مجلة حكمة
كيف تقرأ كافكا

كيف تقرأ كافكا

الكاتبجون إليس
ترجمةبان خليل

تتميز قصص كافكا بغموضها وغرابتها ولهذا السبب يلجأ قراؤه الى من يكسبون رزقهم من قراءة الأعمال الأدبية والتعليق عليها أي من يُسمّون بالنقاد الأدبيين. لكن ما قدّمه هؤلاء النقاد كان في أغلب الأحيان مجرد أفكار عامة وغير واضحة قد تنطبق على مائة كاتب آخر. وهناك رأي خاص يقول إن كافكا كان يعرض امورًا هامة جدًا تتعلق بعصرنا الحديث. وقد اعتقد جون ابدايك-John Updike ان كافكا هو أعظم من تكلم عن أزمة الإنسان الحديث العالمية، ويبدو أن اعتقاده هذا عميق، سوى أنه –أي ابدايك- لم يوضح لنا أبدًا ماذا كانت هذه الأزمة او ما الذي يجعلها عالمية، كما أنه لم يخبرنا ما هو موقف كافكا منها تحديدًا. وبالمثل فقد اعتقد إرفينغ هاو-Irving Howe أن كافكا يمثل أساس الوعي الحديث ومضى يوضح أننا نلاحظ “مشاعر انعزالية كالشعور بالنبذ والذنب والضياع والحيرة والمعاناة الحديثة”. لكن جميع هذه المشاعر المذكورة كانت موجودة على امتداد تاريخ الإنسانية بأكمله وليست حكرًا على الأزمنة “الحديثة”. وفي الغالب فقد اعتقد مفكرو القرن العشرين أنهم احكموا سيطرتهم الكاملة على مشاعر القلق، لكن هذا بالطبع لم يكن صحيحًا.

هناك رأي آخر خاص مستمد من صديق كافكا ماكس برود-Max Brod وهو أن “تحت سطح لغته –أي لغة كافكا- الرائقة العذبة تتدفق رؤى وأحلام لا حد لعمقها”. لكن في هذه الحالة ايضًا قد يشعر القارئ بأنه خُدع. لِم لم يخبرنا برود ما الذي تدور حوله هذه الأحلام والرؤى؟ تبدو هذه التعبيرات البليغة والفخمة –مثل العديد غيرها- مجرد طريقة لتجنب النقاش حول ما يريد كافكا قوله لنا، إذ مع نصوص غامضة كتلك التي كتبها سيكون من الصعب فعل ذلك.

اذن، كيف نستطيع البدء بالحديث عّما يريد كافكا اخبارنا به؟ كيف يمكن قراءة كافكا؟ لنبدأ اولاً بالانطباع الخاص الذي يتوّلد لدينا عند قراءة اعماله: يظهر كافكا مفرطاً في العقلانية فبغض النظر عن غرابة الموضوع الذي يتكلم عنه نراه دوماً يشرح القضية بدقة مولياً التفاصيل عناية فائقة. والمثال الاوضح على ذلك نجده في الفصل الأول من روايته (القلعة-Das Schloss)، حين كان (ك) وهو الشخصية المحورية في الرواية يحاول شق طريقه نحو القلعة فسلك الشارع الرئيسي للقرية القائمة تحت تل القلعة، الا انّه “حتى عندما لا يبتعد الشارع عن القلعة فإنه لا يقترب منها ايضًا” 3 وهذا الوصف دقيق تماماً الا انه لا يفضي بـ ك (ومعه القارئ) الى أي نتيجة. وهذا ما يفعله كافكا باستمرار، فهو يُسلسل أفكاره المنطقية واحدة تلو الأخرى مع شرح تفصيلي للحالة لنكتشف في النهاية اننا عدنا الى نقطة البداية من جديد.

لِم يفعل هذا؟ للإجابة عن هذا التساؤل يتعيّن علينا اللجوء الى اعمال الكاتب، وأول عمل ينبغي علينا البحث فيه هي القصة التي ناقش فيها كافكا الفكرة ذاتها سابقة الذكر أي: حدود وفوائد إعمال العقل والتفكير المنطقي في شتى الأمور وبالطبع ايضاً كوارثه، وهي قصة (الجحر-Der Bau).

تتحدث قصة الجحر عن حيوان (لم يحدد نوع الحيوان بالضبط) يحفر لنفسه جحراً ليحميه. يبدو للوهلة الأولى ان مسألة حفر الجحر متعلقة فقط ببذل الجهد البدني. لكن بالنسبة لحيوان كافكا فهي عمل ذهني ينطوي على حسابات مرهقة. وما يحصل عليه العقل الحاد الفطن مقابل عمله الشاق في إبقاء الحيوان على قيد الحياة هو الرضى. وهو هنا الحصول على ما سيكون أفضل جحر على الاطلاق أي أفضل حماية ممكنة.

