مجلة حكمة
آسيا الكبرى: رواية “من بين أنقاض الإمبراطورية” - مشيرا بانكاج / ترجمة: أبرار عبدالله

أمريكا: من الاستثنائية إلى العدمية – بانكاج ميشرا / ترجمة: سليمان الصوينع


 

 كتب فريد زكريا عام 2008 بأن “يسير العالم على طريقة أمريكا.” ثم يقول: “حيث تتجه الدول نحو  انفتاح أكثر وأسواق أكثر تقبلاً وديموقراطية.” فمنذ سقوط الشيوعية، والساسة الأمريكان في السياسة أو التجارة والأعمال وحتى الصحافة يرددون زهواً بأننا نعيش أو سنعيش قريباً في أفضل عالم عرفته الشعوب. حيث لم تهز التورطات الدموية في العراق وأفغانستان ولا ما وصف بأسوأ أزمة مالية عالمية منذ الكساد العظيم الإيمانَ بعالم متأمرك رائع. وقد صرّح باراك أوباما في العام الماضي بأنه “لو كان عليك أن تختار زماناً تعيشه من تاريخ البشرية، فيسكون هذا الزمان. هنا في أمريكا، الآن.”

ولكن الذي دمّـر أخيراً الأفكار البانجلوسية[1] زعيم دوغمائي خلال حملته الانتخابية في السنة [ماقبل] الماضية (2016) وهو الذي زمجر ،وقد صدقه كثر، حول “المذبحة الأمريكية.[2]” لقد بلغ ارتفاع شأو دونالد ترمب في دولة احتد فيها الاستقطاب بأن تنسف الاعتقاد الذي قال به الناقد فيليب راف في بواكير خمسينات القرن العشرين بأن الولايات المتحدة “بطبيعتها محصنة تجاه الصراعات الاجتماعية المأسوية والاصطدامات.”

كان راف يكتب من خلال معايشته لعشرينات القرن العشرين في تجربة ملؤها الأزمات الاقتصادية، والصراعات السياسية الاجتماعية والاحتراب اليميني المتشدد. واليوم، يقود أمريكا غول تويتري، وقد تم انتخابه وهو يحكم الآن بمساندة أخبار ملفقة[3]، والتي تشي بأمراض نفسية مشابهة، وهي سمة من سمات الحداثة، بل هناك ماهو أشد شؤماً وهو الهجوم الشرس الغير مسبوق ضد صلب فكرة الحقيقة.

إن الإفراط بالوعود من قبل النخب الحاكمة ، وافتراضاتهم الغير مدروسة، أمر يلام عليه وإن كان جزئياً مانشهده من هذا الانهيار الأخلاقي في أقوى دولة في العالم. فعلى سبيل المثال، في عام 2011 زعم السيد أوباما التالي: “نحن وبكل رباطة جأش نسير نحو جعل القرن الواحد والعشرين قرناً أمريكياً مرة أخرى.” ولكن تفاوت السرديات يوحي بأنها تسخر من الألم واليأس والضجر الذين تكشفت بطرق عدة سواء عبر “حياة السود مهمة[4]“  أو “بروليتاريا الحزام الأبيض الصدئ[5]“.

السيد أوباما، وهو من ألقى كلمة مجزية الثمن[6] في مؤتمر وال ستريت حديثاً، يظهر الآن كأحد أولئك الأفراد ذوي الحظ الوافر الذين ينتمون لأقليات تعاني بؤساً تاريخياً والذين يخلطون قدرتهم على الصعود إلى الأعلى بالتقدم الجمعي.

إن التعميم على العالم بشكل هائل على أساس النجاح الشخصي أو المناداة بأن الحياة لم تكن قط أكثر بهجة ، لمن الممكن أن يكون أمراً مدمراً سياسياً، خصوصاً إذا ما كان الفقدان والاضمحلال والخوف يلخصون تجارب كثير من الناس. ولم يكن لنا أن نتعلم شيئاً من فوز السيد ترمب لو لم نتفحص اليوم كيف ولماذا أقبلت النخب الأمريكية على الانغماس في تعزيز وضخ السخط في ذات الوقت الذي أصبحت اللامساواة اقتصادياً وثقافياً لايمكن احتمالها للأكثرية، وكيف أن افتقارهم للمصداقية الفكرية والوثوقيقة الأخلاقية جلب “حقبة مابعد الحقيقة[7]

