مجلة حكمة

من بلاغة الحجاج إلى بلاغة المحسنات – محمد الولي

مجلة الجابري – العدد الثامن


يقول أرسطو: “لا يكفي التوفر على مادة الخطابة، بل ينبغي أيضا التكلم بالكيفية المناسبة، وهنا يكمن الشرط الضروري لجعل الخطاب ذا مظهر جيد”(2) ويقول أيضا: ” هكذا نجد للعبارة(3) جانبا ضروريا إلى حد ما في كل أنواع التعليم، إذ أنه من الضروري للقيام ببرهنة ما التحدث بهذه الكيفية أو تلك، إلا أن العبارة لا تكتسي هنا الأهمية التي تكتسيها في الخطابة، إذ أن كل شيء في هذه الصناعة يتم إعداده لإحداث تأثير ما ويوجه نحو مستمع ما. وهكذا فلا أحد يعمد إلى هذا المسلك لتعليم الهندسة”(4). تختصر هذه العبارة حل مشكلة هامة وهي أن المتحدث في المجال العلمي لا يضطر إلى الاهتمام بالعبارة إلا بالقدر الذي يسمح بتوصيل الفكرة. بل إننا نستطيع القول إن الأسلوب غير ضروري هنا. إذ أن عامل التأثير واستهداف المتلقي لا تكون له أية أهمية. فكأن الخطاب العلمي، وهو يهتدي بالتجربة وبالبرهنة المنطقية، يجد نفسه في غنى عن الأسلوب. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الخطيب، أي خطيب.

العبارة – ELOCUTIO
إن العبارة تتكفل بنقل الأفكار التي عثر عليها في الإيجاد والمرتبة في نص أو خطاب إلى الصياغة اللغوية أو اللفظية، أو ما يسميه أحيانا بعض البلاغيين بالزي اللفظي، أو التجسيد المادي للأفكار.
تميز الخطابة بين الإيجاد والعبارة باعتبار أولهما هو ماذا؟ واعتبار الثاني هو كيف؟، أو ما يسميه المعاصرون المحتوى والشكل. وبما أن العبارة تعني التشكيل اللغوي فإنها ذات علاقة بالنحو، أي السلامة اللغوية المجردة بغض النظر عن المعنى وعن المقام. وبعلم المعاني باعتبار هذا يهتم بالملاءمة بين الكلام الصائب لغويا والمقام. أي مناسبة الكلام للمقام. وهذا معنى عبارة لكل مقام مقال.

1 – السلامة اللغوية أو الفصاحة
هي ملامح التعبير الذي يحترم القواعد اللغوية. لا تعتبر السلامة اللغوية في أغلب الثقافات مجرد أداة تيسر التواصل الفعال بل إنها ذات صبغة أخلاقية أو دينية. إن قراءة النص القرآني قراءة لاحنة تبعد اللغو بالاقتداء بمن يمثلون الأسوة الحسنة تماما كما يتعلم الأخلاق الحسنة ممن هم قدوة. وهكذا فإن الفضيلتين الأخلاقية واللغوية تتخذان لهما مظهرا واحدا. ولهذا ففي مسرحية موليير النساء العالمات تجرد خادمة البيت مارتين من عملها بسبب اقتراف أخطاء نحوية. وهذه العاهة يمكن أن تنتقل عدواها إلى الأطفال الذين تشرف على تربيتهم. بل إن كينتليان يعتبر الخطأ اللغوي أفظع من الخطإ الأخلاقي(5). ينقسم معيار السلامة اللغوية إلى أربعة نماذج.

الأول هو العبارة العقلية التي تستند إلى القياس وإلى الاشتقاق. القياس Analogie هو استنباط المجهول من المعروف. إنني أتوصل إلى اعتبار ضارب مذكر اسم فاعل ضرب، قياسا على كون كاتب مذكر اسم فاعل كتب. يتشبث القياسيون بهذا الاطراد حفاظا على المفهومية والمعقولية، حتى وإن تعارض ذلك مع الاستعمال. في حين يتشبث السماعيون Anomalistes بالاستعمال المتغير وغير المطرد حتى ولو كان ذلك يتعارض مع القاعدة. إن العقليين أميل إلى الحل القياسي، لأنه هو الذي ينسجم للعقل. وتستند العبارة العقلية إلى الاشتقاق أيضا. وهذا الموقف يلتمس “الحقيقة الأصلية” حيث يعتبر أن استعمال كلمة ما هو استعمال سليم لأنه ينسجم مع الاستعمال الإتيمولوجي الأصلي. مثال ذلك القول إن كلمة كافر مناسبة الاستعمال نظرا لأن هناك تناسبا بين المعنى الحالي والمعنى الأصلي أي الإتيمولوجي الذي يعني الليل. وهكذا ندرك العلاقة الوطيدة بين المعنيين. ونظرا لقيام هذه العلاقة الجلية فإن هذا الاستعمال اللاحق ينسجم مع العقل.

والثاني هو العبارة العتيقة، وإن شئت فقل الجزلة التي يمكن أن تقابل الضعف والليونة. والثالث هو عبارة الذين يعتبرون حجة أو سلطة لغوية جديرة بالاقتداء. والرابع هو عبارة الاستعمال الشائع والفعلي، وهو يمثل موقفا معتدلا وربما حاسما للصراع بين القياس والسماع، كما يمثل المعيار الأقوى من بين كل هذه المعايير.

إن معيار “الاستعمال الفعلي للغة” يحظى بالهيمنة على المعايير الثلاثة الأخرى. إن من يهتدي بالاستعمال لن يتورط في الخطإ أبدا. في حين أن المعايير الأخرى يمكن أن تجر إلى السقوط في الخطإ. تتمثل السلامة اللغوية (أي الفصاحة مقابل العجمة)، باعتبارها تحقق الجودة، في مجالين هما مجال الكلمات المفردة ومجال الكلمات المركبة. هذا الخرق للسلامة على مستوى الكلمات يسمى باللاتينية البَرْبَارِسْمُوسْ أي العجمة، وعلى مستوى الكلام المركب يسمى باللاتينية سُلْئِسْمُوسْ أي الركاكة المتعارضة مع التمكن. وكما هو الأمر بالنسبة إلى كل العيوب فإن العجمة المفردة أو المركبة قد تحظى بالتسامح باعتبارها ضرورة أي أخطاء لغوية ذات هدف جمالي. إن للسلامة اللغوية علاقة حميمة بالفائدة المعنوية إذ أن الانحراف عن تلك يؤدي بالضرورة إلى الانحراف عن هذه.

2 – الفائدة المعنوية:
الفائدة المعنوية أو توخيا للاختصار الفائدة، تعني قابلية فهم الخطاب. بما أن السلامة اللغوية تنتمي إلى النحو فإن الفائدة تعتبر أولى الفضائل البلاغية. ففي خطابة أرسطو تعتبر الفهمية الفضيلة المركزية للعبارة بوجه عام. ويقابل الفهمية الغموض والاستغلاق أو المعمى بوصفه عيبا. وكما يحصل دوما لعلاقة الفضائل بالعيوب فإن المعمى قد يقبل أحيانا بدعوى الضرورة. والفهمية تتوزع على دائرتين اثنتين وهما دائرة الأفكار ودائرة الألفاظ. إن وضوح الأفكار يكمن في التميز (أو التعارض) وفي الانتظام الكافي للأفكار التي ينبغي أن تنبسط على امتداد المادة اللفظية وتحقيق فعالية الخطاب.

أما وضوح الصياغة اللغوية فيتحقق حينما يتطابق ما يقصد إليه الخطيب مع ما يفهمه المتلقي سواء كان ذلك على مستوى الجمل أم على مستوى الخطاب ككل. والعيوب التي يمكن أن تتعرض لها الخطابة هي تعذر فهم أي معنى كيفما كان بالنسبة إلى المتلقي، تماما كما يحصل لنا حينما نقرأ نصا بلغة أجنبية لا نتقنها. ويتحقق هذا أيضا حينما يحتمل النص أكثر من تأويل واحد متعارض مع قصد أو رغبة الخطيب وذلك ينتج عن استخدام كلمات ملتبسة أو عن اللجوء إلى مركبات ملتبسة.

