مجلة حكمة
نظرية الأدب ايزر

الخلفية الفلسفية لنظرية الأدب لدى ف. ايزر – عز العرب لحكيم بناني


عندما ننبري في فلسفة العلوم إلى تحديد مجال علم الأدب أو إلى تصنيف مباحثه، قلما ينصرف ذهننا إلى إدماج علم الأدب ضمن العلوم التي تدخل في اختصاص الإبستمولوجيا. نعتبر عامة أن الأدب ليس علما بالمعنى الدقيق للكلمة، سيما عندما نستند في هذا التقرير إلى نموذج العلوم الطبيعية دون أدنى تحفظ حتى لدى بعض الأدباء أنفسهم. ونعتقد فضلا عن ذلك أن الأدب ليس علما برهانيا لأن مقدماته لا تملك مقومات المقدمة الكبرى البرهانية أو ننطلق عامة من أن الأدب ليس علما – بالمعنى الدقيق لأننا نميز بشكل خفي بين الواقع والخيال، حتى وإن كانت هذه المعرفة صامتة ليس لها سند واضح.

نقد الأسس البديهية في نظرية المعرفة:

تشترط إقامة مبحث فلسفي حول الأدب التخلي عن الأوليات البديهية التقليدية التي تدعي إحداث تمييز حاسم بين الواقع والخيال. وقد تحقق هذا الشرط في الفلسفة المعاصرة، أثناء تحولها اللغوي، بعد أن تحولت من فلسفة تجريبية ذات أوليات اختيارية بديهية إلى فلسفة حجاج وتواصل وتداول. واصبح الإلحاح على البداهات غير الحوارية تعبيرا عن القصور والعجز عن الانفتاح والابتكار وتعبيرا كذلك عن استبعاد التفاهم الضروري بخصوص القضايا الشائكة. بيد أننا نجد اتجاهات فلسفية سعت إلى تدارك هذا الاستبداد المعرفي بالبديهيات الثانية: تراجعت فلسفة الهرمنطقا عن فهم الطبيعة إلى فهم الفهم. وتخلص كارل بوبر من شبح “القضايا الذرية” ليركز على أولوية الفروض الاحتمالية التي تحتمل التصديق والتكذيب من لدن الوقائع وتخلينا عن الاعتقاد الجزم الذي يقوم، من بين ما يقوم عليه، على المشاهدات الباطنة (الغزالي) أو على تجربة الإدراك الباطني (ديلتي) أو على معيار البداهة – بدل معيار مطابقة الفكر للواقع- (برنطانو المتأخر) وقام نظر جديد يستند إلى دعاوي الصلاحية لدى هابرماس. وتجاوز الفلاسفة أطروحة المقدمات الكبرى الذاتية والكلية واليقينية في اتجاه نظريات أكسيومية تنظر إلى القضايا الكبرى كقضايا شرطية. تبرز هذه المعطيات الجديدة أن معرفة العالم تجربة تتجاوز الواقع المعطى لأننا نفهم العالم بالقدر الذي ننشؤه فيه إنشاء على غرار إنشاء عوالم الأدب سواء بسواء. ويمثل الانفتاح على النماذج المعرفية الجديدة انتقالا من الوعي السماعي (من الجملة الخبرية ومن المتواترات، الغزالي 93،37) إلى الوعي القارئ. ففينومينولوجية الوعي القارئ تؤكد على فاعلية الذات في إنشاء العالم من أجل تدارك غياب البديهيات التقليدية وغياب دعوى حصول التواصل قبل صيرورة التفاهم، فغياب تجربة التواصل اعتمادا على ما سلف، بالرغم من ذلك هو الحافز الذي يدفع إليه “إذ لم يكن بالإمكان أن نتوقف عند تنوع العلاقات الإنسانية لو كان أساس إمكان هذه العلاقات محددا سلفا من ذي قبل. ولا يكتسب التفاعل الثنائي حيويته إلا عندما تؤسس لا قابلية تجربة التجربة المتبادلة حافزا على السلوك” ايزر 84،261. تجربة التواصل تجربة تجاوز بغية تحقيق تفاهم ممكن، فتجربة الإدراك تجاوز البعد البصري إلى البعد القضوي. (لا ندرك المشار إليه باعتباره كذلك، كشخص متحيز في المكان بل باعتباره كذا وكذا في صلب قضية) من هذه الزاوية أكد هوسرل ومارتي على أولوية التركيبات غير الإرادية passive Synthèse وعلى التركيبات الحملية prنdikactive Synthèse كما استند إليهما ايزر حينما أكد بأن النشاط القضوي غير الإرادي هو الذي يفتح “معنى النص أمام النشاط التمثلي للقارئ 84،243. وإذا كان مارتي قد ركز على أولوية الوعي القضوي في مشاهدة الأعيان من خلال تكوين قضايا حملية باطنية بخصوص الأعيان أكد أيزر على أولوية الوعي القضوي في صيرورة قراءة الواقع الأدبية من خلال تدخل عامل الزمان. فهذا العامل المحايث لصيرورة القراءة يتحكم في التركيبات العملية ويميزها عن لحظة تكوين القضايا وفق الشروط المنطقية المعروفة. وعلى غرار تجربة الإدراك والقراءة تصبح تجربة الإيهام في الأدب تجربة تجاوز كذلك. فإذا كان التقابل التقليدي بين الواقع والوهم يستند إلى مبدإ التجاوز يعلن الإيهام عن ذاته باعتباره تجربة تجاوز “فالخيالي يتميز عن كل ما هو معطى باعتباره تغييرا له، ما دام أن كل موجود كائن موضوع بعمليات وضع Legein بناء على عمليات تعريف الهوية وآليات منطق المجموعات (…) وبعمليات الإنشاء Tenkein (الإنشاء والتركيب والصنع). بالتالي، فالخيالي ليس الآخر بالمعنى الأنطولوجي، بل يظهر آخر بواسطة عمليات الوضع والإنشاء” ايزر 91،361.

