مجلة حكمة
ما وراء المركزية الأوروبية

ما وراء المركزية الأوروبية

الكاتب إنجريد هارفولد كفانجرافن
ترجمةالزبير عبدالله الأنصاري
مع نشر كتاب “الاستشراق” Orientalism في عام 1978، أصبح إدوارد سعيد واحدًا من أبرز العلماء المؤثرين في عصرنا. لقد أحدث الكتاب تحولًا في دراسة تاريخ العالم المعاصر، وذلك مع تقديمه تبصُّرات حول الطريقة التي عملت من خلالها الخطابات العنصرية على خلق الإمبراطوريات الأوروبية والمحافظة عليها. وإلى حد كبير بسبب أنشطته السياسية، استثار سعيد وكتابه نقد عدد من مفكري اليمين، قد يكون أبرزهم برنارد لويس.
ويشتهر بدرجة أقل في الغرب سمير أمين، الاقتصادي المصري الذي ابتدع مصطلح “المركزية الأوروبية” Eurocentrism في كتابه “نحو نظرية للثقافة نقد التمركز الأوروبي والتمركز الأوروبي المعكوس” الصادر عام 1988، والذي انتقد من وجهة نظر اليسار تصور سعيد للإمبراطورية، وقدَّم وجهة نظر بديلة لا تقوم على الثقافة أو الخطاب، وإنما على الفهم المادي للرأسمالية capitalism والإمبريالية imperialism.

لقد أمضى سعيد معظم حياتِه المهنيَّة في الشمال العالمي Global North، وتحديدًا في مدينة نيويورك، أمَّا أمين فقد قضى غالب حياته المهنية في إفريقيا محاولًا بناء مؤسسات أكاديمية وسياسية إفريقية لتحدي التبعيات dependencies التي خلقتها الإمبريالية. وعندما التقيت أمينًا عام 2016 لإجراء مقابلة، كان مع عمره الذي بلغ الخامسة والثمانين لا يزال منخرطًا بنشاط
في بناء مؤسسات بديلة وتحدي النظرية الاجتماعية أوروبية التمركز Eurocentric social theory، وعلى الرغم من وفاته في عام 2018 إلا أنَّ إرثه يظلَّ شديد الأهمية.
في كتابه “نحو نظرية للثقافة نقد التمركز الأوروبي والتمركز الأوروبي المعكوس”، كشف أمين العيوب التي تعتري مزاعم تطور الرأسمالية في أوروبا، مجادلًا بأنَّ قصة انبثاق الرأسمالية من خصائص أوروبية أصيلة كالعقلانية rationality والظفر triumph، والتي لا تزال تهيمن على النظرية
الاجتماعية، ما هي إلا تشويه. إنها تلقي قناعًا على الطبيعة الحقيقية للنظام الرأسمالي، بما في ذلك الدور الذي اضطلعت به الإمبريالية والعنصرية في تاريخ هذا النظام. وبدلًا من أن تمثل هذه القصة تفسيرًا علميًا موضوعيًا، رأى فيها أمين إيدلوجية أوروبية، فافتراض أنَّ الرأسمالية يمكن أن تتطور في الأطراف بالطريقة نفسها التي يُزْعَم أنها تطورت بها في أوروبا هو بالنسبة
لأمين استحالة منطقية.
لقد أشار أمين أيضًا إلى أنَّ الأساس الذي تقوم عليه الوحدة الثقافية الأوروبية هو أساس عنصري، نظرًا لكونه يخلق تضادًا زائفًا بين اللغات، وثنائيات تاريخية وهمية (على سبيل المثال، اعتبرت اليونان “أوروبية” غير مرتبطة بالشرق، والمسيحية أيضًا اعتبرت أوروبية). وعلى هذا النحو، كان أمين ناقدًا مبكرًا ومتمرسًا للتفسيرات الثقافية في العلوم الاجتماعية.
