مجلة حكمة
شوبنهاور في الأدب والموسيقى - إيفا سيبولسكا

شوبنهاور في الأدب والموسيقى – إيفا سيبولسكا / ترجمة: طريف السليطي


 ” بالنسبة لأولئك الذين أدارت لهم الإرادة ظهرها, فإن هذا العالم الحقيقي للغاية الذي نعيشه, في نجومه ومجرّاته, ليس إلا عدماً ” آرثر شوبنهاور. العالم إرادة وتمثلاً. ج1 ص412

كان آرثر شوبنهاور (1788-1860) ولا يزال، فيلسوفاً من الطراز الخاص. وكان موضع التقدير لتأملاته الثرّة والعميقة أكثر من كونه فيلسوفاً متماسك الرؤية. فأسلوبه في الكتابة، وطاقته العظيمة، امتزجا بموهبة شاعرية وقدرة على تحويل الفكرة المُجردة إلى صورة حية ومُكثفة. قلمه الساخر، وأصالته، وجُرأته (حتى بالمقارنة مع مجلة  Private eye اللاذعة) وتعليقاته ضد خصمه هيجل – الذي وصفهُ بالمُتحاذق وصاحب الهُراء مُنقطع النظير- كلها أمور دلت على طبعه اللاذع.

منذ سن مبكرة أصيب شوبنهاور بالدهشة إزاء العالم، فحاول حل أحجية العالم عبر فكرة واحدة: آمن بالطبيعة المُباطنة لكل الموجودات والأشياء، وعمّد هذه الطبيعة باسم ” الإرادة”. في تُحفته الخالدة (العالم إرادة وتصورا) المنشور عام 1818 كانت الإرادة عنده تساوي (الشيء في ذاته) عند كانط. فوفقاً لكانط؛ نحن لا ندرك سوى الظواهر المرئية (عالم الظواهر حسب مصطلحات كانط) بينما العالم في حقيقته يبدو مختلفاً عن طريقة إدراكنا له (عالم النومينا عند كانط) ليبقى هذا العالم مجهولا ونعجزعن بلوغه. اعتقد شوبنهاور بأن ” الحقيقة خلف الظواهر ” تحمل قوة محايثة، وقاسية، سمّاها ” الإرادة ”  ووجد فيها صراعاً كونياً غير واع.

اتخذ شوبنهاور من مفهوم الإرادة تعويذة له في كتاباته، وككل الأشياء المُقدسة، يحتقر هذا المفهوم التفسيرات التفصيلية. بعض المُعلقين والشراح، كبراين ماغي صاحب كتاب (فلسفة شوبنهاور) وجد في مفهوم الإرادة عند شوبنهاور استباقاً للفكرة العلمية عن الطاقة في القرن العشرين، فهي القوة الواحدة ذات التجليات والتمظهرات المُتعددة، وبشكل عبقري أيضاً، تبنى فرويد مفهوم الإرادة وجعلها مكان ” الهُو ” وهي القوة العظمى اللاواعية في النفس وذلك في كتابه (الأنا والهُو) عام 1923.

لم يؤسس شوبنهاور لمدرسة من المُريدين، ومع ذلك، يندر أن نجد فيلسوفاً حديثاً باستثناء نيتشه (الذي عبَدَ شوبنهاور ذات مرة) يملك نفس التأثير على الفنون والآداب. حدث ذلك بسبب طلاقة شوبنهاور في التعبير عن أفكاره المركزية وما أحدثته من وقع رنان وعبقري. لقد كان واسع الاطلاع، وبالأخص في الكلاسيكيات اليونانية والأدب اللاتيني والمُعاصر، ومُطلعاً على الفلسفات التقليدية في الشرق. وبالرغم من تحرره العقدي المُعلن، كانت فلسفته عن الشفقة قد كشفت عن نورانية كبيرة وروح متأهبة للنضال. وحُبه للموسيقى لم يتجسد فقط في عزفه على الناي، لكن عبر تأصيل فلسفي عميق ورؤى نقدية تركت أثرها على مؤلفين موسيقيين كفاغنر وماهلر وسكريابين، وغيرهم.

