مجلة حكمة
ناظم حكمت

ناظم حكمت مترجِمًا: التغريب سبيلا إلى الترجمة

الكاتبمحمد وليد قرين

اشتهر التركي ناظم حكمت Nazim Hikmet في وطنه وفي العالم عن طريق الشِعر، ولكن ما لا يُعرف عنه هو أنه كان مترجمًا في نفس الوقت. لقد مارس حكمت الترجمة الأدبية وكان يترجم أساسا عن الفرنسية والروسية إلى التركية، فنقل إلى لغته الأم المجلد الأول من رواية “الحرب والسلم” (Harp ve Sulh) لـتولستويтолстой  وحكايات الفرنسي لافونتان Lafontaine التي صدرت سنة 1949 باسم مستعار هو أحمد أوغوز ساروخان Ahmet Oguz Saruhan. 

لم يكتف حكمت بالترجمة، بل نظّر في مهنته. يفهم الشاعر المترجِم الترجمة على أنها ليست تتريكا (Türkçelestirilmesi) مائة بالمئة للمتن المترجَم ثم يوضّح فكرته ويقول مخاطبا قارئه: “هذا يعني أنك عند قراءة رواية مترجمة لن تشعر وكأنها كتبت من قبل كاتب تركي” ( Nazim Hikmet، 1987، ص.152). وبالعكس، سيدرك القارئ التركي، في نظر حكمت، أنّه يقرأ رواية ألّفها كاتب في عصر معين وينتمي إلى أمّة أخرى، أي أنه سيشعر بغرابتها (بمعنى طابعها الأجنبي). هذا ما كتبه حكمت متحدثا عن الترجمة الأدبية في كتابه “Sanat ve Edebiyat üstüne”  (عن الفن والأدب)، وبالضبط في فصل ” çeviri” (الترجمة): 

Ben tercüme denilince tercüme kokusu kaybolmasın istiyorum, yani: mesela, rus dilinden çevrilen bir eser, hangi devirdeki, hangi rus muharririnden çevrilmişse, o devrin ve o muharririn üslup hususiyeti tercümede kokusunu kaybetmesin istiyorum. (…) Bu çeşit tercümeler tercümeyi yapan dile çok şeyler kazandırır sanıyorum. (Nazim Hikmet, 1987 ص. 153، )

يريد ناظم حكمت أن يشم رائحة الترجمة وألّا تُضيّع الترجمة خصوصية أسلوب الكاتب ولغة الفترة التي كتب فيها، وضرب المثل بالترجمة عن الروسية بما أنه مارسها كما سبق وأن أشرت. يقول حكمت للقارئ إنّ كلامه هذا “غريب” وقد يكون “خاطئا” حسب تعبيره. تجدر الإشارة إلى أن ناظم حكمت لم يلتزم في بداية مشواره كمترجم (في ثلاثينات القرن الماضي) بالحفاظ على رائحة الترجمة، بل أعاد نسبيا كتابة قصص السوفيتي الروسي ميخائيل زوشتشنكو Михаи́л Зо́щенко بأسلوبه الخاص وسمّاه اقتباسا iktibas وبدّل أسماء الشخصيات الروسية وحوّلها إلى تركية (مثل “رشاد باي” و”عائشة خانم”) وجعلها تتكلم وكأنها تركية مسلمة باستعمال عبارات دينية إسلامية (مثل “والله”) أو ثقافية تركية (مثل “أمان أفندم”)، فيبدو للقارئ أنه يقرأ قصة ألفها كاتب تركي مسلم. ويمكنني القول إنّ ناظم حكمت، كونه كاتبا قبل أن يكون مترجما، أبدع في نقله فأصبحت ترجماته لقصص زوشتشنكو أعمالا إبداعية بأتم معنى الكلمة ومستقلة عن الأصل الروسي.

