مجلة حكمة

لوكليزيو: ضرورة سماع صوت الآخرين

ترجمةسعيد بوخليط

[“أتساءل إذا كان هذا يشبه اجتياحا جرثوميا”. هكذا، تحدث لنا الروائي “لوكليزيو” J.M.G Le Clézio، عشر سنوات قبل الآن. حرارته، اليوم مرتفعة بعد تتوجيه بجائزة نوبل]

 

سعيد بوخليط

1) هل يمكن القول، بأن عملكم التفت كليا نحو البحث عن الانسجام ؟

يصعلوكليزيوب جدا التّكلم عن ما نكتب. لأننا، أولا نكتب لسبب لا نعرفه. ربما، قد نتوقف حينما نعرفه… . أن تكتب هو حاجة، توجد داخلك. تتوخى الخروج والانبثاق وفق هذه الصيغة. أن تكتب، ليس بالأمر الهين، بل فن يحتاج لكثير من الدُربة؛ أريد  القول، يقتضي الأمر بامتياز أكثر من مجرد معرفة بمعجم اللغة الفرنسية وكذا مكونها التركيبي. من الضروري، أن تقرأ مجموعة مؤلفين، تهضمهم، ثم تقوم عندك الرغبة كي تصنع شيئا أفضل منهم.

2) لكي تتأتى لنا القدرة على الكتابة، يجب أن نتمثل ما قرأناه ؟

نعم، نعم. إذا اعتبرتُ بأنني بدأت القراءة منذ سن السابعة من عمري، فمن الضروري أن أقر بكوني قرأت كثيرا. قراءتي الأولى، لم تكن كتب أطفال بحيث اهتممت بكتب “جدية”. مجموعة قواميس مثلا … . تمكنت، من استظهار معجم للغة الإنجليزية، لأنني سعيت للكتابة بهذه اللغة! بما، أن ولادتي لم تسعفني كي أمتلك الإنجليزية فطريا، فقد سعيت نحو طريق مختصر، كي تصبح جزئا مني وأصير مثل حاسوب يهيئ الكلمات حسب الرغبات.

3) بالتأكيد، فشلت الخطة … ؟

(يضحك). لا، فلكي تكتب بلغة ما، لا تحتاج فقط إلى قاموس ومنظومة قواعد. بل يلزمنا، شيء آخر. طبعا، في هاته اللحظة أدركت حاجتنا إلى هذا الشيء الآخر، أقصد الاستيعاب، التحول من مادة إلى أخرى، وتحويل ما تلقيناه ونحن نقرأ. كل هذه الكيمياء، التي تحدث بُغية أن نكتب ما لدينا لكتابته في ذاته، بمعنى تأكيد وجوده. وما يتوفر لنا نحن بالكلمات، يمارسه آخرون بالرياضة، أو فقط بين ثنايا الحياة. ربما، بالدين أيضا. فأن تكتب هو “دين” بشكل من الأشكال بمفهوم باسكال Pascal.

4) هل تعتقدون بأنكم كتبتم كثيرا ؟ 

(بعد تردد)…، يحصل عندي الانطباع أحيانا بأنني كتبت بغزارة. أتذكر، حديثي ذات يوم مع ميشيل بوتور Michel Butor حينما التقينا عند محطة للأوتوبيس، فقد كنّا نسكن معا مدينة نيس Nice. هكذا، خاطبني : “نكتب بإفراط”، فكرت، بُرهة : “هل الأمر صحيح ؟” أقلقني، ذلك. فقلت : “يجب أن أحرق كل ما كتبت. إنها أشياء غير مجدية. إتلاف بالحرق، ولاشيء غير هذا !”. بعد التأمل، انتهيت فورا إلى دليل يتعذر دحضه : بما أن كل ما صنعته، لا يفيد في شيء، فمن الضروري أن أواصل : ربما، أعثر يوما على هذا المجدي… . ألخص، لأقول بأن الكاتب هو حتما شخص ناقص، ويكتب بالضبط توخيا للاكتمال ؛ يبحث بلا كلل عن الكمال. وضع، نادر أحيانا، لكن يحدث أن كُتّاب يلامسون الاكتمال من الوهلة الأولى، بالتالي يتوقفون عن الكتابـة : أرثر رامبو Arthur Rimbaud والمكسيكي خوان رولفو Juan Rulfo.