 

الموتُ وتقديس المُعاناة

” يبدو الاحتضار وكأنه الهدف الأساسي من الحياة؛ ففي اللحظة التي يموت فيها المرء، كأن كل شيء قد تقرر، وكأن مشوار الحياة كله لم يكن إلا مقدمة وتمهيدا لهذه اللحظة “ العالم إرادة وتصورا. ج2. ص637

 

تملك الإرادة طاقة، وهذه الطاقة – برغم قسوتها- إلا إنها مصدر الإبداع، وهي أيضاً مصدر الشر والصراع والسبب الأساسي خلف ما نشاهده من معاناة. ووفقاً لشوبنهاور، فالحياة كلها معاناة، وهناك ثلاث طرق يمكن من خلالها الهروب من هذه المعاناة: أولها التأمل الجمالي، وثانيها السلوك الجمالي، وثالثها الموت. لقد اتفق مع سيلينوس، وهو صديق ديونيزيوس، حين قال: ” الأفضل أن لا تُولد, والأفضلية الثانية أن تموت بسرعة “ وكان شوبنهاور قد كتب : ” لو طرقنا أبواب القبور وسألنا ساكنيها هل ستنهضون من قبوركم؟ سيهزون رؤوسهم بالنفي “ واقتبس شوبنهاور من فولتير قوله : ” إننا نحب الحياة، ولكن للعدم فضائله المساوية للحياة “ ومهما يكن من أمر.. فإن ” اللاوجود بعد الموت لا يختلف عن اللاوجود قبل الحياة “ العالم إرادة وتصورا. ج2. ص465. ويُمكن للموت أن يكون إلهاماً كبيراً: ” من دون الموت لن يكون هناك أي تفلسف على الإطلاق “ العالم إرادة وتصوراً. ج2. ص463.

ووفقاً لشوبنهاور، قد يكون الموت نافذة نحو عالم أبدي وخالد وبلا وعي منا. وقد عبّر فيليب لاركن عن هذه الرغبة الشوبنهاورية في النسيان عبر سخريته المألوفة، وذلك في قصيدة الرغبات:

تحت كل شيء تسري رغبة النسيان

رغماً عن اضطراب روزنامة الزمن

رغماً عن تأمين الحياة.. وطقوس التناسل

رغماً عن النفور المُكلف من نظرة الموت

تحت كل ذلك.. تشتدُّ رغبة النسيان

 

إن التعامل مع الخوف من الموت يستبطن معتقداتنا الدينية في صميمها، وتقديم العزاء هو أحد مهامها الرئيسية. وبعد تقهقر الدين في الغرب، كان واجباً على الفلسفة أن تحمل شعلة سقراط وتعلمنا كيف نتخلص من المعاناة ودوائرها التي لا تنتهي.

قرأ شوبنهاور الشاب مسرحية هاملت باللغة الإنجليزية، وربما ساهم ذلك بإلهامه لاحقاً في أطروحاته عن الموت. وها هي ذي بعض المُختارات من الأعمال الفنية والأدبية التي تأثرت بشوبنهاور.

 

موتُ الحُب عند فاجنر, وآداغييتو عند ماهلر

” نجد في المُوسيقى، وفي الألحان، التعبير التام عن الكونيّة، إنها الإرادة وقد باتت مُدركة لذاتها “ العالم إرادة وتصوراً. ج1. ص321

