مجلة حكمة
الإسلاموية على الطريقة التركية

ما بعد الإسلاموية على الطريقة التركية – إحسان داغي

ما بعد الإسلاموية آصف بيات
غلاف الكتاب

الفصل الثالث (ما بعد الإسلاموية على الطريقة التركية) من كتاب (ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي) – تحرير: آصف بيّات، ترجمة: محمد العربي – نشر دار جداول 2016 (للاطلاع على الفصل الثاني اتبع هذا الرابط)


قبل أي شيء آخر، أنا مسلم. وكمسلم، أحاول أن أذعن لتعاليم ديني؛ فأنا أحمل مسؤولية تجاه الله الذي خلقني، وأحاول أن أقوم بعبء هذه المسؤولية. لكنني أحاول أن أبقي هذا الالتزام بعيدًا عن الحياة السياسية، وأن أبقيه أمرًا شخصيًا. ولا يمكن للحزب السياسية أن يدين بدين، فقط الأفراد يستطيعون هذا. وإلا سيكون هذا استغلالاً الدين، وهو أسمى من أن يستغل.

رجب طيب أردوغان، زعيم حزب العدالة والتنمية، ورئيس الوزراء التركي.

ليست الإسلاموية ميتة، لقد تحول بعض من تياراتها من الداخل إلى أساليب نقدية ذاتية وخلاقة لمواجهة المأزق السياسي والأيديولوجي. وتعتبر ما بعد الإسلاموية بناءًا جديدًا من الخطابات والمواقف للتكيف من خلال الاستمرار في الانخراط في الحياة السياسية. عندما تحول الإسلاميون إلى الديمقراطية كإستراتيجية سياسية فعالة للتعامل مع مناوئيهم السلطويين من خلال اجتذاب الجماهير عبر الوسائل الشرعية، وعندما تحولوا إلى التعددية كقاعدة للتواصل والعمل مع الفئات الاجتماعية المتنوعة، فقد وصلوا عند هذه الحالة إلى ما بعد الإسلاموية، وذلك باعتبار أن الأخيرة ليست أطروحة مناقضة للإسلاموية أو إسلاموية مقنعة، لكنها بالأحرى إسلاموية ممتزجة بالديمقراطية والتعددية[1]. إنها تمثل قدرة الإسلاموية على تطوير خطاب واستراتيجية سياسية وإيجاد فواعل جدد.

هذه القدرة على الاستجابة التي أشّرت على ظهور ما بعد الإسلاموية من داخل الحركات الإسلامية توضح قدرة الإسلاميين على التعلم وقدرتهم على تغيير  أنفسهم للتعامل مع التحديات التي واجهوها. لقد أخذ ما بعد الإسلامويون، ببنائهم على منجزات الإسلاميين وإصرارهم على التغلب على المآزق السياسية والنظرية، في القيام بعملية إعادة تفكير في في خطاب الإسلاموية القديم وطوبياها[2].

لقد جعل اقتناع الإسلاموية بأن الإسلام نظام سياسي واجتماعي واقتصادي شامل ويجب أن يتم إقامته من خلال أجهزة الدولة، جعل منها مشروعًا سياسيًّا حداثيًّا. وتم جسر الهوة الزمنية بين الإسلام الأول والعصور الحديثة من خلال القراءة النصية للقرآن الكريم. ولم يكن السعي نحو إحياء الجماعة الإسلامية كليًا مجرد حنين ماضوي، بل كان خيارًا سياسيًّا متعدًا لبناء مجتمع جديد عبر قوة الدولة وتحت احتكار فهم معين للاجتهاد الديني. لذا، كانت الإسلاموية شديدة الصلة بالإيديولوجيات الشمولية واستراتيجياتها في القرن العشرين.

سعى الإسلاميون بادعائهم الولاء إلى رسالة الإسلام الأصيلة إلى إعادة بعث المجتمع الإسلامي من خلال الصراع ضد الحكام غير الإسلاميين في بلدانهم، وضد القوى الغربية في الخارج، وهي التي أفسدت هؤلاء الحكام وسممت عقول المسلمين. وبالنسبة إليهم، فإن إعادة إقامة حكم الإسلام مسألة حياة أو موت تتطلب وتعطي الأولوية إلى الصراع السياسي باستخدام كل الوسائل المتاحة.

لقد تغيرت علاقة المسلمين بالسياسة عبر سنوات تحت تأثير العولمة، وقوى السوق وانتشار وسائل الإعلام وامتداد النخب المتعلمة بالإضافة إلى الفشل الواضح للبرنامج السياسي الإسلاموي. وأصبح من الصعوبة بشكل متزايد أن يتم تصوير شكل محدد لعلاقة المسلمين بالسياسة، إن النظم في العالم العربي تتغير بداية من تونس ثم مصر، وأضاف الدور الذي لعبه الإسلاميون في هذيْن البلديْن دفعة لتطوير مناهج جديدة للنظر إلى رؤية المسلمين السياسية.

يمكننا وصف الرؤية الإسلامية الجديدة للسياسة بأنها ما بعد إسلاموية من حيث الاتجاه ومن حيث الاستراتيجية السياسية. يتخذ هذا الاتجاه من الإسلام مرجعية غير أنه يعترف بتنوع الاجتهادات والمناهج والنماذج النابعة من الإسلام. وبالتالي، لا يدعي الاتجاه ما بعد الإسلاموي احتكار فهم وحيد للإسلام ويسعى نحو فرضه من خلال القوة الإكراهية للدولة، إنها يترك المساحة الأوسع لحرية الاختيار[3].

تتضمن ما بعد الإسلاموية أيضًا استراتيجية سياسية تنتفع بالديمقراطية في إطار خطاب جديد يمكنها من إقامة تحالفات مع مجموعات سياسية واجتماعية مختلفة. تتعامل هذه الاستراتيجية الجديدة مع المجتمع كما هو، بكل ما فيه من هويات وأنماط حيايتية وأيديولوجيات متنوعة ومن ثم يقبل تعدديته الأصيلة ويرفض المشروع الإسلاموي الساعي نحو تبديلها بأساليب ثورية. بهذه الطريقة، بدلاً من تبشيرها بفكرة بناء “المجتمع الجديد” التي تنتهي دائمًا بنموذج سياسي شمولي، تشير ما بعد الإسلاموية نحو  “فكر جديد” يقوم على الاستيعاب والتعددية والتشاركية في المجال الاجتماعي. ومع ذلك، لا تتخلى تمامًا عن التبشير  بفضائل المجتمع الأخلاقي القائم على الإسلام.

ويبقى السؤال الأكثر  أهمية، هل ستتورع الحكومة ما بعد الإسلاموية عن استخدام القوة القسرية للدولة لتحقيق مثل هذا المجتمع. ما بعد الإسلاموية ليست حركة مشغولة بالسيطرة على الدولة واستخدامها كقوة تحويلية. وعوضًا عن هذا، فإنها تعكس الاعتقاد بأن الأصوب والأدوم هو التجذر  داخل المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية الموجودة بالفعل. على هذا، فإن ما بعد الإسلاموية تعبر عن سمو الاجتماعي على السياسي، فبدلاً من النظر إلى الدولة باعتبارها أداة التغيير، فإنها ترى أن المجتمع بقدراته هو القادر على حل الأزمات السياسية.

لا تتعلق ما بعد الإسلاموية فقط بتغيير الاستراتيجيات، إنها أعمق من هذا وأكثر تأثيرًا؛ إذ أنها تتعلق بالتخلي عن فكرة والمثال القائل بأن الدولة الإسلامية ممكنة سياسيًّا ونظريًّا. ولهذا مدلولات عميقة على علاقة المسلمين بالسياسة؛ فإذا كانت فكرة الدولة الإسلامية خرافة، فسيكون عليهم أن يتعاملوا مع قضية تحديد وتعريف وتقرير ماهية النموذج السياسي المثالي. ومن هذا البحث، تظهر ما بعد الإسلاموية كمحاولة لتأطير نظام سياسي للمسلمين في عالم لا يوجد فيه نظام سماوي مسبق يمكن أن يطلق عليه دولة إسلامية. من هنا تحتضن ما بعد الإسلاموية المشاركة والاستيعاب والتسامح والتحرر وحقوق الإنسان والحريات وتدمجها بالأخلاق والأخوة والتضامن الإسلامي، وذلك لتعويض فقدان “المقدس” في تكوين نموذج الحكم.

وإذا كانت ما بعد الإسلاموية غير منصبة على إقامة مجتمع ودولة إسلامييْن، فلماذا تنخرط إذن في السياسة؟، للإجابة على هذا السؤال نجد أن ما بعد الإسلامويين الأتراك قد استبدلوا الناس Halk بالرب Hak؛ فلم يعودوا يمارسون السياسة باسم الإسلام، بل باسم الشعب الذين عليهم أن يعملوا على الوصول للسلطة لخدمته. ويتطلب مثل هذا المنطق تبني الديمقراطية والتعددية كمبادئ سياسية واقتصادية مؤسسة للنظام السياسي. وفي إطار الحالة التركية، برر ما بعد الإسلامويون الأتراك انخراطهم في الحياة السياسية من خلال فكرة تحرير الناس عبر مدهم بالخدمات. لقد منح شعار “خدمة الشعب هي خدمة لله Halka hizmet hakka hizmettir” للإسلاميين السابقين سببًا للانخراط المستمر في السياسة.

لقد برهن ما بعد الإسلامويون الذين تجمعوا حول حزب العدالة والتنمية AKP فاعلية الفكر الجديد في بيئة سياسية تنافسية. ويبرز الحزب من بين النجاحات الهامة التي حققتها الحركة ما بعد الإسلاموية. وبفوزها بثلاث انتخابات عامة متعاقبة منذ وصولها إلى السلطة عام 2002، مارست الحركة أداءً كان مستحيلاً لأي حزب إسلامي سابق. لقد أثبت ما بعد الإسلامويون أنهم يستطيعون العمل من خلال القواعد الديمقراطية وأن يصلوا إلى الحكم من خلال صندوق الانتخابات، وأن الديمقراطية قد تتلاءم وتحولات الحركة الإسلامية. لقد قدمت الحالة التركية سؤالاً عما إذا كانت ما بعد الإسلاموية قادرة على استيعاب ما بعد الإسلامويين، وإذا ما كان ما بعد الإسلامويين قادرين على القبول بالأفكار الديمقراطية وعمل من خلال مبادئها.

نمت ما بعد الإسلاموية التركية في سياق خاص، حيث عومل الإسلاميون الأتراك على أنهم “دخلاء” من قبل مؤسسات الدولة العلمانية والنخب الاقتصادية الاجتماعية. وعلى الرغم من كونها تبدو دخيلة، فإن ما بعد الإسلاموية أيضًا متعلقة بتغيير التوجهات حول العلمانية باعتبارها عماد الدولة الديمقراطية. وعلى الرغم من القول بأنها لا يمكن أن تكون علمانية في سياق خصوصيات السياسة التركية، فقد كان على ما بعد الإسلاموية أن تعمل خلال نظام دستوري علماني صلب، وأن تقيم نموذج العلمانية الأنكلوساكسونية الذي يفصل الدولة عن القواعد الدينية غير أنها في المقابل تمنح الدين حرية كاملة في المجال الاجتماعي[4]. لقد أدى اشتباك ما بعد الإسلامويين في صراع طويل مع العلمانيين الراديكاليين إلى إعادة التفكير في العلمانية والتعددية وحقوق الإنسان. ومن بين عوامل أخرى، كان النظام الدستوري العلماني، والقوى المؤسسية هي من حمل الإسلاميين على إعادة التفكير في سلوكهم واستراتيجياتهم وأهدافهم السياسية.

من هنا تدين ما بعد الإسلاموية التركية في ظهورها إلى المأزق السياسي الذي خلقه القمع العلماني الذي استخدم قدرات دستورية واجتماعية في مواجهة الإسلاميين الذين تمتعوا بسعة الحيلة في التعامل مع الأزمات التي واجهتهم. لقد منح كلا التحدييْن ما بعد الإسلامويين سبيلاً للوجود. يؤكد آصف بيات “لقد شهدت تركيا بالكاد سياسة إسلاموية نموذجية، وبديلاً عن هذا، تبنت أحزابها الإسلامية الكبرى الفكرة ما بعد الإسلاموية (ولاسيما حزب العدالة والتنمية)” والسمة المركزية في هذه الفكرة تجسدها الدعوة إلى “مجتمع متدين في إطار دولة علمانية ديمقراطية”[5].

وعلى الرغم من عدم نموذجيتها، فقد كان هناك مفكرون إسلاميون وتيارات سياسية عملت كتجربة ما بعد إسلاموية من قبل ظهور حزب العدالة والتنمية. لم تكن الفكرة القائلة إن الإسلام ليس مجرد دين ولكن أيديولوجية من شأنها تنظيم المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية فكرة مجهولة في تركيا. لقد استوعب الإسلاميون الأتراك الإسلام كأيديولوجية شاملة وكطوبيا تبشر بمجتمع جديد يتم بناؤه عبر جهاز الدولة. وأن هذا سيكون متحققًا فقط إذا ما بقي كل ما هو “إسلامي” بعيدًا التأثير السام للحداثة الغربية ومفاهيمها وقيمها مثل الديمقراطية والعلمانية والتقدم والقومية والحريات، وكلها قيم غريبة عن الإسلام ونموذجه السياسي[6].

اكتسبت هذه الأفكار  أرضية واسعة في الثمانينات عندما كانت الإسلاموية في ذروتها في الشرق الأوسط، فيما تعرضت في الوقت نفسه الحركات الفكرية والعلمانية إلى قمع عنيف في تركيا في أعقاب انقلاب 1980. فاعقتد الإسلاميون حينذاك، وقد اكتسبوا ثقة زائدة في النفس، في “البديل الإسلامي” وإمكانية إقامة دولة ومجتمع إسلامييْن[7].

وبفضل الأسباب التي سنسوقها في هذا الفصل، خسر الإسلاميون ثقتهم وأملهم في إمكانية أسلمة المجتمع والدولة في أواخر التسعينيات. لقد غادر  التيار الرئيس منهم فكرة بناء نظام سياسي واجتماعي بديل. لقد سعوا مع إبدائهم ملامح من الانعاطفة ما بعد الإسلاموية نحو بدائل، ليس في الإسلام ولكن في المؤسسات السياسية الحديثة التي كان من المتوقع أن تفسح مكانًا للإسلاميين بداخلها في إطار مبادئها الديمقراطية والتعددية. ويمكننا القول إن ما بعد الإسلامويين قد هجروا رؤيتهم الحادة للإسلام السائدة في الثمانينات التي ترى فيه أيديولوجية قادرة على تكوين مجتمع جديد وبناء دولة جديدة. كما أحدثوا نقلة، ليس فقط في آرائهم ولكن أيضًا في إستراتيجيتهم السياسية حيث جعلوا من تعميق الديمقراطية والتعددية السياسية وحتى العلمانية أولوية لضمان وجودهم وجهًا لوجه مع الدولة السلطوية الكمالية. يعبر محمد ميتنر ، الإسلامي السابق وعضو البرلمان الحالي عن حزب العدالة والتنمية ما بعد الإسلاموي، عن هذا التغيير بجملة بسيطة وواضحة “إن الإسلام ليس أيديولوجيا، والقرآن ليس دستورًا”[8]. لقد شرع الإسلاميون السابقون في إيجاد أرضية لمطالبهم، ليس في الإسلام ولكن في عالمية الحداثة السياسية، وبالتالي في مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية وحكم القانون واحترام الاختلافات، مع حفاظهم على هويتهم.