ويختلف نقد أمين للمركزية الأوروبية عن نقد سعيد الذي تركَّز أكثر حول كيف أنَّ التمثيلات الثقافية لغير الغربيين عنصرية ومؤذية. حقاً، لقد مثَّل سعيد وأمين في جوانب كثيرة التناقض بين ما بعد الاستعمار postcolonial والماركسية في تصورهما للإمبريالية في العلوم الاجتماعية، حيث مثَّل كتاب “الاستشراق” موقف ما بعد الاستعمار، فيمل مثَّل “في نظرية الثقافة نقد التمركز الأوروبي والتمركز الأوروبي المعكوس” الموقف الماركسي.
لقد كان أمين، بوصفه ماركسيًا جديدًا، مهتمًا بدرجة أقل بالموضوعات التي استحوذت على اهتمام مفكري ما بعد الاستعمار كالمواقف والثقافة، موليًا اهتمامًا أكبر للمركزية الأوروبية بوصفها مشروعًا عالميًا اتسم بالأدلجة والاستقطاب ورسَّخ الإمبريالية والتفاوت المنهجي من خلال شرعنة نظام عالمي قائم على نزع الموارد واستغلال الناس في الجنوب العالمي Global South. على سبيل المثال، برهن أمين على الطريقة التي أسهمت بها العلوم الاجتماعية أوروبية التمركز في شرعنة الانفلات الوحشي لرأس المال الذي كانت له تأثيرات مادية واقعية. وهكذا، فبينما آمن سعيد بأنَّ تحدي المواقف والثقافة قد يكون كافيًا لتحدي الإمبريالية، يرى أمين أنَّ مناهضة الإمبريالية ترجع دائمًا إلى مسألة الرأسمالية.
لقد اعتقد أمين أنَّ نقد سعيد كان عامًا جدًا ومتجاوزًا للحدود التاريخية، نظرًا لكونه لم يميز بين التصورات الأوروبية المختلفة للشرق الإسلامي، وقد استوعب أمين الدرس، فكان مضطرًا للاحتراس من خطر تطبيق مفهوم المركزية الأوروبية بدون قيود، فالمركزية الأوروبية بالنسبة له تظل مفهومًا تم تطويره في مرحلة تاريخية معينة.
كما انتقد أمين أيضًا اكتفاء سعيد بإدانة التحيُّز الأوروبي -أو الاستشراق-، دون أنْ يقترح على نحو إيجابي نظامًا آخر لتفسير الوقائع التي يجب تفسيرها. وهو ما سعى أمين على وجه التحديد إلى فعله في عمله، فمن خلال عرض تصور أكثر اكتمالًا لتطور الرأسمالية بمعزل عن التحيُّزات أوروبية التمركز، يقترح أمين الانشغال بمشروع عالمي خالٍ من الخصوصيات الأوروبية، أي نقدًا حداثيًا
للحداثة. وبطبيعة الحال، فإنَّ دعوى كهذه يمكن أيضًا نقدها من منظور علم الاجتماع النقدي، نظرًا لأنه من شبه المستحيل لأي نظرية في علم الاجتماع أن تصور الواقع كما هو دون تحيُّز.
كان كتاب “في نظرية الثقافة” الذي نشر لأول مرة في فرنسا عام 1988 في بعض جوانبه ردًا على انتقادات ما بعد الاستعمار التي استبعدت التحليلات الماركسية، انطلاقًا من تصورات مسبقة تقريبًا، اُعتُبِرت الماركسية بموجبها أوروبية التمركز. لقد أقرَّ أمين بأنَّ بعض جوانب الماركسية كانت أوروبية التمركز، وذلك من قبيل الافتراض الغائي بأنَّ البلدان النامية developing countries هي ببساطة في مرحلة مبكرة من التطور الرأسمالي، وأنها ستلحق مع الوقت بالركب الأوروبي، لكنه دافع أيضًا عن الطريقة التي يمكن بها للمفاهيم الماركسية والمادية التاريخية historical materialism تقديم انتقادات قوية للمركزية الأوروبية.
وإذًا، ما البديل عند أمين للعلوم أوروبية التمركز؟ لقد قدَّم أمين، من منظور الأطراف، إطارًا لرفع الغطاء عن البنيات اللامتكافئة للاقتصاد العالمي، وهو إطار تعجز النظريات أوروبية التمركز عن تقديمه.