اكتشف رتشارد فاجنر تحفة شوبنهاور عام 1854 وهو في سن الحادية والأربعين وصار مفتوناً بها. وقرأ العمل ثلاث مرات متوالية، وكان يتحدث أمام كل من يصادفه عن شوبنهاور وأنه ” هدية السماء له “. إن نظرة شوبنهاور للموسيقى بأنها ” التموضع المباشر للإرادة والنسخ الكامل للإرادة بوصفها العالَم “ كتاب الإرادة. ج1. ص333 كانت بمثابة الموسيقى في أذن فاجنر. في عمله ” تريستان وإيسولده في البندقية ” استوعب فاجنر شوبنهاور بعناية, ووقع ذلك أثناء علاقته بماتيلدا فون ويسندروك. وتحت تأثير الاستبداد اللا أخلاقي كتب فاجنر عن شخصيتيه الخياليتين وهما بمعزل عن المسؤولية والزمان والمكان، تائهان في عالم شوبنهاور ذو الإرادة القاسية والعمياء، فأصبح تريستان وأيسولده دميتان بأيدي القدر. لقد اعتبر نيتشه فاجنر سليلاً لإخيليس، ومن خلال فاجنر تمنّى نيتشه أن تُبعث التراجيديا اليونانية إلى الحياة.

اعتبر شوبنهاور إيروس، إله الحب والجنس عند اليونان، وثيق الصلة بالموت. كتاب Perarga and Parlipomena ج1 ص497. وهكذا كان حال العاطفة المُعذّبة للعاشقين في مقطوعة فاجنر، والتي لم تجد الخلاص إلا بالنسيان:

في الأمواج الضخمة

في الصوت الرنّان

في أنفاس العالَم

في تموجات كل شيء

ثمة غرق, ثمة سقوط

ثمة أمرٌ لا نعيه

وهو بمثابة النعمة العظمى !

 

(تريستان وإيسولده، الفصل الثالث، المشهد الثالث)

وُلد جوستاف ماهلر في عام 1860 وهي نفس السنة التي مات فيها شوبنهاور. وكان شديد التقدير لمسرحية تريستان وإيسولده، وما من مُفاجأة إذا ذكرنا أنه في (موت الحُب) يبرز تأثير فاجنر على ماهلر في سيمفونية آداغييتو الحزينة، لا سيما في السيمفونية الخامسة. وفيها يمزج ماهلر بين العالَم النوراني ولمحة من العالَم الشيطاني. كانت ألما شيندلر، وهي إحدى الشابات الفاتنات في فيينا آنذاك، من المحظوظات بتلقي هذا الإعلان عن الحُب وعرض الزواج، والخالي تماماً من الكلمات. وصادف أنها مُعجبة بتريستان، ففهمت المغزى ووافقت فوراً على العرض. لكن حدث مُنعطفٌ مأساوي في القصة لاحقا، فبعد بضعة سنوات, كانت علاقة ألما مع والتر جروبيوس بمثابة ضربة القدر الأخيرة التي سرّعت عُبور ماهلر إلى القبر. وبعد سنوات من موته، أدركت ألما متأخرة، تماماً مثل أيسولده، أن ماهلر هو ” تريستان ” الذي أحبته.

 

الموتُ في البندقية, ولحظةُ النشوةِ الجماليّة

كل من رمقَ الجمال بعينيه

فإنه رضخ للموت لامحالة

-أوجوست فون بلاتن (تريستان)

تلقى توماس مان خبر وفاة ماهلر أثناء زيارته لمدينة البُندقية عام 1911 وبعدها ألف روايته (الموت في البندقية) وكانت إهداء لماهلر، الموسيقي الذي قدّره توماس مان وتعرف عليه في حياته. وكان في ذلك شيء من التبجيل لشوبنهاور، وهو مُرشده الفلسفي، وقد وصف رائعته الفلسفية بأنها ” سيمفونية من أربع أجزاء “.