5) لا نحقق ذلك أبدا ؟

أحس حاليا، باقترابي مما أتوخى أن أكونه. لكن، ربما مجرد توهم للنضج… . فحينما، نصل إلى مرحلة النضج نحس حتما بنوع من الخمود الفيزيولوجي، والذهني والذاكري. كبح عام، يجبرنا على الاقتناع بما صرنا إليه. الفرق مع زمان المراهقة، يكمن في أن الصيرورة تثير لدينا الانطباع بمضاعفة القدرات إلى حد اللانهائي، وبأننا نتوفر على إمكانية أن نكتب أكثر وأفضل من أي شخص آخر. هكذا، نخلد ونصمد أمام كل شيء. قد، نعيش دو أن ننام أو نستريح.

6) كان لديكم مشروع وأنتم في الأربعين، ينهض على إعادة كتابة كل الأعمال التي أصدرتموها حتى ذاك العهد … ؟

لم أنجز من الفكرة إلا قسما، ثم تخليت عنها سريعا. هذا، يقوم بدون شك على نوع من الشكلية. فمثل، الحيوانات التي تطور تماثلا رائعا على مستوى وظائفها، أعينها، وكذا خاصياتها. فإن،  الكائن الإنساني مُلزم بتنمية تنافسه الذهني، وإن افتقد للإمكانية ذاتها بخصوص الجانب الفيزيقي. ربما، هي مسألة إيقاع. قد يعيش الكائن وفق إيقاعات، كما يدعي البعض، سن السابعة من عمره أو الثالثة عشرة. حينما تقضي وقتا معينا، ينبغي الانطلاق ثانية كي يأخذ الإيقاع مسارا جديدا. الذهاب مرة أخرى، لا يعني بالضرورة الكتابة ثانية بشكل معكوس لكل ما سبق لنا إنجازه. بل، إعادة الكرّة ونحن نعثر من جديد على الدوافع التي كانت وراء البداية.

7) بين سنوات 1970 و 1974، توجهتم إلى هنود بنما (Emberas) والوناناس (les  waunanas) ؟ هل كنتم تتطلعون عند هؤلاء، نحو الوقوف على شكل آخر من المعرفة ليست فكرية ؟

نعم. كنت قطعا في حاجة إلى صدمة فيزيائية. سعيت إلى وقف، أن أكون مجرد معطى دماغيا محضا. لقد، أدركت حتمية النزوع نحو ذلك. قد تغني، هاتـه اللا-دماغية مضامين كُتبي المستقبلية.  سيجد، مبدعون آخرون في تجربتي مسلكا عبثيا بل وزائفا. الكتابات، التي توجه إليها اهتمامي، وأنا في مرحلة المراهقة، كانت تناقش بعمق هذا التاريخ : كيف ننتقل من الدماغي إلى الفيزيائي. أحيل هنا، بالخصوص على عمل مثل : [Two years before the mast] ، لصاحبه “ريشار هنري دانا” (Richard Henry Dana)  ثم مُؤلفات كيبلينج (Kipling)، و”ويليام غولدينغ” (William volding)…، وكل تلك النصوص الطليعية.

يعتبر “ستيفنسون” (Stevenson) الروائي النموذجي، لنمط كهذا من التاريخ : كيف يصير الدماغي فيزيائيا ؟ ثم كيف للذهني، أن يتحول إلى أخلاقي ؟ كيف، نكتسب هاته التجربة الباطنية ؟ المجتمع الأوروبي، كما تربيت داخله، سواء بمناطق موريس Maurice أو بروتان Breton مع انزياح خفيف في طبيعة التربية عند الموريسيين، بينما يزداد تباعدا بالنسبة لسكان بروتان Breton. أقول، بأنهم لا يتجهون إلى غاية تكوين الشباب بناء على هذا الخط. على النقيض، يطلبون منه، أن ينسى مطلقا وجود العالم. لكن، في يوم ما، يسقط عليهم العالم من فوق، فيندهشون جدا.