توجد طريقتان للتفكير في إسهامات أمين لمجال اقتصاديات التنمية development economics، الأولى هي المفاهيم المعينة التي قدَّمها وكيف طبقت هذه المفاهيم بطرق مختلفة لتفسير العالم. والثانية هي طريقته في مقارب العلوم الاجتماعية، والتي تعد الأكثر تبشيرًا بإمكانية إعادة هيكلة اقتصاديات التنمية بوصفها مجالًا معرفيًا (على النحو الذي تم تفصيله في ورقتي الأخيرة المشتركة والمنشورة في مجلة مراجعة الاقتصاد السياسي الإفريقي).

ولنبدأ هنا بمقاربته للاقتصاد السياسي.

يدفعنا مفهومُ أمين للاقتصاد السياسي إلى التفكير بنيويًا، وزمانيًا، وسياسيًا، وإبداعيًا حول المشكلات الاقتصادية العالمية. إنه يتحدَّى الحدود الفاصلة بين التخصصات العلمية. ولننظر أولًا في عنايته بالبنية structure، ففي وقت راوح فيه معظم علم الاقتصاد ما بين الاعتماد إمَّا على الفردية المنهجية methodological individualism أو القومية المنهجية methodological nationalism -وهما المقاربتان اللتان تركزان على الفرد أو الأمة بوصفهما وحدة التحليل الأكثر أهمية- بدأ أمين بالإصرار على ضرورة أن نفكر بنيويًا. لقد أولى عنايته للبنيات العالمية التي تسند نظامًا دوليًا من الاستغلال. وقد كان التفكير في بنية الاقتصاد العالمي هو ما قاد أمينًا في واقع الأمر إلى تقديم إسهامات مهمة لنظرية التبعية dependency theory، وهي تقليد يرتكز على الجنوب، ويتخذ منطلقًا له النزعات الاستقطابية للرأسمالية، والقيود التي تفرضها على عالم ما بعد الاستعمار. لقد استكشف أمين كيف كان التبادل اللامتكافئ unequal exchange -التفاوتات المتجذرة في
التجارة الدولية- سمة بارزة للاقتصاد الرأسمالي العالمي الذي يعدُّ من بقايا الاستعمار والذي يستمر في جعل بلدان الجنوب تعاني نقصًا بنيويًا.
كما أصرَّ أمين أيضًا على الحاجة إلى التفكير زمانيًا. وقد حدَّد نفسه باعتباره جزءًا من مدرسة المادية التاريخية العالمية، حيث يعدُّ التوسع التاريخي للرأسمالية مفتاحًا لفهم الاستقطاب بين المركز والأطراف. كانت مقاربة أمين سياسية في جوهرها، فهو لم ينكر قط أنَّ هدفه النهائي هو تغيير العالم نحو الأفضل، وهذا ما يميزه عن علماء الاقتصاد العاملين في إطار التقليد الأوروبي
التمركز، القائم على دعوى حيادية العلوم الاجتماعية وأنها غير سياسية.
وأخيرًا، فقد كان أمين مفكرًا مبدعًا في استخدامه لمفاهيم تم تطويرها في المراكز الحضرية العظمى ليفهم بها العالم من الأطراف. كان يسمي نفسه “ماركسيًا مبدعًا”، مشدداً على أنه سينطلق من ماركس، بدلًا من التوقف عنده. الانطلاق من ماركس يعني منح الأولوية للصراع الطبقي، والاستغلال، والتنمية الرأسمالية غير المتساوية، وقد وسَّع أمين هذه المفاهيم لتحليل الإمبريالية، والتبادل اللامتكافئ، والنزعات الاستقطابية بين المركز والأطراف.
