد، لا يدعونا الى التخلّي عن العقل، بل الى ضمّ العقل الصحيح للشيء الّذي في طريقه الى التكوّن، العقل الفلسفي والّذي هو ليس تحديدًا بل اختلافًا. نجد كل حركة التفكير البرغسوني مكثّفةً في  المادة و الذاكرة ، تحت الشكل الثلاثي لإختلاف الطبيعة، الدرجات المتعايشة للإختلاف و الإختلافية. في البدء، يبيّن برغسون لنا أن هناك اختلافًا في الطبيعة بين الماضي و بين الحاضر، بين الذكرى و بين الإدراك، بين الديمومة و بين المادة: يخطىء النفسانيون و الفلاسفة حين ينطلقون في كل الحالات من خليطٍ سيء التحليل. يبيّن لنا ، من ثمَّ، انّه لا يكفي أيضًا التكلّم عن إختلافًا في الطبيعة بين المادة و بين الديمومة، بين الحاضر و بين الماضي ، طالما ان المسألة هي بالتحديد معرفة  ما هو  الإختلاف في الطبيعة: يبيّن أنّ الديمومة نفسها إختلافٌ، أنها طبيعة الإختلاف، بالرغم من احتوائها المادة كدرجتها الأدنى، درجتها الأكثر إرتخاءًا، على شكلِ ماضٍ متمدد الى ما لا نهاية، و تحتوي نفسها منقبضةً كحاضرٍ ممتَّنٍ و مشدودٍ أشدّ ما يكون.

وفي الختام، يبيّن برغسون لنا ان الدرجات إن تعايشت في الديمومة، فإن هذه هي في كل لحظة ما يتخالف، ما يتخالف في الماضي و في الحاضر، أو إن أردنا، أن الحاضر يزدوج الى إتجاهين، واحدٌ صوب الماضي و آخر صوب المستقبل. مع هذه الأزمان الثلاث تتوافق في مجموع المؤلَف مقولات الديمومة، الذاكرة و الوثبة الحيوية. ان المشروع الّذي نلقاه عند برغسون، و هو مشروع ضم الأشياء  عبر القطيعة مع الفلاسفة النقديين،  لم يكن جديدًا بالمطلق، حتى في فرنسا، طالما يحدد مفهومًا عامًا للفلسفة، ينتسب، في العديد من جوانبه، الى الامبريقية الانكليزية. و لكنّ الطريقةَ  Méthodeكانت، على نحور عميق،  جديدةً ، و كذلك كانت المفاهيم الثلاث الاساسية التي منحتها المعنى.


[1]   المصدر:

Deleuze, Gilles, l’île déserte (textes et entretiens 1953 – 1947 ), les Editions de Minuit , 2002 , pp 28 – 42 .

[2] In M. Merleau – Ponty, éd., les philosophes célèbres, Paris, Editions Art Lucien Mazenod, 1965, p 292 – 299.

[3] La pensée et le mouvant II.

[4] Matière et mémoire I, P. 74.

[5] L’Evolution Créatrice, III.

[6] PM II.

[7] PM VI.

[8] MM III.

[9] EC III.

[10] PM VI.

[11] EC II.

[12] MM III.

[13] PM VI .P 169 – 179

[14]  رافيسون Ravaisson  (1913 – 1900 ) فيلسوف و اركيولوجي فرنسي ، كان استاذًا لبرغسون.

[15] PM IX. P 259 – 260

[16] PM II.

[17] PM V , MM IV.

[18] Essais sur les données immédiates de la conscience I.

[19] EC II.

[20] MM I.

[21] EC III.

[22] MM IV, PM VI

[23] Les deux sources de la morale et de la religion III, l’énergie spirituelle I.

[24] EC II, P 100.

[25] DI II

[26] MM IV , p 219

[27] PM IV p 201

[28] MM III

[29] ES V

[30] MM III

[31] MM iv p 269

[32] MM ii p 215 et iii p 183.

[33] MM III

[34] PM vi, P 208