8) أنتم الآن بصدد التحول إلى ما أردتموه لذاتكم ؟ مثل نمر بورخيس الذي وضع كل حياته رهن إشارة أن يصير نمرا. أو، مثل رسام لوحات طبيعية، أدرك عند لحظة موته بأنّه لم يرسم في آخر المطاف إلا صورة له ؟

نعم، تصور جميل جدا. لقد كنت محظوظا، كي أقابل بورخيس مرة واحدة. تحدثنا، بشكل مطول عن العلاقة الموجودة بين الأدب والحياة. كان مضطربا جدا، وهو بصدد البحث عن اسم كاتب لم يعثر عليه. وبعد مجموعة من التدقيقات، استطعت أن أستحضر له اسم : ريدر هاغار (Ridder Haggard). أخبرني، بأنه حينما كان طفلا حدثت لديه ثورة وهو يقرأ نصا، انتهيت أنا بدوري من قراءته منذ فترة في عدد قديم جدا من : Journal des voyages. يحكي، عن تاريخ “شاكا” (Chaca) ملك الزولو (Zoulou). ويقف بالخصوص، على هذا المقطع المدهش، حينما يترك طفل أسود ترعرع في حضن قس بروتستاني، عالمه الأوروبي كفضاء لطفولته، ثم يفر كي يختفي في الغابة. عهود بعد ذلك، وبينما كان القسّ يخلد احتفالا، تنفتح الغابة وتفسح المجال لمرور متوحش، تغطي وجهه ألوان الحرب، يلبس ريشا ويتحدى الجميع برمح. خيم الرعب على الحشد، حيث اعتقد الجميع بأن شيئا مهولا سيقع. اقترب الرجل من القس، ألقى بصدرية على الأرض وقال : “حينما رحلت، بقيت أرتديها، إنها الأثر الوحيد عن الحضارة، أعيدها لك”. ثم، أسرع ثانية إلى أعماق الغابة. كشف لي بورخيس، عن الاهتزاز الذي شعر به وهو يتمثل هذه الحكاية التي تبين بأن الإنسان ينطوي على مصيره. جميل، أن نغيره، إلا أنه سيتجلى دائما، مثلما يتحتم أن يكون : لقد اختار أن الصيرورة نحو ما يجب أن يكونه في نهاية المطاف. ذاك، الذي يسكن بعمق داخله.

8) هل يملك الإنسان مصيره ؟

بالاستناد إلى بورخيس، نعم. وأظن،  من جانبي بأننا ملتصقون بشكل واسع جدا، بما نعيشه أثناء السنوات الأولى من الحياة، أقصد القراءات التي راكمناها، والحكايات المروية لنا أو التي التقطناها. هذا ما يصنع مصيرنا الحقيقي. لقد عانينا، باستمرار كي نتخلص من ذلك فيما بعد. إذن، ما تبقى من العمل يقوم ربما على إعادة تشييد لتلك الحقبة، شيئا ما مثل النمر الذي عليه أن يصبح نمرا. نستحسن، رؤيته يتربى مثل حيوان مجتمعي، لكنه سينتهي إلى حقيقته.

9) هل شكلت أصولكم العائلية مادة للكتابة ؟ تساعدكم أم تبحثون على نسيانها ؟

إنها ليست بالضبط الأصول التي تشغلني، بل الكيفية التي تربيت بها. أمي، إنجليزية التجأت إلى مدينة نيس Nice، نظرا لاستحالة بقائها في المنطقة المحتلة، لذلك اختفت داخل منطقة نيس Nice. دون الحديث، عن الفظاعات فقد عشت قليلا بالموازاة تاريخ اليهود أثناء الحرب :

أن تكون إنجليزيا خلال تلك الفترة، ليس بالأمر السهل جدا. أما، والدي فقد كان طبيبا في إفريقيا، لم أعرفه إلا بعد مرور وقت طويل. بالتالي، حينما حاولت القيام بعملية تواصل بين أمي المُتجذرة في منطقة “بيكارد” (Picarde)، وأبي الذي عاد للاستقرار في أوروبا حاملا معه كل تقليد جزر موريس، بدا بالفعل التصادم حقيقي. لم يكن، بوسعي التعود على كوني من هذا الأصل أو ذاك، ولكن أن استوعب جيدا داخل هذا السياق الجنوب فرنسي، بأنني سأخضع من الآن لتربية على منوال فتى من موريس Maurice. قالوا لي، نويل Noël عبارة عن احتفال وثني، لا تجب إقامته. كان من اللازم، أن آكل يوميا الأرز ووريقات القَرْع Courges ونبات الفُطْر Brèdes ثم خضرة تسمى : chaillottes، وعند الاقتضاء شيء من السِلْق Bettes، ثم نغلي كل تلك المواد. فقط، يوم الأحد يمثل استثناء : يجوز لنا وضع مرق البهار الهندي على الأرز ونبات الفُطْر! هكذا، إذن وأنت تقضي كل طفولتك على الإيقاع ذاته، اليوم بعد الآخر، بينما الآخرون يأكلون بفتيك مع بطاطس مقلية، وليس لديك أية قطعة ثلج لأن آباءك لا يتوفرون أبدا على جهاز للتبريد، فالسؤال الذي يؤرقك ينصب على الغرابة وليس الأصول : تحس بأنك قد تحولت داخل فضاء هو بالأحرى ملكك، ثم تعيش مثل جسم غريب.

