مجلة حكمة
الصفات الموجودات مذهب الأشعري - دانييل جيمريه

مذهب الأشعري (2): في الموجودات عامّة – دانييل جيمريه / ترجمة: محمد بوهلال

IMG_5449
غلاف الكتاب

فيما تدلّ عليه لفظة “موجود”

يرى الأشعري، مثل شيخه الجبّائي (راجع: مقالات، ص520، السطر 13-16؛ المغني، ج5، ص254، السطر 11-13)، أنّ لفظة “موجود” يمكن أن تُفهَم على وجهين: الموجود الراجع إلى وجود الواجد له، وهو يجري مجرى لفظة “معلوم”؛ والموجود المطلق الذي يفيد معنى الكائن والثابت، وهو نقيض المنتفي أو المعدوم (راجع: المجرّد، ص27، السطر 12-16؛ ص42، السطر 16-18؛ ص326، السطر 16-20). يفرض علينا هذا الشرح ثلاث ملاحظات:

1- يمكننا أن نفهم من هذا الشرح أنّ الأشعري يقول بتساوي الموجود والمعلوم. فما يوجد هو ما نعلمه. بعبارة أخرى “ليس العالم الخارجي شيئا آخر غير التمثيل الذي نملكه عن العالم”، وهو ما قد يعني موقفا فلسفيّا متبنّيا للمذهب المثالي. الله نفسه لن يكون له من الوجود إلاّ بمقدار ما نتصوّره. لكنّ ذلك لا يعبّر بالتأكيد عن وجهة نظر الأشعري. فمن جهة أولى، يمثّل “الموجود” بالنسبة إليه لفظا مشتركا يفيد في أحد معنييه “المعلومَ” وفي المعنى الثاني “الكائن” و”المتمتّع بالوجود”، وهما معنيان لا يتقاطعان. ومن جهة ثانية لا يتوافق الموقف الفكري لرجل مثل الأشعري –وهذا ينطبق على جملة المتكلّمين المسلمين- مع موقف المذهب المثالي، بل الأمر على العكس من ذلك تماما. ففي حال تساوي “المعلوم” و”الموجود”، يكون الموقف المطلوب هو العكس تماما. فإنّ فهم “الموجود” من جهة كونه اسم مفعول من الفعل “وجد” يفيد معنى ” ما يلاحَظ” و”ما يجرَّب” و”ما يُحَسّ” (ما يوجد). بعبارات أخرى، ليس الفكر هو ما يُسقط خارجَهُ تمثيلاتِهِ الخاصّةَ، بل العكس هو الصحيح، وهو أنّ الموجود الخارجي هو من يفرض نفسه على الفكر، فلا يستطيع هذا الأخير إلاّ “الاعتراف به”.

يمكننا أن نتّخذ بهذا الشأن موقفا أكثر تميّزا وأكثر تطابقا مع اهتمامات متكلّم معاصر للأشعري إذا اعترضنا على هذا الشرح المزدوج للفظ “الموجود” من جهة تعلّقه بالله. يمكننا أن نفهم من ذلك –وكان هذا فعلا هو موقف الضبّي، ذلك المتكلّم الذي عمل ابن فورك في المجرّد على تصويب تأويلاته الخاطئة- أنّ الله بالنسبة إلى الأشعري ليس موجودا -بالمعنى المعجمي الأوّل للكلمة- إلاّ بحكم “الوجود”، أي بحكم “علمنا به” الذي هو معنى قائم بنا. وهو ما يترتّب عليه الإقرار بكون الله لم يكن -بهذا المعنى- موجودا فيما لم الأزل. يردّ ابن فورك: كلاّ: فالأشعري يقول صراحة في كتابه “الإيضاح” إنّ الله بحسب المعنى الأوّل ليس فقط موجودا لنا باعتباره معلوما لدينا، ولكنّه أيضا موجود لنفسه باعتباره معلوما لنفسه. فهو في آن “موجود لنا بوجودنا له، وموجود لنفسه بوجوده لنفسه”، ويكون بهذا المعنى “موجودا فيما لم يزل” (راجع: مجرّد، ص326، السطر 15-19). وقد كان هذا بالذات موقف الجبّائي (المغني، ج5، ص254، السطر 11-13).

2- يترشّح من الصيغ التي استعملها الأشعري –كما رواها عنه ابن فورك طبعا- أنّ وصفنا الشيء بـ”الموجود” يفيد في معناه المعجمي الأوّل “معنى” هو “الوجود”، وذلك وفق الرسم البياني الاعتيادي الذي يفرض –خصوصا عند الأشعري- أن يوجد وراء كلّ وصف أو حكم “معنى” قائم بالموصوف يعلّله. وفق هذا المعنى الأوّل، يُفهَم “الوجود” صراحة كما رأينا من قبل باعتباره مرادفا للعلم الذي هو صفة قديمة حين يوصف به الله وعرض حين يوصف به الإنسان. يقول الأشعري: “الله موجود لنا على معنى أنّه معلوم لنا بوجودنا له، وهو علمنا به” (مجرّد، ص27، السطر 13-14)، وعلى معنى “أنّه لم يزل لنفسه واجدا بوجوده، وهو علمه” (مجرّد، ص326، السطر 18-19)[1].

يبقى السؤال مطروحا بشأن ما إذا كان “موجود” في معناه الثاني (باعتباره مرادفا لكائن وثابت) يقتضي “معنى” هو الوجود؛ أي إذا كان علينا أن نقول إنّ الموجود كان موجودا لعلّة هي “معنى” الوجود القائم به، مثلما نقول إنّه عالم لمعنى قائم به هو العلم، إلخ. كانت هذه في الواقع المقالة التي أخذ بها المتكلّم الزيدي سليمان بن جرير (الذي كانت تصوّراته في باب الصفات الإلهيّة إرهاصا بتصوّرات ابن كُلاّب)، والتي صاغها البغدادي بالعبارات التالية: “الموجود ما له وجود، والوجود صفة قديمة قائمة بالموجود” (تفسير، 17ب، السطر 5-6)؛ كان سليمان يقول: إنّ الله “موجود لمعنى به” (أصول، ص123، السطر 1-2). وهذا في الواقع تصوّر من الصعب الدفاع عنه لأنّه يفرض –بناء على القاعدة المجمع عليها والتي تقول إنّ الصفات والأعراض لا تقبل أن تقوم بها الصفات والأعراض- كون الشيء الوحيد المؤهّل لأن يوجد هو الشيء القابل لأن يقوم به معنى، وذلك لا ينطبق إلاّ على الذات الإلهيّة بالنسبة إلى الله، وعلى الجوهر بالنسبة إلى العالم المخلوق. وقد كان ذلك بالفعل حسب البغدادي المذهب الذي يقول به سليمان: فعنده أنّه لا يجوز وصف الأعراض ولا الصفات الإلهيّة بكونها موجودة، وبعبارة أدقّ، لا يقال فيها إنّها موجودة ولا معدومة (راجع: تفسير، 17ب، السطر 6-8؛ أصول، ص123، السطر 1-2)؛ وهذا عند البغدادي خُلْف، فليس ثمّة وسط بين الموجود والمعدوم. ولا شكّ أنّ ذلك سيكون السبب الذي من أجله رفض ابن كلاّب مقالة سليمان؛ فعنده أنّ “الله موجود لا بوجود” وهو “شيء لا بمعنى له كان شيئا” (مقالات، ص170، السطر 1؛ ص546، السطر 10).