يضيف حكمت في نفس المقطع:

Son söz: ben Nasuhi Baydar’ın, Nurullah Ataç’ın, Reşat Nuri’nin, filanın Türkçesini değil, Türkçede Tolstoy’un Rusçasını, Anatol Frans’ın Fransızcasını, tekrar ediyorum, Türk dilinde onların dillerini okumak istiyorum. (Nazim Hikmet, 1987, ص.154)

فمثلا يريد أن يشم رائحة روسية تولستوي في الترجمة التركية وأن يشم رائحة فرنسية أناتول فرانس Anatole France في النسخة التركية المنقولة، لا أن يشم في الترجمة تركية نصوحي بايدار أو رشاد نوري، حتى وإن كلّف هذا الأسلوب في الترجمة إنتاج عبارة تركية Bozuk “مكسورة” حسب تعبيره. لذلك وجدتُ الشاعر المترجم ينتقد نقل الفرنسي بودلير Beaudelaire لقصص الأمريكي إدغار ألان بو Edgar Allen Poe، لأنها في رأيه عملية «Fransizlastirma »، أي فرنَسَة، ويحكم عليها بأنها « yarim tercüme » (نصف ترجمة) لأنها لم تنقل الكاتب ألان بو بأكمله كما يرى حكمت ( Nazim Hikmet، 1987، ص.153). ولكن الشاعر المترجم لا يريد أن يجزم في مواقفه ويكرر في نهاية الفصل المخصص للترجمة أنّ كل أفكاره المتعلقة بمنهج الترجمة هي أفكار غريبة وقد لا تكون صحيحة. 

يقول الشاعر المترجم في رسالة بعثها من السجن إلى صديقه الكاتب كمال طاهر Kemal Tahir حيث قال: 

   “Mesela Ruslar, sevgi sözü olarak güvercinim tabirini kullanırlar, biz gözümün nuru, gözbebeğim filan deriz. bence bunları tercüme ederken ille de bizde güvercinim filan denmez diye yavrucuğum filan dememeli, Ruslar da bizden tercüme ederken gözümün nuru Rusçada denmez diye güvercinim diye tercüme etmemeli, biz bizim dile güvercinim tabirini, onlar kendi dillerine gözümün nuru tabirini sokmalı.” (Hikmet 1991: 226)

يضرب ناظم حكمت في هذه الأسطر المثل بلغة الحب بين التركية والروسية ويشير إلى الفرق بينهما، فيقول إنّ الروس يسمون حبيبتهم “حمامة”، بينما الأتراك يسمونها gözümün nuru “نور عيني” و gözbebeğim “بؤبؤ عيني”، وعندما يتعلق الأمر الترجمة لا ينبغي للأتراك أن ينقلوا كلمة حمامة بـ”نور عيني” على أساس أن الحبيبة لا تخاطب بـحمامة في التركية، كذلك لا ينبغي للروس الذين يترجمون عن التركية أن ينقلوا كلمة “نور عيني” بـ”حمامة” على أساس أن الحبيبة لا تسمى “نور عيني” في اللغة الروسية، وإنما يعتقد حكمت أن المترجم التركي يجب أن يستعمل كلمة “حمامة” بالتركية عندما ينقل عن الروسية وأن المترجم الروسي يجب أن يستعمل كلمة “نور عيني” بالروسية عندما ينقل عن التركية. 

 يمكنني أن أقول إنّ ناظم حكمت من بين المترجمين الأوائل في القرن العشرين الذين دعوا إلى التغريب في الترجمة الأدبية، حرصا للحفاظ على ثقافة كاتب المتن الأصل وطريقة كلامه المختلفتين عن ثقافة وطريقة كلام الناقل؛ ويعارض من جهة أخرى النزعة إلى تذويب الثقافة المختلفة في ثقافة المترجم، سواء كان هذا الأخير تركيا أو روسيا. ويَعتبِر حكمت هذا النوع من الترجمات (وهو التغريب، إذا استعملنا مصطلحا حديثا) إثراء للغة المترجِمة تكسبها أشياء كثيرة فيقول إنّ التركية كسبت عبارات عديدة عبر الترجمة عن الفرنسية (ص.154) كما هي وسيلة لكي تغتني اللغات المختلفة من بعضها البعض وحتى لا تبقى كل لغة في حدودها الضيقة فتفتح أبوابها للغة أخرى، حسب اعتقاده. (ص.153). 


المراجع:

Nazim Hikmet, Sanat ve Edebiyat üzerine, Istanbul, 1987