وهذا يذكرنا بقصة أخرى تتحدث عن ذات الموضوع أي الحصول على افضل حماية ممكنة وهي قصة الثلاث خنازير الصغار. فالأول بنى بيته من القش والثاني بناه من العصي لكن كلاهما لم يصمد امام نفخات الذئب. اما الخنزير الثالث فكان ذكيًا كفاية وفكر في انه ان بذل جهدًا اكبر وبنى المنزل بالطوب فإنه سيقاوم نفخات الذئب لا محالة ويبدو هذا الكلام منطقيًا وصحيحًا فالعبرة من هذه القصة ان الحذر والتفكير المنطقي يقودان الى الأمان. إلا انه وفي عالم كافكا فإن إعمال العقل مع اخذ الحيطة والحذر هما بالضبط ما يصعّب الحياة.   

 يفتتح حيوان كافكا حكايته بأن يخبرنا بأنه أكمل بناء جحره وقد عدّه نجاحًا عظيمًا. ويبدو كل شيءٍ بخير حتى يبدأ بإعادة التفكير مرارًا وتكرارًا بشأن تصميم جحره وبالتشكيك في صحة اختياراته وما كان ينبغي عليه فعله بدلًا من ذلك. اذ يتضح هنا ان العمل البدني قد أُنجز اما عمل الفكر فلم ينتهِ ابداً.  

وقد صمم مدخل الجحر بأن غطّاه بطبقة رقيقة من الطحالب والتي تسهل عملية هروبه من الجحر في حال الغزو. لكنها في الوقت عينه تسهل اقتحام العدو من الخارج ودخوله الجحر. ثم يفكر انه ربما كان من الأفضل ان يغطي المدخل بطبقة من التربة القاسية ليصعب على العدو عملية الدخول الى الجحر بيد انه يصعب ايضاً عملية هروبه منه في حال دخول مفترس ما اليه عبر الحفر في التربة. اذن السؤال هنا ايهما أفضل مدخل يصعّب دخول العدو وهروبه هو، ام العكس بالعكس؟ لا توجد إجابة لهذا السؤال. وفي موضع لاحق من القصة يرى انه من الأفضل وضع مدخلين للجحر لكن هذا من شأنه فقط ان يضاعف الخطر.   

صمم تحت المدخل مباشرةً متاهة لتمنع أي متطفل من الدخول وتربكه تمامًا، لكنه حين أعاد التفكير بشأنها اتضح له انها غير ذات نفع اذ ان أي ضربة قوية يوّجهها دخيل الى جدرانها ستحطمها لا محالة.

كما وضع مدخلين أحدهما المدخل الحقيقي الذي ذكرناه وعلى بعد مسافة منه مدخل مزيف انه لأجل التمويه وصرف الانتباه عن المدخل الأصلي كما اعتقد في البداية لكنه سرعان ما فكر في انه يمكن ان ينبّه العدو الى وجود شيء ما يستحق البحث عنه في الجوار. والان من يعلم ما إذا كان المدخل المزيف هذا سيقلل من فرص اقتحام الجحر عبر ما يوفره من تضليل ام يزيدها كونه دليلاً على وجود شيء ما في المنطقة المحيطة؟

لقد بنى جحره على مساحة كبيرة بممرات وغرف تخزين متعددة فهو بمثابة قلعة باهرة. لكنه من جديد يغير موقفه بشأن مساحة الجحر اذ ربما هذه المساحة الكبيرة ستزيد من احتمالات ان يعثر عليه حيوان حفار بالصدفة مما يعني انها بالتحديد ما يجعل البناء معرضاً للهجوم في أي لحظة. بعد ذلك خرج وحفر جحراً تجريبيا لا يتعدى حجمه (أي الحيوان) وبالتالي من الصعوبة ايجاده مصادفةً لكن في حالة حدوث ذلك فحجمه الصغير سيجعل من المستحيل تقريبًا الهروب.

لقد أمعن في التفكير لدرجة ان موقع الجحر ذاته اصبح يشكل معضلة اذ انه بناه في موقع معزول نسبيًا ذي حركة مرور خفيفة لذا فعملية دخوله وخروجه من الجحر لن تُلاحظ؛ لكن يخطر بباله فجأة انّه لو بناه في موقع ذي حركة مرور كثيفة فإن ذلك سيوفر له حمايةً افضل.

وبالعودة الى قصة الخنازير فقد وجد الخنزير الثالث الصغير الإجابة لبحثه عن الأمان وهي: إذا اردت البقاء على قيد الحياة فعليك ان تكون ذكيًا وحذرًا وان تعمل بجد. إلا انه بالنسبة لحيوان كافكا فإن كل ميزة من هاته الميزات يمكن ان تتحول الى عقبة تحول دون الحصول على الأمان.

على الرغم من تكريس الحيوان لوقته في التفكير العقلاني واعلانه صراحةً ان الجحر لم يكن ليُبنى لولا قيامه بكل العمل الذهني الشاق الا انه يفسح المجال دون قصد لشيء ما بالتسرب الى تصميمه يبعده عن الحسابات العقلية، انه الفخر الذي يحسّ به إزاء جحره. أي ان شعوره بالفخر لتصميمه هكذا جحر جعله يعتقد بأنه ملزم بحمايته. ولأن الفخر امر غير عقلاني فقد دفع بصاحبه الى التصرف بلا منطقية اذ وصل به الأمر في النهاية ان انتابه القلق بشأن سلامة الجحر كما لو كان البناء نفسه يحتاج الى حماية، حيث خرج الى مكان ما قريب واخفى نفسه وشرع في مراقبة مدخل الجحر اذ ان مراقبة ذلك المكان المحبب الى قلبه تثير في نفسه شعورًا بالمتعة فيخيّل اليه انه يراقب نفسه وهو آمن مطمئن في ذلك الجحر الحصين. وهو بفعله هذا يقلب الآية فبدلاً من ان يحميه الجحر كما هو مفترض، نراه يراقب الجحر ويسهر على سلامته تاركًا نفسه في الخارج معرضًا لكافة الاخطار.