تلك أيضا هي وجهة نظر الأشعري: عندما يفيد لفظ “موجود” معنى “الثابت” فإنّه “لا يقتضي معنى به يكون موجودا”، وهذا ينطبق على الله وعلى مخلوقاته على حدّ السواء (راجع: مجرّد، ص28، السطر 9-10 و17؛ ص326، السطر 19-20؛ المجموع، ج1، 183، السطر 19-20. راجع أيضا: مجرّد، ص212، السطر 23 وما بعده: “الموجود موجود لنفسه لا لمعنى”). وهذا ما يعنيه أيضا بقوله: “وجود الشيء هو هو وليس بمعنى” (مجرّد، ص239، السطر 19-20).

الشيء نفسه ينطبق على أشكال الوجود. فنقول الأمرَ ذاته في حدوث الشيء: “حدوث الشيء ليس هو أكثر من نفس الحادث” (مجرّد، ص239، السطر 22-23. راجع أيضا: مجرّد، ص254، السطر 6-7). أو بعبارات أخرى: “المُحْدَث بكونه مُحْدَثا لا يحتاج إلى معنى به يكون مُحْدَثا” (مجرّد، ص28، السطر 9). بهذا المعنى يمكننا التصريح بأنّ كلّ محدَث محدَث لنفسه. وهذه بلا شكّ صيغة شديدة الخطورة من جهة ما تحتمله من تعدّد للمعنى، فقد تحمل على الاعتقاد بأنّ كلّ محدث إنّما حدث من تلقاء نفسه. والحقيقة أنّ كلّ محدث يدين بوجوده لمحدِث أحدثه هو الله، وإنّما تريد العبارة أن تقول إنّ وصف المحدث بكونه محدثا لا يستوجب افتراض معنى خاصّا يقوم به (على نحو ما يستوجبه المتحرّك من معنى يقوم به، به يكون متحرّكا). وكانت الصيغة التي أخذ بها الأشعري تجنّبا للوقوع في اللبس هي قوله: “المحدَث محدَث لنفسه من محدِثِه” (مجرّد، ص28، السطر 10-12).

نفس الشيء ينطبق على حدوث الوجود، ويسمّى “ابتداء”، وعلى إعادته بعد الفناء، ويُسمّى “ابتداء”. فخلافا لبعض المتكلّمين من أهل السنّة الذين نقل الأشعري مقالتهم في كتابه النوادر[2]، ليس ثمّة معنى متميّز عن المُعاد هو “الإعادة”: “الإعادة هي نفس المُعاد”، وبالتوازي مع ذلك وباعتبار الإعادة ابتداء ثانيا، يرى أنّ: “الابتداء هو نفس المبتدَأ” (مجرّد، ص242، السطر 17-22).

الأمر نفسه ينطبق أيضا على القدم. صحيح أنّ الأشعري لم يتّخذ في هذه المسألة دائما نفس الموقف. ففي مرحلة أولى سلّم، مثل ابن كلاّب ومثل القلانسي أنّ الله قديم بقدم. كانت هذه مقالته على الخصوص في كتاب الإيضاح. لكنّه انتهى في وقت لاحق[3] إلى اعتبار القدم هو أيضا شكلا من أشكال الوجود ليس أكثر يتمثّل (وسنعود إلى هذا في موضع لاحق) في “التقدّم بالوجود”. وبناء عليه، ينتفي أيّ سبب يجعلنا نخصّ التقدّم بالوجود بمعنى لم نثبته للوجود المجرّد. من هنا جاءت الصيغة التي أعلن عنها الأشعري في بعض كتبه ومن ضمنها كتاب المختزَن: “القديم قديم بنفسه لا بمعنى له كان قديما” (مجرّد، ص28، السطر 12-17، وص326، السطر 7-12). وهذا يفسّر إقدامه في الوقت ذاته –خلافا هذه المرّة أيضا لابن كلاّب والقلانسي- على وصف المعاني الثابتة للذات الإلهيّة من الآن فصاعدا بالقديمة: الحياة، العلم، القدرة، إلخ. هذا يعني أنّ ما كان مستحيلا بالنسبة إلى أولئك المتكلّمين الآخرين بناء على المبدإ المشار إليه من قبل والقائل إنّه “يستحيل قيام الصفة بالصفة”، لم يعد كذلك بالنسبة إلى الأشعري.

في المقابل، وهذا أمر غريب، تمسّك الأشعري فيما يتعلّق بصفة البقاء التي نرى فيها هي أيضا بطريقة عفويّة شكلا من أشكال الوجود يتمثّل بحسب أحد تعريفاته التي اقترحها المتكلّمون الجبّائيّون (راجع: أسماء الله، 177-180) في “استمرار الوجود”، تمسّك بمقالة ابن كلاّب وآخرين، وتقول إنّ الباقي باق ببقاء. ولم يكن بينه وبين المتقدّمين من أهل السنّة في ذلك اختلاف إلاّ في مستوى الصياغة. فإذا كان هؤلاء يعرّفون الباقي بكونه “من قام به البقاء”، فإنّ الأشعري يعرّفه بكونه “من له بقاء”، وهذا في رأيه ما يسمح للصفات الإلهيّة القديمة بأن توصف -رغم كونها صفات- بكونها باقية ببقاء قائم بذات الله (راجع هنا، ص126 وص289). لكنّ البقاء بالنسبة إلى الأشعري ليس هو الوجود، ولا هو شكل من أشكال الوجود. يقول: صحيح أنّ الموجود “لا يصحّ وجوده في الثاني إلاّ وله بقاء به يبقى”، غير أنّ ذلك لا يعني أنّ بقاءه هو عين وجوده، “كما أنّ الجسم لا يخلو من أعراضه[4] في الثاني أيضا، ولا يصحّ له وجود مع عدمها، ولا يوجب أن يكون وجود أعراضه وجودا له” (مجرّد، ص238، السطر 20-24). إنّها طريقة غريبة في رؤية الأشياء. فمن جهة أولى، لا نجد مجالا للشكّ في أنّ الأشعري يفهم الفعل “بَقِيَ” بالمعنى الذي يفهمه به كلّ الناس، وهو “استمرار الوجود”، ويقيم بين “بَقِيَ” و”بقاء” صلة صرفيّة ودلاليّة؛ يظهر ذلك مثلا حين يروي ابن فورك على لسانه: “البقاء معنى من المعاني لأجله يبقى الباقي” (مجرّد، ص237، السطر 17-18). ومن جهة ثانية، يقول الأشعري رغم ذلك كلاما يُفهم منه أن الباقي يبقى للوقت الثاني ببقاء ليس بينه وبينه أيّ رابط دلالي أو أنطولوجي، ولم يكن اجتماعهما إلاّ بحكم الأمر الواقع، كما أنّ اجتماع الجسم وأعراضه لم يكن إلاّ بحكم الأمر الواقع. في المستقبل سيتخلّى خَلَف الأشعري من جهتهم عن هذا الموقف الشاذّ، وسيقولون منسجمين في الجوهر مع منطق تحليلاته المتعلّقة بالوجود والحدوث والقدم، إلخ. إنّ الباقي هو أيضا “باق لنفسه”[5] (راجع: أسماء الله، ص182).