10) تولد الكتابة وتنشأ من هذا ؟

بالتأكيد، إنها تعويض عن الحرمان. لكنها، ذوق أيضا. فقد، أحببت عند الوهلة الأولى مجموعة كتب، ما إن اقتربت منها. أدين، بأسمي مشاعر طفولتي إلى جدتي التي وضعت تحت تصرفي كتابا عجيبا : le Dictionnaire de la conversation (معجم المحادثة)، تضمن خمسة عشرة جزءا (1858)، بدون أية صورة، نص مطبوع في شكل ثلاثة أعمدة جد متراصة، على الطريقة التي كانت سائدة في تلك الحقبة…، عمل شاق كُتب في قسمه الأعظم بفرنسية تليدة، لكنه بدا لي في الواقع كمادة للحلم ذاته. لقد تطرق لكل المحاور : إنه العالم في كتاب. ولفترة طويلة جدا، استعنت بمحتوياته، في حياتي حتى أميز بين الأشخاص الذين قد يتشابهون معي عن آخرين لا يجمع أي شبه بيني وبينهم. أولئك، الذين أطلعوا على هذا القاموس حفروا مثلي القمم ذاتها، واجتازوا العقبات نفسها.

11) لدينا الانطباع بأنكم متأثرون جدا بالعابر والمُنفلت ؟

سعى المجتمع المعاصر إلى القضاء على الموت والمرض والألم، لكنها لازالت قائمة. يصاب مجتمعنا بالذهول، وهو يجد هذه الحقائق أمامه. يعتقد في قيرورة نفسه، بأن العالم قطعة ثابتة، بحيث لا شيء يتغير داخلها، إلا أنه في العمق يبقى الاحتمال أساس كل شيء. الصيرورة، كيفية تجعلك في تناغم مع هذا اللا-أمان المتواصل.

12) حينما ذهبتم، هل كانت لديكم الرغبة بالانسحاب من حقبتكم، أو سعيتم اتجاه مكان تتبلور فيه إنسانيتكم أكثر ؟

لا أعتقد بأنني هربت من شيء ما. لو كان الأمر كذلك، لأفصحت عن رغبتي في الكشف عن ما سعيت لكي أتخلص منه. أثناء فترة استقراري الطويلة، فكرت دائما في الرحيل. حاليا،  تسكنني فقط رغبة ملحة من أجل سماع أصوات أخرى، عملنا على منعها دون أن تصل إلينا. أصوات أفراد، رفضنا الإصغاء إليهم، مادمنا قد احتقرناهم لفترة طويلة، أو لأن عددهم تافه، في حين يتوفرون على أشياء كثيرة يريدون إخبارنا بها.

13) وقفتم مطولا عند الجنون في كتابكم الأول : Le procès verbal. مفهوم، سيتوارد باستمرار لديكم… ؟

Jerome David Salinger لوكليزيو
Jerome David Salinger

لقد أنجزت هذا الكتاب، تحت تأثير “جيروم دافيد سالينجر”
(Jerome David Salinger). أردت أن أتقمص هذا الأخير. لقد تمثلت ما كتبه وبالأخص قصصه. قرأت عمله “l’attrape-cœurs”، باللغة الإنجليزية، وقد استهواني حقا. بدأت، مشروع رواية لم أنهيها تعثر على مقطع منها في عملي :
(le procès verbal). وقد، عنونته ب :