الوهم ونظرية الدلالة والتواصل:

إذا كانت تجربة الأدب تجربة وهم على ضوء تجاوز تجربة الواقع من أجل الإيهام، لا يرمي تعريف الوهم إلى تعيين صفته الجوهرية. إذ لا نهدف إلى تحديد منزلة الوهم بقدر ما نرمي إلى التساؤل عن استعماله. يتحول الوهم، على الفور، إلى تواصل. والهدف المتوخى هو صياغة منظور تواصلي للأدب اعتمادا على استشكال مفاهيم الذات الواعية والنص والعالم المرجعي والدلالة ودون استثمار أدنى قاعدة عليا أو لغة فوقية أو نظام من المواضعات. فالغياب الجزئي أو الكلي لهذه الأنظمة الرمزية في التواصل، على خلاف مزاعم شومسكي وهابرماس وسورل، يشكل “القاعدة المؤسسة في العلاقات الإنسانية” ايزر 84،260. وأمام تضخم الحديث عن القواعد واللغات الفوقية والصورية انبرى ايكو إلى القول “بأنه لا وجود لأدنى نظام ترميزي خلف مكان التواصل، بل لا نجد شيئا آخر غير غياب هذا النظام الترميزي” هامش 5 إيزر 84،260، نتحول على هذا النحو من لسانيات وصفية تنبني على قواعد إلى لسانيات نقدية “تتساءل، بعد رجوعها إلى الذات، عن خلفيات دعاويها الذاتية، وتصبح مؤهلة لإعادة صياغة العبارة اللغوية اللاحنة بشكل مرضي معتبرة إياها ظاهرة فردية شاملة” فورستر 344، في إيشباخ 84I. ويمنعنا التأويل التواصلي كذلك من تعريف الدلالة بناء على المعجم أو على الاستعمال، سيما وأن قواعد الاستعمال غير محددة سلفا. ولا نستطيع تعريف الدلالة الا “كشبكة الإحالات اللامتناهية على شيء مغاير وهذا المغاير في ذات الوقت دلالة وليس دلالة -أي هو ما تتصرف الدلالات بالنظر إليه وما تتعلق به. فالدلالة ليست شيئا “في ذاتها”(…) إلا أنها هي ذاتها الموجودة خارج ذاتها” ايزر 91،8-367 بالتالي، فالدلالات الخيالية لا يقابلها أي مدلول محدد، بحيث يصبح الدال حافزا على تجاوزها ويصبح غير الموجود هو المدلول الذي يوضع إزاءنا” ايزر 91،366. وتتحول الدلالات الخيالية إلى دلالات وهميته بالمعنى الإيجابي الذي يفيد الفكرة على تفعيل تمثل ممكن يتجاوز التمثل المعطى، وهو منظور إيجابي نجده سلفا لدى الغزالي وابن البنا المراكشي. يعتبر الغزالي بأن الوهيمات تمثل القسم السادس من الاعتقاد الجزم رغم أنها تمثل تجربة تجاوز للواقع. مثال أن إثبات شيء مع القطع بأن الجهات الست خالية عنه محال “فكل ما لا يكون على وفق المحسوسات التي ألفتها فليس في طبعها إلا النبوة عنها وإنكارها ومن هذا القول نفرة الطبع من قول القائل “ليس وراء العالم خلاء ولا ملاء” الغزالي 93،37-38. ويقول بن البنا في تمييزه بين العقل والوهم تمييز اللزوم عن الرسوم “والعقل لا يضع لشيء رسما أصلا، إنما له الشهادة للحق ومدركه وجدان اللزوم في الأشياء، فلذلك إذا صرف الإنسان فكره نحو ربه نصب الوهم في الذهن شيئا لاينفك الوهم عنه