لقد انحرفت لباقة النخبة في عصر انحدار وبشكل حاد عن المزاجية الثقافية القلقة التي كانت لدى المثقفين الأمريكان إبان خمسينات القرن العشرين، حيث كانت أوج الظهيرة المشتعلة[8] للقوة الأمريكية. في ظروف كانت أوربا وآسيا غارقة في حطام مابعد الحرب العالمية الثانية، تحولت أمريكا من دولة معزولة إلى قائدةً للعالم. ولكن الاحتمالية لصراع كارثي آخر، هذه المرة مع عدو مؤدلج ذي سلاح نووي، شد وطأته على عقل ووعي كثير من العقلاء والعاقلات. كما أن السقوط ،الذي صار مؤخراً، إلى البربرية الألمانية، وهي واحدة من القوى العالمية صناعياً وثقافياً وفكرياً، قد ألمحت بأن كثيراً من أوجه الحضارة الحديثة يشوبها الخطأ.

فمفكرون كـإيريك فروم وهيربرت ماركيوز وحنه أرندت ودوايت مكدونالد وريتشارد هوفستاتر، قد تناولوا احتمالية أن الفرد – إذا ماتعرض إلى تغير جذري وانفصل عن اعتقاداته التقليدية وعوائقه الأخلاقية الأخرى – كان عرضة للتلاعب بآليات الدعاية المضللة والترفيه. فأشهر كتب هذا العقد مثل “المقنعون المخفيون” و”النخبة الحاكمة” و”الحشد الوحيد” و”الإنسان ذي البعد الواحد” و”رجل غير عقلاني” أبانت عن تهديدات جديدة كرسها مجتمع عقلاني مفرط تجاه الربح والاستهلاكية الموجهة للحرية الإنسانية. وقد وصف أوباما راينهولد نيبور بأنه من الملهمين الأوائل وهو الذي كتب، “إن فردوسنا المليء بالأدوات والعالق في جحيم انعدام الأمن العالمي حتماً لا يقدم لنا حتى تلك السعادة التي كان يُحلم بها في القرن الماضي.”

إن العظمة المنقطعة النظير لأمريكا، على الرغم من كونها سبب لاحتفاء الكثيرين، قد جلبت الكثير من الاضطراب. ففي عام 1960 وفي مجلة لايف Life وعلى مدار سلسلة من خمسة أجزاء دارت حول “الغرض الوطني”، و هل كانت أمريكا “عظيمة بالطريقة الصحيحة،” حيث لم يكن أدلاي ستيفينسون (مرشح رئاسي سابق) أقل شأناً من أوباما، ومع ذلك كان قلقاً من يكون “خداع النفس قد أوهن من قوة إدراكنا للحقيقة.” فقد أشار أرثر ميلر وصول بيلو ونورمان ميلر في أعمالهم إلى النتاقض، أو كما قالها جيمس بالدوين، كان الأمريكان “مصابون بأعلى مستوى عالمي للمعيشة والذي قد يكون أكثر طرق العيش فراغاً وتيهاً.”

يصف العالم الاجتماعي رايت ميلز كيف أن نخبة يربطها تعليم رابطة اللبلاب ( Ivy League) وتعارض المصالح قد يحول دون قطف صفوة فاكهة التنمية الأمريكية. لقد كان والتر ليبمان قلقاً أن يكون الوعد بتكوين ثروة خاصة قاعدة أخلاقية واهنة لمجتمع وطني. حيث تعتبر العدمية ،عند كثير من مفكري منتصف القرن، انهياراً كارثياً للإيمان بالأدلوجة الوطنية والمؤسسات وهو ما حدث في أوربا، كذلك يمكن حدوثه في أمريكا أيضاً.

إن ستينات وسبعينات القرن الماضي لم تكشف عن دولة منقسمة بشكل صارخ على المستويات الجيلية والعرقية والدينية والجندرية والسياسية. بيض وسود، مثليين وطبيعيين، رجالاً ونساءً، دينيين وملحدين، متظاهرون ضد الحرب ووطنيون ذوي خوذ صلبة، كلهم تواجهوا. ولفترة ما، كانت المبادئ المؤسِّسَة للمجتمع الأمريكي وهي “الحقوق الغير قابلة للتصرف” من “الحياة والحرية ونشد السعادة” حيث بدت وكأنها غير قادرة على الفصل بين المصالح المتنافسة وربما أحياناً المتضاربة.