 لقد كان بطل رواية (الموت في البُندقية) وهو جوستاف فون أشينباخ، رجلاً معدوم الإرادة، وموضوعاً للمعرفة الأبدية: فقد هرب من صراع الإرادة الوقتي، ولاذ إلى اللحظة الجمالية ليتحرر من خلالها من قفص الزمان والمكان، أي سجن ” الفردية ” بحسب مُصطلحات شوبنهاور. في النسخة السينمائيّة، كانت هذه اللحظة قد تكاثفت في صُورة فون أشنباخ (الذي أدى دوره المُمثل ديرك بوجاردي) الذي كان مُستلقياً عند النافذة يتأمل الصبي تادزيو وهو تجسيد الجمال في الرواية. وبلا شك فإن فكرة التحديق هذه – في داخل روع الإنسان – أو في الجمال أو العدم، لهي من الأفكار الرئيسية والمُتكررة في الرواية، وترسخت أكثر في الفيلم.

جاءت رواية (الموت في البندقية) على أساس لقاء توماس مان مع صبي أرستقراطي يُدعى تادسيو موس، والذي صادفه في صالة العشاء في فندق “لاجراند دي بين”  في جزيرة ليدو بالبندقية. وكان عمر الفتى آنذاك عشر سنوات فقط، وذكر لاحقاً كيف أن رجلاً كبيراً بالعمر قد تبعه (مع أن توماس آنذاك لم يكد يبلغ الخامسة والثلاثين) مع رفيقه جاسيو، ولاحقهما مُطولاً. لقد كان جوستاف أشنباخ هو البورتريه الشخصي لتوماس مان، وتماماً مثل قصة دوريان جراي كانت الشخصية تتألم مكان الكاتب.

في الفيلم السينمائي الذي ظهر عام 1971 أبدع المخرج فيسكونتي في دمج السردية الأدبية مع صور خاطفة للأنفاس لمدينة البندقية المنهارة آنذاك، بجانب تجسيده لفكرة شوبنهاور عن الموت بوصفه تحرراً من الحياة، وكذلك تضمن الفيلم موسيقى عظيمة. لقد مات فاجنر في البُندقية في فبراير سنة 1883 ونستطيع أن نلمح تمثال فاجنر في المشهد الافتتاحي للفيلم, وكانت مقطوعة ماهلر ” أدياغييتو ” هي موسيقى الفيلم الرئيسية وأضحت مشهورة للغاية بسبب الفيلم. إن المياه الراكدة لبُحيرات البُندقية قد مثلت على الدوام حوض نركسوس القاتل، وفي المشهد الختامي للفيلم، أطلّت ابتسامة غامضة ومرتعشة من وجه أشنباخ الشبيه بالقناع الجامد، فيما غاص جسده بضجر وسط الأريكة. ومثل نركسوس، يموت وحيداً، بلا حُب، وهو يُحدق بهيئة تادسيو وهو يُومئ له بنعمة العدم، في إشارة لكون الحياة ليست إلا متاهة لا يحررنا منها إلا الموت. وحتى شوبنهاور نفسه, لم يكن له أن يجسد أفكاره بصورة أكثر قتامة من هذه.

 

تيس ديربيرفيلز: الضرورة ضد الحريّة

” الضرورة هي مملكة الطبيعة, والحرية هي ملكوت النور”

شوبنهاور. العالم إرادة وتصوراً. ج1. ص523

 

يُمكن اعتبار توماس هاردي شوبنهورياً بالفطرة. فمثله مثل شوبنهاور يرى الطبيعة عمياء وصمّاء لا تتغير. أما في عمله (تيس ديربيرفيلز) سنة 1891 وهي من رواياته الكبرى, فللمرء أن يُجادل حول بطلة الرواية ” تيس ” وكونها تجسيداً لما كان يُعانيه الكاتب من كآبة الأنيما (وفقاً لكارل يونج فإن الأنيما anima هي الوجه المُؤنث في شخصية الرجل) ولعل تيس هي أكثر النماذج العاطفية في الأدب التي أفصحت عن ذنب الولادة, وأن الموت هو التحرر من سجن الحياة. فمنذ البداية, تطلعت إلى موت الوعي واختفاء حزنها, وأدركت أن حياتها عديمة الجدوى لا تلعب إلا دوراً صغيراً في التراجيديا الكونية. ووفقاً لهاردي, فإن الوجود والإنسان أمرٌ واحد, فكثيراً ما نجد الطبيعة وقد انعكس على مرآتها يأس تيس: ” فتلك الريح التي تهب مراراً قد أصبحت نفثة مصدور.. ونحيباً للنفس الأسيانة “.