يرى الحيوان بعد فترة ان لا جدوى من بقائه في الخارج للمراقبة وان عليه الدخول الى الجحر. لكنه يعود ثانيةً فيصدع رأسه بسؤال آخر لا إجابة له، الا وهو كيف سيعود؟ اذ انه لا يستطيع ان يعلم من قد يراه حين يرفع غطاء المدخل ليلج الجحر ومن ثم ينزله وراءه ففي هذه اللحظة يكون هو مولياً ظهره للخارج فلا يستطيع الجزم ان كان هنالك من يراقبه ام لا. وقد تقول ان بإمكانه رفع الغطاء ثانيةً للتأكد من ان لا أحد بالجوار ولكن المشكلة ذاتها تتكرر حين ينزل الغطاء ثانيةً.

يبدو الآن ان من الصعب على الحكمة هي الاخرى او بتعبير ادق الحذر ان يجتمع مع العقلانية. اذن كم نحتاج من الحذر ليبقى ضمن إطار العقلانية؟ في الواقع ينبغي للحذر ان يكون وسيلة لتحقيق غاية منشودة وهي في هذه الحالة: الحياة المريحة؛ لكن لو أصبح الحذر هو الشغل الشاغل طوال اليوم كما حدث مع هذا الحيوان فإنه سيفقد بذلك وظيفته ليصبح هو الغاية. والمشكلة التي تبرز هنا هو عدم وجود جواب منطقي للسؤال القائل: كم المدة التي يجب ان يستغرقها المرء في التحوّط من الاخطار؟ ففي النهاية ان كان القليل من التحوّط امرًا محببًا ألن يكون المزيد منه محببًا ايضًا؟ في القصة يستغرق الحيوان في التحوّط للحد الذي يجعله يقدم على أفعال تنطوي على خطر عظيم كالذي ذكرناه أعلاه بشأن تعريض نفسه للخطر من أجل مراقبة الجحر من الخارج. حتى انه ذاته يضع اصبعه على هذا التناقض حين يقول: “والحكمة نفسها تقتضي ايضًا، ويا أسفي! في كثير من الأحيان، ان تخاطر بحياتك”.1

بدأ الحيوان القصة بتفكير متفائل معتبرًا ان تصميم الجحر كان ناجحًا للغاية؛ لكن ما إن تبدأ مجموعة من أسئلة بلا إجابات بالاحتشاد في رأسه حتى يتغير موقفه فيرى الجحر فاشل وعديم الفائدة، متناسيًا الجهد العظيم الذي بذله بدنيًا وذهنيًا في سبيل ذلك؛ فيتهم نفسه بالكسل وبأنه لم يفكر مليًا في الموضوع من جميع جوانبه، وكان مهملًا وقضى سنوات شبابه في العاب صبيانية. إلا انه لم يستطع التخلي عن فكرة بناء الجحر المثالي لأنه كان مقتنعًا بأنه بالتفكير العقلاني المنطقي سيستطيع ان يصل الى مراده. ويتخيل أنه كان من الممكن بناء جحر وفق خطة كانت لديه أيام شبابه، وحين يفعل ذلك فهو ينسى المشاكل المنطقية التي طالما أرّقته ويحلم بمداخل فعالة للجحر، كما أنه مفتون باستمرار ببراعة خططه نظريًا. لذا كان في اعتقاده ان كل ما هو بحاجة الى فعله هو البدء من جديد. في الصفحات الأخيرة من القصة يتأرجح هذا الحيوان بين التفاؤل واليأس لكن ما حدث في النهاية هو ان “كل شيء بقي من دون تغيير”.1 اذ لم يستطع حل تلك المشاكل ولن يستطيع ذلك ابدًا. وفي بداية القصة نراه يقول لنفسه: “صحيح بأن بعض الحيل دقيقة جدًا لدرجة انها تُفشل نفسها بنفسها”.1 وهو بهذه العبارة البسيطة يلخص كل ما حدث له فيما بعد. أراد الحيوان ان يحل مشاكله عن طريق التفكير العقلاني في الأمور-والذي لحسن الحظ شرحه الكاتب بالتفصيل- الا انه كان سببًا في تعقيدها بدلًا من حلها. في نهاية القصة يبدأ الحيوان بسماع ضجيج خفيف لكنه مهما حاول البحث مصدر الضجيج فإن درجة علو الصوت ثابتة لا تتغير، ما يعني ان الصوت من داخل رأسه ليس الا، أي انه بدأ بالهذيان.

إن فلسفة عصر التنوير تدعونا للاعتماد على التفكير المنطقي الا ان قصة “الجحر” لكافكا تظهر لنا ان بإمكاننا استخدام التفكير المنطقي ذاته بصورة غير منطقية.