من هنا، تحطمت التخيلات الفكرية والسياسية عن أسلمة الدولة والمجتمع في حقبة الثمانينيات على نحو واسع، باعتبارها نظريات مجردة عن المجتمع والدولة والاقتصاد الإسلامي لا علاقة لها بالأزمات التي واجهها الإسلاميون في أواخر التسعينيات. ويرجع هذا إلى الاستخدام المستمر للخطاب الإسلامي بإشاراته إلى نموذج الحكومة والمجتمع الذي ربما قد سوّغ وكثّف من السياسات القمعية التي تعرضت لها كافة الجماعات الإسلامية، فيما أشار مناوؤهم دائمًا إلى خطر أسلمة المجتمع والدولة. لذا نتج عن البحث عن الأمن والبقاء في مواجهة الدولة القمعية تحولات أيديولوجية للإسلاميين منذ نهاية التسعينيات؛ حيث أفسحوا الطريق للفكر الجديد الذي يمكن وصفه بما بعد الإسلاموية.

إذن، يلقي تحليل آليات وعملية ونتائج تحولات الإسلاميين الأتراك الضوء على جذور ومضمون ما بعد الإسلاموية على الطريقة التركية a la Turca. تثبت الحالة التركية أن تحول الإسلاموية إلى ما بعد الإسلاموية أدى إلى تمكين ممثلي الإسلام السياسيين والاجتماعيين. من ثم، لا تشير ما بعد الإسلاموية إلى فشل الإسلام السياسي ولكنها بالأحرى، توضح قدرة الإسلاميين على تغيير أنفسهم استجابةً للتحديات والأزمات[9].

يفسر هذا الفصل ظهور السياسات ما بعد الإسلاموية من رحم تحولات الإسلاموية التركية من خلال استكشاف وكيلها السياسي الرئيسي المتمثل في حزب العدالة والتنمية الحاكم. ويعمل على تفحص الآليات والتفاعلات التي دفعت الإسلاميين في تركيا نحو استكشاف الديمقراطية والعلمانية والتعدديةوالعولمة والأوربة والطريقة التي مكن بها هذا الاستكشاف النشاط الإسلامي والساسة الإسلاميين السابقين في المجال الاجتماعي. سيبدأ هذا الفصل بتفسير صعود الحركة الإسلامية السياسية وبالتالي تفحص الأزمات التي واجهتها في أواخر التسعينيات. وبعد تقييم الحاجة والاندفاعة نحو التغيير، سيتناول الفصل بالتركيز على حزب العدالة والتنمية كاستجابة ما بعد إسلاموية.

مأزق الإسلاموية في البيئة السياسية العلمانية    

إن تأسيس حزب إسلامي أمرٌ غير ممكن دستوريًّا في تركيا؛ فالدستور التركي وقانون الأحزاب لا يسمح بوجود أحزاب ذات مبادئ دينية سواء على المستوى الأيديولوجي أو البرامجي. هذا الحظر قائم على أساس مبدأ العلمانية التي أصبحت مبدأً دستوريًّا منذ العام 1937، على الرغم من التنازع حولها. لقد رأى هؤلاء الذين ضمنوا هذا المبدأ في الدستور وطبقوه لعقود، أن العلمانية تتجاوز فكرة الفصل بين الدين والدولة وحرية الضمير، إنها طريقة حياة[10]. تمنع العلمانية بهذا المفهوم الإسلام من أن يكون له مكان، ليس فقط في الحياة السياسية، ولكن في الفضاء الاجتماعي، فيبقى محصورًا في الضمير الفردي دون أن يكون له حضور اجتماعي. وفيما استخدمت العلمانية لإنكار حق الإسلاميين في السلطة، قام الإسلاميون بالتنازع حول نموذج العلمانية كما تطبقه الدولة التركية.

إن العلمانية في واقع الحالة التركية قضية إشكالية. فإذا كانت العلمانية تفترض الفصل بين الدين والدولة، فهذا ما لا يوجد في الحالة التركية حيث أن الدين غير منفصل عن الدولة، بل بالأحرى هو واقع تحت سيطرتها؛ فالإدارة العامة للشؤون الدينية أو “Diyanet” هي جزء من جهاز الدولة ويعمل فيها الآلاف من الموظفين المنتشرين في مئات الفروع المحلية ويحتكرون الخدمات الدينية. ولا تحظى الجماعات الدينية وحلقات الطرق الصوفية بوضع رسمي، فضلاً عن يكونوا مستقلين عن الدولة. وتتدخل الحكومة في الدين وفي الفاعليات الدينية حيث تتوقع أن يعمل الدين كخادم للدولة.

وإذا كانت العلمانية تتطلب حيادية الدولة تجاه الأديان والطوائف والعقائد المختلفة، فإن التطبيق التركي لها يقدم نموذجًا غريبًا؛ حيث لا تقدم إدارة الشؤون خدماتها إلا للمسلمين فقط، ولا تخدم أو تمثل المواطنين الأتراك أصحاب الديانات غير الإسلامية. وعلاوةً على هذا، لا تدرس ولا تطبق ولا تدعو هذه الإدارة إلى الإسلام ككل، ولكن إلى نسخة واحدة من الإسلام، وهو المذهب السني الحنفي، حيث يستبعد العلويون وهم طائفة إسلامية بلا اعتراف ولا خدمات. كما أن التدريس الإجباري للدين، في نسخته الإسلامية الحنفية، هو مبدأ دستوري في إطار هذا النموذج الغريب من العلمانية.

وبغض النظر عن غرابتها، فقد عملت العلمانية في السنوات التأسيسية للجمهورية لإحداث قطيعة مع الماضي الذي هيمن عليه الإسلام بتأثيره على المجتمع. ومن خلال السياسات المعلمنة، حاولت النخبة الجديدة أن تفرغ المجال الاجتماعي من مضمونه الإسلامي وأن تشغله بسلطتها وقوانين شرعيتها. ومن ثم، أصبحت هذه العملية والنجاح الذي تكلّلت به أن تكون جزءًا من الصراع السياسي لممارسة الهيمنة على الفضاء الاجتماعي الإسلامي[11]. رفض الإسلاميون بدروهم المفهوم الكمالي للعلمانية كونها معادية للدين ومصممة لمحو الإسلام من المجاليْن العام والسياسي[12]. لقد حوّلت هذه الجدالات التاريخ التركي الحديث إلى تاريخ من الصراع العلماني-الإسلامي.

حتى المعارضة الليبرالية تم إخراسها بذريعة حماية العلمانية. حدثت أول حالات هذا القمع في العام 1925، عندما تم إغلاق أول حزب ليبرالي في الجمهورية الوليدة، وهو الحزب الجمهوري التقدمي، إذ تضمن برنامجه مادة تقول “إن الحزب يحترم المعتقدات الدينية”. وتدل حقيقة أن هذا قد اعتبر كافيًا لأن يعتبر هذا الحزب رجعيًّا إلى كيف أن العلمانية قد ضيقت من المجال السياسي ورفضت وجود أي شكل من التنظيمات السياسية الإسلامية حتى في الوقت الذي لم تكن فيه من الملامح المميزة للدولة.

خلال فترة التعددية الحزبية في الخمسينيات، انحازت المجموعات الدينية، والتي استمرت في الوجود في عهد الحزب الواحد، إلى الحزب الديمقراطي، وهو الحزب الذي بدا انه قد ترك العلمانية الإقصائية في الحقبة الجمهورية السابقة. لقد وجدت الهوامش الدينية سبيلاً سياسيًّا لتمثيلها في الحزب الديمقراطي. انطلقت المجموعات الدينية في عملية إحياء تحت حكم يمين الوسط، بعد تعافيها من الضغط العلماني الراديكالي. مع ذلك، ومع إعادة تكوين السياسة التركية في أعقاب التدخل العسكري في العام 1960، ازدادت شعبية الإسلام، وازدادت جاذبيته السياسية. ظهر التعبير السياسي الأوضح عن الإسلام مع إنشاء حزب النظام الوطني Milli Nizam بقيادة نجم الدين أربكان. وتغير اسم الحزب عبر  سنوات غير أن الحركة الإسلامية نفسها عرفت بالميلي جوروش  Millî Görüş  أو الرؤية الوطنية[13].

في عملية تكوين الحركة، حاز أربكان على مباركة زاهد كوتكو شيخ الحركة النقشبندية البارز. وفي الإعلان التأسيسي للحركة، تم التعبير عن المرجعيات الإسلامية بوضوح كالحديث عن سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء لله. وجعل الحزب من “إقامة حضارة عظيمة وجديدة” حضارة تستلهم الإسلام. لقد عارض الحزب فكرة الفوائد البنكية وعضوية تركيا في الجماعة الاقتصادية الأوروبية. وكان شعاره يد تشير  بأصبع السبابة وهو  إصيع الشهادة كرمز لشهادة المسلمين.

كانت هذه الرمزية الإسلامية أكبر من يتم التسامح معها. فقامت المحكمة الدستورية في أعقاب المذكرة العسكرية في 12 مارس 1971، ووقوع الحياة السياسية تحت رقابة الجيش، بإغلاق حزب النظام الوطني بذريعة أن الحزب يستغل الدين في الأغراض السياسية وأنه منخرط في أنشطة معادية للعلمانية. مذاك فصاعدًا، قنعت الأحزاب الإسلامية مواقفها الأيديولوجية بلغة رمزية وعملت على تجنب الاضطهاد والحظر. من ثم، كان عليها أن تتحرك في بيئة سياسية مقيدة وأن تخفي هويتها الحقيقية وأن تبدل خطابها بما يجعل من الصعوبة بمكان تعقب الأحزاب الإسلامية، إذ لم يكن لها وجود دستوري. ولكونها لم تستطع الاعتراف بهويتها الإسلاموية وأن تعبر عن تأثير القرآن على برامجها ورؤيتها، كان على الأحزاب الإسلامية ان تقوم بممارسات رمزية. فعلى سبيل المثال، أطلقوا على أيديولوجيتهم “الرؤية الوطنية”، ووصفوا النظام السياسي والاجتماعي الذي سعوا إلى تأسيسه بـ”النظام العادل”, لقد حملوا على ممارسة “التقية” وهي إخفاء المرء لعقيدته الحقيقة في حال تعرضه للخطر، وهو أمر مسموح به في الشريعة الإسلامية.

في العام 1972، قامت حركة الميلي جوروش بتأسيس حزبها الثاني حزب السلامة الوطنية MSP. غير أن الحزب لم يختلف في القيادة والأيديولوجية عن سابقه، فقط الاسم هو الذي تغير. واستمر الحزب في استخدام الرمزية خاصة في الشعار، الذي كان عبارة عن مفتاح قديم نقشت على سنه لفظة الجلالة “الله” بالعربية وبالخط الكوفي. غير أن الحزب اضطر إلى حذف الكلمة من شعاره بعد تحذيرات تلقاها من النائب العام، وبقي المفتاح شعارًا حيث راه البعض مفتاح السماء. أما شعار  الحزب الأكثر شعبية في تلك الفترة كان آية قرآنية هي “جاء الحق وزهق الباطل” سورة الإسراء: 81.

ادعت الميلي جوروش أنها تجسد جوهر الأمة وقيمها. لقد افترض أن لهذه الأمة حضارة خاصة بها مستاقة من تاريخها وثقافتها التي شكلها الإسلام. وبالتالي تعلقت الحركة ببعث هذه الحضارة. إن هذه الإشارة الغامضة إلى التاريخ وانتقاد الكوزموبوليتانية كمقابل للوطنية، شكلت كل ما كانت الميلي جوروش تدور حوله[14]. ومع هذا الغموض الذي ربما كانت عليه، تحت قناع الخطاب التاريخي والثقافي، فقد أشارت الميللي جوروش إلى الإسلام باعتباره فكرة سياسية.

لقد ميز الحزب نفسه عن بقية الأحزاب السياسية بموقفه النقدي من الغرب ومن تاريخ التغريب التركي. لقد رأى الحزب أن تركيا، جغرافيًّا، وثقافيًّا وتاريخيًّا لا تنتمي إلى الغرب، لقد تشاركت ماضيها ومؤسساتها وقيمها مع العالم الإسلامي، إن الافتقاد إلى القيم الروحية والتفكك الاجتماعي هو من ضمن سمات الحضارة الغربية التي سممت حضارة الإسلام[15].

وبالإضافة إلى مسألة الغرب، كانت هناك مسألة التغريب، لقد رأى الحزب أن افتراض إمكانية إحداث تحول حضاري هي رفض للإسلام وفرادته. لقد فهم التغريب على أنه إنكار للقيم والسلوكيات والمؤسسات الإسلامية التقليدية.وعلاوة على هذا، رأى الحزب ان التغريب يعني العلمنة بمفهوم محو الإسلام من الحضور الاجتماعي والسياسي. لقد استخدم الحزب أيضًا خطابًا معاديًّا للرأسمالية يشير إلى المفهوم التقليدي للعدالة الاجتماعية. هذا الموقف الأيديولوجي المعادي للغرب والرأسمالية كان جذابًا لقطاعات عديدة في المجتمع خاصة رجال البازار في مدن الأقاليم الذين رأوا فيه استجابة لضعفهم المتزايد في مواجهة الأنشطة الرأسمالية الكبيرة المنتشرة عبر الأناضول. وعلى الرغم من انخراط الحركة في العملية الديمقراطية إلا أنها رأت فيها “اختراعًا غربيًّا”.

صعود وسقوط الإسلاموية

حاز حزب السلامة على 12% ثم 9% من إجمالي الأصوات عاميْ 1973 و1977 على التوالي، بما أهله ليلتحق بالائتلافات الحاكمة بين عامي 1973 و1980، كما أصبح فاعلاً رئيسيًّا في الحياة السياسية التركية[16]. وعندما استولى الجيش على السلطة بانقلاب عسكري آخر في سبتمبر 1980، اعتقل أربكان مع مسؤولي الحزب وحوكموا بتهمة محاولة تغيير النظام الدستوري بالقوة. وظل أربكان عقيد التوقيف لمدة عام قبل إطلاق سراحه.

وعندما سمح الجيش بعودة الأحزاب السياسية مرة أخرى عام 1983، أسست الميللي جوروش حزبها الثالث وهو حزب الرفاه. لم تختلف رؤية الحزب الجديد وقيادته عن سابقيْه. وعلى الرغم من أن أربكان كان ممنوعًا من ممارسة السياسة من قبل الجنرالات الموجودين في السلطة من خلال مادة مؤقتة في الدستور الجديد، فقد استمر يحرك الأمور من خلف الستار في الحزب. وظل الموقف الأيديولوجي للحزب كما هو؛ فاستمر في اعتبار نفسه الحزب الوحيد على الحق، فيما الآخرون على باطل.

تصاعدت معارضة الحزب للغرب والتغريب بشكل ملحوظ. فتم تحديد هوية المؤسسات والأحزاب السياسية الأخرى في تركيا تبعًا لموقفها من الغرب. وفيما كانت تركيا تناقش قضية عضوية الاتحاد الأوروبي، أعلن أربكان أنه بمجرد وصول الميللي جوروش إلى السلطة سيضع نهاية عملية التغريب، ويوقف الارتباط مع الاتحاد الأوروبي بما في ذلك الاتحاد الجمركي[17].