إن هذين العيبين يمكن أن يتحققا باعتبارهما عيبين أو باعتبارهما ضروريتين. كما أن الغموض بوصفه ضرورة يودع الثقة في الجمهور إذ أنه يشعر بأنه مكرم وذلك بإشراكه في صناعة الأثر الأدبي: إن المبدع يكسب أثره الأدبي بعض الغموض ويترك للجمهور فرصة تحقيق الوضع النهائي للأثر: وهكذا فإن الوضوح الحاصل بعد القراءة هو من إنتاج الجمهور. هذا الغموض المتروك للجمهور هو ظاهرة الإثارة الجمالية.

3 – المحسنات البلاغية:
يحدد البلاغيون وظائف ثلاثة لفن القول الخطابي وهي الإفادة والإمتاع والإثارة. وإذا كان البلاغيون يشددون على هذه الوظائف في تقديم الخطابة فالواقع أن هذه السمات لا تغادر ذهن الخطيب على امتداد كل مراحل نص الخطابة. ففي كل لحظة قد يجد الخطيب نفسه أمام مستمع خامل أو متعب أو منحاز إلى الخصم. وفي مثل هذه الأحوال يغدو الحضور الجمالي ضرورة ملحة لأجل القضاء على سلبية المستمع.

من المناسبات الأساسية التي تفرض فيها هذه الوظيفة نفسها لحظة الصياغة اللفظية أو اللغوية. ويتمثل ذلك في الانتقال باللغة من مهمة الامتثال لصرامة القواعد اللغوية وقيود المناسبة المقامية إلى الاستسلام لنداء الوظيفة الجمالية، التي يمكن أن تتنكر للقيدين اللغوي والمقامي. إننا نلتقي هنا مع فعل استعمال اللغة استعمالا يستدعي لفت الانتباه إلى المادة اللفظية، عبر انتزاعها من حال كونها مجرد دلائل -أي علامات وآثار وقرائن وأعراض- على شيء آخر غير لغوي أي الفكر والمواقف والأغراض والأوامر أو النواهي. هذه الحالة تجعل الكلمات تتنصل من مهمة التوصيل لكي تبرز الأداة اللفظية في ذاتها. هنا لا تصبح الكلمات خدما للمعاني بل خادمة نفسها. وقد أحسن شيشرون التعبير عندما قال وهو يصف هذه الحالة: “إن الزي الذي ابتكر تحت ضغط الحاجة لحماية الجسد من البرد قد تحول فيما بعد إلى أداة زينة. كذلك اللغة ابتكرت في البداية تحت ضغط الحاجة لتوصيل الفكر إلا أنها تحولت فيما بعد لكي تصبح مادة تزيينية”(6). وهنا تتقاطع الخطابة مع الشعر. وتصبح التصريحات هنا متطابقة بين علماء الخطابة وعلماء الشعر. وليست هذه العبارة غريبة عن مواقف الكثير من المعاصرين إن سارتر على سبيل المثال يكرر في قولته الآتية: “الشعراء هم أناس يمتنعون عن اعتبار اللغة مجرد وسيلة […] الشاعر نفض يده دفعة واحدة من اللغة-الأداة، واختار اختيارا نهائيا الموقف الشعري الذي يعتبر الكلمات أشياء لا مجرد دلائل”(7). أي إن الشاعر يتمرد على الموقف الذي يعتبر اللغة مجرد أداة تواصل نفعي. تماما كما يتمرد الإنسان، متى تحققت الوفرة والغنى، عن اعتبار اللباس مجرد وسيلة لاتقاء البرد. وهذا معنى قول أرشيبالد ماكليش:

لا ينبغي للشعــر أن يــدل
بل ينبغـــي أن يكــــــون(8)

إن التعبير المعتمد على استعمال المحسنات figura يعتبر تحويلا للخطاب المعتاد دون زخارف. “يقارن الخطاب المجرد من المحسنات بوضع جسد في حالة استرخاء (غير تعبيري) في حين أن figura [محسن ] تمثل وضع جسد إنسان يبتعد عن حال الاسترخاء. إن وضع الجسد في حال حركة لهو مظهر الحياة”.

وهذه الحالة التي تنتقل فيها اللغة من حال التعبير البريء إلى حال التعبير التزييني أو التعبير التوسطي يتحقق على أربع مستويات وهي محسنات التلفظ أو الأصوات، أي المحسنات اللفظية، ومحسنات المعاني أو البيان، ومحسنات التركيب أو النظم، ومحسنات الفكر حيث يتم خرق الاستعمال المعتاد القائم على الارتباط بين العبارة والمرجع وبينها وبين الباث وبينها وبين المتلقي. يكفي على سبيل المثال أو تتوجه بالخطاب إلى الجمهور بدل القاضي، أو أن تتحدث إلى الغائبين أو الأشياء، لكي نقول إن الأمر يتعلق بمحسن فكر.

إن هذا المستوى الخاص بالمحسنات أي الأورناتوس حسب العبارة اللاتينية هو الذي استحوذ على تسمية بلاغة لأمد قرون. والواقع أن ذلك يبدأ مع برنار دولارامي حينما عمد إلى تقويض التمييز الأرسطي بين الاستدلالات التحليلية التي تعود إلى المنطق والاستدلالات الجدلية التي تعود إلى الخطابة. ففي الحالة الأولى يسيطر البرهان المنطقي والتجريبي وفي الحالة الثانية يسيطر الإجراء الاحتمالي القيمي. لقد ذهب برنار دولارامي إلى “أنه على الرغم من أن الأشياء منها ما هو قائم على الضرورة العلمية ومنها ما هو قائم على الاحتمالية والرأي، إذ أن البصر مشترك في إبصار كل الألوان سواء المتغيرة منها أم الثابتة، فكذلك الأمر بالنسبة إلى صناعة المعرفة أي الجدل أو المنطق فإنه نفس العلم لإبصار كل الأشياء”(9). “إن هذا التوسيع الذي حظي به الجدل الذي أصبح يشمل الاستدلالات الصحيحة كما يشمل فن العثور على الحجج وتقويمها قد جرد البلاغة الأرسطية من جزأين أساسيين وهما الإيجاد والترتيب ولم يترك لها إلا العبارة [ أو الأسلوب ] أي أشكال اللغة المزخرفة. بهذه الروح […] عمد سنة 1572 صديق برنار دولارامي أومير تالن إلى نشر أول بلاغة محصورة بشكل منسق في دراسة المحسنات. وقد كان هذا ضربة قاصمة للبلاغة بمعناها الأرسطي. وساهم هذا في الواقع في قتلها”(10).

وبهذا وجهت ضربة موجعة إلى التمييز الأرسطي بين المنطق الصوري وبين الجدل وبالتالي الخطابة. وفي هذه الحالة وما دامت نواة البلاغة الحجاجية قد ألحقت بالمنطق وقوض بذلك مجال الإيجاد الذي تعتبر الوسائل الإقناعية نواته، وما دام طرف من البلاغة قد ألحق بالمنطق فقد اختزلت البلاغة العامة في صيغتها الأرسطية(11) إلى بلاغة محسنات وزخارف. والمفارقة أن واحدة من بلاغات المحسنات هذه قد أطلقت على نفسها تسمية بلاغة عامة Rhétorique générale، كما نشاهد ذلك عند جماعة لييج البلجيكية. وهذه البلاغة المختزلة، التي استغنت عن مباحث الإيتوس والباتوس والحجج بجميع أصنافها والترتيب، هي التي تتطابق مع الشعرية أو الأسلوبية. هذا المستوى الأخير من صرح البلاغة المسماة بلاغة المحسنات هو الذي يغطي بالتمام المجال الذي ندعوه اليوم الشعرية. ومع هذا فإننا حينما ننتقل من مجرد التسليم المجرد بكون اللغة في الممارسة الشعرية والجمالية عامة تكف عن أن تكون مجرد خادمة لتوصيل الأفكار، لا نجد العلماء يتفقون عن الملمح الذي تسند إليه مهمة نقل الدليل اللغوي من وضع النثرية إلى وضع الشعرية. فإذا كنا نسلم بأن الدليل اللغوي كيان متعدد الواجهات المكونة إذ هناك المادة اللفظية أو الدال وهناك المادة المعنوية أي المدلول فإن هذه الشعرية قد يقصرونها حينا على اللفظ وقد يقصرونها طورا آخر على المعنى(12).