وبالنظر إلى هذه المقاربة التاريخية للاقتصاد السياسي، كان من المنطقي بالنسبة لأمين توسيع نظرية ماركس عن القيمة من أجل تحقيق فهم أفضل للإمبريالية، وقد أظهر في كتابه “التراكم على الصعيد العالمي” (1974) أنَّ الآليات التي تستمر من خلالها القيمة في التدفق من الأطراف إلى المركز معيدةً إنتاج تقسيم دولي للعمل، وتوزيع جغرافي غير متساوٍ للثروة، إنما تصدر عن الاستعمار وبنياته. وفي تصوره “للريع الإمبريالي” imperialist rent، استعان أمين بكتاب “الرأسمالية الاحتكارية” ذي التأثير العميق للاقتصاديين الماركسيين الجديدين بول باران وبول سويزي. بالنسبة لأمين، يُستمدُّ الريعُ الإمبريالي من فائض القيمة الإضافي extra surplus value. بعبارة أخرى، يمكن انتزاع المزيد من القيمة من العمال، وذلك من خلال الإنتاج في الأطراف، الأمر الذي يولد ريعًا إضافيًا للرأسمالي مقارنة بالعاملين في المركز الذين يقومون بوظائف مشابهة. وقد جادل أمين بأنَّه بينما تعدُّ العمالة منخفضة الأجر في الأطراف منتجةً بالقدر نفسه كنظيرتها في المركز، إلا أنَّها تحصل على مكافأة أقل في مقابل القيمة التي تخلقها، وهذا ما يخلق ريعًا (إمبرياليًا) كهذا. ومنذ ذلك الحين وسَّع آندي هيجينبوثام وعلماء آخرون رأي أمين، مطبقين المفهوم لإيضاح
الطريقة التي تمكَّنت بها الشركات البريطانية والإسبانية متعددة الجنسيات من استغلال طفرة السلع commodity boom؛ انظر أيضًا عمل ماريا ديفيكي ستيفي عن “الإمبراطورية غير الرسمية للندن” (2017).
لقد شكَّل الاستعمارُ اقتصادياتِ ما بعد الاستعمار على النحو الذي صار معه التراكم يحدث على وجه الخصوص بطرق غير متساوية -أو متكافئة-. وقد ميَّز أمين في كتابه “التطور اللامتكافئ” (1976) بين نوعين مختلفين من التراكم، أحدهما ما سمَّاه “التراكم المتمركز على ذاته” autocentric accumulation الذي حدث في المركز، وعزَّز إعادة الإنتاج الموسع لرأس
المال. في المقابل، تميزت الأطراف بما سمَّاه “التراكم التخارجي” extraverted accumulation، وهو نوع لم يكن قابلًا بسهولة لإعادة الإنتاج الرأسمالي. وقد جادل أمين بأنَّ التطور اللامتكافئ تطور عبر التاريخ خالقًا بنياتٍ استغلالية تتجلَّى في الوقت الحاضر من خلال التبادل اللامتكافئ.
وهذا بدوره أفضى إلى الاستقطاب المستمر واللامساواة المتزايدة.
لقد كان “التبادل اللامتكافئ” عند أمين محاولة لشرح عدم التعادل في أسعار عوامل الإنتاج على الصعيد العالمي، علمًا بأنَّ أسعار عوامل الإنتاج في هذا المقام إنما تحيل إلى أجور العمال أو العوامل الرئيسية الأخرى غير الـمُنْتَجَة.
ويعني هذا أنَّ العمل، والمواد الخام، والأرض أرخص في الأطراف. وقد سمَّى أمين تخفيض قيمة العمل في الأطراف “استغلالًا فائقًا”، فيما كان التبادل اللامتكافئ، بالنسبة له، نتيجة لتوسُّع الرأسمالية الاحتكارية إلى الأطراف بحثًا عن الأرباح الفائقة (أو الريع الإمبريالي).
لقد غيَّر أمين قواعد النقاش حول التبادل اللامتكافئ، فحتى ظهور كتابه، كان الاعتقاد الشائع في أوساط الاقتصاديين هو أنَّ العمال في الأطراف هم ببساطة أقلُّ إنتاجية من أولئك الذين في المركز. ومن المهم أنْ نلاحظ هنا أنَّ فكرة التبادل اللامتكافئ والاستغلال الفائق ظلَّت جدلية في أوساط الماركسيين، ففي كتاب “رأس المال” (1867) ناقش ماركس بنفسه عدم جدوى المقارنات بين درجات الاستغلال المختلفة في أمم مختلفة، وما يثيره ذلك من إشكاليات منهجية كبيرة.