في الانتخابات المحلية في مارس 1984، حاز الحزب على 4.8% من إجمالي الأصوات. وتحت قيادة أربكان، في أعقاب رفع الحظر  المغروض على القادة السياسية ومنعهم من ممارسة السياسة عام 1987، زادت حصة الحزب من إجمالي التصويت لتصل إلى 7% في الانتخابات العامة عام 1987، غير أن هذه النسبة كانت أقل من نسبة الحاجز الانتخابي وهي 10%، لذا لم يمثل في البرلمان. ولتجاوز الحازج الانتخابي، قام حزب الرفاه بعقد تحالف انتخابي مع حزبيْن من جناح اليمين القومي قبل انتخابات عام 1991، فكان النجاح من نصيب الحزب، حيث حصل التحالف على 28% من إجمالي الأصوات.

كانت الانتخابات هي بداية التغيير في حزب الرفاه، فبعد الكفاح من أجل أن يبلغ الحاجز الانتخابي، أدرك الحزب بحاجة إلى أن يصل إلى فئات جديدة من المصوتين من غير ذوي التوجهات الإسلامية. وللمرة الأولى في حملاته الانتخابية، يتناول الحزب قضايا اجتماعية بعيدًا عن التيمات الدينية مستخدمًا الدعايا الحديثة. وفيما ظل الحزب محافظًا على تزمته الأيديولوجي وأعضائه المخلصين، فقد استهدف أن يصل إلى بقية المجتمع متجاوزًا مؤيديه الأصليين. على وجه التحديد، عمل الحزب على تعبئة فقراء الحضر من خلال حشد هؤلاء الذين عانوا من سياسات الاقتصاد المفتوح في الثمانينيات. لقد لمست دعوة الحزب إلى الإنتاج والاستثمار والتوظيف وإعادة توزيع الدخل بالإضافة إلى المرجعية الإسلامية حساسيات الجماهير خاصة في المناطق الحضرية. أصبح حزب الرفاه قادرًا على تلقي مزيد من الدعم الشعبي بخطابه الذي يمتزج فيه المقدس بالاجتماعي “الفقر”[18]. وصاحب قاموس الحزب استراتيجية سياسية استيعابية، انعكست في الشخصيات الجديدة والمعتدلة التي التحقت به. ولابد لنا أن نلاحظ أن هذا “النهج الجديد” في سياسة الحزب قد تم تصميمه وتنفيذه في استانبول، كبرى مدن تركيا، حيث كان رجب طيب أردوغان رئيس فرع الحزب.

بينما كان الحزب يحاول أن يجعل من نفسه حركة سياسية جماهيرية، كان حريصًا كل الحرص ألا يفقد خطابه وشخصيته الإسلامية. لقد استخدم بكفاءة شعاره “النظام العادل” ليجذب الفقراء في الهوامش الحضرية وفئات الطبقة الوسطى التي أضيرت من فساد أحزب الوسط. غير أن “النظام العادل” في حقيقة الأمر كانت له مرجعية مزدوجة قوامها النظام المقدس والتوزيع العادل للثروة. لذا، صمم بجدارة خطابًا سياسيًّا يتقاطع مع قطاعات اجتماعية واقتصادية متنوعة.

استمرت هذه الاستراتيجية وصولاً حتى انتخابات مارس 1994 المحلية، وفيها أثبت حزب الرفاه قوته المتنامية بحصوله على 19% من مجمل الأصوات وفاز في انتخابات العُمَد في 28 مدينة بما في ذلك أنقرة واستانبول، لقد كانت هذه نتيجة صادمة بالنسبة لأحزاب الوسط العلمانية، حيث بدا أن استراتيجية الحزب السياسية المعتدلة غير المؤدلجة قد أتت أكُلها. وكانت الشخصيات التي تم اختيارها لعمدية المدينتين الكبريين مؤشرة على التغير الذي أصاب الحزب. تولى عمدية استانبول رجب طيب أردوغان، وهو مهندس استراتيجية وصول الحزب إلى فئات جديدة في المجتمع في المدن الكبرى من خلال خطاب الخدمات لا الإسلاموية. وفي أنقرة تم انتخاب مليح جوكيك، السياسي السابق في حزب يمين الوسط الوطن الأم.

استمر نمو الحزب، وفي الانتخابات العامة عام 1995 حصل على المركز الأول بنسبة 21% من مجمل الأصوات. وبعد تحالف حكومي قصير العمر مع أحزاب يمين الوسط، شكل أربكان، الذي ما زال رئيسًا للحزب آنذاك، حكومة ائتلافية مع حزب يمين الوسط الطريق القويم. وللمرة الأولى في تاريخ الجمهورية، يصل حزب إسلامي إلى السلطة من خلال حكومة ائتلافية شاغلاً منصب رئيس الوزراء[19].

ولم يبرح الحزب في السلطة، حتى قامت الدوائر الكمالية/ العلمانية بقياد الجيش بشن حملة ضد حكومة الرفاه بدعوى قلقها على مستقبل العلمانية. فتشكلت لجنة خاصة ضمن قيادة جنرالات القوات المسلحة، عرفت ب”مجموعة عمل الغرب”، لدراسة الأنشطة الإسلاموية في كل جزء في المجتمع والدولة. ثم اتخذ مجلس الأمن القومي الذي اجتمع في 28 فبراير 1997، عددًا من القرارات “لتعزيز الشخصية العلمانية للدولة التركية” ومحو التهديد الإسلامي. لقد قدم المجلس الذي سيطر عليه الجيش، نصحًا إلى حكومة الرفاه بالقيام بإجراءات لحماية العلمانية ضد مخاطر الإسلاميين الذين كانوا في الواقع يشغلون الحكومة. كان هذا إنذارًا عسكريًّا عرف لاحقًا بأنه انقلاب ما بعد حداثي. لقد طالب المجلس الحكومة بالحفاظ على الزي الرسمي في المؤسسات الحكومية والجامعات، وأن تمد التعليم الإجباري إلى سن الثمانية سنوات، وأن تقوم عمليًّا بإغلاق عدد من الأقسام المتوسطة في مدارس إمام-خطيب المنتشرة بعرض البلاد، وهي المدارس التي تخرج خطباء المساجد والدعاة، وأن تفرض سيطرتها القوية على الدورات القرآنية وعلى بيوت الطلاب التي تسيطر عليها الجماعات والمؤسسات الدينية، وأن تخفض أيضًا عددًا من مدارس إمام-خطيب، وأن تُنشئ لجنة داخل مكتب رئيس الوزراء للتحقيق في الأنشطة الرجعية/ الإسلامية داخل إدارة الدولة، وان تمرر قانونًا يسمح برفت الموظفين العمومين حال إثبات تورطهم في أنشطة إسلامية[20]. قد كان هذا بغرض محو التأثير الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وليس فقط السياسي، للدوائر الإسلامية عبر البلاد. كما ورد في أحد تقارير السياسة القومية، التي أعدها مجلس الأمن القومي أن التحدي الإسلامي تهديد أكثر  إلحاحًا وخطورة من ذلك الذي تمثله الحركة الانفصالية الكردية[21].

في أعقاب تلك الحملة، تم اتهام عدد من الشركات الخاصة بأنها تمثل رأسمالاً إسلاميًّا وأعلن عن ذلك وتم إجراء تحقيقات حول شبكاتها ومصادر تمويلها وأنشطتها. كما تم إغلاق الدورات القرآنية التي كانت تديرها مؤسسات دينية عديدة، وباقي الدورات تم تنظيمها بإحكام، وجعلت مشاركة الطلاب في هذه الدورات ممكنة في سن معينة[22]. وكان سجن رجب طيب أردوغان عمدة استانبول صاحب الشعبية قضية أخرى عبرت عن الضغوطات التي مورست على ممثلي الإسلاموية. لقد حكم على أردوغان ب10 شهور بتهمة بث الكراهية بين الناس بسبب عبارات دينية في أحدى خطبه التي ألقاها في مدينة سعرد.

وكجزء من الجملة الموجهة ضد الإسلاميين، قام النائب العام بتقديم طلب إلى المحكمة الدستورية في مايو 1997 لإغلاق حزب الرفاه الحاكم. وفي نهاية الأمر، أجبرت المعارضة العلمانية بقيادة الجيش حكومة أربكان على الاستقالة في يوليو 1997، وبعد ذلك بقليل، قامت المحكمة الدستورية بحل الحزب بذريعة أنه أصبح مركزًا للأنشطة المعادية للعلمانية. إن هذا هو الحزب الثالث لحركة الميللي جوروش بقيادة أربكان الذي يتم إغلاقه، ومُنع أربكان نفسه من مزاولة السياسة لمدة خمس سنوات.

التمزق بين الإسلاموية وما بعد الإسلاموية

توضح هذه الحلقة من صعود وسقوط الإسلاموية أن الشبكات الاجتماعية والدينية والاقتصادية كانت الأكثر تضررًا في الوقت الذي كانت الإسلاموية فيه كقوة سياسية في ذروة صعودها. لقد كانت هذه خبرة تعليمية عميقة للإسلاميين الذين أدركوا هشاشة القوة السياسية التي بدا أنهم يتمتعون بها. في بداية التسعينيات، وفي مرحلة مبكرة من التحول، تبنى الإسلاميون لغة سياسية جديدة تقوم على تناول المسائل الاجتماعية التي تتجاوز الرموز الدينية وذلك من أجل الوصول إلى مجموعات اجتماعية أوسع؛ هواها غير إسلامي. وفي نهاية التسعينيات، مع نجاح الإسلاميين السابقين في حيازة دعم مجموعات اجتماعية متنوعة، تحول الإسلام السياسي الذي مثله حزب الرفاه إلى حركة سياسية جماهيرية. لقد كان نجاح الإسلاميين نقمة عليهم، إذ نبه المؤسسة العلمانية/ الكمالية إلى هذا الصعود. فكانت استجابها إجراءات قمعية فرضها الجيش والقضاء والإعلام بدعم من الطبقة الوسطى العلمانية ونخبة رجال الأعمال. ونتيجة لهذا، أصبح الإسلاميون أكثر حذرًا وربما اعتذارية وذلك للحفاظ على قوتهم التي حصلوا عليها من خلال استراتيجيتهم الجديدة. لقد كانوا ضحية عندما وصلوا إلى ذروة قوتهم، وهي خبرة صادمة دفعت بعملية الانتقال من الإسلاموية إلى ما بعد الإسلاموية.

في هذه الخبرة الانتقالية كان حزب الفضيلة، الذي حل محل حزب الرفاه، أول خبرة ما بعد إسلاموية في تركيا. لقد أفسحت التغيرات التديجية الجزئية الطريق أمام تحولاً كليًّا. لقد كان الحزب الجديد جديدًا فعليًّا فيما عدا قيادته؛ حيث ترأسه اسميًّا رجائي قوطان، فيما استمر أربكان يسيطر عليه فعليًّا،فيما كان ممنوعًا من مزاولة السياسة بعد إغلاق حزب الرفاه. واختلف حزب الفضيلة عن سابقيه في عدة جوانب خاصة في منهجه في التعامل مع قضايا العلمانية والديمقراطية والغرب؛ حيث لم يعد الحزب معاديًا للغرب، وتبنى مواقف معتدلة وبراغماتية وتعاونية لم يكن لها مثيل في الحركة الإسلامية من قبل. وعلاوةً على هذا، تبنى الحزب قيمًا سياسية حداثية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية وحكم القانون كجزء من قاموسه السياسي الجديد[23].

حتى أن الحزب الجديد ادّعى أنه ترك مفاهيمه الأصولية مثل النظام العادل و”الميللي جوروش” بذريعة أن هذه المفاهيم “قد أسيئ فهمها وتقديمها وتفسيرها” من قبل البعض[24]. وبدلاً منها، أصبح الحزب أكثر اهتمامًا بعملية التحول الديمقراطي والالتحاق بالاتحاد الأوروبي. وأعلن رئيس الحزب أن “لا ينبغي أن تحاز السلطة السياسية بوسائل غير ديمقراطية، ويجب “أن يعاد تشكيل مجلس الأمن القومي (وهو مجلس يسيطر عليه الجيش ويضم أعضاءً من الحكومة ومن القيادات العليا في الجيش) وفقًا لمبادئ نموذج الديمقراطية الغربية”، “ويجب ألا تكون العلمانية أداة للحد من حرية الدين والاعتقاد” كما أيد الحزب اقتصاد السوق الحرة ودعا إلى الخصخصة السريعة والشاملة[25]. غير حزب الفضية موقفه من الاتحاد الأوروبي ودافع عن إدماج تركيا فيه، على النقيض من موقفه السابق الذي رأى في الاتحاد ناديًّا مسيحيًّا. بل وعمل الحزب على دفع الحكومة والأحزاب السياسية الأخرى على الامتثال إلى معايير كوبنهاجن* السياسية ووضع تركيا على طريق الالتحاق[26].

أثار هذا الانفصال السريع عن تقاليد الميللي جوروش الإسلامية، والتي كانت أكثر تشككًا تجاه العلمانية والديمقراطية والغرب أسئلة مبررة حول مدى صدق قادة حزب الفضيلة. فلم تكن الدعوة الإسلامية أو خطاب الحركة مرتبطًا بالديمقراطية، وحقوق الإنسان والتعددية وحكم القانون. بل كان للإسلاميين القدامى، بعيدي الصلة بالديمقراطية الليبرالية أسئلة أساسية حول أصول الديمقراطية، وادعوا أنها نتاج للحضارة والقيم والمؤسسات الغربية، وأنها غريبة عن تركيا والحضارة الإسلامية.

رغم ذلك، بدا أن التأييد الجماهيري للديمقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون قد أصاب كلاً من قيادة الحزب وقواعده بما أدى إلى تشككها في قيادته وأيديولوجيته واتجاهه. لقد بدأت العملية من خلال الضغوط الخارجية التي اخترقت الحركة واجبرتها على التطور في اتجاه ما بعد إسلاموية. وأضحى هذا واضحًا في اجتماع الحزب العام في مايو 2000، حيث نافس القيادي المعتدل عبد الله غل، القريب من عمدة استانبول السابق رجب طيب أردوغان، رئيس الحزب رجائي قوطان على القيادة. كان هذا حدثًا غير مسبوق في تاريخ الحركة، التي كانت أقرب إلى جماعة مغلقة حيث كانت تعتبر طاعة القيادة، المبنية على مصطلح البيعة الإسلامي، فضيلة سياسية أساسية. ربما يعود هذا إلى التحدي الذي واجته تقاليد الحركة، وهو ما أشار إليه غل قائلاً “إنه اليوم الذي عرفت فيه الحركة مفهوم السياسة للمرة الأولى في تاريخها”[27]. لقد حاول ما بعد الإسلامويين أن يحرروا أنفسهم من قيود القيادة والتقاليد والخطاب والاستراتيجيات القديمة.

على الرغم من أن حزب الفضيلة بدا ما بعد إسلامويًّا في خطابه وبرنامجه، لم يقبل الحرس القديم في القيادة العليا للحزب تسليمه إلى القيادات ما بعد الإسلاموية الجديدة. فاتهمت الرموز السياسية القريبة من أربكان المعارضة ما بعد الإسلاموية بالتآمر لإحداث انشقاق بنفاقها[28]. لقد كان من الواضح أن منافسة غل على رئاسة الحزب كان ضد رغبات أربكان قائد الحركة، الذي دعا مندوبي الحزب إلى التمسك بالتقاليد[29]. اقترب الحسم، وتلقى غل التأييد من ما يقارب نصف مندوبي الحزب على الرغم من حشد أربكان الواضح والمباشر ضده. ومن خلال هذا الدعم، نستطيع القول إن خطاب التغيير والديمقراطية الذي تبنته قيادة الحزب عما قريب قد أخذته القواعد على محمل الجد.