وتتصرف تيس وكأنها مدفوعة من قوة خفية (= الإرادة) ضد الخلفية الصمّاء للكون, ولذلك ” تركت نفسها للارتجال السريع” وركبت عربة أليك وشرعت في تدمير نفسها طواعيةً, وقام أليك لاحقاً باغتصابها أثناء مسيرها في غابة ظلماء (وهي حادثة سيفسرها فرويد دونما شك بأنها تحقيق الرغبة) ثم يُولد الطفل فيما بعد, وسمَّته الأسى Sorrow ليموت بعدها بفترة قصيرة وكأنه اتبع نصيحة سيلينوس. وكان عاشقا تيس, وهما أنجل كلير, الأخلاقي ذو العاطفة الباردة, وأليك وهو الرجل الشيطاني المدفوع بغريزته المُشتعلة, يبدوان وكأنهما الاستقطاب المُتطرف والتناقض الحاد لرُوحها الشقية. وعندما تقتلُ أليك أخيراً, فإنها تجتث قطعة مُظلمة من روحها, ويتحقق القدر.

فهل كان لتيس أي خيار في ذلك؟ أم أنها مزمومة بقوى تخرج عن سيطرتها لتؤكد المصير المحتوم؟ كان شوبنهاور سيقول إن الحياة محتلة من الإرادة اللاواعية, ولست أنت من يقرر مصيرك, ولا تجد الحرية إلا عندما تموت الإرادة ويفنى الوعي الفردي, وهذه هي حرية الفناء.. وكأنها الصدى الخافت لهاملت.

وفي اللحظات الختامية للرواية تكشف تيس عن استسلامها للإرادة: ” ما يجب أن يقع, سوف يقع” وبحس مطمئن تتخلى عن وعيها وتُعدَم فوق صخرة ستونهنج. يُبرز هذا المشهد حِس الأبدية وهي تعبر الزمن, فيما توحي صخرة ستونهنج بعُنصري الصلابة والثبات, وحين تعاود تيس الانضمام لهذه العناصر, فإن الحلقة الكونية قد اكتملت.

 

الموت وخفة الكينونة عند الأمير بولكونسكي

لم يكتف تولستوي بالاطلاع على فلسفة شوبنهاور فحسب, وإنما حياها, بنبذه الملذات الدنيوية واتجاهه للزهد. في روايته الحرب والسلام المنشورة سنة 1869 يتميز الأمير بولكونسكي بشخصية شوبنهورية بامتياز, ناشداً الموت مُعظم وقته, محاصراً بزواج تعيس وحياةٍ خالية من الروح. فبعد موت زوجته, يعيش أندري لأجل ابنه, ولكن كل هذا يتغير بعد لقائه ناتاشا روستوفا وهي تجسيد لسورة الحياة, فيسقط في غرامها ويهيمُ بالحياة. لسوء الحظ, يحتقر والده آل رستوفا ويقف حائلاً دون زواج أندري بناتاشا, فيأمر بتأجيل الزواج لسنة كاملة على أمل أن يتحطم حبهما, وهذا ما كاد أن يقع, فتفتتن ناتاشا رستوفا بأناتولي, في عاطفة متوقدة وسطحية معاً. ويلتحق أندري بالحرب ضد نابليون فيما يُشبه البحث عن الموت والتحجج ببطولية الدفاع عن الوطن, ليجد أندري في ذلك خلاصاً نبيلاً من ورطة حُبه الخائب. في تلك الأثناء تعود ناتاشا إلى رُشدها وتدرك أن أندري هو من أحبته بصدق, لكن بعد فوات الأوان, إذ يصاب أندري بجروح غائرة في معركة بورودينو ويعود لوطنه كي يموت. وقامت ناتاشا برعاية أندري وقد مزقتها مشاعر يتمزج فيها الذنب مع الامتنان والرجاء, فيتضح لاحقاً أنهما لن يتوحدا إلا بالموت.