3- من جهة الدلالة المطلقة، يقرّ الأشعري كما رأينا من قبل، بتساوي الموجود والثابت. وبالمثل، يمنح لفظ “الشيء” دلالة مساوية تماما لدلالة “الموجود”. مصداق ذلك أنّ ما رواه عنه ابن فورك في إطلاق اسم “الشيء” على الله: “يُقال له إنّه شيء، ومعنى ذلك أنّه ثابت كائن ليس بمعدوم ولا منتف” (مجرّد، ص42، السطر 13-14. وراجع حدّ الموجود في: مجرّد، ص27، السطر 15-16).

يتبيّن من ذلك بوضوح تامّ أنّ الأشعري لا يُقرّ بالتمييز الذي يقول به المعتزلة بين “موجود” و”شيء” من جهة، وبين “وجود” و”ثبوت” من جهة أخرى. فبالنسبة إلى المعتزلة، وخصوصا الجناح الجبّائي منهم، يُطلق اسم الشيء على “كلّ ما يصحّ أن يُعْلَم ويُخبر عنه” (راجع: المغني، ج5، ص202، السطر 8؛ ص203، السطر 9؛ ص249، السطر 4-5). وبناء عليه، يصحّ أن يقال في المعدوم إنّه شيء طالما أنّه هو أيضا يمكن أن يُعرف ويُتكلّم فيه. هذا الموقف تترتّب عليه نتيجة أساسيّة في المستوى الأنطولوجي. فعند المعتزلة، ليس المعدوم عدما محضا، بل يمتلك شيئا من الواقعيّة ومن “الوضعانيّة” المعبّر عنها بالضبط بعبارة “ثبوت” التي وقع من أجل هذا الغرض التمييز بينها وبين عبارة “وجود”. بالنسبة إليهم، تمتلك الجواهر والأجناس (أي مختلف أصناف الموجودات) حقيقة -على حدّ عبارتهم- سابقة لوجودها ومستقلّة عنها. فلكلّ جنس -وليكن جنس الجواهر أو جنس الأعراض أو جنس اللون أو جنس السواد، إلخ.- صفات وأحكام تميّزه. فيختصّ الجوهر مثلا عند وجوده بالتحيّز وبالقابليّة للأعراض، إلخ. ثمّ إنّ صفات الأجناس لا تبدَّل ولا تخضع لإرادة الخالق. فالله عند المعتزلة لا يخلق الأجناس من حيث هي أجناس، إذ عند خلقه لها لا يفعل أكثر من منحها الوجود وإضافته إليها باعتباره صفة إضافيّة من صفاتها. فالجوهر يكون -وهو ما يزال في حال العدم- جوهرا، والعرض عرضا، إلخ. (راجع: أسماء الله، 306).

يرفض الأشعري صراحة وجهة النظر هذه. فالمعدوم عنده هو فعلا محض عدم، ولا يصحّ نعته ووصفه بأيّة طريقة: “لا يصحّ أن يوصف المعدوم بأنّه لون ولا بأنّه جوهر” (مجرّد، ص246، السطر 8)؛ “لا يصحّ أن يسمّى المعدوم ويوصف بأنّه جوهر أو عرض أو سواد أو بياض إلى سائر ما توصف به الأعيان من أوصاف الإثبات للذوات” (مجرّد، ص254، السطر 21-22). يتأسّس موقف الأشعري على المماثلة التي يقيمها من جهته بين الوجود والثبوت: إثبات الشيء يعني إثبات وجوده. بتعبير أخصّ، الموجود هو عند الأشعري أحد الأوصاف التي يسمّيها أوصاف الإثبات أو أسماء الإثبات (هي أسماء وصفات تفيد إثبات الشيء، إذن إثباتَ وجوده). وكلّ ما في الأمر أنّ من بين أوصاف الإثبات يُعَدّ الوصف “موجود” الذي هو من جهة أخرى مرادف للشيء، الأعمّ دلالة، وبتعبير آخر هو المفهوم المعبّر عن النطاق الدلالي الأوسع بالنسبة إلى كلّ الموجودات (مجرّد، ص90، السطر 14-15: “أعمّ أوصاف الموجود كونه موجودا”). من هنا استمدّ حجّته القائلة: كيف يصحّ وصف المعدوم بالوصف الأخصّ، مثل كونه جوهرا أو عرضا، إلخ. إذا كان وصفه بالوصف الأعمّ (كونه “موجودا”) ممتنعا؟ يقول ابن فورك في ذلك: “وكان يُحيل أن يوصف المعدوم بأنّه لون أو سواد، ويقول إنّ ذلك مبني على منع أن يسمَّى شيئا أو موجودا. فإذا لم يصحّ أن يسمّى شيئا ولا موجودا، فكيف يصحّ أن يسمّى بما هو أخصّ من ذلك؟” (مجرّد، 246، السطر 24 وما بعده)؛ ويقول أيضا: “إنّ أعمّ أسماء الإثبات قولنا شيء وموجود، وعليه تتركّب الأوصاف الخاصّة والأسماء، وإنّه لا يصحّ أن يستحقّ الاسم الأخصّ مع امتناع الاسم الأعمّ، وهو أنّ قولنا إنّه موجود أعمّ من قولنا إنّه عرض أو سواد أو جوهر. فإذا امتنع المعدوم من تسميته بأنّه موجود –وهو أعمّ أسماء الإثبات- كان ذلك دالاّ على أنّه ممتنع أن يتسمّى بالأخصّ من ذلك على الحقيقة حتّى يقال إنّه سواد وليس بموجود. ألا ترى أنّ وصفنا للسواد بأنّه لون لمّا كان أعمّ من وصفنا له بأنّه سواد امتنع ولم يجز أن يسمّى سوادا إلاّ وهو لون كما لا يجوز أن يسمّى لونا إلاّ وهو سواد؟ دلّ ذلك على أنّ الأخصّ مستحَقّ على الترتيب بعد الأعمّ” (مجرّد، 255، السطر 5-12؛ راجع أيضا في شأن لفظ “شيء”: مجرّد، ص42، السطر 13).