ولكن العقيدة الأمريكية، المتشكلة أساساً في القرن الثامن عشر من ملاك للعبيد والمدعومة بحماس من ذكور بيض عبر طيف أدلوجي، لاتزال قادرة على استيعاب ولاءٍ وافٍ وواسع. وقد كان ذلك لعدم وجود بديل مؤثر بإمكانه إحداث ازدهار وتقدم في الحريات الشخصية. كما أن التطورات المتدرجة، كقانون الحقوق المدنية لعام 1964 والحرب ضد الفقر ومكتسبات الحركة النسوية، أبقت على الإيمان بالحلم الأمريكي – وهو أكثر أدلوجة مغرية وبديل يحل محل الدين في العالم الحديث.

وعند ثمانينات القرن العشرين، كان ريغان أو الريغانون يمشطون أي إلماح بأن هناك أزمة وطنية[9]. لقد بدى أن سقوط الشيوعية مبرراً للأنموذج الأمريكي. إن غياب خصم جلّى صورة أمريكا الذاتية خلال معظم القرن العشرين مكّن للذاتوية المثالية التي حذر منها نيبور ،وعدد من مفكري منتصف القرن. لقد استقبلت روسيا المابعد شيوعية جيشاً من الاقتصاديين الأمريكان والتكنوقراط والصحفيين وهي تعزم أن تمضي بالدولة نحو ديموقراطية على الأسلوب الأمريكي وأسواق حرة.

لقد تناسينا وبسهولة الفشل الذريع لـ”بلاشفة السوق” كما يصفهم الاقتصادي جوزيف ستيغليتز، الذين ساهموا في تفريخ أول وأبرز دوغمائي في وقتنا: فلاديمير بوتين. تسلم السيد بوتين السلطة في أواخر التسعينات في روسيا على إثر وعد بحسم أمور كثيرة بعد أن أُنهكت الدولة بالخصخصة ورفع القيود التي قادت إلى انهيار في الدخول ومعايير الصحة وارتفاع في البطالة ومعدل الوفيات. هذا الانكسار الذي تم بمؤازرة أمريكية في روسيا سبق بمدة طويلة تفكيك العراق والانفراط الهائل في أمريكا ذاتها.

لقد تبين كيف أن نخبة متشابكة، تتكون من عولميين نيوليبراليين وليبراليين عالميين بالإضافة إلى مفكرين محافظين جدد، حشدت حضوة غير مبررة بينما تشكل طبقة خادمة للسياسيين. كما أن المصائب توالت (بدءً بظهور القاعدة ومن ثم الدولة الاسلامية، وأزمة مالية في رأسمالية غير منتظمة، تلاها عملية إنقاذ المصرفيين الملامين) وأثبتت بأن تلك النخبة كانت متنفذةً جداً لدرجة أنه لا يمكن خلعها بسبب فشلها كما كانت جد متغطرسة لدرجة أنها لم تتعلم من فشلها.

إن نجاح بوتين في إذكاء قومية روسية صلفة أبان عن فجر عصرنا الغاضب، الذي فيه تتحاشد الدوغمائيات ليتم استغلال أولئك المليئين بالغضب من المهمشين والمخدوعين والمشتتين والمحتقرين بواسطة نظم عالمية للخصخصة. ومع ذلك فإن هذا السجل لا يكاد يُناقش اليوم، رغم أن الوسطيون والليبراليون من المثقفين يتهمون بوتين بشكل روتيني بأنه يحاول التأثير على مخرجات السياسية في أمريكا. وفي تحرك دفاع عن النفس، فإن هؤلاء المثقفين مافتئوا عن لوم سياسات الهوية لدعم السيد ترمب بين المصوتين الذكور البيض.

حيث استمر البعض بتقديم بضعة حلول مبنية على الروح الأمريكية للقدرة على القيام بأي عمل، ومنها مسيرة التقدم (والتي توجت مؤخراً بالسماح لمتحولي الجنس بالدخول لدورات المياه) التي سوف تمضي حتماً في أقرب فرصة ممكنة، وذلك في عام 2020. إن الاستحسان الذي لاقى به ليبراليون عالميون كـفريد زكريا ومحافضون جدد كـبيل كريستول إدارة ترمب على الضربات الصاورخية في سوريا كشف عن خيال جامح لحسن القدرة الأمريكية.

إن دس رأس الاستثنائية الأمريكية في التراب كالنعامة ليؤجل تفكراً ملحاً بقضايا واجهها مفكرون كـرايت ميلز وحنا أرندت ووالتر ليبمان في خمسينات القرن العشرين. إذ أن حرب السيد ترمب ضد مؤسسات أمريكا، والتي يسعرها عن طريق الاخبار الملفقة ونظريات المؤامرة، ماهي إلا جزء من العدوان العالمي على رابط حيوي ،ودائماً مايكون واهياً، يربط بين السياسة والحقيقة، والتي ستبقى مؤثراتها إلى مابعده.