بجعله كالعلامة، فهذا الذي حصل في الذهن بالوهم يساعد العقل الوهم على نصبه إذ لا حيلة للوهم إلا به، ويتفقان على أنها علامة مشيرة إلى الاسم [من ] حيث هو وليست هذه العلامة هي ماهية الرب ولا نفسه، إذ لا ماهية للرب وله حقيقة جلت عن إحاطتنا بها يشير إليها العقل والوهم” ابن البنا 95،82. فوضع الأسماء الوهمية يؤدي إلى تمثل ما لا ينحصر في تمثل ويتجاوز بذاته كل تمثل معطى كتمثل أكبر عدد ممكن. بيد أن تجربة الوهم تتخلى عن لبوسها التقليدي في تقيدها بلجام العقل – على سبيل المثال لدى الغزالي وبن البناء – من خلال تحولها إلى تجربة إيهام، دون أن تصبح تضليلا (على خلاف ما يوحي به الاستعمال التقليدي للقوة الوهمية). فإذا كانت هذه القوة ملجمة بلجام العقل (عقل البداهة والأوليات واللزوم) لم تعد وظيفة الإيهام أثناء تفعيل القدرة على التمثل متقيدة بأية حدود مسبقة. “فإذا كان الدال يحيل على مدلوله وهو الذي تتقوم “صيغة وجودية” في لا – وجوده فمرد ذلك إلى انعدام وجود أنظمة ترميزية أو مواضعات تسمح قواعدها المعطاة سلفا بتحديد المدلول. إن الدال، باعتباره رمزا محددا، مؤشر على حدود قابلية التعين، ويعمل خلال ذلك على استشكال “أم المقولات وهي مقولة التعين” باعتبارها “ترادفا بين الوجود والتعين” وهو ما شكل اتجاها مركزيا في الفكر الغربي” ايزر 91،9 – 358. ويؤدي نقد مفهوم الدلالة المتعينة – في خضوعها لسلطة العقل- إلى تحويل التمييز الوجودي بين الوهم والواقع إلى تمييز وظيفي في بعدهما التواصلي “بدل أن يصبح الوهم مجرد نقيض للواقع يخبرنا الوهم بشيء ما يخص الواقع. إذا لم يكن الوهم عين الواقع، فلا يرجع السبب في ذلك إلى أن الوهم يفتقر إلى محمولات واقعية ضرورية بقدر ما يعود إلى قدرة الوهم على تنظيم الواقع، على نحو يصبح معه الواقع مستوى تواصل، لذا، لا يمكن أن يصبح الوهم أبدا عين ما ينظمه” ايزر 84،88. بالتالي، يفيد الوهم في معرفة الواقع ويشغل الأدب وظيفة معرفية بخصوص الواقع على غرار العلوم النظرية. فهل تؤدي هذه التسوية إلى إسقاط الحواجز بين مناهج العلوم الدقيقة والأدوات الاستعارية والكنائية في الكتابة الأدبية على نحو ما تتنبأ به ماري هيسه في اتجاهها -ما- بعد- الامبريقي؟ على أي حال، كان الوهم أداة فعالة ليس فقط لوصف الواقع، بل كذلك لتغييره، والوهم الذي خلق أمما هو الذي قد يعمل أيضا على تدميرها. فلا توجد الأوهام فقط باعتبارها نصوصا وهمية “إنها تلعب دورا لا يقل أهمية في أنشطة المعرفة والفعل والسلوك كما هو الشأن في وضع مؤسسات وتأسيس مجتمعات وصور للعالم، بيد أن ما يميز النص الوهمي في الأدب عن كل هذه الأوهام، كما يقول إيزر، هو أنه يكشف بجلاء عن خاصيته الوهيمة” ايزر 91،35-36.

البنية التوزيعية في النص الأدبي:

إذا كان الوهم مرجع تجربة تجاوز الواقع المعطى، تتفكك صلته بالذات العارفة وبقواها المعرفية. يصبح التقابل بين الإيهام والوهم تقابلا بين أفعال تخييلية لتجاوز الواقع من جهة ووقائع وهمية جديدة من جهة أخرى ويعني تجاوز الواقع سواء لدى ايزر 84 أو ايزر 91 أو ايزر 97 تجاوز نماذج للعالم أو نسخ معينة من العالم دون التقيد بصورة مرجعية فيزيائية للعالم. فإذا لم تكن الفيزياء نموذج العلم الحق كما كان الشأن لدى فتغنشتاين الشاب في الرسالة المنطقية الفلسفية لم يعد الواقع الفيزيائي نموذج الواقع الحق. لذا، يدعم ايزر رأي جودمان الذي يرى أن العالم الواقعي عالم ممكن بين العوالم الممكنة دون أن يتخذ صيغة فيزيائية متصلبة في مقابلها “والأوهام حسب جودمان ليست مفاهيم ولا مخططات فبالأحرى أن تصبح بنيات بل هي “طرق” تعتمد لإنتاج نسخ مغايرة للعالم من عوالم تتجنب هذه الطرق شرك الوقوع ضحية تشييء ممكن لأنها تجسد مجرد إجراء عملي modus operandi وهو الذي قد تمثل له في أفضل الأحوال بأدوات إجرائية” ايزر 91،267-268 فالوهم أداة لصناعة الوقائع وعوالم جديدة. وقد أفاض جودمان في فحص أساليب صنع العوالم الجديدة من حيث خصائصها الفنية كخصائص الكثافة التركيبية حيث تستثمر حدود دنيا من الاختلافات (أي أدنى حد لها) لتمييز الرموز، والكثافة الدلالية حيث يستثمر الحد الأدنى من الاختلافات بين رموز الأشياء والشحنة الجزئية حيث تكون بعض جوانب الرمز ذات دلالة والتحيين حيث يؤدي الرمز وظيفته الترميزية عندما يصبح نموذجا من الخصائص التي يتوفر عليها حقيقة أو مجازا، سواء كان الرمز يؤدي وظيفته الحالية أم لا، وخاصية الإحالة المتعددة والمركزية. ومع ذلك، فالخصائص الفنية للنسخ المرجعية الجديدة من العوالم لا تقوم أبدا على وجود مواضعات أو جوانب اتفاق وإلا “ستعمل بشكل كبير على حصر إنشاء العوالم لو كانت موجودة سلفا” ايزر91،273.

يجسد النص الأدبي إحدى هذه العوالم المرجعية المعيشة. وترتكز النظرية النقدية لايزر على وجود تفاعل بين النص القارئ. يؤكد ايزر من جهة بأن القارئ يخرج النص من القوة إلى الفعل كما تفعل العين بصورة الشيء. من جهة ثانية، هناك قصدية معاكسة متجهة من النص إلى القارئ. إذ يمتلك النص قوة توجيهية يدعوها ايزر استراتيجية النص “تتوافق مثل هذه الاستراتيجيات في حدود معقولة مع الإجراءات المقبولة في الفعل اللغوي ما دامت تفسح المجال أمام الخطوط التوجيهية (..) إلا أنها تتميز عنها ما دامت تخيب التوقعات الثابتة أو التوقعات التي تعمل هي ذاتها على تثبيتها على نحو خاص” ايزر 84،101. تفيد استراتيجية النص وجود مواضعات مخصوصة في الخطاب الوهمي. لا يخلو هذا الخطاب بالطبع من المواضعات، بيد أنه ينظم المواضعات على نحو مختلف عما يصح بالنسبة للأفعال اللغوية القائمة على وجود قواعد في أفعال القول الإنجازية. تفشل هذه الأفعال عندما لا تتبع القاعدة بشكل صارم. ولا نلجأ ببساطة إلى المواضعات عامة في الأفعال اللغوية بل نلجأ إلى صلاحيتها” ايزر 84،99 إلا أننا “نستشكل صيغة الصلاحية هذه في القول الوهمي لأنه يخرق الصلاحية الثابتة العمودية للمواضعات ويحاول تنظيمها أفقيا. فهو ينتقي من بين أكثر مستويات المواضعات المتباينة التي ترد في تاريخ العالم المعيش، إنه يقيم صلة بين هذه المواضعات كما لو كانت متجانسة فيما بينها” ايزر 84،100.

نواجه في علاقة التفاعل بين النص والقارئ مستويين مختلفين متكاملين وهما: مستوى البنية الثابتة ومستوى البنية المتحركة.

يستمد المستوى الأول جذوره من الأرغانون الراعي الذي كان كارل بوهلر قد طوره خلال العقد الثالث من هذا القرن.

I .

II.

2.

الأفعال القصدية

البنيات اللغوية

1.

الأفعال الإنجازية

النصوص اللغوية

تصبح نظرية الأدب من هذه الزاوية ملتقى مستوى الأفعال القصدية (كالقصد والتخيل والإيهام) بمستوى الأفعال اللغوية الإنجازية كأفعال الحكي والسرد والحجاج والاختيار وملء الثغرات والتأليف. وتصبح كذلك ملتقى الواجهتين الأوليين المتصلين بمباحث فلسفة اللغة والسيكولسانيات ومباحث التواصل والمحاججة بالواجهتين الأخريين من خلال مباحث اللسانيات وعلم الأدب وتحليل الخطاب. وبذلك، تصبح نظرية جمالية التجاوب لدى ايزر ملتقى واجهة التخييل بواجهة النصوص الوهمية وتستثمر لهذا الغرض المباحث التي ذكرناها. فالكاتب ينقل البنيات الخيالية إلى نص وهمي غير متعين وينقل خيال القارئ النص غير المتعين إلى قابلية تمثل متعين. بيد أن صيرورة التفاعل هذه تتجسد في بنية متحركة ذات مستويين: مستوى مركبي وسمتوى استبدالي أو ترابطي بتعبير دي سوسير.