من جهة أخرى، يرى الأشعري أنّ الصفات الذاتيّة للجواهر وخصائص الأجناس تخضع هي أيضا لفعل الخلق. فعندما يخلق الله شيئا يخلقه كلَّه، ماهيةً ووجودا. أمّا الزعم -على غرار المعتزلة- بأنّ الله لا يفعل أكثر من منحه الوجود لماهيات غير مخلوقة، فيعني إقرارا بقدم العالم: “وكان يقول إنّ المحدَث أحدِث شيئا موجودا، جوهرا إن كان جوهرا وعرضا إن كان عرضا، بجميع أوصافه الراجعة إلى نفسه، خلافا لقول من ذهب من المعتزلة إلى أنّه إنّما أُحدِث موجودا ولم يُحدَث شيئا ولا لونا ولا سوادا ولا عرَضا. وكان يقول: خلاف ذلك يؤدّي إلى القول بقدم العالم” (مجرّد، ص37، السطر 16-19). ينطبق هذا بصفة خاصّة على الفعل البشري الإرادي الذي يسمّيه الأشعري كسبا؛ فهو أيضا يخلقه الله حسب الأشعري من جميع جهاته (“بجميع صفاته الراجعة إلى نفسه”)؛ وذلك -يضيف ابن فورك- “لما يذهب إليه في قوله إنّ المعدوم ليس بشيء ولا عين ولا ذات ولا جوهر ولا عرض ولا سواد ولا بياض ولا قبيح ولا حسن، وإنّ جميع هذه الأوصاف يتعلّق بمحدث العين عليها كما يتعلّق [به] وصفها بالوجود والحدوث” (مجرّد، ص94، السطر 9-14؛ راجع أيضا نفس المعنى: مجرّد، ص244، السطر 22-23؛ 253، السطر 18 وما بعد). هذا الموقف يجب أن نربطه طبعا بالمقطع الوارد باللمع (الفقرتان 85-86) حيث سعى الأشعري إلى إثبات كون الفعل البشري الإرادي مخلوقا لله استنادا إلى كون هذا الفعل قد يحمل في بعض الظروف مواصفات لا تتطابق مع إرادة مكتسبه. فالكافر يريد أن يكون الكفر منه حسنا صحيحا، لكنّه يكون قبيحا باطلا؛ والمؤمن يريد ألاّ يكون إيمانه متعبا، فيكون على خلاف ما أراد. ذلك دليل حسب الأشعري على أنّ فاعلا آخر غير الكافر والمؤمن جعل تلك الأفعال على ما هي عليه في الواقع، وبتعبير آخر، حدّد ماهيتها (راجع: مجرّد، ص95، السطر 11-13؛ نظريّات، ص ص80-81، وهنا، ص ص372-373).

لا شكّ أنّ هذا الطرح يصطدم باعتراض مطوّل بناه عبد الجبّار: القول إنّ أوصاف الأجناس هي أيضا حادثة بفعل الخلق الإلهي وبإرادته الحرّة يعني القول بإمكان قلب الأجناس، كأن يريد الله أن يجعل الكفر حسنا والإيمان قبيحا والسواد مرارة والجوهر عرضا، إلخ. (راجع: نظريّات، ص6 و16). لكنّ الأشعري يرفض هذا الاعتراض، فيقول مظهرا هذه المفارقة: “ليس شرط ما يكون بالفاعل ما يجوز أن يكون على خلافه بالفاعل” (مجرّد، ص254، السطر 12-13). “فإن كان لا يجوز أن يوجد إلاّ كذلك فكان كونه على الوجه الذي هو عليه بالفاعل، ولا يجوز أن ينقلب عن ذلك، وهو كنحو حدوثه بالفاعل، ولا يجوز أن يكون عدمه بالفاعل لتناقض أن يكون معدوما مفعولا، كذلك كونه جوهرا بالفاعل، ولا يجوز أن يكون لا جوهرا بالفاعل لأنّه لنفسه كان جوهرا، فإذا وُجِدت نفسه وجب أن يكون جوهرا وتناقض أن يكون لا جوهرا ونفسه المقتضية لكونه جوهرا موجودة، وكذلك يستحيل أن يكون ما هو عرض لا عرضا وهو موجود بمثل ذلك. وكان يقول إنّ سبيل ذلك كسبيل كون الجواهر متحيّزة كائنة[6]، ولا يجوز أن توجد بالفاعل لا متحيّزة ولا كائنة” (مجرّد، ص254، السطر 16-20). ثمّة بالتأكيد إذن في كلّ جنس خصائص أساسيّة غير قابلة للتبديل. في نفس المعنى، يضرب ابن فورك في موضع آخر مثال العرَض الذي يحتاج ضرورة إلى محلّ ليصحّ حدوثه. مثل هذا الحكم لا يجوز حسب الأشعري تغييره ولا تبديله بنقيضه (“لا يجوز تغيّره وانقلابه”. مجرّد، ص132، السطر 9-11. راجع أيضا: مجرّد، ص132، السطر 21-22، حيث وصف “استغناء المحتاج إلى المحلّ عن المحلّ” بالمحال). لكنّ هذه الضرورة الذاتيّة اللازمة لماهية الشيء (يسمّيها ابن فورك “حكم الشيء في نفسه”، راجع: مجرّد، ص32، السطر 16) ليست حسب الأشعري متقدّمة على الوجود؛ فالجوهر إذا وُجدت نفسه وجب بالضرورة أن يكون جوهرا. لكنّ هذا الموقف يصعب في الواقع الدفاع عنه. فهو يؤدّي إلى الإقرار بوجود أحكام ذاتيّة للماهيات من حيث هي ماهيات لا تدخل تحت طائلة فعل الخلق الإلهي[7]. فمن الصعب في مثل هذا السياق أن نتخيّل منطقا آخر مغايرا لما يقوله المعتزلة: يقرّر الله إيجاد ماهية ما، فتكون هذه عند إحداثها -بحكم ضرورة ذاتيّة محدّدة مسبقا- جوهرا أو عرضا، إلخ. بكلّ ما لها من مواصفات ذاتيّة تخصّها.