إن استخدام التفكير المنطقي لتدمير الحيوان يبدو بعيدًا كل البعد عن روح حركة التنوير والتي كان قد مرّ عليها قرن من الزمان قبل ان يولد كافكا في عام 1883م. فبالنسبة لمفكري عصر التنوير فإن استعمال قوى العقل والمنطق بشكل مناسب من شأنه ان يحل جميع المشاكل المتأتية عن حماقة البشر؛ لكن هذا لا ينطبق على طريقة سير الأمور في “الجحر” فهنا يوضع المنطق باستمرار في مواجهة مشاكل لا حل لها، وهذا بسبب عدم استطاعة ذلك الحيوان التوقف عن التفكير في التصميم الأمثل لجحره لدرجة ان قاده ذلك الى الجنون. في قصة كافكا نرى ان المنطق لا يقهر مواطن ضعفنا العقلية لأنه ناتج عن العقل اساسًا ومرتبط به. لذا فحين يُسرّ ذلك الحيوان بروعة جحره فإنه بشعوره ناحيته بهذا النوع من الحب والالتزام يستحضر دون قصد منه عاملًا لا عقلانيًا؛ وهو شعوره نحو الجحر بأنه أكثر من مجرد ملجأ، فهو يحبه لدرجة انه يخبرنا في مرحلة ما من القصة بأنه على استعداد ان يموت فيه وان تجري دماؤه في تربة هذا الجحر. فنلاحظ هنا ان المنطق انقلب رأسًا على عقب ثانيةً، فبدل ان يوجد الجحر من اجله، نرى الحيوان يبدي استعدادًا للتضحية بحياته من اجل الجحر.     

ان فلسفة عصر التنوير تدعونا للاعتماد على التفكير المنطقي الا ان قصة “الجحر” لكافكا تظهر لنا ان بإمكاننا استخدام التفكير المنطقي ذاته بصورة غير منطقية. وذلك لأن كافكا كان متشككًا في الحركة التنويرية. اذ رأى شيئًا لم يستطع فلاسفة التنوير رؤيته وهو ان طبيعة البشر لن تتغير حتى بعد ان يقتنعوا بجعل العقل والمنطق اساسًا لأفعالهم. فالجانب اللاعقلاني في طبيعتهم لن يُمحى بل سيجد طريقة أخرى للتعبير عن نفسه بأن يوظف المنطق لخدمة نفس المخططات والطموحات بل وحتى الحماقات التي كانت موجودة منذ البداية.

كان لدى فلاسفة التنوير ايمان عميق بالعقل واعتقدوا بأنه حتمًا سيقودنا لقيم أخلاقية أفضل. وبالطبع فإن كافكا كان متشككًا في هذا ايضًا وقد تكلم عن هذا الموضوع في أحد أكثر اعماله شهرة وهي رواية (التحول Die Verwandlung).

ففي الرواية نرى غريغور سامسا وقد تحول في ليلة ما الى مخلوق اشبه بحشرة ضخمة. والسؤال الأول الذي يعترض من يريد تحليل هذا العمل هو: ما هو الحيوان الذي تحول اليه غريغور سامسا ولماذا؟ ولكن من الأفضل ان نرجئ الإجابة على هذا السؤال الى حين اجابتنا عن سؤالين آخرين وهما: اولًا كيف كانت ظروف عائلته قبل تحوله؟ وثانيًا كيف كانت ظروف عائلته بعد تحوله الى حشرة وبقائهم من دونه؟

فيما يخص الإجابة عن السؤال الأول فالأمر معقد اذ كان غريغور -كما يظهر- نموذجًا للإبن المخلص والمسؤول. قبل خمس سنوات خسر الأب عمله مما دفع غريغور الى العمل بشكل محموم املًا في انتشال عائلته من وضعها البائس ليصبح بعد ذلك معيلهم الوحيد. وقد يبدو ان غريغور فعل الشيء الصحيح بلا شك أي انه تصرف بنبل.

إلا ان ما بناه خلال سني اعالته لأسرته كان فاسدًا، تمامًا كالبناء الضخم الذي بناه الحيوان في قصة الجحر اذ على الرغم من ان غريغور رحّب بسرور في ان يتبنى دور الحامي الوحيد لأسرته إلا انه كان يرى نفسه ضحية. فهو يكره وظيفته، انها مجهِدة، كما ان المؤسسة التي يعمل لديها تسيء معاملته وهو لا يملك رفاهية الاختيار لذا عليه ان يبقى في هذا الوضع المهين ان هو أراد مساعدة والديه واخته. ومما يزيد الطين بلة شعوره ببرود معاملة اهله له على الرغم من مساندته لهم.

حتى نفهم لِمَ الوضع على هذه الشاكلة يجب ان ننظر لحال افراد اسرته، فوالده لم يكن يعمل طوال الخمس سنوات الماضية وفي الواقع هو لم يعد قادرًا على العمل من الأساس اذ اصبح بدينًا وغير ملائم للعمل. فهو اما يجلس بثياب نومه او يستلقي على السرير متعبًا وان استطاع الوقوف والخروج من المنزل فهو يمشي متثاقلًا وببطء شديد. والدته في وضع سيء هي الأخرى فهي مستلقية على الأريكة طوال اليوم تتنفس بصعوبة بسبب الربو. اما غريتِه، اخته، فهي مُستهلكة كوالديها تمامًا بالنوم لفترات طويلة، ولا يبدو ان هنالك ما يثير اهتمامها عدا الفساتين الجميلة والعزف على الكمان فحتى والديها يرون أنها بلا فائدة.    