وصف غل اجتماع الحزب بأنه المرة الأولى تقوم فيها الحركة بنقد نفسها على العلن. وقال “في هذا الاجتماع، خرجت الحركة من حوضها المائي لتسبح في البحر المفتوح”[30]. عني هذا، أن الجيل الشاب والطموح من ما بعد الإسلامويين الإصلاحيين أرادوا أن يعيدوا تسييس الحركة وأن يوسعوا من الحدود التي فرضتها التقاليد.

تم إغلاق الحزب الرابع لحركة الميللي جوروش، حزب الفضيلة، بقرار من المحكمة الدستورية في يونيه 2001 بدعوى أن الحزب كان مركزًا للأنشطة الإسلامية معادية العلمانية مثل سابقه حزب الرفاه. بعد هذا القرار، انقسمت الحركة إلى حركتيْن؛ ففيما أسس التقليديون حزب السعادة، أسس الإصلاحيون ما بعد الإسلامويين حزب العدالة والتنمية AKP، بمشاركة رموز مؤثرة من يمين الوسط وبقيادة رجب طيب أردوغان.

بينما عاد حزب السعادة إلى أدراجه مستيعدًا أفكار الحركة الأولى، انفتح حزب العدالة والتنمية، بتركه الإسلاموية كليًّا، كحركة جماهيرية سياسية ذات رؤية يمينية وسطية محافظة. في الانتخابات العامة الثلاثة التي أجريت منذ تأسيس الحزبيْن، حاز حزب السعادة على 2% و4% و2% من إجمالي الأصوات. فيما حاز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات ذاتها على النسب 34% و47% و50%. فلم يضمن الانتقال من الإسلاموية إلى ما بعد الإسلاموية بقاء القيادات السياسية من الإسلاميين السابقين فقط، لكنه أيضًا قادهم إلى السلطة.

تفسير  ما الذي تغير ولماذا تغير 

غالبًا ما يتم تفسير تحولات الإسلاميين في تركيا بالإحالة إلى القمع الذي تعرضوا له بعد إجراءات 28 فبراير في أواخر التسعينيات. وعلى الرغم من أن التغيير قد بدأ في فترة مبكرة عن ذلك، مع سعي الإسلاميين نحو توسيع قواعدهم الانتخابية في بداية التسعينيات، فإن إجراءات 28 فبراير جعلتهم واعين بحدود السياسات الإسلاموية، عندما واجهوا قوة وإصرار القوة العلمانية داخل جهاز الدولة وفي المجتمع المدني وفي الإعلام.

ليست فقط إجراءات 28 فبراير هي التي علمت الإسلاميين درسًا كبيرًا في البدء في تقويم أنفسهم. فتحول الإسلاميين يدين بشكل كبير إلى الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي على العالم في الثمانينات والتسعينيات هو ما نتج عنه طبقة وسطى إسلامية لها رواد أعمال ومفكرون يطالبون بحصتهم في السلطة وبمكاسب من النظام والذين لم يريدوا أن يتحدوه ولكن بالأحرى أن يتكيفوا مع المؤسسة العلمانية/ الكمالية[31].

أخذت عناصر إسلامية أوسع، مثل الطرق والمجموعات الدينية ورجال الأعمال الصاعدين إلى جانب المثقفين في التفكير في حصافة وحكمة الإسلاموية والتشكك في جدوى الإسلام كمشروع سياسي ومطابقة فكرة الدولة الإسلامية مع الإسلام نفسه. الآن يعلن أحد المثقفين البارزين الذين كانوا متحمسين للغاية لفكرة الدولة الإسلامية أن “مشروع الدولة الإسلامية قد انهار”[32]. وأدركت التنظيمات الدينية أن شبكاتها الاقتصادية والاجتماعية قد دُمرت للغاية في الوقت الذي كانت فيه الإسلاموية في ذروتها (1995-1999). وبالتالي، بدأت التنظيمات والطرق والمؤسسات الإسلامية بما في ذلك طبقة رجال الأعمال الإسلامية التي أخذت في الازدهار ، في سحب دعمها للحركة السياسية الإسلامية. إذ أرادت هذه المجموعات ألا تغامر  بفقد قوتها وثروتها المتراكمة بالمشاركة في النجاح المستفز للإسلاميين. وبدلاً من البحث عن تمثيل الإسلاميين السياسي لها، سعت الدوائر الدينية القوية في كل مناحي الحياة إلى أن يمثلها مجموعة محافظة وسطية تستطيع أن تضمن بقاء الشبكات الاقتصادية والاجتماعية الإسلامية. مهدت هذه الأفكار الطريق أمام تحول الإسلاميين وظهور حزب العدالة والتنمية كصيغة ما بعد إسلاموية.

لقد تحولت الديمقراطية إلى مسألة بقاء. فقد كانت المشكلة أن الإسلاميين لم يأخذوا الديمقراطية على محمل الجد حتى قرارات 28 فبراير التي اتخذها مجلس الأمن القومي، والتي أسفرت عن الإطاحة بهم من السلطة. وأدركوا حينها أنهم على الرغم من شعبيتهم، تم اعتبارهم وسيتم اعتبارهم قوة سياسية غير شرعية، ومناقضة للمؤسسة العلمانية/ الكمالية.

ولم يكن الأمر متعلقًا فقط بضغط الدوائر المتعاطفة ولكن أيضًا بالضغط الذي مارسه الجيش والقضاء، مدعومًا من الإعلام العلماني بما أجبر الإسلاميين على البحث عن الشرعية وفضيلة “السلطة الشعبية”[33]. لقد اعتبرت شعبية الإسلاميين التي أوضحتها الانتخابات عاملاً قيمًا في السعي نحو الحماية والاعتراف من قبل القوى العلمانية. ونتيجةً لهذا، أصبحت الدعوة إلى الديمقراطية هي قوام الخطاب السياسي للإسلاميين داخل النقاشات الفكرية والسياسية، بما دفعهم تدريجيًّا نحو موقف ما بعد إسلاموي.

كان القصد من لغة الديمقراطية وحقوق الإنسان الجديدة هو بناء درع واقية ومساعدة الحزب على حيازة الشرعية. إن الديمقراطية التي أظهرت شعبية الإسلاميين، كان من المؤمل عليها أن تحميهم في مواجهة القوى العلمانية/ الكمالية. وعلاوةً على هذا، فإن التحدث بلغة الحداثة، متمثلة في الديمقراطية وحقوق الإنسان منح الإسلاميين شرعية خطابية وسموًا فوق مناوئيهم الذين لم يستطيعوا كمجموعات أن يرفضوا مثل هذه الدعوات. ومن ثم، كان ولع الإسلاميين بالديمقراطية في بدايته على الأقل كان قائمًا على حسابات مصلحية ترى أنها ستساهم في حمايتهم في مواجهة الهجوم العلماني/ الكمالي. ولكن في النهاية، انتقل الإسلاميون المتحولون إلى ما بعد الإسلاموية من رفض الديمقراطية أو الحط من شأنها، إلى الإفادة من قواعدها وآلياتها ومخرجاتها بحثًا عن الحماية والشرعية.

خاض الإسلاميون تجارب مماثلة فيما يتعلق بالدفاع عن حقوق الإنسان وحكم القانون عندما رأوا أحزابهم تتعرض للإغلاق وقادتهم يتعرضون للمنع من مزاولة السياسة، وأن مؤسساتهم وجمعياتهم تتعرض للاضطهاد. ونتيجة لهذا، تبنوا في انعطافتهم ما بعد الإسلاموية لغة الحقوق السياسية والمدنية بما أمدهم بقدرة فعالة وحماية في مواجهة ضغط الدولة العلمانية.

أسقط الإسلاميون أيضًا عداءهم التاريخي للغرب عامةً وعضوية الاتحاد الأوروبي تحديدًا. لقد كان هذا انقطاعًا عن تقليدهم التليد كما عبر عنه أربكان والميللي جوروش، والذي ارتكز على حملة مفتوحة ضد الغرب والتشكك العميق في قيم الحياة السياسية الحداثية ورفض تاريخ التغريب في تركيا. كان أحد الإشارات الرمزية على هذا التغير في هذا الاتجاه هو قرار أربكان بإقامة دعوة إغلاق حزب الرفاة أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية عام 1998. ويوضح هذا أنه تحت الضغط الذي مارسته المؤسسة العلمانية/ الكمالية، لجأ الإسلاميون إلى الحصول على حماية المؤسسات الأوروبية مثل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان[34]. كانت إعادة التفكير في الغرب لحظة أخرى غيرت الإسلاميين الذين كان من غير المتوقع أن يجدوا في الغرب حلفاءً وحماةً. إن أحد الملامح الواضحة لما بعد الإسلاموية التركية هو رفضها للعداء التاريخي نحو الغرب.

كان الإسلاميون في حاجة ماسة إلى حلفاء جدد خارج الدوائر الإسلامية في الوطن وفي الخارج. فكان تأييدهم لعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي محاولة لبناء تحالفات جديدة. وبالإضافة إلى هذا، أدرك الإسلاميون حينذاك أن المطالب الأوروبية بالدمقرطة وحقوق الإنسان تتداخل وبحثهم عن الحماية في مواجهة أجهزة الدولة العلمانية/ الكمالية، والجيش والقضاء. وكان من المتوقع أن تدخل الجيش في السياسة سيتم الحد منه نتيجة للتحول الديمقراطي الذي تم وضعه كشرط مسبق لدخول تركيا في الاتحاد الأوروبي. ومن هنا، ظهر الغرب والاتحاد الأوروبي محلفاء للحد من تأثير الجيش وبناء حكومة ديمقراطية يمكن أن يكون الإسلاميون في إطارها لاعبًا شرعيًّا. في هذا السياق، رأى الإسلاميون أن أيديولوجيا الدولة العلمانية التي يحرسها الجيش لن تستمر إذا ما أصبحت تركيا عضوًا في الاتحاد الأوروبي.

كان هذا إعادة موقعة ثورية في تاريخ تركيا حيث تقاطعت مطالب وأولويات ما بعد الإسلامويين والغرب في مقارعة المؤسسة العلمانية/ الكمالية التي انكشفت بفعل الديمقراطية التي جلبت الإسلاميين إلى السلطة، وبفعل آليات حقوق الإنسان التي حمت الإسلاميين، وبفعل الغرب الذي مارس ضغطه لتمكين الديمقراطية وحقوق الإنسان ومن ثم وفر ملجأً للإسلاميين. فهم الإسلاميون أن مناوئيهم عرضة للهجوم باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان وعضوية الاتحاد الأوروبي. وفيما أصبح التغريبيون القدامى متشككين في الغرب، وثق الإسلاميون السابقون فيه، وذهبوا أبعد من هذا بالتقارب معه ومع القيم السياسية الحداثية ومن ثم زادوا من عزلة العلمانيين/ الكماليين.

ربما تتضح أحد الأمثلة على خطاب واستراتيجية الإسلاميين المتحوليْن في قضية الحجاب. في الثمانينيات عندما تم حظر ارتداء الحجاب في الجامعات، دافع الإسلاميون بثقة عنه باعتبارها فرضًا إسلاميًّا حصرًا، دون أي محاولة للدفاع عنه على أرضية أخرى. بيد أنهم دافعوا عن ارتدائه في أواخر التسعينيات، حيث استمر محظورًا في الجامعات، عبر اللجوء إلى أفكار حقوق الإنسان والمساواة والحق في الاختيار والحق في التعليم ومبدأ عدم التمييز . لقد عرفوا حينذاك أن المرجعية الذاتية الإسلامية غير قادرة على التفسير كما ينبغي، وغير قادرة على تبرير مطالبهم وغير قادرة على إحداث تغيير في السياق التركي. ومع تزعزع ثقتهم في أنفسهم، اكتشف الإسلاميون في تحولهم نحو ما بعد الإسلاموية القيم “العالمية” وقدرتها على حماية الرموز والهوية الإسلامية. ويمكننا القول هنا، أن ما بعد الإسلامويين في سعيهم نحو الحفاظ على خصوصية الإسلام، تبنوا القيم العالمية مدافعين عن الخصوصية بلغة الحداثة العلمانية[35].

وبعيدًا عن التغيرات في الاستراتيجية والخطاب السياسي، شكلت رؤية رجل واحد عملية تحول الإسلاميين. هذا الرجل هو رجب طيب أردوغان الذي انتقل عبر الحركة الإسلامية منذ السبعينيات حتى أصبح عمدة استانبول عن حزب الرفاه في العام 1994. حينما كان أردوغان في صفوف حزب الرفاه، تفوه بعبارات إسلاموية من قبيل “مرجعيتي هي الإسلام”، “السيادة المادية وغير المادية هي لله وحده”، “تستطيع فقط أن تكون مسلمًا أو علمانيًّا، فلا يمكنك أن تكون الاثنين معًا”، “الديمقراطية ليست غاية، وإنما مجرد وسيلة” وهي عبارات دائمًا ما رددها مناوؤه لاستحضار ماضيه الإسلامي[36]. بيد أنه قد تغير ونأى بنفسه عن ماضيه هذا. بعد تأسيس حزب العدالة والتنمية، امتدح أردوغان “لخلعه قميص “الميللي جوروش” وهي عبارة استخدمت لوصف التغير الذي طاله. وعلى الرغم من أنه قد أكد أن أفكاره السياسية لم تتغير لكنها تطورت، فإن أردوغان بصفته قائد حز ب العدالة والتنمية يختلف كثيرًا عما كان عليه؛ لقد فك ارتباطه بحركة الميللي جوروش. هل كان للسجن تأثير عليه؟ لقد أجاءب على هذا السؤال قائلاً : “إن السجن ينضج المرء”[37]. من المؤكد أنه أصبح شخصية سياسية مفارقة لما كان عليه حينما خرج من السجن واتجه لإقامة حركة سياسية جديدة.

ولتفسير التحول ما بعد الإسلاموي، يجب علينا أن نلاحظ تجربة الإسلاميين في المحليات التي فازوا بها في العام 1994. كان أردوغان عمدة استانبول وسياسيًّا محليًّا. وكان لخبرته في استانبول كبير الأثر على تحوله إلى سياسي براجماتي ذي نزوع خدمي تاركًا وراء ظهره “الأفكار المتعالية” عن بناء مجتمع ودولة إسلامييْن جديديْن. كعمدة، نظر أردوغان إلى السياسة لاكأيدلوجية ولكن كأداة لحل مشكلات الناس اليومية، أي أنها حل للمشكلات وليست وسيلة لبناء مجتمع إسلامي مؤدلج. ويبدو أن السياسة المحلية، والتي تتعلق بالخدمات لا الأفكار الكبرى، والتحول الاجتماعي وتربية مجتمع جديد من خلال التعليم، كانت خبرة جيدة للإسلاميين[38]. وعلى الأرجح فإن رؤية ومعرفة والاعتراف بالاختلافات التي تغص بها مدينة متعددة الثقافات مثل استانبول كان لها أثر عميق على أردوغان فيما يتعلق بالتعددية اللصيقة بالمجتمع التركي. في حملته الانتخابية عام 1994، لم يتورع أردوغان عن زيارة الحانات في بايأوغلو ؛ مركز الترفيه في استانبول[39]. إن العمد باعترافهم بالاختلافات السائدة في الحيز الاجتماعي الذي يحيط بالمدينة، ينبغي لهم أن يكونوا متعاونين وبراغماتيين وقادرين على بناء تحالفات مع الآخرين من أجل أن ينجحوا في إيصال الخدمات.