 [Albonico Daisy trouve ce verbal qu’il fait bien chaud]. أحيل، همسا
على “سالينجر” (Salinger). وكذا، هاتان الشخصيتان : “ألبونيكو” (Albonico) و”ديزي” (Daisy). أظن، بأن عقيدة البوذية شكلت مرشدا “لسالينجر” (Salinger) وعلى ضوئها طور شخصياته وبنى إنتاجه. إن عالم الطفولة، الذي يُستحضر لي بشيء آخر، غير استعارة عن الافتتان الذي نحس به اتجاه البوذية. كانت، لديّ رغبة لكتابة شيء ما من هذا القبيل، لكنني عجزت عن القيام بالأمر، لأن هناك من صنع ذلك قبلي، أيضا البوذية لا تعني لي أي شيء. لم أطلع عليها قط، بدت لي جد متصنعة، كما أنه في تلك الفترة اهتممت أساسا بالتنجيم، بحيث مثّل بوذيتي الخاصة… . عبره، تمكنت فيما أظن قول أشياء قريبة جدا مما قاله “سالينجر” (Salinger). تنتهي روايتي “le procès-verbal” بوصف للخلية المرتبطة بموضوعة التنجيم، فكرة منزل السماء الذي يحتوي على عناصر مصيرك. أعتقد، أيضا بضرورة أن نستثمر الأدب في سبيل البحث عن إفراط نفسي، لا صله له بتاتا مع التنجيم، لكنه طبي بامتياز أو على الأقل إكلينيكي. لقد قرأت في تلك الفترة عددا ممن المؤلفات التي تطرقت لهذا الموضوع. تسجلت أيضا في الجامعة، كي أحضر دروس علم النّفس،  وأتمكن من الدخول إلى ملجإ صحبة مجموعة من الطلبة دون أن أكون ذاتا ولا موضوعا للدراسة، أو مُحللا. كنت فقط ملاحظا. وضع، استلهمت منه مجموعة فصول رواية: le Procès-verbal.Couv_117231-1

14) تأثرتم كثيرا ب : ميشو Michaux ولوتريامون Lautréamont. قلتم، عن ميشو Michaux في كتابكم الصغير والمدهش : (vers les icebergs): “ليس هناك من شاعر في العالم، بإمكانه قول أشياء كثيرة بكلمات قليلة جدا”. لوتريامون Lautréamont يختلف عن ميشو Michaux … ؟

نعم، “لوتريامون” يتعارض مع “ميشو”، مع كل هذا المظهر الخداعي الذي يصعب جدا إدراكه. لا نعرف أبدا، أين يبدأ الجنون وأين يبدأ الخداع. يتعلق الأمر هنا بأدب يافع. لقد وصلت إلى “لوتريامون” من بعيد عن طريق أصدقاء نصحوني بقراءته. بالنسبة، ل “ميشو” لم أعد أتذكر الظرف جيدا، لكن، ذلك تأتى عفويا. ربما، صدفة داخل مكتبة. بحيث في فترة معينة كنت أقرأ بنَهم في المكتبات. لقد أقمت مزارات طويلة بجوار أقفال الأبواب، أحدد الصفحة التي وقفت عندها، ثم أعود في اليوم الموالي. إلى يومنا هذا، أتأثر حينما  أشاهد أشخاصا يواصلون القيام بالعمل ذاته. وغالبا، حينما أكتشف وريقات صغيرة بين صفحات كتب معروضة للبيع، أعرض عنها  وآخذ محلها أخرى.

15 ) الراوي في روايتكم : Le Déluge. خلق عالما انطلاقا من ذاته. هل، ذلك ما نصنعه حينما نكتب : نخلق عالما من داخل غرفة ؟

نعم، بأن تعتبر ما سبقك وما سيأتي بعدك، مماثلا للعدمين اللذين يلفان الغرفة التي تحكي داخلها “مارغريت يورسنار” (Marguerite Yourcenar)، بأن قائدا سكسونيا شاهد تحليق طائر. فقال له، “بيد” (Bède)، رئيس محفل ماسوني عاين المشهد : ((الحياة تشبه هذا الطائر الذي اقتحم الغرفة ثم عَبَرها محلقا كي يخرج عبر النافذة الأخرى بعد أن اختطف الضوء بصره. سيذهب من عاصفة إلى ثانية، سيتجول للحظة في الغرفة، ثم يختفي)). لقد، كانت الصور من القوة، بحيث أن القائد السكسوني سيتحول إلى المسيحية بعد سماعه لهاته الكلمات. إننا هنا، أمام حضور لاستعارة أدبية. نذهب، من عدم لا أدبي إلى عدم آخر، لا أدبي أيضا، وخلال لحظة، نحلق وسط فوضى جلية وقليلا مُبهرة.