ومع هذا كله فإن الشعرية التي تعيش اليوم مرحلة جديدة وهي تطرح أسئلتها المحيرة بصدد موضوعها تجد نفسها مضطرة إلى الاقتداء بالبلاغة القديمة لأجل الربط من جديد بين النص الشعري وبين مادته المعرفية والعاطفية وعلاقات إنتاجه وتلقيه. ولكي تنجز الشعرية هذا المشروع عليها أن تطرح إشكالاتها الخاصة المختلفة عن إشكالات البلاغة الإقناعية. وليست الثورات المعاصرة المتمثلة في نظريات “جمالية التلقي” و”تاريخ الأدب” و”تداولية النص الأدبي” الخ. إلا بدايات لإعادة النظر في أسس نظرية الأدب التي اختزلت لعهود في نظرية المحسنات.

 

1 – المحسنات الصوتية: figures de diction
تكتسي المحسنات الصوتية أهمية كبيرة في الشعرية التقليدية الشرقية والغربية. لقد كانت تجد في هذا المستوى المقومات الأساسية للخطاب الشعري. يقول دانييل دولاس وجاك فيليولي: “إن كل النصوص المنتسبة إلى كل الحضارات تقيم رابطا حميميا بين الموسيقى واللغة الشعرية، والأكيد إذن أنه على المستوى الشفوي حصل الوعي بإمكانات استثمار احتمالات صفات “الشعرية” في اللغة. تعتبر هذه الإمكانات مزدوجة فالمادة اللفظية يمكن النظر إليها بوصفها قابلة لانتظام موسيقي خاص بها أو أنها قابلة للارتباط بأداء آلة موسيقية يحاول الشاعر التلاؤم معها”(13). هذا الجانب الصوتي المسموع المتمثل في الإيقاع المجرد أو الممتلئ باعتباره توازيا هو الذي ظل لعهود، وما يزال، يعتبر الخاصية الشعرية الأساسية. والأهم من هذا أن المحاولات الكثيرة التي حاولت التمرد عليه، انتهت إلى الاعتدال بالتسليم بضرورة هذا المقوم اللفظي أو الصوتي.

هذا المقوم اللفظي اعتبر تارة مجرد أداة لتحقيق الأداة أو المقوم الشعري. أي باعتباره الأداة التي تكسب الدليل اللغوي ذلك البروز الذي يحرم منه في الخطاب النثري. ويتمثل هذا البروز في التهوين من قيمة الدلائل وإحالتها ورمزيتها. إن الدليل يفقد في هذا التصور شفافيته النثرية لكي يغدو ثاخنا أو معتما أو زجاجا سميكا ومزخرفا لا يسمح برؤية ما وراءه. وهذا معنى قول رومان ياكبسون: “إن إمكان التكرار هذا المباشر أو غير المباشر وهذا التحويل للرسالة الشعرية وعناصرها المكونة إلى أشياء وجعل الرسالة شيئا يدوم، كل ذلك يمثل حقا خاصية الشعر المحايثة والفعالة”(14) واعتبر هذا المقوم التكراري طورا آخر طريقة للإحالة الطبيعية والعفوية أو الرمزية. هنا لا تستعيد الكلمات شفافيتها وحسب بل إنها تناهض الدلالة الاعتباطية الاصطلاحية المكتسبة لكي تدل بشكل عفوي ومباشر فتصبح الأصوات تتكلم أكثر مما تفعل في الكلام العادي. هنا نلتقي بالرمزية الصوتية، هنا نصادف ما يشبه قول البحتري:

يقضقض عصلا في أسرتها الردى كقضقضة المقرور أرعده البــــرد الذي يحيل على معناه على سبيل الطبيعة وليس على سبيل الاعتباط أو الاصطلاح، كما تعودنا في الكلام النثري.

ومن هذا الجنس هذا البيت الثالث للمتنبي:

مغاني الشعب طيبا في المغانـي  …  بمنزلة الربيع من الزمــــــان
[…]
لها ثمر تشير إليك منــــه  …  بأشربة وقفن بـــــــــــلا أوان
وأمواه تصل بها حصاهــا  …  صليل الحلي في أيدي الغواني

حيث تمثل الحروف المتكررة اللام والصاد مجتمعة في كلمة واحدة تصل وصليل محاكاة للشيء وهو الصوت الصادر عن حركة المياه والصوت الصادر عن ارتطام الحصى بفضل تدفق المياه. وإذا كان هذا التكرار معطى لغويا سابقا لوجود القصيدة، فإن الشاعر قد دعم هذا التكرارية المحاكاتية بورود نفس الحرفين في كلمتين مجاورتين. وهذا مضافا إلى تكرار الكلمة تصل صليل كسب البيت لونا محاكاتيا ذاتيا أي من ابتكار الشاعر هذا القوم المتكلم بهذه اللغة. ومن هذا النمط التكراري هذا البيت الجميل للشاعر الإسباني كارسيلاسو:

En el silencio solo se escuchaba
Un susurro de abejas que sonaba

حيث يحاكي تكرار حرف السين S صوت النحل الذي اتخذه البيت موضوعا له. وعلى الرغم من أهمية هذا الجانب في الممارسة اللغوية فإن هناك من يطعن في شرعية مثل هذه الدراسة. إن القول بالقيمة الرمزية للأصوات والحركات يقتضي العودة باللغة إلى وضعها الطبيعي الأول حيث كانت الكلمات توحي بمعناها بشكل طبيعي وعفوي ومباشر. وهذه هي الكراتيلية كما تحدث عنها أفلاطون. وعلى الرغم من تعطل هذا الملمح في اللغات المعاصرة فإن الشعراء يحاولون ابتكارات وتأليفات لفظية من شأنها إظهار هذه الخاصية الكامنة. إن الشعراء يحلمون، بشعور أم بغيره، بالقضاء على اللغة الاعتباطية الجافة التي تقتصر على الإحالة الاتفاقية بين الناس على معنى العبارة.

والرائع هنا في تكرار الكلمة على وجه الخصوص هو أن التحقق الثاني قد جاء حاملا لمعنى استعاري. التكرار مصاحب لعدول دلالي في ابتكار الشاعر لهذه الاستعارة الجميلة: صوت الحصى وصليل الحلي. وهذا هو مصدر هذه الجمالية التي لا نعقلها خلال التلقي إلا أنها مع ذلك تفعل فعلها القوي. التكرار اللفظي البديعي يدعم بخرق دلالي استعاري أو بمقوم بياني. ولهذا أمكن الزعم أن كلمة واحدة تستقطب محسنين أحدهما لفظي والآخر دلالي. هذه هي الصناعة الخفية التي يتقنها أبو الطيب المتنبي.

ومنه أيضا قول المتنبي:

الراميات لنا وهن نوافـــــ … ـر والخاتلات لنا وهن غوافــل
كافأننا عن شبهن من المهـ … ـا فلهن في غير التراب حبائـل
من طاعني ثغر الرجال جآذر … ومن الرماح دمالج وخلاخــل

فلنتأمل في البيت الثالث ما فيه من تكرارات المد. واللافت أن هذا المحسن قد جاء هنا مصحوبا بمحسن بياني آخر هو التشبيه البليغ. وبمحسن تركيبي هو التوازي الموزع على شطري البيت. وهذا التأليف لعدة محسنات على جسد عبارة واحدة هو مصدر الجمال والسحر الشعريين. فلننظر مرة أخرى إلى هذا البيت للشاعر الإسباني خوان ذي لاكروث:

El silencio sonoroso de los rios
ضمت الوديان الصارخ.