في هذا السياق، كان للشعار الذي ردده أردوغان “خدمة الناس هي خدمة لله” دور فعال في تبرير وعلمنة سياسة حزب العدالة والتنمية الجديدة. وإذا كان الإسلاميون لم يغادروا قواعدهم الأيديولوجية، ولنقل إذا لم تكن العملية كلها متعلقة ببناء الدولة الإسلامية، فإن مفهوم “خدمة الناس هي خدمة لله” كان سيبرر استمرار حضور الإسلاميين في المشهد السياسي[40]. منح هذا التفكير الإسلاميين السابقين مبررًا أيديولوجيًّا لانخراطهم في العملية السياسية العلمانية وكذلك منحهم أهدافًا مادية كان عليهم أن يحققوها.  أي أن تركهم لفكرة أسلمة الدولة والمجتمع قد صاغ السبب الرئيس لانخراطهم في السياسية في فكرة خدمة الناس. إذن أصبح النشاط السياسي العلماني مبررًا بخدمة الله عبر خدمة الناس.

كان واضحًا لقادة حزب العدالة والتنمية أن صعود الإسلاموية كان حتميًّا بسبب التأثير الاجتماعي والاقتصادي للإسلام في تركيا. ومن هنا، عرفت الكوادر الحزب الجديد على أنه “ديمقراطي محافظ” في محاولة لتجنب النجاح ذاتي الإخفاق الذي شهدته الإسلاموية في أواخر التسعينيات. لقد رأوا كيف تم تحطيم القواعد الاجتماعية للإسلام متمثلة في الشبكات التعليمية والتجارية والتضامنية، وليس فقط الإسلاميين، نتيجية لنجاح الإسلاموية السياسي. فأصبحوا حريصين على أن تبقى القاعدة الاجتماعية والاقتصادية مصانة وكأرضية للمحافظية السياسية، فأعلنوا نهاية الأيديولوجيات بما في ذلك الإسلاموية في عصر العولمة.

صعود العدالة والتنمية: ما وراء ما بعد الإسلاموية          

يعتبر حزب العدالة والتنمية مرآة تعكس “الفكر الجديد” للسياسة الإسلامية، وكذلك ممثله الأساسي معًا. لقد أراد مؤسسو الحزب منذ البداية أن يصلوا إلى الناس خارج تقاليد الميللي جوروش لبناء أرضية سياسية أوسع. وكي يصبح الحزب جذابًا لهؤلاء، أكدوا أن الحزب لا يقوم على قاعدة دينية ولكن بالأحرى قاعدة ديمقراطية محافظة[41].

ارتكز برنامج الحزب على “التنمية والديمقراطية” جامعًا محوريْن أساسيْن لسياسة يمين الوسط في تركيا منذ الخمسينيات، كإشارة على أن الحزب الجديد وضع نفسه ضمن تقاليد هذه السياسة. وعلاوة على هذا، أعلن الحزب التزامه بالحقوق والحريات الأساسية؛ حيث وعد بتنفيذ مواد حقوق الإنسان وكذلك تقديم ضمانات قانونية لها. وأشير إلى الفرد باعتباره الوحدة المكونة للمجتمع، وأن سعادته هي غاية الحزب النهائية.

من بين الكثير من القضايا التي كان لها مكانة في برنامج الحزب وحملاته الانتخابية، قضية الحقوق والحريات الأساسية والديمقراطية والمجتمع المدني، وحكم القانون وإعادة هيكلة الدولة. وأعلن الحزب أن الهويات الاجتماعية والإثنية والسياسية والدينية المختلفة مصدر للثراء لا مصدر للخطر. وعلى الجبهة السياسية، التزم الحزب بالديمقراطية مع تبنيه نظرة تعددية للاختلافات في المجتمع. كما وعد بدولة محدودة تحترم الدور المتنامي للقطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية. وادعى الحزب أنه سيوسع المجال السياسي في مواجهة الهيمنة التاريخية للبيروقراطية المدنية والعسكرية. باختصار، جعلت تصريحات قادة الحزب الجديد وبرنامجه وإعلاناته الانتخابية منه حركة ديمقراطية ليبرالية تعددية سياسية، وأكثر ارتباطًا بما بعد الإسلاموية الآخذة في الصعود[42].

منذ اللحظة التي تم فيها تأسيس الحزب، أثيرت أسئلة عديدة حول ما إذا كان حزبًا إسلاميًّا. لقد جاءت قيادته بما فيها أردوغان من صفوف الحركة الإسلامية التركية “الميللي جوروش” ومما لا شك فيه أن أردوغان الذي تربى على أعمال سيد قطب من جماعة الإخوان المسلمين، وأبي الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية والتي لاقت رواجًا في الدوائر الإسلامية مع ازدهار حركة الترجمة في السبعينيات، له خلفية مذهبية إسلاموية. غير أنه باعتباره قائدًا للحركة الجديدة قد أعلن دائمًا فك ارتباطه وارتباط حزبه بحركة الميللي جوروش والسياسة الإسلامية.

زعم أردوغان أن أفكاره  السياسة لم تتغير بل تطورت[43]. بيد أنه قد اعترف بتغيره حينما قال “إن العالم أصبح مكانًا مختلفًا كما أصبحت شخصًا مختلفًا”[44]. على أية حال، يبقى الإسلام جزءًا هامًّا في تكوين شخصيته:

“قبل أي شيء آخر، أنا مسلم. وكمسلم، أحاول أن أذعن لتعاليم ديني؛ فأنا أحمل مسؤولية تجاه الله الذي خلقني، وأحاول أن أقوم بعبء هذه المسؤولية. لكنني أحاول أن أبقي هذا الالتزام بعيدًا عن الحياة السياسية، وأن أبقيه أمرًا شخصيًا. ولا يمكن للحزب السياسية أن يدين بدينن فقط الأفراد يستطيعون هذا. وإلا، سيكون هذا استغلالاً الدين، وهو أسمى من أن يُستغل”[45].

ويتضح من هذه الفقرة أن أردوغان يفصل عمدًا بين المعتقدات الدينية والأنشطة السياسية.

شدد أردوغان من البداية أن لحزبه ثلاثة خطوط حمراء؛ وهي أن يكون قائمًا على الدين وعلى الإثنية وعلى الجهوية. بيد أن المحكمة الدستورية لم تكن عند ذلك الرأي، عندما قررت في العام 2008، بناء على طلب من المدعي العام، أن حزب العدالة والتنمية هو حركة سياسية إسلامية ويمثل مركزًا للأنشطة المعادية للعلمانية[46].

بصرف النظر عن قرار المحكمة الدستورية، فقد ظهر حزب العدالة والتنمية ببرنامج وخطاب سياسي جديديْن ويمثل ويؤسس كل منهما هوية إسلامية سياسية كاستجابة للتطورات والنقاشات السياسية المحلية داخل الحركة الإسلامية منذ أواخر التسعينيات. لقد بدا أن حزب العدالة والتنمية لم يفارق فقط القيادة القديمة للإسلاموية ولكن أيضًا أيديولوجيا “الميللي جوروش”. وتحت قيادته المجربة متمثلة في أردوغان، أعلن الحزب أنه يعبر عن “المحافظية الديمقراطية” تلك التي تجمع بين الديمقراطية والتدين.

إن الديمقراطية المحافظة هي مزيج من الأخلاق وقيم الأسرة والفخر التاريخي مع الديمقراطية واقتصاد السوق والعولمة والالتحاق بالاتحاد الأوروبي[47]. وترجع محافظية حزب العدالة والتنمية إلى الرؤية الثقافية والاجتماعية للحزب، فيما تعبر الديمقراطية عن النموذج السياسي المفضل لدى الحزب حيث يتم التنافس خلالها على السلطة. يرى هيل وأوزبودون أن “محافظية حزب العدالة والتنمية الدينية هي ثقافية واجتماعية أكثر منها سياسية وأيديولوجية”[48].

مع ذلك، لم يكنن هذا مريحًا للبعض ممن خافوا على “أنماط حياتهم العلمانية” من تهديد الأسلمة ومن تأثير حزب العدالة والتنمية وامتداداته الاجتماعية مثل الطرق الصوفية والتنظيمات الدينية. غالبًا ما أثيرت مسائل القيود على أماكن تناول الكحول والضرائب العالية على المشروبات الكحولية والتضييق الاجتماعي على الأفراد غير الصائمين خاصة في المدن الصغيرة كدلائل على مثل هذه المخاوف. وقدم عالم الاجتماع التركي البارز شريف ماردين فكرة “التضييق الأهلي Mahalle baskisi ” لوصف السيطرة والقيود الاجتماعية على ذوي أنماط الحياة العلمانية أثناء حكم العدالة والتنمية[49]. فيما اطمئنت الغالبية إلى محافظية حزب العدالة والتنمية، فقد ظلت مجموعة صغيرة لها ميول علمانية/ كمالية متشككة في التزام الحزب بالتعددية واحترام “المختلف”. يبدو أن الحزب قد فشل في تهدئة مخاوف العلمانيين حول أنماط حياتهم، حيث تركزت معارضة الحزب حول هذه القضية، بما شكل القصو ر الأساسي في الوضع الاجتماعي ما بعد الإسلاموي.

بالتأكيد، يعتبر الإسلام المصدر الرئيس لهوية زعيم الحزب؛ أردوغان الذي قال في إحدى المرات “إن مرجعيتي هي الإسلام”[50]. ومع أن للحزب جذورًا إسلاموية، فهو بلا أجندة إسلامية، كما أن قواعده تتسم بالتنوع الشديد وتشمل معظم فئات المجتمع؛ وهو يحصل على أصواتٍ من كل أنحاء تركيا ومن كل المجموعات الإثنية والدينية[51]. وللحفاظ على هذه القاعدة الاجتماعية، لم يكن الحزب قادرًا على البقاء إسلاميًّا؛ فكان عليه أن يطور قاموسًا سياسيًّا وشبكة تنظيمية أكثر استيعابًا.

أما قادة الحزب، فقد ظلوا كأفراد ملتزمين بالإسلام كدين وامتنعوا عن تطوير أجندة سياسية إسلامية. ولم يكن هذا مجرد اختيار شخصي من قيادة العدالة والتنمية، بقدر ما كان استراتيجية سياسية واقعية أخذةً في الاعتبار الحدود المؤسسية للمساعي السياسية الإسلاموية؛ فالإسلام كمشروع سياسي لا يحظى بالدعم الواسع في تركيا. إن أقل 10% من الأتراك كانوا سيقبلون دولة قائمة على الشريعة[52]، من ثم، كان تقييد الحزب لنفسه بهذا المساحة المحدودة من السياسة حركة ذاتية الإخفاق، مع الأخذ في الاعتبار حقيقة أن الحزب قد حصل على 50% من الأصوات في انتخابات العام 2011. ويمكننا القول إن الحزب وقع أسيرًا لنجاحه الذاتي ومن ثم أصبح لزامًا أن ينتقل دائمًا من الإسلاموية إلى ما بعدها. وكما يلاحظ أوليفييه روا “إن المنطق السياسي غالبًا ما يتغلب على الديني”[53].

إن حزب العدالة والتنمية مقيد أيضًا بالسلوك التصويتي للناخبين الأتراك، كما يتضح في الانتخابات العامة التي عقدت في العشرين سنة الأخيرة؛ ففي الانتخابات البرلمانية العامة بين العاميْن 1987 و2002، كانت أحزاب خمس مختلفة في المقدمة. وضعت مثل هذه التقلبات في السلوك الانتخابي قيودًا جادة على أي حزب سياسيٍ بما في ذلك العدالة والتنمية. ولضمان البقاء السياسي، لم يكن لدى الحزب رفاهية الانخراط في التسييس المؤدلج على حساب سياسة توفير الخدمات[54].

مع فهمه لهذا جيدًا، كرر أردوغان مرارًا وتكرارًا أن حزب العدالة والتنمية ليس ذا نزوع ديني، لكنه حزب محافظ لـ”متوسط” المواطنين الأتراك. ويجادل هيل وأوزبودون أن الحزب يعير عن الخصائص النموذجية لأحزاب يمين الوسط في تركيا[55]. وكذلك، يشير أردوغان إلى الحزب الديمقراطي في الخمسينيات، وحزب العدالة في الستينيات، وحزب الوطن الأم في الثمانينات، وهي أحزاب يمين وسط سياسية جماهيرية، باعتبارها أسلاف حزبه[56]. وبالتوازي مع هذا، أكد الحزب على قيم الديمقراطية والإرادة الشعبية وسلطة الشعب، والتنمية الاقتصادية إلى جانب الالتحاق بالاتحاد الأوروبي.

النضال من أجل الالتحاق بالاتحاد الأوروبي والدمقرطة        

إن أحد أهم ملامح ضمانات حزب العدالة والتنمية ما بعد الإسلاموية هي موقفه المؤيد للالتحاق بالاتحاد الأوروبي. لقد أشّر مثل هذا الموقف على قطيعة أصيلة عن الإسلاموية، التي تعتبر أن معادة الغرب والكفاح ضده أحد أهم عناصر الهوية الإسلامية. بمجرد أن فاز الحزب بانتخابات العام 2002، أعلن قائده أردوغان أن أولوتيه ستكون تسريع عملية الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، الذي أطلقته عليه حركة الميللي جوروش “النادي الأوروبي” وهي الحركة التي جاء منها الحزب وقيادته[57]. لقد كانت هدف حكومة الحزب الحصول على العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي. وللتعبير عن التزامه بهذا الهدف، طلب أردوغان في زيارة لإيطاليا في أواخر عام 2002 عقد “زواج كاثوليكي بين تركيا والاتحاد الأوروبي” وهو تصريح مثل تغيرًا جذريًّا في عقلية ذلك السياسي الذي خدم قبل ذلك في صفوف الحركة الإسلامية[58].

بالتأكيد، تقاطعت مطالب حزب العدالة والتنمية مع مطالب الاتحاد الأوروبي ومتطلبات اللحاق به. لقد أراد الحزب أن يحد من سلطة الجيش على السياسة المحلية، وأن يعزز من السيطرة المدنية على الجيش، وتعزيز المجتمع المدني بما في ذلك الجمعيات والوقفيات الإسلامية وتوسيع حرية التعبير وإعاقة إغلاق الأحزاب. وكانت هذه نفسها هي مطالب الاتحاد الأوروبي أيضًا. من ثم، عمل الحزب على استخدام عملية دخول الاتحاد الأوروبي، وأجندة الإصلاح كأدوات لكي يؤمن وضعه في السياسة التركية[59].

على هذا، كانت عضوية الاتحاد الأوروبية فرصة عظيمة لحزب العدالة والتنمية لتوسيع نطاق شرعيته ولبناء تحالفات جديدة داخل الفئات العلمانية في تركيا وفي الخارج. لقد أمل ما بعد الإسلامويون بوضوح أن يوسعوا من نطاق حوارهم ليصلوا إلى داعميهم الطبيعيين. في النهاية نجحت هذه المساعي؛ فتلقى السعي نحو عضوية الاتحاد الأوروبي الدعم من الإعلام الضخم والدوائر الديمقراطية والليبرالية بما في ذلك المثقفون ومنظمات المجتمع المدني بالإضافة إلى طبقة رجال الأعمال الكبيرة، وكلها عوامل مؤثرة في تشكيل الرأي العام.

إن الأكثر أهمية في هذا التغير الذي طال الإسلاميين هو أن التكامل مع الغرب، والحفاظ على الهوية الإسلامية على المستويات الاجتماعية لم يعد ينظر إليهما باعتبارهما خيارات صفرية، وهو ما يؤشر على نقلة جذرية في الموقف الإسلامي التقليدي. وعلاوة على هذا، لم تكن سياسة حزب العدالة والتنمية الداعمة للاتحاد الأوروبي مرتبطة فقط بقيادته، فقد انتشر ت أيضًا بين قواعده، كما تبرهن على ذلك الإحصاءات التي أوضحت ان النسبة الأكبر من مؤيدي الاتحاد الأوروبي هم من بين المصوتين لحزب العدالة والتنمية. فعلي سبيل المثال، أوضح استطلاع للرأي قامت به “متروبول MetroPOLL” في ديسمبر 2010، أن نسبة 69% من المصوتين لحزب العدالة والتنمية يؤيدون عضوية الاتحاد الأوروبي، أي 15% فوق المتوسط القومي 54%، بما يدل على أن الحزب قد نجح في تغيير قواعده المتشككة تجاه الاتحاد الأوروبي[60].