16) تشغل مضامين روايتيكم : “Terra amata” و
“l’extase matérielle” موضعا استثنائيا في عملكم ؟

جاءت معطيات l’extase matérielle”” مباشرة بعد حوارات أجريتها مع مجموعة من الأصدقاء، عند خروجنا من النادي السينمائي. نجتمع، ثم نزعزع العالم. ولأني، كنت أعاني الأرق فلا أستطيع النوم إلا بعد تدوين الأفكار التي أثرناها وكذا ضدها. الحصيلة، “متوسطة للغاية”. أعتقد، بأننا قد لامسنا من خلال ذلك، اكتمال ما في حدود المعدل. أفكار، لا نتلقاها لكنها “متوسط” ما يمكن لكائن إنساني عادي إدراكه بالاستناد على كل عكاكيز الثقافة. هو أيضا، كتاب يافع. أما بخصوص، نصوص
“le Déluge” وكذا”Terra amata” ، فقد توجهت قليلا نحو تأسيس كتاب يوجد فيه عدم قبلي وعدم بعدي. وأظن، من جهة أخرى، بأنني كتبت دائما على هذه الطريقة وفق البناء التالي : مُعيّن الشكل.

17) يقول الشاب “هوغان” (Hogan) في كتاب: “les fuites”. “أريد رسم طريقي كي أهدمه”. هي الحالة بالنسبة إليكم ؟

سنة 1969، تلقيت رسالة من قارئ، تتضمن لهجة تهكمية بل وناقمة أحيانا، يقول فيها : “سيدي، لا أفهم أبدا لماذا تعمدون إلى تقطيع الغصن الذي تجلسون عليه”. أذكر جيدا، حينما قلت مع نفسي : “هي صورة جيدة”. وعلى وجه الأرجح فذلك ما واصلت القيام به طوال الوقت. (يبتسم).

18) بقدر ما نتقدم، يتحتم علينا مسح آثار ذلك ؟ نمحوها بالرغم منّا ؟

ذاك، ما توخيت عدم الكشف عنه. أعمل على إخراسه، إذن.

19) إنها القضية التي دافع عنها كتابكم : “Haï”، الصادر عن “Skira” والذي يروي لقاؤكم مع هنود كولومبيا… ؟

اتجهت الفكرة نحو الجمع بين رسام وكاتب، أو عمل تصويري وكاتب. بالاستناد إلى حقبة، تميز فيها الرسم باعتباره “أسلوبا ـ لاذعا”. أما اليوم، فإن الرسم ومثلما يُنظر إليه في العالم الغربي، باتخاذه لمظهر تجاري، فلم يعد يهمني قط. توخيت، الكتابة عن أشخاص لا ينفصل عندهم الفن عن الحياة. ترددت، كثيرا للقيام بذلك، ولو انتفى أي تأثير له على العالم ـ بالتأكيد تمنوا قطعا عدم صدور هذا الكتاب ـ اعتبرت بأن الأمر ينطوي على كثير من الوقاحة، حينما تفكر في الكتابة عن أشخاص يعيشون مع صمتهم، لقد تجنبت عدم إزعاجهم. hai-

20) قلتم مع أنفسكم : هل لديّ كل الحق لكتابة عمل كهذا ؟

طرحت سؤال الصور. في البدء، رفضت الكشف عن كل صورة للوجه. لكن الناشر، وجد المشروع عقيما. ثم، اخترت حلا وسطا : ستظهر الوجوه، لكنها تُرى فقط من خلال النصف، ونوظف الصور بشكل يصعب معه التعرف على الأشخاص. مجرد، حيلة تشبه مقولة نازي : أنا لست مسؤولا، لا صلة لي بما حدث من قريب أو بعيد، قمت فقط بالتوقيع على ورقة. حضرت الوجوه، إذن بين صفحات الكتاب. لم تكن، قضية أشخاص يخشون فقدان روحهم إذا عملنا على تصويرهم، بل هم أشخاص يوجدون باستمرار في حالة دفاع ويحتاجون للاحتماء. فليس بوسع الهنود الأمريكيون مواصلة الوجود، إلا إذا أقاموا حواجز دائمة من حولهم. بالتالي، إعطاء الفرصة لشخص ما كي يتخطى الحاجز، أو يقدم على الخطوة من تلقاء نفسه، يعتبر شكل من أشكال العدوان. استحضار، تجربة المخدرات عند الهنود يعكس أسئلة حقيقية. لقد سبق لي الشروع في إنجاز كتاب بهذا الخصوص، لكنني تركته : كان سيشكل هجمة حقيقية على عالم الهنود. سيؤول بشكل سيئ جدا في ثقافتنا، التي جعلت من المخدرات فضولا وشيئا غريبا، مفاهيم لا علاقة لها تماما مع الأداة التي يقدمها العالم الهندي. رفضت، الاشتغال على مادة لا أمتلكها، بل فقط منحت إلي. إن الساحر الكولومبي الذي لقنني ورأى في كياني صديقا يمكنه التحدث إليه، لا أعتقد بأنه سيتحمس كفاية لفكرة أن أفشي أسراره.