كانت حياة افراد الاسرة الثلاثة فارغة كما انهم عاطلون عن العمل. لكننا لو امعنّا النظر لوجدنا تفصيلًا صغيرًا يخص حياة هذه العائلة يبدو غير متسق مع صورة غريغور التي رسمناها قبل قليل وهو انه تكلم عن معاناته في العمل وكيف انه مجبور على البقاء فيه ليعين عائلته ولكننا مع ذلك نراه يوفر لهم شقة باهظة الثمن واكبر من احتياجهم في الحقيقة؛ ألم يكن من الأجدى ان يوفر لهم شقة متواضعة وبالتالي يستطيع جمع المال بصورة اسرع والتخلص من عمله في وقت قصير؟

والآن لنجيب على السؤال الثاني الذي طرحناه وهو: ما الذي حدث للعائلة بعد تحول غريغور الى حشرة وبالتالي فقدانه القدرة على اعالتهم ماديًا ومن ثم موته واختفائه من حياتهم؟ في الحقيقة يوجد في هذه القصة تحولان حدث أولهما لغريغور اما الثاني فمرّت به عائلته. وقد شهد غريغور تحولهم بنفسه بعد مضي عدة اشهر على مصيبته اذ رآهم مرة من حافة الباب، فها هو والده وقد بدأ بالاعتناء بهندامه فهو الآن يلبس بدلة العمل الزرقاء ذات الازرار الذهبية، ولم يعد شعره اشعثًا بل مسرّحًا بعناية، وقد بدأت الحياة تتألق في عينيه من جديد. وها هي والدته وقد وجدت لنفسها عملًا هي الأخرى اذ بدأت تخيط الملابس في دار للأزياء. اما غريتِه فأصبحت تعمل بائعة في متجر نهارًا وفي المساء تتعلم الكتابة الاختزالية واللغة الفرنسية لتستطيع الحصول على وظيفة افضل (ولنا عودة لطموح هذه الفتاة)؛ وبذلك اصبح هؤلاء الثلاثة منتجين ومفعمين بالحيوية والنشاط بعد أن كانت حياتهم فارغة.

ما ارادوه هو الخروج من هذه الشقة الواسعة التي أسكنهم غريغور فيها لكنهم لن يستطيعوا ذلك وغريغور لم يزل على قيد الحياة. وهذا ما جعلهم في النهاية يواجهون الحقيقة التي لا مهرب منها وهي ان غريغور يشكّل لهم مصدر ازعاج يودّون التخلص منه. ثم يموت غريغور بعد فترة قصيرة ولا نرى عليهم سيماء حزن؛ بل على العكس فهم يغادرون الشقة سوية “الأمر الذي لم يفعلوه منذ شهور” 2، ويذهبون في رحلة بالترام الى الحقول خارج المدينة. وهذا الفعل هو بمثابة احتفال، احتفال بالعادي فهم يحتفلون باستعادة حياتهم اليومية العادية التي سلبها منهم غريغور.

والآن نعود للسؤال الأول الذي طرحناه في بداية حديثنا عن هذه القصة وهو: ما نوع الحيوان الذي تحول اليه غريغور؟ وسنجد الإجابة اذا تتبعنا مجرى التغيرات التي طرأت على العائلة من ذلك الحين. فبعد ان كان غريغور مجرد فرد من العائلة اصبح شخصًا وضيعًا استغل حالة الضعف التي استبدت بأسرته ليسيطر عليهم ويُحكم قبضته على جميع مفاصل حياتهم. وقد استخدم كافكا كلمة “Ungeziefer” لوصف المخلوق الذي اصبح عليه غريغور وافضل ترجمة لهذه الكلمة هي “هامة أو آفة” وهي كلمة لا تدل على نوع محدد من الحيوانات؛ وانما تُطلق على أي حيوان يكون ضارًا ومزعجًا. فالتحول الجسدي الذي حدث لغريغور ما هو الا تجسيد مادي لما صار يمثله بالنسبة لأسرته؛ فقد جعلهم يعتمدون عليه بالكامل وقلّص أدوارهم للحد الذي جعلهم في حالة تعيسة لا يجدون شيئًا يفعلونه. إلا انهم استردّوا نشاطهم فأصبحوا بشرًا طبيعيين من جديد حالما لم تعد لغريغور سلطة عليهم ولم يعد باستطاعته التحكم في شؤونهم.