ويجادل الكثير من الماركسيين بأنَّ الماركسيين الجدد مثل أمين يركزون بشكل مفرط على علاقات السوق market relations على حساب استغلال العمل.
بالإضافة إلى المشاركة في هذه النقاشات النظرية، كان أمين من بين أوائل من حاولوا قياس التبادل اللامتكافئ تجريبيًا، ومنذ ذلك الحين، اقتدى به كثيرون مثل جايسون هيكيل، وديلان سوليفان، وحذيفة زومكوالا الذين خلصوا في بحث لهم عام 2021 إلى أنَّ الشمال العالمي استولى على نحو 62 تريليون دولار أميركي من الجنوب العالمي بين عامي 1960 و2018 (بالأسعار الثابتة للدولار الأميركي في عام 2011). وفي استكشافهم لمجموعة من الأساليب المختلفة لحساب التبادل اللامتكافئ، وجد هيكيل وآخرون أنَّه بغض النظر عن الأسلوب فقد زادت حدة الاستغلال، وحجم التبادل اللامتكافئ بشكل كبير منذ ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.
لقد كرَّس أمين أيضًا قدرًا كبيرًا من الوقت للتفكير في طرق لتغيير نظام غير عادل، فقد كان منخرطًا بشدة في النشاط السياسي، وطور بعض المفاهيم النظرية لإحداث التغيير السياسي، وأشهرها فكرته عن “فك الارتباط” delinking التي خصَّص لها كتابه “فك الارتباط: نحو عالم متعدد المراكز” (1990)، والذي يقدم من خلاله تقييمًا للطرق الممكنة للمضي قدمًا من أجل دولة ذات سيادة في الأطراف. وقد جادل أمين في “فك الارتباط” بأنَّ الظروف المعينة التي سمحت
بتقدم الرأسمالية في غرب أوروبا خلال القرن التاسع عشر لا يمكن إعادة إنتاجها في مكان آخر. وبناءً على ذلك، اقترح نموذجًا جديدًا للتحول الصناعي يتكوَّن من خلال تجديد الأشكال غير الرأسمالية لزراعة الفلاحين peasant agriculture والتي اعتقد أنها قد تقتضي ضمنًا فك الارتباط عن ضروريات الرأسمالية الـمُعَوْلمَة.

ومن المهم أن نلاحظ هنا أنَّ فك الارتباط غالبًا ما يساء فهمه على نطاق واسع ليعني الاستقلال الاقتصادي autarky، أو نظامًا من الاكتفاء الذاتي والتجارة المحدودة، لكن هذا تحريف، ففك الارتباط لا يتطلَّب قطع جميع العلاقات مع بقية الاقتصاد العالمي، وإنما يتطلَّب بدلًا من ذلك رفض إخضاع استراتيجيات التنمية الوطنية لضرورات العولمة. إنه يهدف إلى فرض اقتصاد سياسي يتلاءم مع احتياجاته، بدلًا من تقبل الاضطرار إلى التكيف أحاديًا مع احتياجات النظام العالمي. ولتحقيق هذه الغاية من زيادة السيادة، فإنَّ على الدولة تطوير نُظُمها الإنتاجية الخاصة بها، ومنح الأولوية لاحتياجات الشعب، بدلًا من الطلب على رأس المال الدولي.
في مقابلتي معه قبل وفاته، أكد أمين أهمية الواقع الاقتصادي السياسي المحدَّد لأي دولة معينة من أجل فهم وموضعة الإمكانيات لفك الارتباط. في ذلك الحين، وبقدر غريب من الدقة، قدَّر أمين أنه “إذا أمكنك بلوغ 70 في المئة من فك الارتباط، فإنك تكون قد أنجزت عملاً عظيماً”. وقد أشار إلى أنَّ دولة قوية، ومستقرة نسبيًا، لأسباب تاريخية، مع درجة معينة من القوة العسكرية والاقتصادية سيكون لديها مزيدًا من النفوذ لفك الارتباط. وإذًا، بينما قد تكون الصين قادرة على تحقيق 70% من فك الارتباط، فإنَّ دولة صغيرة مثل السنغال ستجد صعوبة في تحقيق القدر نفسه من الاستقلال.