إن القارئ، حسب إيزر، هو الذي يخرج معنى النص من القوة إلى الفعل، ولا يعتمد لبيان ذلك على نظرية الإدراك الأرسطية بقدر ما يستثمر نظرية الإدراك الباطني للزمان لدى هوسرل، رغم أن هوسرل ينشئ نظرية الزمان اعتمادا على مسلمة وجود انطباع أصلي وليس استنادا إلى مسلمة وجود النص الأدبي، ويشترك ايزر مع هوسرل في التسليم بوجود معطيات تجريبية أصلية وسابقة في وجودها على وجود القصد. يقول هوسرل بهذا الخصوص “بأن الوعي ليس شيئا من دون الانطباع” هوسرل 28،131 وهذا يعني أن فينومينولوجية الزمان لدى هوسرل ذات جذور تجريبية من خلال قصدية غير خالصة تتلون بلون الانطباع الأصلي الآتي من خارج. ويتدارك هذا الموقف التجريبي من خلال التغيير الذي طرأ على مفهوم الانطباع الأصلي في المجموعة الرابعة من نشرة رودلف بيرنت 85 – وهي نشرة تعيد نشر هوسرليانا على نحو يختلف عن مضمون نشرة هيدجر 28. يقول هوسرل هنا “بأن الانطباع الأصلي في ذاته ليس من طينة الأصوات، إنه ليس معطى حسيا، بل هو انطباع الصوت. فالانطباع الأصلي وعي قصدي خالص بآنية -الصوت إنها تحقق خالص للوعي المطلق”. ورغم أن هذا الموقف قد يكون ذا صلة بنظرية التمثل لدى برنطانو – من خلال تركيزه على بداهة المشاهدات الباطنة، إلا أنه يعتبر أن نظريية برنطانو ليست أساسا متينا لوضع نظرية للزمان. إذ أن برنطانو ينطلق من ثلاثة أحكام مسبقة: 1- حكم مسبق ميتافيزيقي ويعني أن الراهن فحسب يستحق “الوجود الواقعي” ومن 2- حكم مسبق معرفي ويعني أن الراهن فحسب موضوع إدراك ومن 3- حكم مسبق سيكولوجي: ويعني أن تمثل شيء ما مرتبط بوجود مضمون ذهني يقدم ذات الشيء داخل الوعي (انظر هوسرل 85، XXIII). بينما تقوم نظرية الزمان لدى هوسرل من خلال قابلية إدراك باطني للماضي والمستقبل على غرار إدراك الراهن. فنحن ندرك حركة شيء ما وديمومة شيء ما في كل إدراك راهن بفضل التذكر والترقب المحيطين بلحظة الآن. والإدراك الآتي جزء غير مستقل بذاته “لأنه حد فاصل مثالي” هوسرل 85،76 أي أنه كائن “مجرد” هوسرل 85،93. وتظل خطية الزمان مدينة في وجودها لقدرة الوعي على التنقل بين صيرورات التذكر والتحقق والترقب. ويرجع هوسرل الهوية الشيئية للموضوع الزماني إلى الوعي بهوية باعتباره موضوعا متنقلا عبر محطات الزمان. إلا أن الوعي لا يكتفي بملاحقة سيرورة المحطات الزمنية المتوالية بل يركب المظاهر الماضية والمستقبلية للشيء ويرجعها إلى وحدة هوية الشيء، فهوية الشيء متعلق قصدي intentionales korrelat للوعي بالهوية، وهذا المتعلق القصدي هو الذي يدعوه ايزر “موضوع التمثل” في صلب النص الأدبي. وإذا كان فهم الكائنات الخطية الموزعة في الزمان مرتبطا بتركيب متجدد بين التذكر والترقب أو بين التذكر وخيبة التوقع، فمن البديهي ألا يخرج النص من القوة إلى الفعل إلا عندما يتحول من كائن متحيز في المكان إلى كائن موزع عبر خطية القراءة، وهي الخطية التي تتحكم في هيكلة زمانية النص، على هذا النحو، يعتبر ايزر “أن وجود القارئ في صلب النص يتحدد باعتباره نقطة تقاطع بين التذكر والترقب وهي التي تنظم توالي الجمل وتفتح الآفاق الباطنية للنص” ايزر 84،186. فالقراءة شعور بامتلاك التمثل وفراغه في ذات الوقت وهي استحضار دائب للحظات السابقة وتعاقب لا هوادة فيه للانطباعات في اللحظة الراهنة، دون أن يكون الراهن شيئا آخر غير نهاية المستقبل وبداية الماضي. والراهن نقطة ليس لها امتداد. لذا، يحق لايزر أن يقول “بأن اللحظة الجديدة أمام القارئ ليست معطاة في عزلة تامة بل تعطى في تميزها عن اللحظة الماضية” والنتيجة لدى ايزر هي أن الاستحضار الاحتفاظي للماضي يتحول إلى “تغيير دائب للراهن الموجود كل مرة” ايزر 84،186. فبنية تيار الوعي هي شرط انتقال النص إلى وعي القراءة من خلال انتقال الانطباع من صيغة زمانية إلى صيغة أخرى، على خلاف ذلك، عندما نتوهم إمكان التشبت باللحظة الراهنة بصرف النظر عن الحدين المضافين الماضي والمستقبل، بدعوى أن الماضي يظل بدون تأثير وبان المستقبل لا يقبل التصور يصبح “الراهن مفتقرا إلى أن نتخلص من ذواتنا وأن نفقد أثرها إذا أردنا تحقيق المراد” إيزر 84،253.