غير أن عضوية الاتحاد الأوروبي لن تكون مجرد اتفاقية مبرمة بين طرفين؛ إنها ستتطلب أيضًا تحقق عدد من الشروط المسبقة فيما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون واحترام الأقليات. وفي هذا الخصوص، قام حزب العدالة والتنمية بدوره على الوجه الكامل؛ فقامت الحكومة بإصلاحات لمعالجة القضية الكردية، وحقوق الإنسان في عمومها، والعلاقات المدنية العسكرية، مع تمرير البرلمان لـ”حزم التوافق”، حتى بدا أن تركيا مستعدة للوصول إلى تسوية بخصوص النزاع الطويل حول قبرص[61].

مع وجود “حزم التوافق”، تم تعزيز حرية تكوين الجمعيات وروادع التعذيب وسوء المعاملة وضمان حقوق السجناء، وأصبح إغلاق الأحزاب أكثر صعوبة إذ أصبح يتطلب ثلاثة أخماس أغلبية المحكمة الدستورية. أما المادة الثامنة من قانون محاربة الإرهاب فقد تم إلغاؤها في يوليو 2003، مع إصدار تشريعات تسمح باستخدام اللغات المحلية مثل الكردية في الدعايا السياسية. غلظت الإصلاحات أيضًا عقوبة ما يسمى جرائم الشرف، وأنهت تمثيل مجلس الأمن القومي في جهاز الرقابة على الراديو والإشراف على التلفزيون[62]. ومن خلال سن قانون آخر، أصبح فحص الملكيات والإنفاقات العسكرية ممكنًا من خلال محكمة المحاسبين، كما تم إلغاء السلطات التنفيذية لأمانة مجلس الأمن القومي[63]. كما تم إلغاء محاكم حقوق الإنسان، وتم حذف عقوبة الموت من القانون الجنائي، وتم إقرار سمو الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان على القانون التركي، وألغيت عضوية ممثل الجيش في المجلس الأعلى في التعليم[64]. في الوقت نفسه، سمحت الدولة لهيئة الإذاعة التركية TRT بالبث باللغة الكردية[65].

بالإضافة إلى هذا، تم التوقيع على العديد من المعاهدات الدولية والتصديق عليها من قبل حكومة العدالة والتنمية. ومن بينها؛ العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والبروتوكول السادس والثالث عشر للمعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان، والبروتوكول الاختياري للاتفاقية الدولية لحقوق الطفل.

اعترفت كل هذه الإصلاحات وتلاقت مع معايير كوبنهاغن السياسية التي وضعها المجس الأوروبي؛ فبدأت المفاوضات حول الالتحاق بالاتحاد الأوروبي في اكتوبر 2005. وكانت المفارقة في أن الحزب ذا الجذور الإسلامية هو الذي جعل تركيا أقرب إلى عضوية الاتحاد، وهو المسعى الذي طالما عارضه الإسلاميون بقوة. إن قرار الاتحاد الأوروبي بدء التفاوض حول العضوية الكاملة لتركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية مع تحقق معايير الديمقراطية بكفاءة، يمثل مدعاة للقول بأن تركيا ما بعد الإسلاموية لم يتم أسلمتها بل بالأحرى تمت أوربتها.

الارتباط بالعولمة

هناك مسألة أخرى تعكس الهوية ما بعد الإسلاموية لحزب العدالة والتنمية وتتمثل في موقفه من العولمة والارتباط بالفاعلين الدوليين. لقد كان برنامج الحزب وإعلاناته الانتخابية وأداء حكومته فيما يتعلق بالعولمة والتفاعلات الاقتصادية الدولية على النقيض بشكل واضح من الموقف الإسلاموي؛ فأصبح الحزب أكثر توددًا تجاه رأس المال الأجنبي والشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات الاقتصادية الدولية.

انخرطت تركيا خلال سنوات حكم حزب العدالة والتنمية بشكل أكبر في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. لقد تضاعفت تجارة تجارة تركيا الخارجية ثلاث مرات؛ ففي حين وصل معدل التجارة الخارجية التركية في العام 2002 إلى 87 مليار دولار، وصل في العام 2008 إلى 334 مليار دولار، وهي زيادة تقترب من أربع أضعاف. وانخفض هذا المعدل إلى 243 مليار دولار  عام 2009 بفعل الأزمة الاقتصادية الدولية ثم عاد لينتعش مرة أخرى في 2010، ليصل إلى 299 مليار دولار. وفي العام التالي قفز ليصل إلى 375 مليار دولار[66].

عندما وصل الحزب إلى السلطة في العام 2002، كان عدد الشركات الأجنبية العاملة في تركيا يصل إلى 498 شركة. ووصل عدد الشركات المسجلة كشركات أجنبية في العام 2009 إلى 22520 شركة، و25927 حلول عام 2011. بالتأكيد تعكس هذه الأرقام أداء الاقتصاد التركي وإمكاناته، غير أنه تعبر أيضًا عن السياسة المرحبة للحكومة وسياساتها التي عملت على تسهيل عمل الشركات الأجنبية. مثل هذه السياسات كان من الصعب تحقيقها حال وجود حكومة إسلامية.

على هذا النحو، وخلال سنوات حكم الحزب، ازداد تدفق رأس المال الأجنبي إلى الداخل التركي مقارنة بالفترات السابقة، وذلك في الوقت الذي وعد فيه الحزب في دعايته الانتخابية بتشجيع دخول رأس المال الأجنبي في الاقتصاد التركي[67]. لقد وصل معدل تدفق رأس المال إلى 22 مليار دولار في العام 2007، فيما كان 1.5 مليار دولار في العام 2002؛ عام وصول الحزب إلى السلطة. لقد طمأن رأس الحزب ما بعد الإسلاموي المستثمرين الأجانب الذين رأوا في تركيا سوقًا نامية على الأرجح سيستمر في دعم الديمقراطية ودعم المجتمع المفتوح تحت حكم حزب العدالة والتنمية. لقد وضعت قيادة الحزب، ذات الماضي الإسلامي، تركيا على مسار العولمة الذي لا رجعة فيه بشكل واضح.

انعكس ارتباط تركيا المتزايد بالعالم في ازدياد أعداد السياح الزائرين لتركيا كل عام. خلال سنوات حكم حزب العدالة والتنمية، تضاعف عدد هؤلاء السياح ثلاث مرات؛ حيث انتقل من 12 مليون سنويًّا إلى 29 مليون، ومعظمهم من البلدان الأوروبية. لا يؤشر هذا فقط على التفاعل الاقتصادي مع العالم، ولكن أيضًا التفاعل الاجتماعي معه تحت حكومة من الإسلاميين السابقين.

خلال حكم العدالة والتنمية، تم التأكيد على مبدأ اقتصاد السوق باعتباره النموذج الاقتصادي الرئيس. لقد تم تقديم سياسات خصخصة شرسة وتنفيذها على الرغم من المقاومة العنيدة للقضاء الكمالي، والذي حكم بإلغاء بعض البيوعات. لقد وصلت عوائد الخصخصة إلى 30 مليار دولار[68]. وذهب بعض مشاريع الخصخصة، مثل بيع شركة تُركتيليكوم Turktelekom، إلى الرأسمال الأجنبي، وسط انتقادات للحزب اتهمته ببيع أصول تركيا إلى الأجانب.

عندما تحدث أردوغان عن تسويق تركيا في الخارج، اتهمه مناوؤه ببيع البلاد إلى الأجانب. في المقابل اتهم معارضيه بأنهم رأسماليون عنصريون، وتحدى هؤلاء الناقدين الذين نفوا عن أنفسهم تهمته الراسمالية العنصرية حيث قالوا أنهم لم يكونوا مهتمين بجنسية رأس المال المستثمر في تركيا. دعا أردوغان الدوائر المالية الدولية إلى القدوم إلى تركيا والاستثمار فيها، واعدًا بإزالة كل الحواجز التي تعوق الاستثمار الأجنبي في تركيا[69].

ويمكن إيجاد سلوك تعاوني مماثل فيما يتعلق بعلاقات حزب العدالة والتنمية وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي والمؤسسات الاقتصادية الدولية الأخرى. لقد تم التوصل إلى اتفاقية انطلاق A stand-by agreement مع صندوق تم التوصل إليها في العام 2002، والاستمرار في تنفيذها من قبل حكومة الحزب. وبعد استكمالها الناجح، تم توقيع اتفاقية أخرى في العام 2005. لقد عمل حزب العدالة والتنمية إذن مع صندوق النقد الدولي وقام بتنفيذ سياساته الاقتصادية.

باختصار، لم يغرق حزب العدالة والتنمية في مواقف معادٍ للعولمة، كما كان سيتوقع من حزب ذي جذور إسلامية. ومن وجهة نظر الحزب، كان الأهم هو تقديم الخدمات للناس، ولم يكن هذا ممكنًا من دون انخراط تركيا في التفاعلات الاقتصادية الدولية. إذن، لعب الحزب من خلال قواعد الرأسمالية العالمية تاركًا رفض الإسلاميين للعولمة جانبًا.

إعادة تعريف العلمانية

كانت قضية العلمانية من أصعب الأسئلة التي كان على ما بعد الإسلاموية التركية التعامل معها. لقد أصبحت العلمانية مبدأً دستوريًّا في العام 1937، وقبلها البعض باعتبارها قرينة للديمقراطية. غير أنه باسمها أيضًا جرى قمع الحركة الإسلامية؛ فتم إغلاق أحزابها وحظر مؤسساتها. لقد رأى الإسلاميون أن العلمانية بالأسلوب الذي جرى به تطبيقها في تركيا، كانت أداة في يد المؤسسة الكمالية لقمع كل ما هو “إسلامي”. يقول علي بولاج، وهو مفكر إسلامي بارز “لقد قمع الدين، وحظرت التقاليد تحت تدخلات الدولة المستنيرة..لقد تحول الإسلام إلى حركة احتجاجية لمواجهة تدخلات السلطة”[70].

كان هذا صحيحًا إلى حد ما؛ إذ أن الدولة الكمالية قد عرفت العلمانية كرديف للخروج عن الدين، وتمت صياغة هذا الخروج كطريقة للحياة تقصي الدين من الحياة الاجتماعية. على سبيل المثال، في إحدى المناسبات التي دعي إليها الرئيس العلماني أحمد نجدت سيزر في مجلس الشؤون الدينية Diyanet قال الأخير :”إن العلمانية هي طريقة للحياة.. إن الفرد العلماني بحق بالتأكيد لن يسمح لاعتقاداته الدينية أن تؤثر على شؤونه الدنيوية”[71]. وعلى نحو مماثل، زعم إعلان مجلس الأمن القومي في 28 فبراير 1997 أن “العلمانية ليست مجرد ضمانٍ للنظام السياسي، هي أيضًا طريقة للحياة”[72]. وأشارت المحكمة الدستورية في قرارها بإغلاق حزب الرفاة إلى العلمانية باعتبارها “فصل الحياة الاجتماعية، والتعليم والأسرة والاقتصاد والقانون والسلوكيات والزي عن الدين”. وبالنسبة للمحكمة، فإن العلمانية تتعلق بـ”الطريقة المتحضرة للحياة”[73]، و”فلسفة تركيا في الحياة”[74]. باختصار، عنت العلمانية كما فهمها الكماليون الفضاء الاجتماعي اللاديني التي يمنع فيها الإسلام من الحضور ويحفظ فيها فقط في ضمير الإنسان. كانت هذه العلمانية المسلحة من هذا النوع جهازًا لإقصاء وقمع أو على الأقل الجماعات غير الكمالية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية[75].

عارض ما بعد الإسلامويين هذا الفهم والممارسة والوظيفة للعلمانية، ليس باسم الإسلام، ولكن باسم العلمانية في نسختها الأنجلوساكسونية المعتدلة. لقد قبلوا بهذا الشكل المعتدل إذ أنها لا تتدخل في الحياة الاجتماعية لمحو تأثير الدين، بل على النقيض، تترك المجال الاجتماعي مفتوحًا لمثل هذا التأثير . لذا كان ما بعد الإسلامويين الأتراك على استعداد لإحلال “إعادة تعريف العلمانية”.

سيرًا على هذا النهج، حاول حزب العدالة والتنمية أن يعيد تعريف العلمانية على نحو “ليبرالي وديمقراطي وأنغلو ساكسوني”. يجادل أحمد كورو أن هذا كان سعيًّا من أجل تحول هذا المعنى التوكيدي –التدخلي للعلمانية إلى “علمانية سالبة”[76]. لقد أقدم كلٌ من رئيس البرلمان ورئيس اللجنة الدستورية على هذا الطرح داخل البرلمان. ودعيا إلى إعادة تفسير العلمانية[77].

كان جزءًا من جهود إعادة التفسير هذه ربط العلمانية بالسلم والتعايش الأهلي. يؤكد بولنت أرنج؛ رئيس البرلمان الأسبق واحد المؤسسين الثلاثة لحزب العدالة والتنمية

“لكي يتم بناء السلم الأهلي، فإن إعادة تفسير العلمانية أمرٌ واجب. إننا لا نملك أي اعتراض على مبدأ العلمانية في حد ذاته، ولكن ينبغي أن نحدد العلمانية التي نمارسها. فلا يجب للسياسات العلمانية المتزمتة أن تحول الحياة الاجتماعية إلى سجن. إن فهم العلمانية باعتبارها قضية سلام وحريات، مع الاعتراف بحرية الدين والضمير مع عدم التدخل في اعتقادات الناس، سيخدم السلم الاجتماعي”[78].

اعتبر الحزب في برنامجه أن “الدين أحد أهم المؤسسات في حياة البشرية” وأن العلمانية “كشرط مسبق للديمقراطية، وضمان لحرية الدين والضمير”[79]. ويؤكد أردوغان أن “العلمانية يجب ان يتم تتويجها مع الديمقراطية”[80]. وتعتبر هذه المحاولة لربط العلمانية بالديمقراطية والسلم الاجتماعي أمرًا هامًّا للغاية، إذ عول على أن هذا سيطهر المركب السياسي السلطوي الكامن للعلمانية الراديكالية كما تم تطبيقها في تركيا حيث استخدمت في مواجهة الجماعات الدينية.

يؤكد حزب العدالة والتنمية أيضًا على جانبيْن من العلمانية؛ حياد الدولة وتعاملها المتساوي لجميع الأديان. ويعرف أردوغان العلمانية باعتبارها “سلوكًا مؤسسيًّا ومنهجًا يضمن أن الدولة ستبقى محايدة ومساوية لكل الأديان والأفكار”[81].

على هذا، اعتبرت العلمانية متوافقة حريةً للدين والضمير بالضرورة. ويجادل أردوغان بأن “العلمانية ضمان للنساء اللائي يرتدين غطاء الرأس”[82]. بالتوازي مع هذه الفكرة، ردد برنامج حزب العدالة والتنمية القول بأن “العلمانية هي مبدأ يسمح للناس من كل الأديان والاعتقادات أن يمارسوا شعائرهم بكل حرية، وان يكونوا قادرين على التعبير عن أفكارهم الدينية وأن يحيوا طبقًا لها”[83]. كما أضيف أنها تتعلق أيضًا بحقوق غير المؤمنين. يقدم الحزب مفهومًا للعلمانية كنموذج لتعايش الأديان والمعتقدات. وفي ذكرى تبني العلمانية، أصدر أردوغان تصريحًا يؤكد فيه على مركزية العلمانية كضمان تحرري لكل الاعتقادات وأنماط الحياة[84].