 

يصف تولستوي رحيل أندري عن هذا العالم بمفردات شوبنهاور:

” لم يدرك أندري أنه سيموت لا محالة فحسب, فكان يشعر بالاحتضار أو أنه نصف ميت. كان أندري بعيداً عمّا هو دنيوي في هذه الأرض وعلى وعيٍ بخفةٍ مبتهجة وغريبة في كينونته, فلم يفقد الصبر ولم يك قلقاً بإزاء ذلك الشيء الشرير, والخالد, والمجهول البعيد, الذي أحسّ به طيلة حياته قد بات على مقربة منه, فأدرك تلك الخفة البهيجة للكينونة وهي تحيطه وتتجلى له “

سيمفونية تشايكوفيسكي الشجيّة.. وعبور الأكيرون

 

” لا تغضب يا كارون

نريد ما نريد, وبقدر ما نستطيع.

فلا تطلب فوق المُستطاع “

(دانتي: الكوميديا الإلهية. الجحيم. الأنشودة الثالثة)

كان تشايكوفيسكي ملحناً بموسيقى حميمية وشفافة تذكرنا بكرسي الاعتراف. فهو يصل بين العواطف في ضربٍ من الأصالة والكثافة, وعندما يُستمَعُ لألحانه يشعر المرء وكأن الإرادة تبوح للقلب. سيمفونيته السادسة The pathetique كانت الأخيرة في حياته, ومات بعدها بتسعة أيام فقط عقب أداءه الافتتاحي لها في سان بطرسبرج. فهل أراد تشايكوفيسكي أن يجعل منها لحناً لقُداس موته؟ أما ظروف وفاته فاكتنفها الغموض والجدل, وشاع اللغط بين مريديه وأصدقائه حول ما إذا كان قد مات بسبب الكوليرا أو منتحراً. فهل يكمن حل اللغز في السيمفونية ذاتها؟

إن سيمفونية The pathetique هي أكثر ما لحنه تشايكوفيسكي مأساوية ووضوحاً معاً, فهي تبدأ وتنتهي بالعدم, وتتمتع ببناء تدريجي ودوراني تذكرنا بأجراس الكنيسة الأرثذوكسية الروسية. تبدأ الحركة الأولى بمزاج قاتم وسوداوي, يُقاطعُ فجأة عبر شكل رباعي الدرجات من قبل آلات النفخ وبشكل مصيري, وبينما يستجمع اللحن قواه, فإن الآلات الوترية تهيمن عليه, وتعبّر عن صراع الحياة ضد الموت, وصراع الوعي ضد النسيان, وصراع النور ضد الظلام. تبلغ الحركة ذروتها ثم يستلم الكمان اللحن, كما لو أن كارون يعبر بالمستمع ضفة نهر الجحيم أكيرون. وذكريات العواطف ومعها لحظات الألم تحضر, ثم تزول بسرعة وتحل مكانها موسيقى للإيماء الهادئ. ولنا أن نسأل: هل للذكريات قدرة الاحتفاظ بالحياة؟ ففي الحركة الموسيقية الأخيرة, تحاول قوة الحياة استجماع نفسها من جديد والعودة, مع بعض الشدة التي لم تساهم إلا في تعزيز الفوضى. أما التصاعد الأخير في النغم, الذي كان غير مألوف زمن تشايكوفيسكي, بدا وكأنه تسريعاً لوتيرة النزول إلى القبر أو جحيم دانتي. ثم تأتي بعض الأصوات الخافتة وكأنها الاستسلام النهائي للإرادة الكونية.

من الضباب خرجنا وإلى الضباب عدنا, وتحت ذلك كله: تسري رغبة أكيدة بالنسيان.

 

 

المصدر