ويستلزم فك الارتباط رفض الدعوات إلى التكيف مع الميزة النسبية comparative advantage للدولة والأشكال الأخرى من خدمة المصالح الأجنبية. لكن الحديث عن هذا، بطبيعة الحال، أسهل من القيام به. وقد لاحظ أمين أنَّه يتطلب على السواء دعمًا محليًا قويًا لمشروع وطني كهذا، وتعاون جنوب-جنوب قوي كبديل للعلاقات الاقتصادية الاستغلالية بين المركز والأطراف. تتضمن الجوانب الأخرى من فك الارتباط الاستثمار في مشاريع بعيدة المدى مثل البنية التحتية، بهدف تحسين مستوى المعيشة لمعظم الناس في البلاد، بدلًا من تعظيم الاستهلاك أو الأرباح قصيرة المدى.
ومؤخرًا، درس عدد من العلماء مسارات التنمية التاريخية من حيث مسألة فك الارتباط، فعلى سبيل المثال، في عام 2020 طبق فرانشيسكو ماكيدا وروبرتو ناداليني الاعتبارات لمحاولة فهم مسار التنمية الصيني، بينما في عام 2021 طبقه فرانسيسكو بيريز لفهم التنمية الاقتصادية في شرق آسيا. وعلى كل حال، فمع تزايد ترابط العالم، أصبحت إمكانية فك الارتباط أكثر صعوبة.

إننا الآن في لحظة أصبح فيها من الموضة بالنسبة للجامعات في الشمال العالمي التعبير عن الرغبة في “إنهاء الاستعمار في الجامعة” decolonize the university، وبينما يندفع العديد من العلماء نحو “الاستشراق” لإدوارد سعيد لفهم كيفية تحقيق ذلك، فإنَّ عمل أمين والتزامه تجاه علوم اجتماعية جنوبية التمركز قد يقدم مقاربة أكثر راديكالية. عقب سعيد، انحصر معظم الالتزام
المبذول لإنهاء الاستعمار في العلوم الاجتماعية decolonize the social sciences في تحدي الصور العنصرية، والتمثيلات أوروبية التمركز في المناهج الدراسية، وفي الخطاب الأكاديمي. وهذا مهم في وقت أصبحت فيه المناهج الدراسية على نحو متزايد ضيقة، وأوروبية التمركز مع نقص حاد في التنوع، خصوصًا في علم الاقتصاد. وإذًا، فما الذي يمكن لمنظور أميني أن يضيفه إلى النقاش حول إنهاء الاستعمار في علم الاقتصاد، بما يتجاوز إسهامات سعيد؟

أولًا: يفتح اهتمامُ أمين بالكيفية التي شكَّل بها الإرث الاستعماري البنيات الاقتصادية والاجتماعية للاقتصاد العالمي بطرق متنوعة البابَ أمام ثروة من الدراسات في الإرث الاستعماري، والإمبريالية، والتبادل اللامتكافئ. ومن هنا فإنَّه من منظور إنهاء الاستعمار في الجامعات، قد يفي أمين بالحاجة القائمة لتعزيز فهم جنوبي التمركز للعالم، إضافة إلى تقديم فهم بديل للرأسمالية، وهذا من الأهمية بمكان نظرًا لكون الدراسات التي تبنت موقفًا نقديًا تجاه الرأسمالية قد تم تهميشها إلى حد كبير في المناهج الدراسية لعلم الاقتصاد في كل أنحاء العالم.