إذن هل نستطيع القول ان تلك كانت نهاية سعيدة؟ على الأرجح لا، فلو نلاحظ كيف كانت نهاية القصة لتبدّى لنا امر مثير للإهتمام، “وبمثابة التأكيد لأحلامهما (أي لوالدي غريغور) الجديدة وفرصهم المستقبلية الطيبة، وحين وصول مشوارهم الى هدفه، كانت الابنة أول من نهض، وتمطت بجسدها الشاب” 2. بالنظر لما حدث مع غريغور فإن تمطي غريتِه بجسدها الشاب يمثل نذير شؤم لمستقبل هذه العائلة؛ هل استشعرت هي بدورها تزايد قوتها وسلطتها كما فعل اخوها من قبل؟ فهي عند تلك النقطة كانت تدرس بالفعل لتنمي مهاراتها وتحصل على فرص عمل افضل في المستقبل لتكسب المزيد من المال؛ فهل كانت نيتها من كل ذلك ان تتمكن من السيطرة على والديها وبالتالي تجعلهما يعتمدان عليها بالكامل؟ في الواقع فقد سبق وأظهرت ذلك الميل الى السيطرة حينما اصرّت على ان يكون الاهتمام بغريغور وغرفته من شأنها وحدها. اذن يتبيّن لنا من ذلك ان المسألة لا تخص غريغور وحده في الحقيقة بل هي جزء من الطبيعة البشرية.

ان المعايير المقلوبة في قصة التحول تذكرنا بعض الشيء بما حدث في قصة “الجحر”، ففي تلك القصة أدى إصرار الحيوان على استخدام العقل الى جعله لا عقلاني بالمرة وانتهى الى تدمير نفسه بنفسه؛ ومن جهة أخرى يظهر غريغور في قصة “التحول” بمظهر الإبن الذي كرس نفسه لإعالة ودعم اسرته، إلا انه في حقيقة الأمر كان يمارس عليهم سيطرة استبدادية. وكلا القصتين تقفان على طرف نقيض مع مذهب التنوير، فالعالم المعتدل واللطيف الذي يتصور هذا المذهب انه سيتشكل اذا ما ساد العقل لن يتحقق على ارض الواقع، لأننا رأينا كيف ان غريغور استخدم القيم النبيلة للخير والإحسان والعطف لإشباع بواعث اكثر قدمًا وايغالًا في النفس البشرية وهي الرغبة في الهيمنة والاضطهاد والقمع. لذا فسلوكه العطوف والمحسن تجاه عائلته هو ما دمرّها في نهاية المطاف.

وهنا ايضًا يبدو ان كافكا فهم شيئًا لم يفهمه مفكرو عصر التنوير وهو ان حتى لو كانت ممارسة التفكير العقلاني تُحدث تغيرًا واضحًا في المبادئ الأخلاقية فإن هذا لا ينطبق على الطبيعة البشرية، فهي لن تتغير بين عشية وضحاها؛ وإنما ستجد طرقًا جديدة حتمًا للتعبير عن نفسها. ففي “التحول” كان العطف هو الوسيلة التي اتخذها الاستبداد للتعبير عن نفسه. ان هذه البنية التي نشهدها للمشاعر الإنسانية قد تشكلت قديمًا إذ تضرب جذورها في اعماق النفس البشرية لذا ليس من الممكن تغييرها بسهولة. وبذا فإن شخصيات ومخلوقات كافكا قد قلبت قيم الحركة التنويرية وناقضتها بالرغم من انها تحيا بها.

تخبرنا موسوعة ستانفورد للفلسفة ان مفكري التنوير كانوا يؤمنون بسلطة العقل البشري “والتي عادةً ما تكون مقرونة بالتشكيك وإقامة العداء ضد اشكال أخرى من السلطة (كالتقاليد والخرافات والتعصب والاساطير والمعجزات)”. وتبدو الخرافات والاساطير على وجه الخصوص غير ملائمة للإنسان الحديث الذي من الاجدر به ان يكف عن الايمان بالمخلوقات الأسطورية التي لم يرها او يسمعها احد. إلا ان بعض الناس ممن لم يغمرهم ضياء عصر التنوير يمكن ان يسمحوا لهاته المخلوقات المتخيلة ان تلعب دورًا في حيواتهم، بل وان ينسبوا اليها صفات لا تملكها حقيقةً؛ أما العقلانيون من البشر فلا يؤمنون إلا بما يرون وما يسمعون حقًا، لكن أهذا هو ما يحدث فعلًا؟ ذلك ما تحاول رواية (القلعة- Das Schloss) الإجابة عليه.

في هذه الرواية يصل مساح أراضي يدعى ك الى قرية صغيرة تقع تحت قلعة كائنة في مكان ما على التل. وحينما وصل لم يستطع رؤية هذه القلعة لأنها كانت محاطة بالضباب والظلمة. وكما يبدو فإن هذا المساح قد جرى تعيينه من قبل القلعة (أي المؤسسة وليس المبنى) للقيام ببعض الاعمال؛ لكن كل ذلك اليقين يتبدد حين يصل المساح الى حانة في تلك القرية فيبدأ بالشك في أمر تعيينه للعمل لصالح القلعة وبالتساؤل عن الشخص الذي امر بتعيينه. وباتصال هاتفي صغير يجد إجابة عن سؤاله بأنه لم يتم تعيينه من الأساس، ثم باتصال آخر يحصل على إجابة مغايرة. قد تقول هنا ربما ان هذا كان مجرد سوء فهم حدث في البداية وما لبث ان انتهى، لكن هذا غير صحيح، لأن مسألة كونه عُيّن اصلًا ام لا سوف تبرز لاحقًا باستمرار. قريبًا ستُختزل كل هذه الشكوك في سؤال واحد هو: من يتحدث باسم القلعة؟ اذ لا بد من ان شخصًا ما قد وظفه، لكن هل كان من القلعة؟ وهذا بدوره يثير سؤالًا أعمق وهو: ما هي القلعة اصلًا؟ وأين يمكننا ان نجد المتحدث الرسمي باسمها؟