ببيد أن البنية التوزيعية للوعي القارئ لا تتخذ طابع الراهنية الصوفية الموجودة خارج الزمن، كما لا تكتفي تلك البنية باتخاذ طابع الخطية ضمن تصور زماني صوري(كانط) أو ضمن تصور الوعي المطلق (هوسرل) بطبيعة الحال، تحاشى ايزر التوقف عند هذه المستويات اللاحقة لدى هوسرل وفضل التأكيد على أهمية بنية الوعي الاستبدالية إلى جانب البنية المكونية-الخطية. تنشطر الذات عادة إلى جزر مشتتة في المكان، مثل انشطار الجوقة السمفونية إلى معزوفات فردية ينسق قائد الأركسترا فيما بينها. بيد أن التنسيق بين الجزر المتباعدة للذات يفتقر إلى قائد أو ضمير، بل تظل الأهداف التواصلية الاجتماعية والأبعاد الأدبية الجمالية هي التي تحافظ على التوازن الهش القائم بين هذه الجزر. ويحدث أن ينقلب التوازن إلى درجة تغمر معها أمواج الأحلام – أحلام النوم وأحلام اليقظة- جزر الذوات، فيغرق الشخص في خيالاته دون إمكان السيطرة عليها. بيد أننا نحافظ أثناء القراءة قدر الإمكان على هذا التوازن، فعندما يتذهن القارئ “أفكار شخص آخر، يقفز مؤقتا، يقول ايزر، خارج قدراته الاستعدادية الفردية، إذ أنه يشتغل بشيء ما لم يكن قائما من قبل في أفق تاريخ تجربته. والنتيجة هي أن القراءة تؤدي إلى انشطار اصطناعي في شخصنا، وذلك عندما نجعل مما لا نكونه موضوعا لنا. والتسليم بمثل هذه البنية السمفونية يترتب عن واقعة تفيد أن توجهاتنا لا تختفي كلية عندما نتذهن أفكار شخص آخر. فرغم أننا قد نرد هذه التوجهات إلى الوراء نحو الماضي، تمثل، مع ذلك، الواجهة الخلفية لأفكار الكاتب التي تسيطر علينا الآن” ايزر 84،251 ويضيف أنه “لما يرجع الانشطار السامفوني الذي يحدث لشخصنا أثناء القراءة التوجهات المعترف بها نحو الواجهة الخلفية تؤدي هذه الصيرورة إلى مغايرة الذات لذاتها” 84،252. ويسمح لنا انشطار الذات إلى أصوات متعددة داخل نفس السمفونية بولوج تجربة جمالية تفيد أننا قد عشنا حياة أخرى خلال القراءة وأننا قد انتقلنا إلى أزمنة أخرى وإلى أمكنة أخرى وأننا حللنا أبدانا أخرى. والذات التي تلج عالم الوهم تتحول بدورها إلى ذات غير واقعية، وهذا التحول يسمح “للاواقعية عالم النص أن يظهر بارزا للعيان” من هنا، يتخذ رد فعلنا على عالم النص طابع الحدثية (…) وتترجم الحدثية الخيال إلى تجربة. تصبح التجربة ممكنة على ضوء مستوى التعين الذي يحصل للخيال تبعا لنمط [ الإيهام ] كما لو” ايزر 91،45.