ففي البيت الإسباني نلاحظ هذه التكرارية الجناسية المحاكية فالبيت مسموع كما يزعم أن الصمت مسموع. فخلق ذلك هذا البيت الجميل إلا أنه مما زاده جمالا أن يأتي هذا المحسن مصحوبا بمحسن آخر يتنافس عليه الشعراء وهو هذه الاستعارة المفارقة. وتتمثل في نسبة الجهارة إلى الصمت. ومن هذا القبيل قولة غسان كنفاني الشهيرة في روايته عائد إلى حيفا “يضج بصمت جنوني”. على أن التكرار الذي لا يأتي مصحوبا بمثل هذه المحسنات، من قبيل قول المتنبي:

إذا أتت الإساءة من لئيــــــم … ولم ألم المسيء فمن ألـــــــوم؟

قد لا يكون لها نفس الأثر الجمالي الذي نلاحظه لمحسن يكون مصحوبا بمحسن آخر أو محسنات أخرى. وإن كان من الواجب الملاحظة أن هذا البيت نفسه يتوفر على محسن تداولي يتمثل في استعمال الاستفهام بمعنى غير المعنى المعياري. فنحن لا ننتظر جوابا على هذا الاستفهام. ويمكن القول أيضا إن هناك التفاتا أو خروجا للكلام عن مقتضى الظاهر، وذلك للانتقال من الأخبار إلى الإنشاء. إلا أن هذا البيت لا يرتقي إلى مستوى البيت السالف وذلك لخلوه من الاستعارة. أما البيت:

لك يا منازل في القلوب منازل … أقفرت أنت وهن منك أواهـــل

فإذا لم نكن نقول باحتوائه لمعنى محاكاتي، فإننا نكتفي بالقول بالقيمة التنغيمية لهذه التكرارات. إلا أننا نؤكد مع ذلك وعلى مستوى آخر: إن البيت يشتمل على الجنس الثاني من المحسنات التي رأيناها في البيت السالف ألا وهي ظاهرة تعايش المحسن البديعي والمحسن البياني في كلمة واحدة وينبغي الاستدراك لكي نقول إن هذه الاستعارة هنا من النوع الميت فلا أحد يحس باستعارية المنازل بمعنى المراتب الرفيعة. ولهذا يقترب هذا المحسن من المشترك اللفظي(15) حيث نسند إلى نفس اللفظ في سياقين متباينين معنيين متباينين. أي إن هذه التحققات عبارة عن رجع الصدى للتحقق الأول. إن هناك ما يشبه رجع الصدى في هذا التكرار إلا أنه رجع يفيدنا معنى جديدا لا نستفيده من الكلمة الأولى. الواقع أنه إذا كان النقاد في القديم وفي الحديث يلحون على كون الشعر لا يقبل الترجمة فإن الأمر يتعلق بالأساس بهذه المحسنات اللفظية. تأمل، هذه تمكن ترجمة العبارة الإيطالية: Traducttoritraditori هذه المحسنات اللفظية كان يصفها النقاد القدامى بعبارتهم المشهورة “مشاكلة اللفظ للمعنى”(16) وتوقف عندها عبد الله الطيب وقفة متملية في كتابه الممتع المرشد إلى فهم أشعار العرب: “النوع الأول يسمونه(17) Onomatopeic. والثاني يجعلونه قسمين، فما كان الاعتماد فيه على حروف السلامة سموه Alliteration، وما كان الاعتماد فيه على حروف المد سموه Assonance والقسم الأول المسمى Onomatopeic داخل في صنفي جناس حروف السلامة، وجناس حروف المد والعلة. ولتوضيح مقصودنا من حروف السلامة وحروف المد والعلة، نضرب المثالين الآتيين:

فمثال تكرار بحروف السلامة قول زهير “مضرة ضروس تهر” ومثال التكرار بحروف المد قول المتنبي:

أهل ما بي من الضنى بطل … صيد بتصفيف طرة وبجيـــــــــد

فياء بي وصيد وجيد وتصفيف والضنى كلها حروف مد وعلة(18) ومع هذا فإن مصطلح التجنيس Alliteration لم يكن ثابت المعنى في البلاغة الغربية التقليدية. إن هناك، في حدود علمي، ثلاث استعمالات لهذا المفهوم.

1 ـ يعين الاستعمال الأول معنى التجنيس باعتباره مجرد تكرار لصوت ما في أي موضع داخل الكلمات المتكررة والمتعاقبة في جملة أو جمل. يقول دوبرييز Dupriez متحدثا عن التجانس: “إنه عودة لنفس الصوت”(19). مثلا ذلك ما تقدم في قول زهير “مضرة ضروس تهر” وفي قول المتنبي:

وأمواه تصل بها حصاهــــا … صليل الحلي في أيدي الغواني

ومنه قول أحد الشعراء:

عسل الأخلاق ما ياسرتـــه … فإذا عاسرت ذقت السلعــــا

2 ـ هناك من البلاغيين من يعتقد أن هذا المفهوم يحيل على التكرارات في أوائل الكلمات المتعاقبة ضمن سياق ما. يقول الناقد الألماني ولفكانك كايزر: “الجناس أي (الأليتراسيون) هو تماثل الأصوات في بداية كلمتين أو أكثر”(20). ويذهب آخرون مذهب حصر هذا التكرار في تكرار صامت بعينه في كلمات متعاقبة. يقول هنريش لاوسبيرغ: “إن الأوميوبروفرون هو تكرار متواتر لنفس الصامت في عديد من الكلمات المتعاقبة، وبالخصوص في بداية العبارة”(21). ولم يفت لاوسبيرغ أن يلاحظ أن هناك من يوسع مدلول هذا المفهوم لكي يدل على تكرارات لنفس المقطع في بدء الكلمات المتعاقبة.

مثلا ذلك قول امرئ القيس الذي يستوعب كل هذه الأصناف من التكرارات سواء تكرار صوامت أم تكرار صوامت صائتة:

“مكر مفر مقبل مدبر معا”

3 ـ وهناك من البلاغيين من يحصر هذا المفهوم ضمن الدلالة على التكرار في أواخر الكلمات. يقول كالنتين غارسيا ييبرا: “إننا نقصد بمفهوم التجانس تكرار نفس الصوت أو الأصوات في نهاية كلمات توجد في مواضع متقاربة جدا حتى يكون تأثيرها التعبيري لافتا للأنظار. ويمكن لهذا التجانس أن يكون صامتيا أو صائتيا أو مركبا. أي يمكن أن يكون عبارة عن تكرار صوامت أو صوائت أو صوامت وصوائت مجتمعين في نفس الشروط الآنفة الذكر”(22) مثال ذلك قول المتنبي أيضا:

قليل عائدي سقم فـــــــــؤادي … كثير حاسدي صعب مرامـــــي

 