يُنتقد الحزب، برفضه “تفسير وتشويه العلمانية باعتبارها معاداة للدين” الفهم الراديكالي للعلمانية في تركيا[85]. إن حضور الفضاء الاجتماعي الإسلامي يتم ضمانه من خلال إعادة توجيه الدولة من مهمتها الحالية لتتوجه نحو علمنة المجتمع. ويتضمن هذا أنه لا ينبغي على الدولة أن تتنافس مع الدولة في المجال الاجتماعي. وبدوره، لا ينبغي للدين أن يكون له سلطة على الدولة. ويمكننا القول؛ إن ما بعد الإسلامويين يحاولون أن يحموا الفضاء الاجتماعي من التدخلات المعلمنة بالدعوة إلى نموذج سالب للعلمانية على النهج الأنجلو ساكسوني.

في المقابل، يرفض الحزب استخدام القيم الدينية في السياسة، فيقول أردوغان “إننا لا نعتقد أنه من الصواب أن نمارس السياسة عبر الدين، وأن نحاول تغيير الحكومة أيديولوجيًّا باستخدام الدين..إن جعل الدين أداة للسياسة..أمر لا يضر بالتعددية السياسية وحدها، ولكن بالدين نفسه”[86].

إنه من غير الديمقراطي التمييز ضد المتدينين بسبب خيارهم: “إنه من غير المقبول أيضًا أن نضع قيودًا على هؤلاء المختلفين الذين يفكرون ويحيون باستخدام الدين”[87].

ومما أخذته هذه الرؤية أيضًا، هو الاعتقاد بأن العلمانية سمة للدولة لا الفرد[88]. فير ى أردوغان “إن العلمانية ليست دينًا، في حين أن الإسلام دين، وبالتالي لا يمكن لنا أن نعاملهما على حد السواء..والفرد لا يمكن أن يكون علمانيًّا، فيما أن الدولة هي ما يجب أن تكون كذلك”[89]. يعني هذا أن قائد “العدالة والتنمية” يرى أن الدولة لا الأفراد هي ما يمكن أن تكون علمانية. ومن خلال هذا المنهج، تحدى الحزب الفهم السائد للعلمانية باعتبارها طريقة للحياة. وفيما أيد أن تكون الدولة العلمانية أطارًا يضمن حرية الدين، فإنه يعارض علمنة الفضاء الاجتماعي من قبل السلطة العامة. وبالتالي، يرى ما بعد الإسلامويون أن العلمانية ليست لعنة؛ حيث يمكن تعريفها وأيضًا قبولها على هذا النحو.

يصوغ المفكر ما بعد الإسلاموي علي بولاج الذي أعلن في نهاية التسعينيات فشل الإسلاموية، العناصر الأساسية لإعادة تفسير ما بعد الإسلاموي للعلمانية، كما يلي؛

“لا يوجد تعارض بين الإسلام والعلمانية؛ إذا ما تم تعريف الأخيرة باعتبارها؛ “حماية الحرية الدينية، وحرية الضمير ومنع هيمنة أي مجموعة دينية على أخرى، وضمان أن يعبر الناس من كل الخلفيات الدينية عن أنفسهم بحرية، وكذلك انعدام هيمنة النخبة الدينية في الحكم، والاعتراف بحق الافراد في حضورهم في المجال العام، وضمان أن الدولة على مسافة متساوية من كل المجموعات الفلسفية والأيديولوجية والدينية. إن مثل هذا التعريف للعلمانية يتوافق مع المفاهيم الإسلامية والخبرة التاريخية للمسلمين”[90].

مثل هذا الاقتراب التوافقي للعلمانية قد يتجاوز مواقف بعض الحركات ما بعد الإسلاموية في البلدان الإسلامية الأخرى. فكما يقول آصف بيات “إن ما بعد الإسلاموية ليست معادية للإسلام، وليست غير إسلامية، وليست علمانية[91]. لقد أجبر وضع العلمانية في النظام الدستوري، وفي روح المبادئ المؤسسة للجمهورية ما بعد الإسلامويين على أن يسعوا إلى تكييف العلمانية ليس باعبتارها طريقة للحياة، بل باعتيارها ذلك الفصل بين الدولة والدين وحرية الضمير.

الخلاصة

قاد السعي نحو البقاء وسط بيئة من التطرف العلماني والسلطوي السياسية التيار الأكبر من الإسلاميين في تركيا نحو تبني الديمقراطية والعولمة والعلمانية الأنغلوساكسونية المعتدلة. وبالتالي انطلقت ما بعد الإسلاموية التركية، كما في حالات عديدة، نتيجة أزمة الإسلاموية، وهي الأزمة التي اندلعت عندما كان الإسلاميون في ذروة قوتهم في أواخر التسعينيات. ربما كانت هذه الأزمة عامل إضافة بالنسبة للإسلاميين، لكنها سهلت التحول نحو ما بعد الإسلاموية وميلادها.

مثل حزب العدالة والتنمية وكيلاً لهذا التحول وتعبيرًا عنه على السواء. إن ما يجعل الجزب فريدًا هو تجربته في دمج الماضي الإسلاموي بالأجندة الديمقراطية الليبرالية. لقد جمع الحزب شخصيات من خلفيات أيديولوجية ومشارب حياتية متنوعة حول “الديمقراطية” كمثال سياسي، ثم أخذ في تطوير خطابًا سياسيًّا عولميًّا وذي نزعة سوقية، ومؤيدًا للاتحاد الأوروبي. وعلى هذا النحو، أعطى الحزب مثالاً على قدرة الكوادر الإسلامية على التجدد من خلال تبنيها الخصال ما بعد الإسلاموية مثل الديمقراطية والتعددية والعلمانية المعتدلة في بيئة متنافسة سياسيًّا ومرتبطة بالشبكات السياسية الأوروبية والمؤسسات الاقتصادية الدولية.

أقلع ما بعد الإسلامويين الأتراك، وكذلك ممثلهم السياسي؛ حزب العدالة والتنمية، عبر اعترافهم بالخصائص العلمانية للحياة السياسية، عن مطالبهم بالحكومة الإسلامية. ومنحَهم سحب الهوية الإسلامية من الساحة السياسية؛ حيث تتنافس فيها البرامج السياسية كلاً في مواجهة الآخر، قوة لأنشطتهم في المجال الاجتماعي، في الوقت الذي قام فيه الحزب بمنافسة بقية الأحزاب على أكمل وجه. ومع نجاح الحزب المحافظ في احتلال الساحة السياسية، تُركت الساحة الفردية/ الاجتماعية لتأثير الإسلام. وبالتالي، ساهم الانطلاق من السياسة في تسريع انخراط ما بعد الإسلامويين في الساحة الاجتماعية، حيث استطاعوا نشر القيم الإسلامية في ظل حماية مبدأ العلمانية الذي أعيد تعريفه. في هذه المرحلة، تم الاعتراف بقيمة الديمقراطية كإطار مبدأي ومؤسسي لتمكين ما بعد الإسلامويين من المشاركة في لعبة السلطة ولجعل العلمانية ضمانًا قانونيًّا ومؤسسيًّا لمنع تدخل الدولة في إسلام الفرد أو المجتمع. هو ما كانت نتيجته ظهور السياسة ما بعد الإسلاموية القادرة على احتضان قيم وأدوات الحداثة السياسية والقادرة أيضًا على مد مجالها الفردي والاجتماعي خلال حدود هذه الحداثة السياسية.

يجب أن نكرر هنا أنه عند إعادة التفكير في هويتهم واستراتيجيتهم السياسية وخطابهم وأهدافهم الماضية، فإن ما بعد الإسلامويين قد أقلعوا عن فكرة الدولة الإسلامية، ولم يكن هذا من قبيل الحصافة السياسية فقط. إذ أنهم أولاً: تشككوا في قابلية بناء الدولة الإسلامية وذلك نتيجة القمع الذي مورس ضدهم حتى وهم على قمة السلطة السياسية. وثانيًا: أدركوا التعددية الاجتماعية والأيديولوجية الكامنة في الإسلام ذاته الذي تراجع من الساحة الاجتماعية تحت ضغط المشهد السياسي. وثالثًا: علمت تجارب الشرق الاوسط ما بعد الإسلامويين الأتراك مدى صعوبة الدفاع عن حكومة إسلامية في زمن العولمة حيث تتداعي كل أشكال أيديولوجيات الدولية.

يبدو أن ما بعد الإسلامويين الذين تركوا المطالب الإسلاموية قد فهموا أن الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان ستقدم بديلاً قويًّا وشرعيًّا ومدعومًا بقوة للمؤسسة العلمانية/ الكمالية[92]. وبالتالي، بدلاً من السعي نحو  تقديم بديل إسلامي للنظام العلماني/ الكمالي، قدم ما بعد الإسلامويون بديلاً علمانيًّا/ حداثيًّا نتيجة اقتناعهم أن النظام الكمالي لا يمكن أن يتوافق مع القيم والمبادئ والمؤسسات الحديثة.

باختصار، إن حزب العدالة والتنمية يعكس ملامح الحركة ما بعد الإسلاموية حيث حافظ الحزب على علاقته بالإسلام في المجال الاجتماعي، فيما هجره كبرنامج سياسي[93]. وعلى أية حال، إنه يتصور “وجود مجتمع تقي” في إطار “دولة ديمقراطية علمانية”[94]. غير أن الحزب يتجاوز المشروع ما بعد الإسلاموي بمعنى أنه يعمل في نظام دستوري علماني لا “يدمج التدين بالحقوق، والإيمان بالحرية، والإسلام بالتحرر” في أجندته السياسية بغض النظر عن الاختيارات الفردية لأعضائه. إنه يؤكد على “الحقوق بدلاً من الواجبات، والتعددية بدلاً من الأحادية، والتاريخانية بدلاً من النصوص الجامدة، والمستقبل بدلاً من الماضي”[95]. غير أن الإسلام ما زال مثالاً سياسيًّا غير معبر عنه للحزب على النحو الذي يمنعه أن يكون حزبًا “إسلاميًّا ديمقراطيًّا” مثل الأحزاب “الديمقراطية المسيحية” الأوروبية. إن محافظية الحزب تختلط بالديمقراطية للتعبير عن موقفه الأيديولوجي والذي يجد في القيم الإسلامية مرجعًا له. إن ما يظهر من خلال هذه الهوية السياسية التي تستبطن الإسلام باسم المحافظية هو التأكيد على قيم الأسرة والتضامن الاجتماعي والماضوية. وكما لا حظ هيل وأوزبودون فإن ما يجعل الحزب “محافظًا دينيًّا” يكمن في أن هذه المحافظية “ثقافية واجتماعية أكثر منها سياسية وأيديولوجية”[96]. إن “المحافظية” تعرف علاقة الحزب بكل ما هو اجتماعي، و”الديمقراطية” تعرف علاقته بكل ما هو سياسي. وبالتالي، فإن ما بعد إسلاموية الحزب هي محافظة اجتماعيًّا في جاذبيتها، وديمقراطية سياسيًّا في خطابها.

* تتمثل معايير كوبنهاجن في ثلاثة شروط وضعتها قمة الاتحاد الأوروبي المنعقدة في كوبنهاجن عام 1993 لتحديد صلاحية الدولة المرشحة للالتحاق بالاتحاد. وتتمثل في:

  • معايير سياسية: حيث تضمن الدولة استقرار مؤسساتها والحفاظ على الديمقراطية والتعهد بضمان دولة القانون وضمان حقوق الإنسان والأقليات.

  • معايير اقتصادية: حيث تضمن الدولة تمتعها باقتصاد سوق مستقرة

  • معايير القبول Acquis: حيث تضمن الدولة تكييف جميع إداراتها وقوانينها مع قانون الاتحاد الأوروبي.


[1]A. Bayat, Making Islam Democratic: Social Movements and the Post-Islalmist Turn (Stanford: Stanford University Press, 2007), 11.

[2] I. Dagi, “Rethinking Human Rights, Democracy and the West: Post-Islamist Intellectuals in Turkey,” Critique: Critical Middle Eastern Studies 13, no. 2 (2004): pp. 135–151.

[3] A. Bayat, Islam and Democracy: What Is the Real Question? ISIM Paper, 8 (Leiden: Amsterdam University Press, 2007), pp. 17–20.

[4] A. Kuru, “Reinterpretation of Secularism in Turkey: The Case of the Justice and Development Party,” in The Emergence of a New Turkey: Democracy and the AK Parti, ed. H. Yavuz (Salt Lake City: University of Utah Press, 2006), pp. 136–159.

[5] Bayat, Making Islam Democratic,189.

[6] Iİsmail Kara, ed., Tuürkiye’de Iİslamciıliık Dusuüşüncesi, vol. 1 (Istanbul: Risale Yayiınlariı, 1986); Iİsmail Kara, ed., Tuürkiye’de Iİslamciıliık Dusuüşüncesi, vol. 2 (Istanbul: Kitabevi Yayiınlariı, 1997); İsmail Ismail Kara, ed., Türkiye’de Turkiye’de İslamcılık Islamcilik Dusuüşüncesi, vol. 3 (Istanbul: Kitabevi Yayiınlariı, 1998).

بالنسبة إلى علي بولاج وهو مثقف معاصر له موقع إسلاموي قوي وقد كان مؤثرًا في تكوين الجيل الإسلاموي في تركيا، فإن الإسلام “طريق بديل للفكر ونظام للاعتقاد وطريقة للحياة”. انظر،

(Cagdas Kavramlar ve Duzenler [(Istanbul: Pinar Yayinlari, 1987]), p. 199).

[7] Kenan Cayir, “The Emergence of Turkey’s Contemporary ‘Muslim Democrats,’” in U. Cizre, Secular and Islamic Politics in Turkey: The Making of the Justice and Development Party (London: Routledge, 2008), pp. 64–66; A. Gunes-Ayata, “Islamisim versus Authoritarianism: Political Ideas in Two Islamic Publications,” in Islam in Modern Turkey: Religion, Politics and Literature in a Secular State, ed. R. Tapper (London: I. B. Tauris, 1994), pp. 254–279.

[8] M. Metiner, Yemyesil Seriat, Bembeyaz Demokrasi (Istanbul:, Dogan Kitaplari, 2004), p. 216.

[9] للاطلاع على أطروحة “الفشل”، انظر؛

  1. Roy, Failure of Political Islam (Cambridge: Harvard University Press, 1994); G. Kepel, Jihad: The Trail of Political Islam (Cambridge: Harvard University Press, 2002).

[10] عندما تم إلغاء قانون يسمح بارتداء غطاء الرأس في الجامعة، حكمت المحكمة الدستورية بأن “العلمانية، هي طريقة متحضرة للحياة”

 (E. 1989/1, K. 1989/12 no, dated 7.3.1989,. at http://www.anayasa.gov.tr/files/pdf/kararlar_dergisi/kd_25.pdf

[11] N. Gole, “Secularism and Islamism in Turkey: The Making of Elites and Counter-Elites,” Middle East Journal 51, no. 1 (1997): pp. 46–58.

[12] S. Mardin, “Ideology and Religion in the Turkish Revolution,” International Journal of Middle East Studies 2, no. 2 (1971): pp. 197–211.