أنواع الموجودات

لا تمتلك كلّ الموجودات نفس الطبيعة، وبالإمكان تقرير تمييزين أساسيّين بينها:

  1. التمييز الأوّل باعتبار الزمن: ثمّة موجود له أوّل، بتعبير آخر، كان غير موجود قبل أن يوجد؛ وثمّة موجود لا أوّل له، إذن “لم يزل موجودا” (مجرّد، ص27، السطر 17-18 وص32، 13-14). وقد جرت عادة الأشعري على الإشارة إلى هذين القسمين في أغلب الأحيان بعبارتَيْ “المحدث” بالنسبة إلى الأوّل و”القديم” بالنسبة إلى الثاني (من ضمن أمثلة عديدة، راجع: مجرّد، ص43، السطر 4؛ ص88، السطر 18؛ ص92، السطر 1-3؛ ص236، السطر 17-18؛ ص253، السطر 1-2؛ ص326، السطر 19-20. راجع أيضا: اللمع، الفقرة 6؛ الحثّ، الفقرة 15)، وهو ما يسمح لنا على وجه التدقيق بأن نستنتج أنّه يعرّف هذين المصطلحين باعتماد التمييز المشار إليه أعلاه. والحاصل من ذلك أنّ الموجود القديم عند الأشعري يتحدّد بطبيعة الحال باعتباره “موجودا لا عن أوّل، لا أوّل لوجوده”. إلاّ أنّ المعلومات بهذا الصدد متضاربة في واقع الأمر. فالنسفي يؤكّد من جهته أنّ الأمر كان كما استنتجنا (راجع: تبيين، ص56، السطر 2-3). وكذلك كان أيضا رأيَ الضبّي فيما رواه عنه ابن فورك. لكنّ هذا الأخير يؤكّد على النقيض من ذلك أنّ الأشعري “كان يأبى أشدّ الإباء” هذا التعريف الذي أكّد ابن فورك أنّه التعريف الذي يقول به المعتزلة (مجرّد، ص328، السطر 1-3)! ينبغي أن نفترض دون شكّ أنّ موقف الأشعري قد تبدّل في هذه المسألة وفي الكثير ممّا سواها، مثلما تبدّل أيضا موقف شيخه الجبّائي.

ذلك أنّه غير صحيح –خلافا لما يزعمه ابن فورك- أنّ المعتزلة عرّفوا دائما القديم بكونه “ما لا أوّل لوجوده”. الحقيقة غير ذلك، فقد ذكر لنا عبد الجبّار أنّ الجبّائي كان يذهب هذا المذهب في بعض كتبه (المغني، ج5، ص233، السطر 1-3). لكنّه في بعض كتبه الأخرى، ولاسيما في كتابه “الأسماء والصفات”، اختار تعريفا آخر أكثر التصاقا بالمعنى الاشتقاقي للفظ، يعني بمقتضاه لفظُ “القديم” ببساطة “المتقادمَ في الوجود” (المغني، ج5، ص233، السطر 17-18)؛ وهو التعريف الذي نقدّر أنّ أبا هاشم فضّله بصفة عامّة، بعد ذلك (المغني، ج5، ص233، السطر 21 وما بعده). ومن المفروغ منه أنّ لفظ “القديم” مفهوما على هذا النحو ينطبق حتّى على ما لوجوده أوّل طالما كان سابقا في الزمن لموجود آخر. في هذه الحالة لا نقع في التناقض من جهة صرامة المفاهيم أن نصف الشيء الواحد –بالمناسبة- بكونه محدثا قديما (المرجع السابق، ص 234، السطر 10-13). والقرآن نفسه يستعمل عبارة “قديم” في وصف عرجون مرّ عليه زمن طويل (يس، الآية 39) (المرجع السابق، ص 234، السطر 4-7). كلّ ما في الأمر أنّه سيقع التمييز بين نوعين من القدم: قدم “إلى غاية”، وقدم “لا إلى غاية”، والنوع الثاني بالذات هو ما يختصّ به الله، القديم. والحقيقة أنّ عبارتي “إلى غاية” و”لا إلى غاية” لم يذكرهما عبد الجبّار، لكنّ الأشعري نسبهما صراحة في “مقالاته” إلى الجبّائي (راجع: مقالات، ص517، السطر 10-11 و513، السطر 5-6، وكذلك: 180، السطر 4-5) [8].

كانت وجهة النظر الثانية هذه -حسب ابن فورك- هي ما تبنّاه الأشعري بصفة نهائيّة. إنّ ما يوصف بالقديم على وجه الحقيقة هو “المتقدّم بوجوده على وجود ما حدث بعده” (مجرّد، ص26، السطر 19-20 و42، السطر 21-23). ولهذا يجوز في المحدَث (من حيث كان لوجوده أوّل) أن يوصف بأنّه قديم على الحقيقة إذا أريد به تقدّمه على محدثات أخرى، كما أثبته القرآن في مثال العرجون (مجرّد، ص27، السطر 21 وما بعده، و37، السطر 10-12). سيكون كافيا هنا أيضا التمييز -كما فعل الجبّائي من قبل- بين نوعين من القدم: أحدهما “التقدّم بغاية”، والآخر “التقدّم بلا غاية” (راجع: مجرّد، ص27، السطر 19-21). فعندما نقول بناء على العبارة الجارية: إنّ الله قديم فإنّنا نعني في الواقع أنّه “متقدّم بوجوده على كلّ ما وجد بالحدوث بغير غاية ولا مدّة” (مجرّد، ص42، السطر 19-20؛ راجع: تفسير، 18أ، السطر 1-7؛ و287ب، السطر 6-10؛ الشامل، ص252، السطر 13-15)[9]. وسيأخذ الباقلاّني لاحقا بهذه الصيغ ذاتها[10].

لا شكّ أنّ هذا الغموض الأساسي الكامن في لفظ “قديم” هو ما يفسّر إحساس الأشعري بمناسبة كلامه على الله أو على صفاته بالحاجة إلى تدقيق معنى اللفظ بإردافه بصفة “الأزلي” الخالية من الغموض (راجع: مجرّد، ص43، السطر 17؛ ص60، السطر 7؛ ص66، السطر 14). وقد يحدث أيضا في بعض الأحيان فيما يرويه ابن فورك من قوله أن يظهر لفظ “الأزلي” مستعمَلا بمفرده (مثلا في: مجرّد، ص22، السطر 22-24، حيث استُعمِلت عبارة “أزلي الوجود” مقابل عبارة “حادث الوجود”؛ راجع أيضا: مجرّد، ص42، السطر 19؛ ص47، السطر 1؛ ص58، السطر 16).

أمّا فيما يتعلّق بلفظ “محدَث”، فإنّ ابن فورك يذكر أنّ الأشعري في مرحلة أولى كان كثيرا ما يعبّر عن معنى هذا اللفظ بأنّه “ما لم يكن فكان، أو ما كان بعد أن لم يكن، أو ما وُجِد عن أوّل”، وكلّها تبدو من الوهلة الأولى تعريفات مرضيّة. غير أنّ الأشعري تخلّى لاحقا عن جميع هذه الصيغ لمّا جوبه باعتراض ابن الراوندي عليها (مجرّد، ص37، السطر 12-14). ما هو اعتراض ابن الراوندي المقصود هنا؟ لا شكّ أنّ الأمر يتعلّق بما نسب إليه من اعتراض على فكرة وجود بداية مطلقة للوجود. وقد يكون فحوى اعتراضه هو التالي: لا شيء يمنعنا من تقدير وجود محدَث سابق لأيّ محدَث آخر نفترضه، ويتسلسل ذلك إلى ما لا نهاية. لهذا السبب قد يكون الأشعري في نهاية المطاف اختار أن يعرّف في كتابه الأصول الكبير “المحدثَ” بطريقة موازية لتعريفه للقديم لمّا قال إنّه “المتقدّم بوجوده على وجود ما حدث بعده”، فقال في “المحدث” كذلك إنّه “الذي تأخّر وجوده عن وجود من لم يزل” (مجرّد، ص37، السطر 8-9).