21) ألا يقوم الكاتب دائما بإشاعة الأسرار ؟

نعم، بكل تأكيد. إنه مختلس. فحينما، استعملت جريدة جدي كي أكتب رواية : (Voyage à Rodrigues). لم تكن لي، بل هي لشخص آخر.

22) كيف يمكن أن نصنع الأمر بشكل مغاير ؟ فالكاتب هو أيضا ساحر، إنه يتلاعب ؟

لكن مع جريدة جدي، تكلمت عن أشخاص من الماضي. لقد كان ذلك بالنسبة إلي أقل إزعاجا من الحديث عن آخرين أحياء، يمثل لهم البقاء اليومي شيئا صعبا. وكما عبرت بنوع من التهكم وضع لا يجسد مثالا للنفاق.

23) المال، مهم بالنسبة إليكم ؟

أن يكون لكون لديك الوقت للكتابة، أهم من توفرك على المال. إذ أُجبرت على ممارسة مهنة، مثل أمين صندوق في بنك كي أكسب قوتي، فلا شك سأعود مساء إلى البيت وأنا مرهق جدا. بالتالي، سأعجز عن الكتابة.

24) هل هناك فقر نختاره، مقابل آخر لا نختاره أبدا ؟

أنتمي إلى عائلة واسعة الثروة، مالكين كبار للأراضي بجزيرة موريس. لكن، بعد عدة انشقاقات، أصاب الإفلاس جزء من أسرتي، وكان لابد من الهجرة، فظهر جيلان. أبي، وجد نفسه في “نيجيريا”، بينما رحل عمي إلى منطقة “ترينيتي إتوباغو” Trinité – et – Tobago)) وتوجه عمي الثاني إلى “لاريونيون” (La réunion). جدي من جهة أمي ، اهتدى إلى باريس قصد ممارسة الطب. تشتّت حقيقي… ، كل بنات هذا الفرع دمرن، وأصابهن سوء الحظ ـ جلهن متزوجات أم لا، فقدن زوجا في الحرب ـ ووجدن أنفسهن داخل وضعية يصعب وصفها لكم…. لقد فتك بهن الجوع، ولم يصمدن إلا اعتمادا على مساعدة أقرب المقربين [مرحلة وصفها لوكليزيو في روايته : Ritournelle de la faim (2008)]. حينما، تحمل كل هذا وراءك … لا أعرف لماذا، أشعر بأنه يجعل منك إنسانا آخر. حين نعيش تحت وطأة ذلك الفقر. أو عرفناه لأننا عايناه. فقد التقيت نساء من هاته الأسرة وجدن أنفسهن مع نهاية حياتهن وحيدات، ليس لديهن أي شيء ولا يعرفن كيفية تدبر مصيرهن، خاصة وأن تربيتهن هيأتهن نحو حياة الترف. انتهى بهن الأمر لأكل القُشارة، بحيث استحال عليهن اقتناء الخضر. لم يكن بإمكانهن الكشف عن حقيقة وضعهن، لأن كرامتهن أحالت دون القيام بذلك. بالطبع، يصعب أن نتخيل أفظع من عوز شخص مُسن، وقد وجد نفسه وحيدا بين أركان كوخ قذر وسط مدينة، يعيش تقريبا من لا شيء. مدينة “نيس” (Nice)، وهي بيضاء جدا تخلق لدينا الانطباع بالتفاهة، تخفي العوز داخل فضاءاتها. هكذا، نصادف باستمرار وفاة أشخاص تتراوح أعمارهم بين 70 و 80 سنة، نتيجة الجوع، وفي أكواخ موبوءة، ولأنه لا يسمحون لأنفسهم بطلب المساعدة. ذاك، هو الأسوأ. إنه، هاجس. في الوقت ذاته، كل ما قد تتعرضون له، يظهر بلا أهمية قياسا لهذا العوز. نشير، أيضا إلى نوع آخر من العذاب، لا يهم فقط المعتوهين، بل هؤلاء المتموضعون عند الجانب السيئ من عائق اللغة. شخصيا، أجد نفسي في موقع ممتاز أمام هاته العقبة، أدرك كيفية تدبير اللغة. فأنا، متمكن من ذلك. في المقابل، هناك أشخاص يقفون في الجانب الآخر السلبي. لقد شغلتني هذه الأسئلة، في إطار كونها مرعبة، بحيث مثلت لي على وجه التقريب كابوسا، وأحسست بأنه يصعب جدا ضبطها. ليس خشية، أن أصاب بذلك، لكنني أظن بعدم الحيلولة دون حصوله. فلا يمكننا، منع حدوث مثل تلك الأشياء.