[13] Ahmet Yildiz, “Politico-religious Discourse of Political Islam in Turkey: The Parties of National Outlook,” Muslim World 93, no. 2 (2003): pp. 187–209.

[14] N. Erbakan, Milli Goörusüş (Istanbul: Dergah Yayiınlariı, 1975); N. Erbakan, Türkiye’nin Turkiye’nin Temel Meseleleri (Ankara: Rehber YayınlarıYayinlari, 1991); H. H. Ceylan, ed., Erbakan ve Turkiye’nin Temel Meseleleri (Ankara: Rehber Yayinlari, 1996).

[15] Erbakan, ve Tüuurkiye’nin Temel Meseleleri, pp. 99–100; Milli Gazete, September 21, 1995.

[16] B. Toprak, “Politicization of Islam in a Secular State: The National Salvation Party in Turkey,” in From Nationalism to Revolutionary Islam: Essays on Social Movements in the Contemporary Near and Middle East, ed. S. A. Arjomand (Albany: State University of New York Press, 1984): 119-132.[

[17] Milli Gazete, December 4, 1995.

[18] Z. Onis, “The Political Economy of Islamic Resurgence in Turkey: The Rise of the Welfare Party in Perspective,” Third World Quarterly 18, no. 4 743–766.

[19] M. H. Yavuz, “Political Islam and the Welfare (Refah) Party in Turkey,” Comparative Politics 30, no. 1 (1997): pp. 63–82.

[20]  من المفارقة التاريخية هذه القرارات تم توقيعها من قبل رئيس الوزراء ذي التوجهات الإسلامية أربكان إلى جانب الجنرالات. انظر؛

 Briefing, “Recommendations of the State Council Meeting and Comment,” Briefing, March 10, 1997, p. 4.

[21] Hurriyet, November 4, 1997.

[22] للاطلاع على قرارات مجلس الأمن الوطني 28 فبراير، انظر؛

Briefing, “Recommendations of the State Council Meeting and Comment,” p. 4.

[23] Yenibinyil, May 21, 2000.

[24] Radikal, December 18, 1998.

[25] Ibid

[26] W. Hale and E. Ozbudun, Islamism, Democracy and Liberalism in Turkey: the case of the AKP (London: Routledge, 2010), 10-11; Hurriyet, May 4, 2000.

[27] Milliyet, May 20, 2000; Radikal, May 20, 2000.

[28]Yenibinyil, May 6, 2000; Milliyet, April 15, 2000.

[29]Milliyet, April 29, 2000; Hurriyet, May 10, 2000.

[30] Milliyet, May 20, 2000; Radikal, May 20, 2000.

[31] H. Yavuz, “Introduction: The Role of the New Bourgeoisie in the Transformation of the Turkish Islamic Movement,” in Yavuz, The Emergence of a New Turkey, ed. H. Yavuz (Salt Lake City: Utah University Press, 2006), pp. 1–19.

[32]Ali Bulac, “Islam devleti projesi coktu,” interview with by Nese Duzel, Radikal, December 21, 1999.

[33] I. Dagi, “The Justice and Development Party: Identity, Politics, and Human Rights Discourse in the Search for Security and Legitimacy,” in Yavuz, Emergence of a New Turkey, 88–106.

جاء قرار المحكمة في العام 2001، قاضيًّا بأن المحكمة الدستورية بتركيا لم تخرق المادة 11 من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان، وأن قرار إغلاق حزب الرفاه مبرر إذ أنه يهدف إلى تدمير الديمقراطية والحريات الديمقراطية. لقد كان هذا بمثابة صدمة أعادت إلى الأذهان نوعًا من العداء التقليدي نحو الغرب الذي وصف بأن له معايير مزدوجة، وتحيزات وكراهية لـ”الهلال”. انظر؛

Refah (The Welfare Party) and Others v. Turkey ([41340/98 41342/98 41343/98 41344/98]), February 13, 2003, pp. 39–49.

[34] K. Canatan, “Cagdas Siyasal Islam Dusuncesinin Gelisim Seyri,” Bilgi ve Dusunce 1, no. 3 (December 2002): pp. 31–38; Y. Akdogan, “Siyasal Islam’dan Muhafazakar Demokratliga . . . ,” Bilgi ve Dusunce 1, no. 3 (December 2002): pp. 17–23; A. Bulac, “AB Disi Secenegin Kritigi,” Zaman, March 13, 2002.

[35] “Erdogan: Referansim Islam,” Hurriyet, August 28, 2001.

[36] D. Sontag, “The Erdogan Experiment,” New York Times, May 11, 2003.

وتعليقًا على قرار المحكمة، دعا إلى دولة تطيع حكم القانون، وقال إن هذا الصراع هو من أجل سيادة القانون والديمقراطية سيستمر. انظر؛

Sabah, April 22, 1998.

[37] في محاورة شخصية مع وزير من حكومة العدالة والتنمية والذي اختير كعمدة في العام 1994، أخبرني أنه عندما اختير كان يعرف الكثير عن مشكلات الامة، كالقضية الفلسطينية، والاوضاع في كشمير، وأزمات المسلمين هنا وهناكن لكنه لا يعرف شيء عن مشكلات أهل مدينته. لكنه أدرك أنه ليتم انتخابه مرة أخرى، يجب أن يحل المشكلات المحلية.

[38] H. Besni and M. Ozbay, Bir Liderin Dogusu: R. Tayyip Erdogan (Istanbul: Meydan Yayinlari, 2010), p. 154.

[39] H. Yavuz, “The Transformation of a Turkish Islamic Movement: From Identity Politics to Policy,” American Journal of Islamic Social Sciences 22, no. 3 (2005) :105–111.

[40] Hurriyet, July 7, 2001; also see the Adalet ve Kalkinma Partisi AKP program, “AK Parti Kalkinma ve Demokratiklesme Programi,” at www.akparty.org.tr/program

[41] Adalet ve Kalkinma Partisi, Hersey Turkiye Icin: AK Parti Secim Beyannamesi (Ankara: AK Parti Yayinlari, 2002); Adalet ve Kalkinma Partisi, Nice AK Yillara: Guven ve Istikrar Icinde Durmak Yok Yola Devam (Ankara: AK Parti Yayinlari, 2007); AKP, “AK Parti Kalkinma ve Demokratiklesme Programi.”

[42]

[43] H. Besni and M. Ozbay, Bir Liderin Dogusu: R. Tayyip Erdogan (Istanbul: Meydan Yayinlari, 2010), p. 154.

[44] H. Yavuz, “The Transformation of a Turkish Islamic Movement: From Identity Politics to Policy,” American Journal of Islamic Social Sciences 22, no. 3 (2005) : 105–111.

[45] Adalet ve Kalkinma Partisi, Hersey Turkiye Icin: AK Parti Secim Beyannamesi (Ankara: AK Parti Yayinlari, 2002); Adalet ve Kalkinma Partisi, Nice AK Yillara: Guven ve Istikrar Icinde Durmak Yok Yola Devam (Ankara: AK Parti Yayinlari, 2007); AKP, “AK Parti Kalkinma ve Demokratiklesme Programi.”

[46] للاطلاع عن وصف مبكر لإردوغان باعتباره سياسيًّا معتدلاً. انظر؛

  1. Heper, “Islam and Democracy: Toward a Reconciliation?” Middle East Journal 51, no. 1 (1997): p. 37.

[47] D. Frantz, “Turkey, Well Along Road to Secularism, Fear Detour to Islamism,” New York Times, January 8, 2002, www.nytimes.com/2002/01/08/world/turkey-well-along-road-to-secularism-fears-detour-to-islamism.html.

[48] Sontag, “Erdogan Experiment.”

[49] I. Dagi, “AK Party Survives the Closure Case: What Is Next?” Policy Brief, SETA, no. 19, Ankara, August 1, 2008.

[50] للاطلاع على خلفية نظرية عن فكرة الديمقراطية المحافظة، انظر؛

  1. Akdogan, Muhafazakar Demokrasi (Ankara: AK Parti Yayinlari, 2003).

كان أكدوغان مستشارًا سياسيًّا لرئيس الوزراء أردوغان منذ إنشاء حزب العدالة والتنمية وتم انتخابه عضوًا في البرلمان في انتخابات 2011. وللاطلاع على نسخة إنكليزية مختصرة، انظر؛

  1. Akdogan, “The Meaning of Conservative Democratic Political Identity,” in Yavuz, Emergence of a New Turkey, 49–65.

[51] Hale, and E. Ozbudun, Islamism, Democracy and Liberalism in Turkey, p. 29.

[52] R. Cakir, Mahalle Baskisi (Istanbul: Dogan Kitapcilik, 2008).

[53] “Erdogan yargilandi: Referansim Islam.,” Milliyet, April 1, 1998 at http://www.milliyet.com.tr/1998/04/01/haber/hab00.html

[54] على سبيل المثال، أعلن بطريرك الأرمن الأرثوذكس ميسروب الثاتي Mesrob II، قبل انتخابات 2007 أن جاليته الأرمنية ستصوت لصالح حزب العدالة والتنمية. انظر؛

“Ermeni cemaati secimlerde AK Partiyi destekleyecek,” Yeni Safak, April 6, -2007, http://yenisafak.com.tr/politika/?q=1&c=2&i=48782&Ermeni/Cemaati/se%C3%A7imlerde/Ak/Partiyi/destekleyecek. Also see Vahram Ter-Matevosyan, “The Armenian Community and the AK Party: Finding Trust under the Crescent,” Insight Turkey 12, no. 4 (2010 93–111.

[55] A. Carkoglu and B. Toprak, Religion, Society and Politics in a Changing Turkey (Istanbul: TESEV Publications, 2007), 81.

[56] O. Roy, Globalised Islam: The Search for a New Ummah (New York: Columbia University Press, 2004), 61.

[57] I. Dagi, “Turkey’s AKP in Power,” Journal of Democracy 19, no. 3 (2008): pp. 25–30; I. Yilmaz, “Muslim Democrats in Egypt and Turkey: Participatory Politics as a Catalyst,” Insight Turkey 11, no. 2 (2009): pp. 93–112.

[58] Hale and Ozbudun, Islamism, Democracy and Liberalism in Turkey.

[59] Milliyet, July 15, 2001.

[60] Avrupa’ya net mesajlar,” Radikal, November 7, 2002, at www.radikal.com.tr/haber.php?haberno=55890; Philip Robins, “Confusion at Home, Confusion Abroad: Turkey between Copenhagen and Iraq,” International Affairs 79 (2003): 547–566.

[61] “Erdogğan, AB ile ‘Katolik Nikahı’ Nikahi’ kiıymak istiyor,” Zaman, November 14 Kasim, 2002, at http://arsiv.zaman.com.tr/2002/11/14/pdetay.htm.

[62] B. Duran, “JDP and Foreign Policy as an Agent of Transformation,” in Yavuz, Emergence of a New Turkey, pp. 281–305.

[63] MetroPOLL, Turkiye Siyasal Durum Arastirmasi (Ankara, December 2010), p. 64.

[64] For political reforms under the AKP government, see Hale and Ozbudun, Islamism, Democracy and Liberalism in Turkey, pp. 55–67.

[65] Briefing, May 5, 2003, p. 6.

[66] Briefing, July 28, 2003, p. 9.

[67] Briefing, April 26, 2004, pp. 8–9.

[68] Briefing, June 14, 2004, p. 14.

[69] الأرقام الرسمية صادرة عن مؤسسة الإحصاءات التركية www.tuik.gov.tr/Gosterge.do?id=3488&metod=IlgiliGosterge

[70] I. Grigoriadis and A. Kamaras, “Foreign Direct Investment in Turkey: Historical Constraints and the AKP Success Story,” Middle Eastern Studies 44, no. 1 (2008): 53–68.

[71] Figures between November 2002–May 2010 as declared by the Minister of Finance Mehmet Simsek, at www.hurriyet.com.tr/ekonomi/15086024.asp.

[72] “Racism over Capital Drives Foreign Investment Away,” October 15, 2005, at http://www.turks.us/article.php?story=20051015103640151&mode=print

[73] Ali Bulac, “Islam and Politics,” Today’s Zaman, July 13, 2007, at www.todayszaman.com/columnist-116522-islam-and-politics.html.

[74] “Zirvede Laiklik Atismasi,” Radikal, September 21, 2004, www.radikal.com.tr/haber.php?haberno=128665.

[75] Cited in A. Kuru, Secularism and State Policies towards Religion: The United States, France, and Turkey (Cambridge: Cambridge University Press, 2009), 161.

[76] Constitutional Court decision E. 1989/1, K. 1989/12 no, dated 7.3.1989.

[77] D. Jung, “Secularism: A Key to Turkish Politics,” Intellectual Discourse 19, no. 3 (2006)[AQ: PROVIDE YEAR.]: 129–154.

[78] Kuru, Secularism and State Policies towards Religion, 161–201; Kuru, “Reinterpretation of Secularism in Turkey

[79] قال برهان كوزو Burhan Kuzu رئيس اللجنة الدستورية في البرلمان “إننا نحترم مبادئ العلمانية، لكنها تحتاج إلى إعادة تفسير”

(Ibon Villelabeitia, “Turkey Needs to Re-interpret Secularism—Senior MP,” Reuters, October 13, 2010 OK? OK!], http://www.reuters.com/article/idINIndia-52167920101013).

[80] Arinç: Sosyal hayati tıi cezaevine ccçevirmeyelim,” Hurriyet, April 25, 2006, http://hurarsiv.hurriyet.com.tr/goster/haber.aspx?id=4312365&tarih=2006-04-25.

[81] “AK Parti Kalkinma ve Demokratiklesme Programi.”

[82]R. T. Erdogan, “Conservative Democracy and the Globalization of Freedom,” in Yavuz, Emergence of a New Turkey, p. 336.

[83] Ibid.

[84] R. T. Erdogan, “Basini ortenlerin guvencesi laiklik,” Radikal, October 17, 2010, www.radikal.com.tr/Radikal.aspx?aType=RadikalDetayV3&Date=&ArticleID=1024098&CategoryID=78.

[85] AKP, “AK Parti Kalkinma ve Demokratiklesme Programi.”

[86] “Erdogğgan: Laiklik hayati bir oöoneme sahip,” February 2 subat, 2010, at www.ntvmsnbc.com/id/25053875/.

[87] للاطلاع عن وجهة نظر أردوغان عن عد معاداة العلمانية للدين، انظر: “Erdogğan: Laiklik ve demokrasi aracçtiır,” Sabah, May 16, 2007, http://arsiv.sabah.com.tr/2007/05/16/haber,1DE0E4E466C84DA58BFBB5D18F0D42D9.html.

[88] Erdogan, “Conservative Democracy and the Globalization of Freedom,” p. 336.

[89] AKP, “AK Parti Kalkinma ve Demokratiklesme Programi.”

[90] انظر إلى الحوار مع رئيس البرلمان التركي عن الساسة الأتراك الثلاثة الذين أسسوا حزب العدالة والتنمية، بولنت أرنج، 5 مايو 2006

www.tbmm.gov.tr/develop/owa/tbmm_basin_aciklamalari_sd.aciklama?p1=34166.

[91] “Erdogğan: Laiklik ve demokrasi araçctiır,.”

[92] Bulac, “Islam and Politics.,”

[93] Bayat, “What is post-Islamism?,” ISIM Review, 16, (2005): 5. Emphasis is mine.

[94] Dagi, “Rethinking Human Rights, Democracy and the West

[95] I. Dagi, “Transformation of Islamic Political Identity in Turkey: Rethinking the West and Westernization,” Turkish Studies 6, no. 1(2005(

[96] Bayat, Making Islam Democratic