  1. التمييز الثاني في صلب الموجود يتعلّق بنمط الوجود من جهة حاجة الموجود في تحصيل وجوده إلى شيء آخر، أو عدم حاجته إليه. لا شكّ أنّ هذا التمييز ينطبق أوّلا وقبل كلّ شيء على صنف الموجودات الحادثة التي تنقسم تقليديّا بمقتضاه إلى جواهر وأعراض: العرض “يحتاج في حدوثه إلى محلّ” و”يقتضي محلاّ يقوم به”، بينما “يستغني الجوهر في حدوثه عن محلّ” (مجرّد، ص132، السطر 9-13؛ ص276، السطر 5-7؛ ص291، السطر 3-6). لكنّ هذه العلاقة الخاصّة بالحوادث، أي علاقة العرض بالجوهر وحاجة الأوّل في حدوثه إلى الثاني باعتباره محلاّ له، توازي تماما في نظر الأشعري، العلاقة الرابطة بين صفات الله التي يتمثّلها الأشعري في صورة “معان”، والذات الإلهيّة باعتبارها متعلَّقا لتلك الصفات. وبناء عليه، فإنّ جملة الموجودات -بما فيها الله وصفاته- ينبغي ردّها، في رأي الأشعري، إلى قسمين عامّين: القسم الأوّل “ما لا يقتضي بوجوده ما يتعلّق به من محلّ أو غيره” والقسم الثاني “ما يقتضي محلاّ أو متعلَّقا به”.

وليس ثمّة عنده، من هذه الجهة، فرق بين “أزلي الوجود” و”حادث الوجود”، “فإن كان أزلي الوجود أمكن وجاز انقسامه إلى هذين الوصفين، كما إذا كان حادث الوجود” (مجرّد، ص28، السطر 21-24).

فلله -مثل ما للإنسان- قدرة بها كان قادرا، وعلم به كان عالما، وحياة بها كان حيّا، إلخ. والفرق الوحيد بينهما في هذا المجال، هو أنّنا فيما يخصّ الإنسان نتكلّم عن أعراض، بينما نتكلّم فيما يخصّ الله عن صفات. وقد وقع اللجوء إلى هذا التمييز في كتاب المجرّد عديد المرّات (راجع: ص29، السطر 7-8؛ ص90، السطر 11؛ ص215، السطر 1-3؛ ص220، السطر 18؛ ص270، السطر 12). فـ”المعنى” ذاته يكون بحسب الحالة عرضا أو صفة، ذلك يرجع إمّا إلى تعلّقه بالإنسان أو إلى تعلّقه بالله، ويجري هذا على: الحياة (مجرّد، ص44، السطر 21)، والكلام (مجرّد، ص64، السطر 2-3)، والإرادة (مجرّد، ص69، السطر 15-21)… ويرجع هذا الاختلاف في إجراء المصطلح بطبيعة الحال إلى اختلاف المنزلة الأنطولوجيّة للموصوف. فلا إرادة ولا حياة، سواء تعلّق الأمر بالله أو بالإنسان، يمكنها أن توجد مستقلّة عن موصوفها، فهي “تقتضي حيّا تقوم به” (مجرّد، ص69، السطر 15-16). لكنّ هذه الحياة أو هذه الإرادة، في حالة الإنسان، تحدُث وتعرِض، ومن هنا جاءت التسمية لها بـ”العرَض”، في حين أنّها في حال تعلّقها بالله تكون قديمة، مكوّنة لوجوده ذاته، فتكون بهذا الاعتبار “صفة” من صفاته (راجع: مجرّد، ص257، السطر 2-4).

تحتاج الأعراض والصفات بالضرورة إلى موجود آخر تقوم به. يمكننا أيضا أن نصوغ هذا المبدأ بطريقة معاكسة كما يلي: تختصّ الأعراض والصفات بكونها “لا تقوم بأنفسها” (مجرّد، ص90، السطر 11؛ راجع أيضا في شأن الأعراض خاصّة: مجرّد، ص69، السطر 15؛ ص211، السطر 12؛ ص276، السطر 5-6؛ ص333، السطر 4-5). ويمكننا أن نستنتج، في المقابل، أنّ الجوهر يجب أن يقال فيه إنّه “قائم بنفسه”، والأمر نفسه ينطبق على الله بخصوص ذاته. وقد كان كذلك بالفعل في السياق العربي الإسلامي أحد التعريفات المقترحة في خصوص الجوهر، وهو تعريف نابع بوضوح من التعريف الذي وضعه أرسطو للجوهر في مقولاته، الفقرة الخامسة، باعتباره “ما لا يتقوّم بغيره”. غير أنّ المتكلّمين المسلمين من جهتهم ينسبون هذا التعريف للجوهر بكونه “القائم بالنفس” أو بكونه “القائم بذاته” أو بكونه “القائم بنفسه” إلى النصارى الذين يبرّرون بذلك إجراءهم هذا المصطلح على الله (الذي يعرّفونه بكونه “جوهرا واحدا في ثلاثة أقانيم”. راجع مقالات الإسلاميّين، ص306، السطر 15-16؛ التمهيد، الفقرة 132؛ الشامل، ص143، السطر 4).

يبدو أنّ الأشعري لم يعرّف الجوهر قطّ بطريقة وضعيّة على هذا النحو[11]. فبالنسبة إليه، كما سنرى لاحقا، يتحدّد الجوهر بكونه محلاّ للأعراض (راجع: ص45). لكنّ مسألة هل يجوز أن يقال فيه إنّه “قائم بنفسه”، وهل يجوز أن يقال مثل ذلك في الله، أو لا يجوز أن يقال ذلك إلاّ في الله، قد أربكته إرباكا عظيما. وقد بيّن ابن فورك بالتفصيل كيف كان موقف الأشعري في هذا الشأن غير أكيد: “وكان يقول في بعض كتبه في العبارة عن ذلك إنّ ما لا يقتضي متعلَّقا به فالعبارة عنه أنّه قائم بنفسه وما يقتضي ما يتعلّق به فالعبارة عنه أنّه لا يقوم بنفسه. وذكر في بعض كتبه وهو كتابه في المسائل المنثورة[12] ما جرى بينه وبين أعلام المخالفين من أهل الملّة وغيرهم في مناظرته لبعض النصارى أنّه لا يقال البارئ سبحانه قائم بنفسه على الإطلاق. وذكر في الموجز وغيره من الكتب أنّه لا يقال للمحدَثات إنّها قائمة بأنفسها وأن لا قائم بنفسه إلاّ الله تعالى وأنّ المحدثات قائمة بمن أقامها باقية بمن أبقاها وأنشأها وأوجدها” (مجرّد، ص29، السطر 1-6).