ويلتبس التجانس الصوتي هنا بالسجع حينما يتعلق الأمر بالنثر. ويلتبس أيضا بالقافية. ألا يسمى هذا التجانس الداخلي بالموسيقى الداخلية. بل الأكثر من هذا يمكن أن تعتبر القافية شكلا من التجانس. يبدو لي من الصعوبة التغاضي هنا عن مسألة الوظيفة التي يمكن أن تلعبها هذه التكرارات الصوتية. ففي الوقت الذي يذهب بعض النقاد إلى أن دورها ينحصر في إكساب النص صفة التماسك والتآلف والتجانس التلفظي، ونلتقي هنا بالجاحظ كما نلتقي برومان ياكبسون. نلتقي مع الأول حينما يقول: “المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني، إنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير”. حيث تدرك الأصوات في حد ذاتها بغض النظر عن المعنى والأشياء لأن هذه يعرفها العربي والعجمي، في حين أن المفخرة هنا هي تعطيل الكلمات عن أداء وظيفتها التوصيلية، لكي تغدو من مظاهر رقص الجهاز الصوتي والسمعي وإدراك الرسالة في ذاتها ولذاتها، كما يقول ياكبسون، حيث لا تصبح الكلمات أدوات إحالة إلى العالم الخارجي ولكنها تغدو أدوات إحالة ذاتية، أي حيث تحيل الكلمات على نفسها بإثارة الانتباه إلى المادة اللفظية لا إلى المعنى أو المرجع الخارجي. ولأمر ما يعترض ياكبسون ومعه الشكلانية الروسية في بداياتها على اعتبار الخطاب الشعري خطابا ذا إحالة ومتوالية لفظية شفافة وكاشفة عن العالم الخارجي، أي خطابا يهون من أهمية المادة اللفظية. والعكس هو الصحيح في رأي ياكبسون. “إن إمكان التكرار هذا المباشر أو غير المباشر، وهذا التشيؤ للرسالة الشعرية ولعناصرها المكونة، وهذا التحويل للرسالة إلى شيء يدوم، كل هذا يمثل خاصية داخلية وفعالة للشعر”(23). ويقول تينيانوف: “الصوت في الشعر يغير معنى الكلمات في حين تغير الدلالة الصوت في النثر”(24).

ولعل بول فاليري هو أحسن من يوضح هذا الموقف. كما أنه هو الذي يتخذ موقفا أشد حسما وانحيازا إلى جانب الشكل الذي يرهن له الخطاب الشعري رهنا تاما. فلأهمية موقف بول فاليري نقتبس منه نصا رغم طوله. “يتبع النثر، شأنه في ذلك شأن السير، طريق أدنى جهد، أي الخط المستقيم. إن اللغة التي أنتهي من استخدامها، والتي تنتهي من التعبير عن قصدي ورغبتي ومطلبي ورأيي وسؤالي أو جوابي تلك اللغة التي أنجزت مهمتها، تتلاشى بمجرد بلوغها الغاية. لقد أرسلتها لكي تتلاشى لكي تتحول بدون رجعة فيكم، وسأعرف بأنني قد فهمت […] فإذا فهمتم ألفاظي فإن هذه الألفاظ نفسها لن تفيدكم في شيء؛ لقد اختفت من أذهانكم في حين أنكم تحتفظون بمقابلها، إنكم تتملكون، في شكل أفكار وعلاقات، ما به تعوضون دلالة هذه الأقوال، في صيغة قد تكون مختلفة تمام الاختلاف.

وبكلمات أخرى، ففي الاستخدامات العملية أو المجردة للغة التي هي من حيث النوع نثر فإن الشكل لا يحتفظ به. لا يعيش بعد الفهم، إنه يذوب في الوضوح لقد أنجز فعله لقد أفهم لقد عاش. وعلى العكس من ذلك فإن القصيدة لا تموت بعد استخدامها لقد أنشئت قصدا لكي تنبعث من رمادها ولكي تصبح من جديد ما كانته في البداية”.

وأعتقد أن أهم عنصر يحقق هذا التميز للنص الشعري هو هذا الجانب اللفظي الصوتي. إن الذي يكسب القصيدة هذا الدوام وهذه الاستمرارية هو هذا المستوى اللفظي، إننا نواجه إذن موقفين من التكرارية الصوتية. إنها تارة ذاتية متقوقعة ومنغلقة على ذاتها، أي إنها لا تحيل على شيء خارجها بمعنى أن وظيفتها الإحالية تتعطل لصالح تحقيق امتلاء دلالي ذاتي. وتارة أخرى تشع خارجها بالإحالة على المعاني والأشياء. ففي الحالة الأولى نلتقي بما يسمى الشكلانية أو اللفظية، وبشعار “الكلمات أشياء” أو “الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير”. وفي الثانية نصادف الشعار “الشعر لغة إذن بالضرورة هو لا يدل إلا أن دلالته مخالفة للدلالة النثرية”. وهذه التكرارية الجناسية أو السجعية تلعب الدور الأساسي في هذه الدلالة الشعرية. ونصادف هنا مرة أخرى اتجاهات عديدة تحاول الإمساك عن هذا المعنى. فإذا كنا في الاستعمال العادي نوصل معاني مفهومية فإننا في الاستعمال الشعري نوصل معاني عاطفية. ينزع جان كوهن هذا المنزع مقتفيا أثر هانس أدانك الذي يعرف الشعر بوصفه استعارة ثابتة ومعممة. بل إن كوهن يضع كشرط مطلق لتحقيق الشعرية تغيير المعنى. وحتى الجناس يظل حلية جوفاء إذا لم ينتج عنها تغيير معنوي أي إذا لم تنتج عنه استعارة. ألم يقل في التعليق على قول بودلير:

Mon enfant, ma soeur songe à la douceur

“نتوفر في هذين البيتين لبودلير على كلمتين في القافية لا يربط بينهما أي جامع دلالي. فالنعومة douceur صفة للنفس في حين أن الأخت soeur عضو في العائلة. لا يوجد إذن بين المفهومين أي تلازم مشترك. والتشابه الصوتي بينهما هو مجرد عرض في اللغة احتالت القافية لإبرازه. إلا أن الحقيقة العاطفية تأتي هنا أيضا، لأجل تصحيح الخطإ المفهومي. فإذا كانت الأخوة (Sororité) توحي بقيمة، يشعر بها كذلك، هي قيمة الحميمية والود، فالأكيد أن كل أخت هي عذبة، وضمنيا فإن كل عذوبة هي بالمقابل أخوية. إن دلالية القافية استعارية. فالمشابهة الصوتية تؤدي نفس الدور الذي تؤديه العلاقة الإسنادية. ولهذا أمكن الحديث عن منافرة القافية التي تقتضي نفس الاختزال.

[…] إن الصعوبة الاستثنائية لمثل هذه القافية ممكنة القياس، إذ ينبغي أن تستجيب لمقتضيات ثلاثة هي أن يضاف إلى 1) المشابهة الصوتية 2) اختلاف في دلالة المطابقة 3) وتعويض هذا الاختلاف بالدلالة المحققة للانسجام(25).

والواقع أن هذا أوسع معنى يمكن أن ينسب إلى مفهوم الاستعارة إذ كنا وما نزال نظن أن حيلة مثل القافية لا علاقة لها بالانزياحات الاستعارية في حين إننا نجدها مدرجة ضمنها هنا. والأخطر من هذا أن هذه الاستعارة تقوم على الانتقال من المعنى المفهومي إلى المعنى الإيحائي أو الوجداني. ولكن على أي أساس نلتمس هذا المعنى الوجداني بين ألفاظ لا نعرف من معانيها إلا الوضعية أو المعجمية. إن هناك إمكانية فتح الباب أمام الأحكام الانطباعية.

ب ـ المحسن التركيبي: figures de construction
نصادف في البداية ذلك المحسن التركيبي الشهير وهو القلب أو التقديم والتأخير. “يتمثل هذا المحسن في الفصل بين كلمتين لا ينبغي من الناحية التركيبية الفصل بينهما وحشر كلمة أو أكثر من كلمة، وهي كلمات لا تنتمي من الناحية التركيبية إلى هذا الموضع، بين جزأين من الجملة. أي إن الأمر يتعلق بإدراج طرف في موقع لا ينتمي إليه. يمكن لهذا الاعتراض أن يؤدي إلى النيل من وضوح النص بل ويمكن أن يؤدي إلى غموضه حينما يرد متكررا”.