الواجهة الانطربولوجية في الأدب: إن غياب أدنى فصل نوعي يميز الإنسان هو الذي يمنح التجربة الجمالية خاصية الحدثية ويمكن الوعي الزماني من الانشطار إلى أصوات متعددة ويجعل الذات مغايرة لذاتها، ليصبح الوعي ضائعا ومفقودا بين الأصوات المتعددة. لم يكن بالإمكان “أن يظهر فعل تخييل، كما يرى ايزر، لو كانت التحديدات التاريخية للإنسان تشكل “طبيعته”. وعدم قابلية تحديد طبيعته هو مصدر التخييل. وبما أن الإنسان لا يتخذ أبدا صورة نهائية، يصبح ذلك مناسبة كي يغاير الإنسان ذاته على الدوام وفق ما تجود به إمكاناته. لذا، ليست المغايرة شيئا قائما أمام الإنسان عن بعد، بحيث إن الذات والمغايرة معا على حد سواء تنكشفان كمسلمتين قبليتين متعاليتين ايزر 91،514.

يستدعي المستويان الخطي والاستبدالي أحدهما الآخر ليتركه في الواجهة الخلفية أو ليتقدم به إلى الواجهة الأمامية. فكما أن فهم الجملة يتضمن انتقالا بين المستويين المركبي والترابطي، يتطلب استيعاب النص كذلك استنفار الوعي الجوال والتنقل بين العوالم المرجعية والمعيشة في النص على أنحاء حددها ايزر بدقة في الفصل الأول من ايزر 91. وتقوم العلاقات الاستبدالية على وجود علاقات استعارة وفق فهم معاصر غير تقليدي. تقوم هذه العلاقات على التعريف بالسلب وعلى مبدأي التضاد والمخالفة وعلى واجهة خيبة الظن واختراق الحدود. وتقود البنية المركبية – وهي بنية الكناية لدى ليتش 77- إلى ولوج هذه العوالم المتشعبة المعيشة في النص الأدبي لتشهد على عمق التمزق الحاصل بين الصيغة اللغوية والمعنى واللذة فما نفتقر إليه، يقول ايزر، وما ينقصنا هو قابلية تمثل تلك “الوضعية الأصلية” قبيل حدوث أدنى تمايز أو انفصال، هو ذلك التمثل الأصيل الذي لم تعد النفس قادرة على إحيائه، بيد أنه تمثل أصيل Protovorstellung رسم في النفس خطوط قوة لا يمكن تفتيتها وهو أن الصيغة والمعنى واللذة تمثل فيها وحدة لا انفكاك لها” 91،3-362. بيد أن التفكك القائم بين اللذة والمعنى والصيغة ليس جديدا لأن الفلسفة الغربية تحيا على فتات تفكك المطابقة بين ما هو حق وما هو خير وما هو جميل. وكتب النقد تمايز قدرة الفهم والعقل وملكة الحكم بعضها عن بعض. فالجميل لدى كانط موضوع متعة ضرورية دون تدخل المفهوم. وسعي هيجل إلى التدليل على أن الجميل صورة حسية للفكرة المطلقة محاولة يائسة لإعادة التوحيد بين الوجود والأخلاق والجمال بعد تجاوز نموذج “ذات – موضوع” وما يقتضيه من وجود ذات متعالية تلتقي فيها المكونات الثلاثة. وقد ظهرت محاولة تقديم نظرية الأدب في إطار انتربولوجيا أدبية نتيجة سقوط مختلف الصور التي رسمها الإنسان حول نفسه. إذا كان الأدب في جوهره تجاوز الحدود المرسومة فلأنه يعكس مرونة الإنسان الذي يتجاوز كل مرة الصورة التي سبق له أن كونها عن نفسه. والنتيجة أن معرفة الأدب مرتبطة بدراسة مجمل نظريات الأدب عبر تاريخها كما أن معرفة الإنسان مرتبطة بتعقب مجمل تصورات الإنسان حول نفسه عبر تاريخه، كما اقترح ماكس شيلر ذلك (لورنتس 92،3) كما لا توجد نظرية تستغرق ماهية الأدب لا يوجد تصور للإنسان يستغرق ماهيته. والعلاقة القائمة بين محطات تاريخية الإنسان وتاريخية الأدب ليست علاقة تكذيب أو تجاوز بل علاقة حوار وتواصل. فغياب أدنى لغة فوقية أو أدنى قواعد للبت يجعل العلاقة بين النظريات والصور المتوالية للإنسان عن نفسه والحقول الدلالية والواجهات المتباينة للإنسان المفقود علاقة حوار مفتوح ولا نهائي.

المنزلة النظرية لعلم الأدب.