في بداية الرواية يعتقد ك انه من الأفضل ان يذهب الى القلعة –أي البناية- حتى يتمكن من فهم ما يجري، وهذا يبدو تصرفًا معقولًا جدًا، فإنك اذا اردت ان تعرف من في القلعة فعل ذلك اذن يجب عليك مواجهته. ويجدر بنا الانتباه الى ان ك حتى الان يعتقد ان القلعة هي (قلعة) بالمعنى المفهوم للكلمة، وحين ينظر اليها من مسافة بعيدة يبدو اعتقاده هذا صائبًا تمامًا أي ان القلعة تبدو كــ قلعة من حيث الشكل؛ لكن مع اقترابه منها اكثر فأكثر يتكشّف البناء الضخم عن كومة من الاكواخ الصغيرة الملتصقة بعضها ببعض والتي تبدو بحالة سيئة، فلا وجود للقلعة في الواقع. إذن ما الذي يعنيه وجود مجموعة المساكن الصغيرة بدلًا من الصرح الضخم الذي تخيّله ك؟ وما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للقلعة كمؤسسة؟

ويتضح اثناء تقدمنا اكثر في قراءة الرواية ان ذلك كان عرضًا مجازيًا للفكرة التي ستؤرق ك على طول الرواية، وهي ان المؤسسات ليس لها وجود مادي كالأبنية، فهي ليست واضحة المعالم كما انه ليس بالإمكان رؤيتها أو لمسها، بل هي لا تعدو ان تكون اكثر من مجرد تنسيق بين الافراد انفسهم وهي موجودة طالما ان الافراد المعنيين ما زالوا يعتقدون بوجودها. وهذا هو تعريف الخرافة بالتحديد.

إذن اين تقع تلك القلعة؟ في الواقع لقد أُعلم ك مسبقًا عن مكان القلعة، إذ أُخبر فور وصوله ان القرية تابعة للقلعة وان كل من يمر بها او يمكث فيها هو في حقيقة الامر يمكث في القلعة ذاتها. فهي بذلك تكون حاضرة دومًا رغم انها لم تُرَ ولو لمرة واحدة أي إنها بالضبط كالمخلوق الأسطوري.

ما يبحث عنه ك هو شيء لا يمكن له ابدًا ان يوجد بالطريقة التي يريدها له. ولكن وبالرغم من ان احدًا لم يرَ او يلمس هذه “القلعة” إلا ان الجميع يهابها ويتصرف كما لو كانت تملك وجودًا ماديًا وإرادة، فحضورها المعنوي وحده كفيل بالسيطرة عليهم. اذ عندما اخبر ك مضيفه اي صاحب الحانة عن انه يفضل العيش حرًا ولا يريد العيش في القلعة، اجابه صاحب الحانة مغتمًا: “إنك لا تعرف القلعة” 3، هذا يجعل القلعة تبدو كما لو انها شخص حقيقي يتصرف بحسب ما يمليه عليه مزاجه. والقصة التي نقرأها عن اماليا (الأخت الصغرى لرسول القلعة برنابس) تعطينا انطباعًا قويًا عن اعتبار القلعة كما لو كانت فردًا لديه إحساس بكرامته وبالتالي من الممكن ان يتعرض للإهانة فيثأر لذاته. فقد استلمت اماليا رسالة من موظف في القلعة يأمرها فيها بأن تقيم معه علاقة، وحين لم تلبي له طلبه نالت العقاب؛ لكن عقابها لم يكن بسبب انها لم تمتثل للأوامر بل لأنها اهانت القلعة. إذن ما سيحدث لها تاليًا هو انتقام من القلعة. لكن من هو الذي ينتقم بالضبط؟ لا فائدة من الذهاب الى الكومة البائسة من الابنية المتراصة بعشوائية المسماة القلعة لمعرفة الجواب.  

يقضي ك معظم الرواية وهو يبحث عن المتحدث الرسمي والحقيقي بإسم القلعة. لكن هل يوجد شيء كهذا من الأساس؟ كيف لمؤسسة تتكون من عدد من الناس ان تمتلك متحدثًا رسميًا واحدًا؟ كان ك دائم البحث عن الخطوة الأولى، عن موظف يبدأ منه ليرتقي في التسلسل الهرمي لموظفي القلعة وصولًا صوتها الحقيقي. في بداية الرواية يقدم شاب ما نفسه على انه ابن مراقب القلعة وقد بدا ذلك واعدًا بالنسبة لـ ك؛ لكن البدايات المبشرة كهذه ما تلبث ان تتلاشى سريعًا، فقد يكون هذا “المراقب” ذو سلطة كبيرة كمدير او ان لا يعدو كونه مجرد نائب المدير. ولكن هذا كله يكاد يكون بلا أهمية بعد ان أُخبر ك ان ذلك الشاب كان يبالغ فوالده مجرد نائب مراقب القلعة. وفجأة يتبدد الأمل مجددًا في العثور على متحدث القلعة الرسمي، ذلك ان المشكلة في هؤلاء النواب أنهم كثر وبالتالي تختلف آراؤهم وتتضارب فيما بينها فيضيع الصوت الحقيقي للقلعة.