ونميز هنا صنفين منه. أحدهما مقبول نحويا ولا يمثل أي خرق للقاعدة النحوية، بل إنه يكون ضروريا حينما يقتضي المقام ذلك. والثاني هو ذلك الصنف الذي لا يكون مقبولا نحويا أبدا، إنه عبارة عن ضرورة شعرية. ومن الأمثلة الشهيرة هذا البيت الجميل لذي الرمة:

كأن أصوات، من إيغالهن بنــا … أواخر الميس إنقاض الفراريــج

إن التقديم والتأخير الذين نلاحظهما هنا يكادان يمسخان هذا البيت. إننا لا ندرك المعنى إلا بإعادة بناء البيت وإرجاعه إلى الأصل الذي نفترض أنه هو: “كأن أصوات أواخر الميس أصوات الفراريج من إيغالهن بنا”. إن ما نلاحظه هنا تقديم من إيغالهن بنا، من جهة، فموقع هذه العبارة الأصلي هو التأخير، وهي هنا متقدمة. وموقع أواخر الميس التقديم، نظرا لكونها مضافا إليه. ويمكن أن نعتبر من إيغالهن بنا بمثابة اعتراض يفصل بين المضاف والمضاف إليه اللذين لم يتقدم أحدهما عن الآخر بل فصل بينهما. ههنا إذن محسنان تركيبيان القلب والاعتراض. ومن الأول أيضا، لك يامنازل في بيت أبي الطيب:

لك يا منازل في القلوب منــازل … أقفرت أنت وهن منك أواهـــل

إن الجار والمجرور هنا عبارة عن خبر مقدم والمبتدأ هو منازل في آخر الشطر الأول. ونقع على حالة أخرى لهذا القلب، أي التقديم والتأخير، في عبارة في القلوب منازل فالعبارة المعتادة هي منازل في القلوب، ويتعلق الأمر هنا بتأخير بالنعت. ولعل هذا ما يوضحه هنريش لاوسبيرغ بقوله وهو يميز هذين النوعين من القلب: “بما أن تعاقب لفظين من الجملة هو في الاستعمال متحرر موقعيا في اللغات الكلاسيكية [وينطبق هذا على العربية أيضا] فإننا لا نعتبر من قبيل القلب إلا بعض قلوب الجمل والأدوات التي لا تتفق مع الاستعمال(26).

ومن الثاني المثال في البيت: هن منك أواهل إن تقديم منك أمر لا يسوغه النحو إلا لداعي الضرورة، أي إنه خطأ لا يسمح به إلا للشعراء. ومن المحسنات التركيبية التي نعثر عليها هنا: الاعتراض: وقد يلتبس هنا بالتقديم والتأخير. كما يمكن أن يلتبس بالالتفات. والاعتراض هنا عبارة عن “حشر جزء من الكلام في قول ما. وهذا الكلام المحشور يمكن أن يكون من طبيعة متباينة من حيث التكون ومن حيث التركيب. ففي اللغة المحكية يمكن للنحو أن يدلنا على هذا الجزء المحشور وفي اللغة الكتابية يمكن للخطية أن تدلنا على ذلك”(27). ويتمثل ذلك في يا منازل. إننا نعثر هنا على محسن تركيبي أغنى من السابق. فلنلاحظ وجود نوعين من الجمل بالانتقال من الشطر الأول إلى الثاني. ففي الشطر الثاني نلاحظ وجود جملتين متشابهتين الأولى هي “أقفرت أنت” والثانية هي “هن… أواهل”. علينا أن نتجاهل هنا اسمية وفعلية الجملتين لأن التشديد على هذا الجانب قد يطمس الجانب الذي يمثل جانبا تصويريا مهما ويتمثل هذا في البناء المتوازي للجملتين. إن المسند في الحالتين هو منازل. في حالةأقفرت أنت هي منازل الأحبة وفي الحالة الثانية هي المنازل المخصوصة لمنازل الأحبة في القلوب. فإذا كان المسند إليه هو لفظيا المنازل في الحالين فإن المسند هو في حالة الإقفار وفي حال أخرى الأهول. “هن… أواهل” فالمسند إليه هنا متقدم.

ومن المحسنات التركيبية المحسن المعروف بتسمية التوازي: ومن هذا قول المتنبي:

وما التأنيث للشمس عيــــــب … ولا التذكير فخر للهــــــلال

ومنه قول المتنبي أيضا:

أذم إلى هذا الزمان أهيلـــــــه … فأعلمهم فدم وأحزمهم وغــد
وأكرمهم كلب وأبصرهم عــــم … وأسهدهم فهد وأشجعهم قرد

إن البيت يتألف من مركبات متماثلة تلتزم بنفس الهيكل النحوي. وتتعدى أهمية هذا المحسن مجال الشعر والأدبية. إننا نصادفه في الشعارات السياسية من قبيل مارسوا الحب ولا تمارسوا الحرب. ومن اللعب اللفظي Folle à la messe Molle à la fesse وهذا يمثل واحدا من المحسنات الكبرى التي اعتنى بها النقد المعاصر كما اعتنت بها البلاغة التقليدية. وقد كان التوازي يسمى في البلاغة الغربية القديمة إيسوكولون، ومعنى إيسو تماثل وكولون أجزاء الجملة. وسمي أيضا باريسون، وهو يقابل في العربية التقطيع حسب مصطلح ابن رشيق. وذلك حينما يلتقي التقطيع المتوازي مع التقطيع العروضي.

سأطلب حقي بالقنا ومشايـــــخ … كأنهم من طول ما التثموا مـرد
ثقال إذا لاقوا، خفاف إذا دعوا … كثير إذا شدوا، قليل إذا عدوا

إن البيت الثاني يتألف من أربعة مركبات معطوفة وهي بالإضافة إلى التزامها نفس البناء التركيبي فإن هذه المركبات المتآلفة تلتزم بنفس الهيكل العروضي. على أن هذا المحسن قد يتخذ أشكالا تبتعد عن هذا الشكل المطرد. ومنه هذا البيت لامرئ القيس:

له أيطلا ظبي وساقا نعامـــــة … وإرخاء سرحان وتقريب تتفــل

إن البيتين معا يخضعان لنفس بحر الطويل وزنا وتقطيعا لفظيا. ولذلك فإن له أيطلا ظبي: تلائم بالتمام فعولن مفاعيلن. ويمكن لهذا التشاكل أن يتخطى حدود تطابق التقطيع اللفظي والعروضي لكي يشمل اتفاق أواخر أطراف التوازي على الاختتام بنفس الحرف، ولهذا ترتكز القافية في آخر البيت بقواف داخل البيت. ومن هذا قول المتنبي:

تجلى به رشدي، وأثرت به يدي … وفاض به ثمدي، وأورى به زندي.

ومن أجناس التوازي ذلك الذي يعمد إلى تكرار نفس الكلمات وفيه يختلط التكرار أو الجناس بالتوازي. على أن هذا التكرار لا يندرج ضمن محسن التوازي إلا عندما يرد في بنيات تركيبية متوازنة. فلنتأمل هذا البيت:

وكيف وأنت من الرؤساء عنــدي … عتيق الطير ما بين الخشــــــاش
فما خاشيك للتكذيـــــــــب راج … ولا راجيك للتخييب خاشـــــي

على الرغم من أن البيت الثاني هو من قبيل التوازي إذ أن هناك مركبين متماثلين نحويا، إلا أن هناك حضور عاملِ تنويعٍ قوي ينفي عن هذا التوازي ما قد يعتوره من رتابة. ويتمثل هذا في قلب ترتيب مجموعة من الكلمات المتكررة مع الاحتفاظ بنفس الهيكل الترتيبي. إن خاشي المتقدمة في الجزء الأول من الموازنة قد وردت متأخرة في الجزء الثاني منها. في حين أن التي تأخرت في الجزء الأول من التوازي قد تقدمت في الجزء الثاني منه. ومنه أيضا قول المتنبي:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا … مضر كوضع السيف في موضع الندى

ومن الأمثلة على هذا التوازي المقلوب هذا البيت الجميل لأحيمر السعدي:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ … عوى صوت إنسان فكدت أطـيــــــــر

إن الكلمتين الذئب وعوى قد تكررتا بقلب نظامهما التركيبي الأول. هذا مما يكسب هذا التوازي الكثير من الجمال والشعرية. ويمكن للشعراء أن يتفننوا في هذا إلى غير غاية. بل إن رومان ياكبسون كثيرا ما عمد إلى عنونة مقالاته عن التوازي عناوين متوازية. مثال ذلك نحو الشعر وشعر النحو. ويبدو أن وضع مثل هذه العناوين مما يلفت النظر عند المعاصرين. ومما يشبه هذا البناء المقلوب قول أبي تمام:

مطر يذوب الصحو منه وبعـــده … صحو يكاد من الغضارة يمطــر

فقد قلب ترتيب الكلمتين مطر وصحو. ومن هذا أيضا قول شوقي بزيع الشاعر اللبناني:

يسكنها البحر حينا وحينا … يحاصرها الماء حتى الثمالة[…](28).