25) لقد فتّت ميشو Michaux الأجناس الأدبية : القصة، الشعر، الرواية. هل لمفاهيم كهاته معنى بالنسبة إليكم ككاتب ؟ 

ليس هناك من أهمية قصوى، كي أعمل على تحديد ماهية الرواية أو القصة. يتعلق الأمر، بمسألة الإيقاع. حينما تبدأون بعض المؤلفات يحضر لديكم إيقاع، يوجهكم نحو ما ستكونه رواية، أي عمل أكثر موسيقية ربما مما عليه الوضع مع القصة بالنسبة لآخرين. إذن، كما ترون فالأمر ينتمي أكثر إلى وقائع مختلفة. قد تتفاعل، تقريبا مع زاوية في جريدة، لكن ليس بإمكانك أن تبرر حقا الدواعي التي وجهتك. ربما مادة ما، تأهبك للحظة … لا أدري.

26) هل الأمر بهذه الكيفية ؟ 

نعم، بالضبط : على المنوال نفسه… . توفرت، فيما مضى على ملف يتضمن محتويات مختلفة، لا تمثل أي شيء لكنني أحيانا أقرؤها بنفس اللذة التي أطالع بها قصص تورجنيف Tourgueniv. يقوم شيء ما، وراء الابتذال الجلي. يبدو، بأن الجنس الأدبي أصعب في تحديده من الإيقاع، والذي يسبق وجوده الكتابة، كما يتأسس معها في الآن ذاته. غير قابل مطلقا للضبط، مع انعدام كل مسؤولية من طرفي في ذلك. إحدى نصوصي مثل : Poisson d’or، هي في الواقع حكاية تقارب خمسة عشر صفحة على الأكثر، مثلت لديّ رواية على مضض. لم أستطع قط المقاومة. كان الأمر يتطور لوحده، إلى حد أن الفصول التي لم أتوقعها جاءت لتؤكد حضورها. لا أتكلم، بالضبط عن شخصيات تنفلت بل أقف عند السرد ذاته، النص الذي يتضخم بغتة. أتساءل، إذا كان ذلك يشبه نوعا من الانتشار الميكروبي، أو من نفس الصنف. يتميز الخيال، بجانبه المعدي شيئا ما، وجانب آخر اجتياحي أيضا شيئا ما.

27) إنها عوائق الحياة اليومية التي تستبعد كل اكتساح للمُتوهَّم ؟

عوائق الحياة اليومية أو الدماغ العقلاني. نقول، بأن المجانين يسيطر عليهم الوهمي، يعيشون أقصى درجات ذلك وقد اكتسحهم خيالهم. غير قادرين على التمييز بين ما هو “صحيح” واقعي، وكذا المتخيل. حينما أكتب، أحس بأنني أعيش اقتحاما للمتخيل. أثناء الفترات الجيدة واليوم السعيد، حيث يغمرني الارتياح. أو على النقيض، مكتئب في حاجة ماسة للكتابة، لحظتها أستسلم للغزو. حينما، تتجلى ثغرة من خلال تيمة موسيقية أو جملة، وتأتي أخرى ثم أخرى، وأحس فجأة بضغط ورائي، ينتابني إحساس بالثقل. إذا كبحت، فإنني أوشك على فقدان التوازن. عندما ينتهي هذا الغزو وأسترجع صحتي مرة ثانية، بحيث يمكنني أخيرا الانتهاء من هذه الحالة. حينئذ، أحس بأنني متعب جدا. هذا يعني، الكتابة قد حلت.