فيما يتعلّق بهذا الموقف الأخير، نستطيع أن ندرك بيسر الدافع الذي جعل الأشعري يأخذ به[13]. إنّ الصيغة “قائم بنفسه” بالغة الالتباس (وهي نتيجة لذلك غير قابلة للترجمة). فبوسعنا أن نتقبّل دون عناء أن يقال في الشيء الذي يقوم بشيء آخر إنّه “قائم بغيره”. لكنّ “القائم بنفسه” يمكن -على النقيض من ذلك- أن يُفهم بمعنى أقوى بكثير. لئن كان ما ينبغي فهمه من هذه العبارة ببساطة، على النقيض ممّا يُفهَم من العبارة الأخرى، هو أنّ الشيء المنعوت بهذا الكلام لا يحتاج إلى شيء آخر يقوم به، فإنّنا ننجذب إلى فهمها باعتبارها تعني ببساطة ما لا يحتاج -لكي يوجد- إلى أيّ شيء آخر، أي ما يجد في ذاته مصدر وجوده، وهو ما لا يصحّ في الواقع إطلاقه إلاّ على الله الذي يقول فيه ابن فورك في بعض المواضع مستشهدا على ما يبدو بالأشعري: إنّه “قائم بنفسه مستغن عن غيره” (مجرّد، ص58، السطر 22-23). أمّا المحدَثات فهي “قائمة بمن أقامها”، بمعنى أنّها تستمدّ وجودها وبقاءها من الله[14].

أمّا فيما يتعلّق بالداعي الذي دعا الأشعري في مناظرته لبعض النصارى إلى الذهاب –في الاتّجاه المعاكس- إلى أنّ الله لا يجوز أن يقال إنّه قائم بنفسه على الإطلاق، فإنّ كتاب المجرّد لا يسعفنا بأيّ جواب. وفي فقرة أخرى من الكتاب وقع التعرّض فيها إلى هذا الموقف أيضا، اكتفى ابن فورك بالقول إنّ الأشعري يؤكّد غموض تلك العبارة؛ فقد أورد مختلف تأويلاتها الممكنة واستنتج أنّ أيّا منها لا يليق بالله (مجرّد، ص43، السطر 6-8). وزعم الجويني في الشامل -وقد ذكر فيه أيضا تلك المناظرة (ص423، السطر 8-11؛ و574، السطر 13-14)- أنّ الأشعري لم يمتنع عن وصف الله وحده بكونه قائما بالنفس، بل أجرى ذلك على كلّ الأشياء؛ فعنده: “لا حقيقة للقائم بالنفس شاهدا وغائبا”! ففيما يخصّ عدم جواز إطلاق هذه العبارة على الله، (الشامل، ص423، السطر 11-13)، قدّر الأشعري من جهة أولى أنّ هذا الوصف لم يأت به الشارع (وذلك مبرّر كاف لاستبعاده من قائمة أسماء الله. راجع: ص360)؛ وأنّه من جهة ثانية غير صحيح في نفسه إلاّ إذا تأوّلناه على المجاز (؟)[15]. لعلّه كان ببساطة يريد أن يقول إنّ الكلام على الله بهذه الطريقة غير مقبول لأنّه قد يؤدّي إلى تمثّل الله في صورة جوهر بالمعنى الذي يفهمه المتكلّمون المسلمون من لفظ “الجوهر” -لا بالمعنى الذي يفهمه منه المسيحيّون-، وهو الجزء من الجسم، وذلك ما لا يصحّ في الله.

في بعض المواضع ذهب الأشعري إلى أنّه من الواجب الاعتراض أيضا حتّى على استعمال الفعل “قام” للدلالة على حضور العرض في الجوهر أو على حضور الصفة في الذات الإلهيّة. يقول ابن فورك: “وكان يمنع أيضا في كثير من كتبه القول بأنّ الأعراض والصفات قائمة بالجوهر أو الموصوف بها” (مجرّد، ص29، السطر 6-8. راجع أيضا: تبصرة الأدلّة، ص257، السطر 20 وما بعده). في واقع الأمر، لا تترك قراءة المجرّد -على افتراض أنّه فيما ينقله لنا يحترم عبارات الأشعري- في نفس القارئ هذا الانطباع. على الخلاف من ذلك، يظهر أنّ فعل “قام” هو المفردة الاعتياديّة المستخدمة على حدّ السواء في شأن الصفات الإلهيّة (راجع: مجرّد، ص40، السطر 4-8؛ ص43، السطر 3؛ ص209، السطر 17؛ ص237، السطر 7؛ ص337، السطر 13-14) وفي شأن الأعراض (ص15، السطر 17-20؛ ص108، السطر 19-20؛ ص205، السطر 8-10؛ ص262، السطر 20-23؛ ص263، السطر 21-22؛ راجع أيضا اللمع، ص23، السطر 12). إضافة إلى ذلك يقرّ ابن فورك بأنّ الأشعري ربّما عبّر عن ذلك بلفظ القيام ويقول “إنّ العرض قائم بالجوهر” (مجرّد، ص213، السطر 1-2؛ ص265، السطر 6-7).

ثمّة فعل آخر يمنع الأشعري نظريّا من استعماله في وصف العلاقة بين العرض والجوهر أو بين الصفة والذات الإلهيّة، هو الفعل “حلّ” (مجرّد، ص29، السطر 8-9). وقد ذكر ابن فورك في كتابه “اختلاف الشيخين” على الأرجح (راجع: تبصرة الأدلّة، ص427، السطر 17-18)، أنّ رأي الأشعري في هذه المسألة كان (كما كان في مسائل أخرى عديدة) مخالفا لرأي القلانسي (المرجع نفسه، ص334، السطر 4-5). وكانت الحجّة التي استدلّ بها الأشعري على رأيه هي أنّ “حلّ” مرادف لـ “سكن”، ومعنى “سكن” هو “شغل مكانا” (راجع: ص108)؛ إلاّ أنّ هذا المعنى لا يجوز أن يقال إلاّ لما يصحّ منه أن يشغل المكان، وهو الجوهر أو الجسم (الذي هو موجود مركّب من جواهر) (راجع: مجرّد، ص212، السطر 20-22؛ ص265، السطر 2-5)؛ الصفّار، 48ب، السطر 5). بالإضافة إلى ذلك، لا يصحّ أن يوصف العرض بالحالّ إلاّ إذا قام به معنى هو الحلول (وهو مرادف للسكون الذي هو أحد “الأكوان”. راجع: ص ص106-107)؛ غير أنّه لا يجوز أن يقوم بالعرض عرض (مجرّد، ص213، السطر 2-3). من هذه الجهة، أيضا تنطوي هذه “الصفويّة” المبدئيّة على ما يفاجئ القارئ، لمّا نلحظ كم هي كثيرة في اللمع وفي المجرّد على حدّ السواء المواضع التي استعمل فيها الفعل “حلّ” في وصف علاقة العرض بالجوهر على الأقلّ (راجع بالأخصّ: اللمع، الفقرات 173-178؛ مجرّد، ص216، السطر 5-13 و17-20). نستطيع أن نلحظ أيضا في المجرّد الاستعمال المنتظم للفظ “المحلّ” في وصف الجوهر باعتباره محلاّ يقوم به عرض ما (ص132، السطر 9-13؛ ص276، السطر 5-7)، وبصفة أخصّ، للعبارة (التقليديّة) “محلّ القدرة” (ص134، السطر 14-15؛ ص213، السطر 15-16؛ ص236، السطر 21-22؛ راجع أيضا: اللمع، ص56، السطر 7-8).