ومن هذا القبيل أيضا هذه المقطوعة الجميلة للشاعر الشيلي بابلو نيرودا:

Pequêna
rosa
rosa pequêna(29)

ينبغي التوقف مع آخر حالة التوازي نقصد به ذلك الذي لا يعمد إلى قلب الكلمات المتكررة وإنما ذلك الذي يعمد إلى قلب الفئات النحوية أو المواقع التركيبية، أو ما يسميه المعاصرون أجزاء الخطاب. فلنتأمل هذا العبارة الشعرية لشوقي بزيع أيضا:

مضى كل شيء إلى البحر
مر المساء ومرت طيور المساء
وهاجرت الغيمة الذهبية في القلب
والشمس في آخر الأفق غابت(30)

ومن هذا أيضا قول الشاعر العباسي ابن الرومي:

طواه الردى فأضحى مـــــزاره … بعيدا على قرب، قريبا على بعد

إن ما نلاحظه هنا هو التوازي القائم على قلب الفئات النحوية والمواقع التركيبية فالفعل الذي كان متقدما في الجزء الأول من التوازي قد أصبح متأخرا في الجزء الثاني منه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى بقية الأطراف. وتم تقديم الاسم لكي يحتل موقع الفعل وكذلك الجار والمجرور.

ومن هذا النوع قول المثل الفرنسي:

Tel qui rit vendredi, dimanche pleurera(31).

وقد يلتقي قلب نفس الكلمات مع قلب الفئات التركيبية ويقدم شوقي بزيع مثالا على هذا:

رأيت حبيبين سهوا
وطفلين سهوا
وسهوا رأيت المدينة(32)

ومن هذا القبيل العنوان الشهير الذي وضعه كارل ماركس، فلسفة البؤس أم بؤس الفلسفة للكتاب الذي يرد فيه على انتقاد الفيلسوف الفرنسي لفلسفته في الكتاب الشهير الذي سماه فلسفة البؤس. ومن الخطاب الحكمي القولة المأثورة: لا نعيش لنأكل بل نأكل لنعيش. وهناك مفكرين اتخذوا من هذا المقوم الأداة التعبيرية المفضلة لأداء أفكارهم الجدلية والنقدية من هؤلاء المفكر الفرنسي كي دوبور الذي يضج كتابه بمثل هذه العبارات:

Il ne réalise pas la philosophie, il philosophise la réalité.

وعنده أيضا:

La philosophie, en tant que pouvoir de la pensée séparée, et pensée du pouvoir séparé(33).

إلا أن الشعراء هم الذين توسلوا بهذا المقوم أكثر من غيرهم ولهذا فقد رأى فيه الكثير من علماء الشعر المقوم الأساسي للخطاب الشعري. وهو يستوعب الكثير من المقومات التي كنا نراها متميزة عن بعضها البعض، إلا أن شعرية جاكبسون تجمعها كلها تحت المقوم الكبير المدعو التوازي. وهي لمجرد أنها تتكرر في مواقع نحوية متماثلة تستوقف نظرنا وتشد انتباهنا إلى هذه المقومات. وإن الآثار الأشد بروزا تتحقق على المستوى الصوتي بفضل الأليتيراسيون [ أي الجناس ] والقافية ونبور المقاطع الثابتة وتحقق نفس الصوائـت والمقاطع بأكملها في مواقع بارزة صوتيا، الخ. وعلى المستوى التركيبي بفضل التوازي والمقابلة والتكرار الافتتاحي الخ. وعلى المستوى المعجمي بفضل علاقات الترادف والاستعارة والكناية والمجاز المرسل بين ألفاظ النص(34).

والواقع أن هذا المقوم التكراري المتوازي هو الذي يكسب في نظر علماء الشعرية الذين يجدون في هذا المقوم الخاصية الشعرية الملازمة للخطاب الشعري. “إن التفسير الهام الذي يقدمه صمويل روبير ليفن لدوام القصيدة، أي لكون البناء الشعري لا يموت بعد الحياة، حسب عبارة بول فاليري، خلافا لما يحدث للخطابات المعتادة التي يتم تعويضها في ذاكرة المستمعين مباشرة بعد تلقيها بالمدلول. إن تميز القصيدة بخاصية الدوام في الذاكرة ببنيتها اللفظية الملموسة تنتج جزئيا عن الازدواج (أو التوازي) الذي يكون نسيجها. إن تكسير هذه الأزواج في أية نقطة من النص يعني تقويض الأثر الشعري، وهذه المقومات نفسها هي التي تسمح بالعودة إلى تشكيل الخطاب الشعري، بعد قراءته أو سماعه والعودة إلى تحقيق نفس الاختيارات في السنن اللغوي، باعتبار ذلك نتيجة ضغطه المطرد الخاص”(35).

ومنه أيضا قول نيرودا في نفس القصيدة السابقة:

Suben tus hombros como dos colinas,
tus pechos se pasean por mi pecho.

وقد نعمد إلى إبدال الكلمات والترتيب. مثال ذلك:

Immoler Troie au Grecs, au fils d’Hector la Grece.

ويبدو لي أن مما يمكن أن يندرج في هذا الجنس من التوازي مثال المتنبي الذي نحلله هنا “أقفرت أنت وهن منك أواهل”. إن طرف التوازي الأول جملة فعلية والثاني جملة اسمية. وهذا يعني أن العناصر المؤلفة قد تم قلبها. إذ تم تقديم الاسم وتأخير شبه الفعل، أي ما ينوب مناب الفعل. ومنه قول المتنبي:

تعثرت به في الأفواه ألسنهـــا … والبرد في الطرق والأقلام في الكتب

إلا أن أطرف ما يتقوى به التوازي هو أن يكون جزء منه أو كله حاملا لمعنى مجازي تشبيهي أو كنائي أو استعاري. مثال هذا الكناية قول المتنبي:

تمر بك الأبطال كلمى هزيمــــة … ووجهك وضاح وثغرك باســـــم

إن الشطر الثاني من البيت الذي يمثل موازنة من طرفين هما معا كناية عن صفة، إذ المقصود هو الشجاعة. ومن الاستعارات المتوازنة قول المتنبي في مدح كافور الإخشيدي:

قواصد كافور توارك غـــيـــــره … ومن قصد البحر استقل السواقيا

إننا نلاحظ في هذا البيت الجميل بنيتين متوازنتين متعاقبتين الأولى في الشطر الأول والثانية في الشطر الثاني يمكن من الناحية الدلالية أن نعتبر الشطر الثاني شرحا تصويريا للشكر الأول. كما يمكن القول أيضا إن الشطر الأول شرح شرحا حقيقيا أي غير تصويري للشطر الثاني. ما يهمنا هنا هو هذا التوازي بل هذين التوازيين المتعاقبين. إننا نلاحظ أن الشطر الثاني هو الذي يكسب هذا التوازي هذه الفتنة الجمالية أو الشعرية. ويعود هذا الأمر إلى ترك الحقيقة والتعبير عن نفس الفكرة وبنفس البناء المتوازي بعبارة استعارية. وهذا الأمر يضعنا وجها لوجه أمام التقاء محسن تركيبي ولفظي مع محسن معنى أو محسن استعاري. وهكذا فإن التوازي لا يكتسب الفتنة الشعرية إلا حينما يأتي مدعما بمقوم واحد أو أكثر من مقوم واحد، بحيث يصبح البيت مجالا لتلاقي عديد من المحسنات المنتمي إلى مستويات عديدة. وليست الاستعارة هي وحدها التي تكسب التوازي الجمال الشعري بل إن التوازي نفسه يمكن أن يكسب استعارة مستهلكة الكثير من السحر الشعري. والمثال الذي بين أيدينا صالح كمثال على هذا.