فالرؤية المغبشة في الولايات المتحدة حول وُحدة أفضل أسهمت في ردم الهوة، لأمد طويل، بين الوعد بتقدم اجتماعي اقتصادي وثقافي وبين واقع العنف الطبقي القاسِ، ومنها الفقر واللامساواة. الأمر الذي حدى بأوباما في خطاب وداعه في يناير من 2017 بأن يقول: إن أمريكا “كانت تعرف بالمضي قدماً، بتوسع مستمر لعقيدتنا المؤسِّسَة ليعتنقها الكل ،و ليس فقط البعض.”

إن بالإمكان المجادلة بأن تلك العقيدة الأمريكية التي كثيراً مايتم تعزيزها والاعتقاد بها على نطاق واسع حيث توصف بالتقدم المضطرد الذي لايمكن ثنيه هو ما  أنقذ مجتمعاً تعددياً ليس فقط من الصراعات المجتمعية بل من المتلاعبين بالجماهير الذين ،من حين لآخر، يدمرون دولاً أخرى بحلولهم المزعومة. وأما اليوم، فيبدو أن كثيراً من الناس تنبهوا للطبيعة المبنية لما يشبه العقيدة الدينية: بمعنى أنها صادقة طالما كنت تؤمن بها.

إنهم يشعرون بأنهم خدعوا بطبقة من سياسيين وخبراء وتكنوقراط وصحافيين مِن مَن زعموا بأنهم يمتلكون الحقيقة وقدموا سلسلة من الاقتراحات التي اتضح أنها إما مضللة أو خاطئة. فارتفاع موجة العولمة سيرفع كل القوارب[10]، فالسوق حر وعادل، والعلاج بالصدمة سيحمل الرأسمالية إلى روسيا، كما أن العلاج بالصدمة والرعب سيحل الديموقراطرية في العراق. إن كثيراً مِن مَن لحقهم الضيم ينظرون الآن إلى النخب، من الذين قالوا بتسريع التقدم بينما يوسعون قوتهم وثروتهم، كـدجاجلة يخدمون مصالحهم الخاصة.

ففي كل مكان نجد أن الساخطين ينفرون من المؤسسة السياسة والإعلام السائد، ويسلمون للحقائق البديلة – وما ذلك إلا حقيقة مجتزأة تتلقفها التقنية الرقمية. وهي بهذا المعنى تؤكد أن القرن الحادي والعشرون قرنٌ أمريكي، وهو ما لايتوقعه حتى المتفائلين مثل السيد أوباما.

إن نظماً سلطوية كالصين وإيران يتحاشون التحديات ضد سلطتهم عن طريق التضييق على الوصول إلى الانترنت والسعي إلى ترميم أساطير الوحدة الوطنية. ولكن العجب في دولة تعتبر أقدم ديموقراطية حديثة تقود العالم الحر بيأسها قبل انحلالها من أعز قيمها وعقائدها. أمريكا، وهي بذلك تنظم إلى التاريخ الموجع للحداثة  تحت حكم مهووس كذاب، حاثةً سير نزعتها المخاتلة، وهي النزعة  العدمية.

 

 


ملاحظات:

[1] إشارة إلى شخصية بانجلوس في رواية كانديد لـفولتير.

[2] إشارة لما قاله ترمب في خطاب تنصيبه رئيساً.

[3] حيث كثيراً مايردد ترمب أخبار ملفقة fake news

[4] إشارة إلى الهاشتاق الشهير #BLACKLIVESMATTER

[5] الحزام الصدئ هو منطقة في وسط غربي أمريكا والبحيرات الكبرى، حيث يعبر عنها بالصدأ لأنها كانت تزخر يوماً بالصناعة ولكنها ضعفت منذ ثمانينات القرن العشرين.

[6] تلقى مقابلها أربع مائة ألف دولار

[7] إشارة إلى كتاب رالف كيز “حقبة مابعد الحقيقة” The Post-Truth Era

[8] إشارة للفيلم الأمريكي المشهور في الخمسينيات High Noon

[9] إشارة لما جاء في خطاب المرشح رونالد ريغان قبل انتخابه والذي ألقاه في 3 نوفمبر 1980

[10] راجع كتاب روسيا الجديدة : مذكرات ميخائيل جورباتشوف ص 397