ينطلق ايزر من تصور يستبعد التمايز بين النظرية وموضوع النظرية “تتوفر النظرية سلفا على ما يتوجب إدراكه في الأدب. ويحدث ذلك في الغالب ضمن اقتضاء مسكوت عنه، من أننا نعتقد أننا نعلم ما هو الأدب” ايزر 97. ولا تتخذ نظرية الأدب صورة نهائية تحدد ماهيته “فكما أن مبدأ المحاكاة في التقليد الأرسطي لم يستطع أن يقيد علم الجمال الفلسفي في تحديده لماهية الأدب، كذلك لا يعين الأدب المتصل بالعالم المعيش في كليته وجهة نظرية في الأدب، لا سيما حين يكون تجليا لحقيقة تكشف عنها كل مرة في صلب أنساق فلسفية” ايزر 97،7 والنتيجة “أن التخلي عن تأسيس معين للأدب يؤدي إلى بلورة صيغ متعددة للأدب لا عهد لنا بها من قبل” ايزر 97،8. وإذا ما اعتبرنا النظرية أداة للتحكم في معضلة ما، سنميز نظرية العلم الطبيعي بالقدرة على التنبؤ بينما نميز نظرية الأدب بقابلية الترجمة. وترجمة الأدب واقع يشهد له وجود “تقليد راسخ في كتابة التعاليق وفي تأويل الأدب وكما يتجلى ذلك من خلال أدوات التفسير التي تبلورت لهذا الغرض” ايزر 97،9 – تعني قابلية ترجمة الأدب قدرة على ترجمة خيالية لحاجات الإنسان التي لا يمكن إشباعها و”عندما تأخذ نظرية في الأدب على عاتقها مهمة ترجمة ذلك فإنها ستأخذ مظهر انتربولوجيا تاريخية” ايزر 97. وتتحول نظرية الأدب إلى انتربولوجيا أدبية عندما تفصح عن الخاصية الخيالية باعتبارها تجاوز الإنسان ذاته لنفسه “ذلك أن الطبيعة البشرية لا تتمكن من ترجمة ذاتها إلى الصور المتعددة التي تتخذها إلا بفضل أداة الوجود الظاهري” ايزر 97 وبالضبط بفضل أداة الإيهام في الكتابة الأدبية.

إن أهمية نظرية الأدب من خلال صيغة قابلية الترجمة تجد امتدادها الواسع في مستوى البنية الاستبدالية حيث تتحول نظرية الأدب إلى نظرية حوار بين الثقافات وتواصل بين الذات والمغايرة لا سيما وأن التمييز بين الذات والآخر في حد ذاته تمييز تاريخي. وتغير هيئة المغايرة علامة دالة على وجود حوار بين الثقافات. والتجربة الأدبية في جوهرها تجربة مغايرة وتجربة تواصل ومنظور نقدي -مسؤول إلى تعاقب واجهاتنا الذاتية. وهذا ما يعبر عنه ايزر بشكل واضح:

“لو وفقنا في الدخول في اتصال بالمغايرة، فإن ذلك سيؤدي إلى ولوج تجربة ازدواجية وإذا أحببنا استكشاف المغايرة، فإنه سيتعين علينا أن نطرح جانبا كل ما ألفناه، وإذا أردنا أن نستفيد من المغايرة فإنه سيكون من اللازم أن نبلور سياسة بخصوص أنماط التواصل بين الثقافات، وإذا ما أردنا أن تحصل على تعويض بفضل المغايرة، باعتبارها مرآة عاكسة، فإننا سنأخذ الحيطة من أنفسنا بالنظر إلى غربتنا عن ذواتنا. لكن متى ظلت المغايرة في منأى عن الإدراك لكونها تتجاهل الانتماء كيفما كان، فإنه يتوجب علينا أن نبلور نظرية في أخلاق المسؤولية أثناء الاحتكاك بهذا المسلك الوعر” ايزر 97.

مجلة الجابري – العدد الثامن


المراجع:

1 – Bühler (K) 84, Sprachthevrie UTB Stuttgart 1982.

2 – Frank (M), Die Grenzen der Verstنndigung, Suhrkamp. 1988.

3 – Iser W. 84, Des Akt des Lesens UTB. Styttgart 1990.

4 – ايزر فعل القراءة، ترجمة حميد لحميداني والجيلالي الكدية. مكتبة المناهل، فاس 1995 (عن الإنجليزية).

5 – ايزر 97، نظرية الأدب من منظور تحقيبي. ترجمةعز العرب لحكيم بناني، مكتبة المناهل فاس 1997 (عن الألمانية).

6 – Iser W.91, Das Fiktive und das Imaginنre. Perspektiven literarischer Anthropologie, Suhrkamp 1993.

7 – Leach (E) 77, Kultur und Kommunikation, Suhrkamp 1977.

8 – Lorenz K. Einführung in die philosophsche Anthropologie Darmstadt 1992.

9 – Husserl (E) Vorlesungen zur Phنnomenologie des inneren Zeintberwusstseins. Felix Meiner hg.R. Bernet 1985