خلاصة:
لقد حاولت في هذا العرض تقديم المادة الأساسية في تصور البلاغة الغربية لنمطي المحسنات الصوتية والتركيبية. وقد كان همي الأساسي تقديم عرض واضح وبسيط ومتماسك. هذه الغاية التعليمية تتقدم عندي على أية غاية أخرى. فنحن لا نستطيع أن ننتقد علما لم يتأصل بعد. هذا على الرغم من أن الأمر يتعلق بعلم يتخطى عمره العشرين قرنا. هذا الفهم الأولي يمكن أن ييسر، في مراحل لاحقة، النقد وإعادة البناء، كما يمكن أن يقدم لنا، وهذا هو المهم بالنسبة إلي، الوسائل والأدوات الفعالة لفهم ونقد الخطابات التي نغرق فيها يوميا عبر الإعلام والإيديولوجيا التي لم تتورع عن تسييجنا ومحاصرتنا بكل أنواع القيود التي تنال من إنسانيتنا وحريتنا وأحلامنا ●

 

 

 

 


الهوامش:
1 – نخص هذه المقالة لبلاغة اللفظ صوتا وتركيبا. هناك مقالة ثانية جاهزة للنشر تتعلق بمحسنات المعاني والأفكار. والمقالتان معا مدخل شامل إلى بلاغة المحسنات التي تتعارض مع بلاغة الحجاج أو بلاغة المرافعة. ولقد سبق لي نشر مقالة حول بلاغة الحجاج في مجلة فكر ونقد، العدد الثامن وهي بمثابة تمهيد لبلاغة المحسنات.
2 – Aristote, Rhétorique, ed. Livre de poche, 1991, pp.297-298.
3 – يجوز أن نعتبر هنا مصطلح عبارة مقابلا للمصطلح الحديث أسلوب.
4 – Ibid, p.299.
5 – Heirich Lausberg, Manual de retorica literaria, (t.1) ed. Gredos, Madrid, 1975, p.74.
6 – Jose Gonsalez Vasquez, Sobre la imagen poetica, Universidad de Granada, 1980, p.50.
7 – In, J.L. Joubert, La poésie, ed. A.Colin Gallimard, 1965, p.56.
8 – In, T.Todorov, Critique de la critique, ed. Seuil, Paris 1984, p.10.
9 -Ch. Perelmant, L’empire rhétorique, ed. Vrin, 1977, p.17-18.
10 – نفسه.
11 – الواقع أن البلاغة الأرسطية نفسها قد كانت مختزلة ومدجنة لأنها لم تهتم إلا بأجناس ثلاثة من الخطابة، كما سبقت الإشارة.
12 – ينبغي هنا تقديم توضيح بصدد هذه المطابقة بين الشعرية وبلاغة المحسنات. هذه الشعرية التي نتحدث عنها ليست شعرية الخطاب السردي أو الحكائي بل شعرية وبلاغة النص الغنائي أو شبه الغنائي الذي يتخذ مادته البنائية من الإمكانات الرمزية للغة في بعديها اللفظي والمعنوي، أي في بعديها المحسناتي والمجازي. هذا التذرع بالمادة اللفظية والمحسناتية لا دور له في النصوص الشعرية السردية كما ورثناها عن اليونانيين والكلاسيكية في جنسيها المشهورين التراجيديا والكوميديا أو الدرامية بصفة عامة. بل وكما نلاحظ نفس الظاهرة في المنظومات التعليمية.
13 – Daniel Delas et Jacques Filliolet, Linguistique et poétique, ed. Larousse, 1973, p.161.
14 – رومان ياكبسون، قضايا الشعرية، منشورات توبقال، الدار البيضاء 1988، ص52,
15 – يمثل المشترك اللفظي علاقة من مجمعة من العلاقات الممكنة بين اللفظ والمعنى. وهي أربعة أنواع: 1)العلاقة غير الملتبسة تتطابق فيها كلمتان أو أكثر من حيث الشكل ومن حيث المحتوى المفهومي. إن تكرار كلمة تفاحة ينبغي أن يلازمها تكرار الكلمة بنفس المعنى. (كلمة ومعنى). 2)العلاقة الملتبسة: نواجه فيها كلمتين أو أكثر متطابقتين من حيث الشكل إلا أنهما لا تتطابقان من حيث المحتوى. إن كلمة فخذ قد تتكرر بمعنيين مختلفين (الاشتراك). 3)العلاقة الترادفية: وفيها نصادف كلمتين أو أكثر تتطابقان من حيث المعنى إلا أنهما لا تتطابقان من حيث الشكل. هنا يمكن بدلا من تكرار نفس الكلمة بنفس المعنى، نكرر المعنى بلفظ آخر. إن الأسد يمكن تعويضه بكلمة السبع (الترادف). 4)العلاقات المتباينة: هي الكلمات التي لا تتطابق شكلا كما لا تتطابق محتوى. مثال ذلك: الكتاب والدب (التباين).
16 – محمد الطاهر ابن عاشور شرح، المقدمة الأدبية، الدار العربية للكتاب، ليبيا تونس، 1978، ص78.
17 – المقصود هم النقاد الغربيون.
18 – عبد الله الطيب، المرشد إلى فهم أشعار العرب، الدار السودانية، 1970، ص571.
19 – In, Fernando Lazaro Carreter, De poetica y poeticas, ed. Catadra, Madrid, 1990, p.233.
20 – Wolfgang Kayser, Interpretation y analisisde la obra literaria ed. Gredos, Madrid 1985, p.126.
21 – H.Lausberg, Manual de retorica literaria, ed. Gredos, Madrid 1966, p.333-34.
22 – Valentin Garcia Yebra, Teoria y practica de la traduccion, ed.Gredos, Madrid 1984, p.280.
23 – رومان ياكبسون، قضايا الشعرية، منشورات توبقال، 1988، ص52.
24 – Jurij Tynjanov, Archaisty I novatory, Leningrad 1929, p.409.
عن: Victor Erlich, Russian Formalism, ed. Mouton, 1954.. يرتقب نشر هذا الكتاب بترجمة الولي محمد ضمن منشورات المركز الثقافي العربي.
25 – نفسه، ص.ص210-211.
26 – Heirich Lausberg, Elementos de retorica literaria, ed.Gredos, Madrid 1975, p.164.
27 – Bice Mortara Garavelli, Manual de retorica, ed. Catedra, 1988, p.292.
28 – شوقي بزيع، عناوين سريعة لوطن مقتول، دار الآداب، 1979، ص73.
29 – Pablo Neruda, Los versos del Capitan, ed. Bruguera. Libro amigo, 1981, p.15.
30 – عناوين سريعة لوطن مقتول، ص79.
31 – André Jolles, Formes simples, ed. Seuil, Paris, 1972, p.132.
32 – عناوين سريعة لوطن مقتول، ص12
33 – Guy Debord, La société du spéctacle, ed. Champ libre, Paris 1967, p.15.
34 – F.Lazaro Carreter, “La linguistica norte americana y los estudios literarios en la qécada 1958-1968”, in, Estudios de poética, ed. Taurus, Madrid, 1979, pp. 45-46.
35 – Ibid, p.48.