لكنّ الصحيح أيضا أنّ “حلّ” مستعمَل أيضا في المجرّد للدلالة بالمناسبة على معنى حلول جوهر ما (أو جسم) في مكان ما، بمعنى أنّه -كما سنوضّح ذلك في موضع لاحق- متمكّن في جوهر (أو جسم) آخر؛ من هنا جاءت هذه العبارة المستعملة في المجرّد (ص207، السطر 12): “الجوهر يشغَل المكان الذي يحلّه” (راجع كذلك: ص205، السطر 17؛ ص211، السطر 18؛ ص212، السطر 8). إنّ اللفظ الذي نرى الأشعري يستخدمه بصفة خاصّة في المواضع التي ننتظر فيها استعمال لفظ “مكان” –وهو ما لا يخلو من مفاجأة لنا- هو لفظ “محلّ”. فالظاهر أنّ اللفظين يقبلان التبادل، في نظره (راجع: مجرّد، ص16، السطر 1؛ ص206، السطر 23-24؛ ص207، السطر 11-12 و18)، ويشمل ذلك عبارة “لا في محلّ” التي ترد في بعض الأحيان بديلا عن العبارة “لا في مكان” الأكثر شيوعا عنده (راجع: مجرّد، ص133، السطر 7-8؛ قارن بالمجرّد، ص264، السطر 10-12 و ص275، السطر 18). وقد يحصل أحيانا العكس، فيستعمل الأشعري لفظ “مكان” في الموضع الذي ننتظر فيه لفظ “محلّ”، وذلك في سياق الحديث عن محلّ قيام العرض (نجد ذلك في: اللمع، ص41، السطر 4؛ مجرّد، ص232، السطر 2-3).

إنّ هذا الاستعمال غير التمييزي للفظَيْ “حلّ” و”محلّ” –وهو مخالف للاستعمال العامّ للمتكلّمين- يوضّح على أيّة حال أنّ الأشعري لم يَرَ من المفيد –من جهة صرامة المصطلح- أن يختصّ اللفظان بالدلالة على العرَض وما يقوم به. لكنّنا لن نكون أقلّ اندهاشا حين نعلم أنّ الفعل الذي يقدّر الأشعري في نهاية المطاف أنّه الأنسب في التعبير عن ذلك النمط من العلاقة، هو أكثر الأفعال حيادا، إنّه ببساطة الفعل “وُجِد”! (راجع: مجرّد، ص29، السطر 9-10: “كان يختار من العبارات في ذلك أنّ العرض موجود بالجوهر وأنّ الصفة موجودة بالموصوف”؛ راجع كذلك: مجرّد، ص108، السطر 16-17؛ ص212، السطر 22-23؛ ص265، السطر 7-8؛ وكذلك: تبصرة الأدلّة، ص257، السطر 20 وما بعده).

 

 


[1]  يتحرّز الجبّائي طبعا من استخدام المصدر، كما يحدث هنا. فهو يقرّ بأنّ “الله تعالى موجود فيما لم يزل بمعنى معلوم، لأنّه جلّ ثناؤه عالم بنفسه، فهو موجود من هذا الوجه” (المغني، ج5، ص254، السطر 11-12).

[2]  يتعلّق الأمر من دون شكّ بالقلانسي. راجع هنا، ص505.

[3]  حسب كتاب الغنية، 25أ، السطر 16-17، “على هذا استقرّ كلامه”. أمّا البغدادي من جهته، فلم ينسب إليه غير هذا الرأي. راجع: أصول، ص88، السطر 16 وما بعد؛ ص90، السطر 7-8؛ ص123، السطر 7-8.

[4]  حرفيّا: “وجود أعراضه”.

[5]  هنا أيضا مع التدقيق الضروري: “هو باق لذاته” من حيث إنّ هذا الوصف لا يقتضي معنى يعلّله. عدا ذلك، فإنّ كلّ ما يبقى –باستثناء الله طبعا- يبقى بِمُبْقٍ خارج عنه هو الله.

[6]  حول هذا المعنى المختلف لـ”كائن”، راجع: ص99؛ وحول “متحيّزة”، راجع: ص46.

[7]  يقول ابن فورك صراحة في: مجرّد، ص32، السطر 13، إنّ “الواجب الذي يرجع إلى حكم الشيء بالوجوب له ممّا لا يتعلّق بالفعل والترك”.

 

[8]  في شأن مواقف المعتزلة بهذا الصدد، راجع بتفصيل أكبر: أسماء الله، ص ص164-167.

[9]  انظر أيضا: النظامي، 19أ، السطر 2-8 الذي ينسب هذه المقالة إلى “بعض العلماء من أصحابنا”.

[10]  “فالقديم هو المتقدّم في الوجود على غيره (…) وقد يكون المتقدّم (…) متقدّما إلى غاية، وهو المحدث (…) وقد يكون متقدّما إلى غير غاية، وهو القديم جلّ ذكره” (تمهيد، الفقرة 26).

[11]  مع ذلك يزعم النسفي –على ما يبدو- العكس، إذ يقول إنّ الأشعري ذكر تعريفا للجوهر وهو كونه “القائم بالذات القابل للمتضادّات” (تبصرة الأدلّة، ص46، السطر 1-11).

[12]  حول هذا الكتاب، راجع مقالنا: “ببليوغرافيا الأشعري”، رقم 40.

[13]  لم يكن النسفي يعرف عن الأشعري غير هذا الموقف. راجع: تبصرة الأدلّة، ص44، السطر 17 وما بعده.

[14]  لهذا السبب سيقول أبو إسحاق الإسفراييني معبّرا عن وجهة نظره إنّنا يجب أن نفهم من عبارة “قائم بنفسه” ما لا يحتاج إلى محلّ يقوم به ولا إلى خالق يخلقه (راجع: الإرشاد، ص19، السطر 17 وما بعده). وحول هذه المسألة، راجع أيضا: النظامي، 20ب، السطر 5 وما بعده.

[15]  أقرّ بعدم فهمي للعبارات الأخيرة من كلام الجويني “وهي موهمة قياما”.