عندما ناقش أمين أطروحته للدكتوراة في معهد الدراسات السياسية بباريس في عام 1957، كان ذلك في وقت يمكن فيه الحصول على درجة الدكتوراة في علم الاقتصاد من خلال طرح المفاهيم الماركسية في مؤسسات النخبة. وقبل ذلك ببضعة أعوام فقط، وتحديدًا في عام 1951، تمت ترقية بول باران، وهو عالم اقتصاد ماركسي، إلى درجة أستاذ في جامعة ستانفورد بكاليفورنيا، عقب فترة
قصيرة من تقاعد بول سويزي، وهو أيضًا عالم اقتصاد ماركسي، من جامعة هارفارد بماساشوستس في عام 1947. في ذلك الحين، كان علماء راديكاليون من جميع أنحاء العالم يقدمون تفسيرات جديدة ومتضاربة للنزعات الاستقطابية للرأسمالية. لقد ساد على وجه التحديد لدى علماء من الهند إلى البرازيل اهتمام بإعادة تفسير ماركس من وجهة نظر عالم ما بعد الاستعمار. كانت تلك أيضًا الفترة التي قدم خلالها مؤتمر باندونغ -تجمع في إندونيسيا عام 1955 لممثلي 29 دولة آسيوية وإفريقية حديثة الاستقلال من أجل بناء تحالفات حول التنمية الاقتصادية وإنهاء الاستعمار- جوًا من التفاؤل لأولئك الذين عارضوا الاستعمار والاستعمار الجديد neocolonialism.
لقد تطورت النقاشات التي شهدها منتصف القرن العشرين حول المركزية الأوروبية من الصراعات المادية الواقعية ضد العلاقات الاستعمارية والاستعمارية الجديدة، والتي تتناقض مع المجال المعاصر لعلم الاقتصاد حيث تم اختزال التحليل فيما يمكن دراسته ضمن إطار الاقتصاديات التقليدية المحدثة، وببعض أساليب الاقتصاد القياسي المقبولة. من منظور أميني، يحتاج إنهاء الاستعمار في الجامعات إلى إفساح المجال لنوع الدراسات الراديكالية التي تفحص بشكل نقدي دور النظام الرأسمالي نفسه في إنتاج التفاوتات والمظالم على الصعيد العالمي، والتي كان من الممكن القيام بها في منتصف القرن العشرين.

ثانيًا: يمكن لأمين أن يساعدنا على رؤية الأسس الإيدلوجية لعلم الاقتصاد السائد، ولتنظيرات العلوم الاجتماعية بشكل عام. وهنا، يعطينا أمين نقطة الانطلاق الضرورية لنتحدَّى مجالًا لا يزال أوروبي التمركز.

ثالثًا: قد نتعلَّم أيضًا دروسًا مهمة من أمين عندما يتعلَّق الأمر بالاستراتيجية، فهو لم يتواصل كثيرًا مع جامعات النخبة في المركز. لقد كان إفريقيًا وحدويًا، ومواطنًا للعالم النامي، كرَّس حياته لبناء المؤسسات السياسية والثقافية في إفريقيا. وهذا ما يتناقض مع المبادرات العديدة من جامعات المركز التي تحاول استيعاب علماء الأطراف ضمن مؤسساتها (التي غالبًا ما تكون أوروبية التمركز) بدلًا من دعم المؤسسات والأبستمولوجيات الجنوبية.

أخيرًا، ربط أمين دائمًا عمله بالصراعات المادية الواقعية، فقد كانت الحاجة إلى مناهضة العلوم الاجتماعية أوروبية التمركز مهمة لأنها تفضح البعد الاستعماري للنظام الاقتصادي العالمي، وهذا أمر مهم في سياق الدعوات إلى إنهاء الاستعمار في الجامعات، والتي غالبًا ما يتم إطلاقها بمعزل عن الصراع الاجتماعي الأوسع المرتبط بإنهاء الاستعمار. من هنا يعد عمل أمين بمثابة تذكير حاسم بأنَّ الاستعمار يتعلق بالموارد المادية، ومن ثم فإنَّ إنهاءه لا يمكن أن يتحقَّق عبر
التغييرات في الأبستمولوجيا فقط.

المصدر