يذهب ك بعد ذلك لمقابلة عمدة القرية، وكل ما كان يريده منه هو إجابة رسمية بالإيجاب او النفي فيما يخص كونه مطلوبًا للعمل كمساح عندهم ام لا. ورغم انه يُعطى إجابة بالنفي من طرف العمدة الا ان ما افاده حقًا هو ما اخبره إياه العمدة بعد ان احتج ك على رأيه –أي العمدة- في انهم لا يحتاجون مساحًا، بأن ذلك يتعارض مع ما قاله موظف القلعة؛ عندئذٍ اطلعه العمدة على بعض الحقائق المهمة المتعلقة بالمؤسسات المشابهة للقلعة: “بوسعي شرح الامر لك. في مثل هذه الإدارة الضخمة التابعة الى الغراف قد يحدث أن أحد الأقسام يصدر أمرًا، وقسم آخر أمرًا آخر، ولا علم لهذا بذاك، صحيح ان الرقابة العليا غاية في الدقة، لكنها بطبيعة عملها تأتي متأخرة، وهكذا ينشأ اضطراب ما..” 3.

ان ذكر الكونت (حاكم القلعة، الغراف) يجعل الامر يبدو كما لو أن هنالك شخص كهذا في الواقع، أي شخص يمكن ان يعتبر صوت القلعة الرسمي والوحيد، لكن يتضح ان ذلك محض وهم، فلم يبحث عنه احد فضلًا عن ان يجده، فكل ما حدث هو انه ذكره بدأ بالاضمحلال تدريجيًا من نص الرواية. لاحقًا تصيغ اولغا (صديقة ك) الفكرة بشكل اكثر جرأة اذ تقول: “الموظف في اختصاصه يستنتج من كلمة خطوط تفكير كاملة، أما خارج اختصاصه، فقد تشرح له لساعات، وهو يهز رأسه أدبًا، لكنه لن يفهم كلمة واحدة” 3. لو اخذ ك هذا الكلام على محمل الجد لانتهى به الامر الى إدراك ان محاولته للبحث عن صوت القلعة الرسمي هو عمل أخرق.

ويمضي العمدة بقوله ان وجود هذا الكم من الأقسام التي تصدر أوامر متضاربة ليس سيئًا تمامًا، بل على العكس من ذلك قد تنتج عن هذه الفوضى الظاهرية حلول قطعية وممتازة للمشاكل. ويكمل فيقول انها بالطبع قد تأتي بعد فوات الأوان فعندئذٍ لا يمكن الاستفادة منها. لكن لو سلمّنا بأنك توصلت الى ما يبدو حلًا قطعيًا لمشكلة ما، ما الذي يضمن لك أنه لن يُتوصل الى حل آخر يعارض الأول؟ لا يوجد ضمان.

وحتى مع وجود كل هذه الدلائل على انعدام إمكانية إيجاد الصوت الرسمي للقلعة يبقى الجميع مهووسًا بأفعالها وسلطتها، لذا فهم يستميتون في السعي الى دخول القلعة والى كسب ود أي شخص ممن يُعتقد ان لهم منصب مهم فيها. ولكن يا للأسف، اذ دومًا ما تبقي القلعة ما يحدث بداخلها بمنأى عن الناس في الخارج. وقد اخبرت اولغا ك بذلك فقالت: “ثمة مَثلٌ يُستخدم هنا، قد تعرفه: القرارات الرسمية خجولة مثل الفتيات الصغيرات” 3.

خلال مسار الرواية يظهر اشخاص يبدون كفرصة واعدة للدخول الى قلب القلعة، وكان ك يتبعهم متلهفًا. فقد كان يأمل ان يقابل شخصيات من ذوي المكانة الرفيعة في القلعة، وأكثر شخصية انطبقت عليها صفة “الشخصية الهامة” هذه هو السيد كلَم.

في الفصل الثاني يتواصل ك مع كلَم عن طريق رسالة أرسلها الأخير بيد الرسول برنابس –شقيق اولغا- الى ك. يتضح ان كلَم هو رئيس القسم العاشر، وهو عنوان يبدو للوهلة الأولى مثيرًا ومهيبًا على نحو غير مفهوم حتى يأتي العمدة فيزيل بتعليقه على طريقة عمل اقسام القلعة أي أثر لتلك المهابة. كان في رسالة كلَم تأكيدًا لــ ك على انه طُلب للوظيفة بالفعل وانه سيرسله الى عمدة القرية ليعرف منه تفاصيل العمل المسند اليه؛ وحين يصل ك الى العمدة يسمع (بالطبع!) كلامًا مناقضًا تمامًا وهو انه لم يوظف من الأساس.

يصبح كلَم بالنسبة لــ ك بمثابة الهدف الأسمى، فهو يقضي وقتًا طويلًا في محاولة ايجاده والتحدث اليه، لأنه -وبالرغم من تحذيرات العمدة- كان موقنًا ان بإمكان كلَم ان يضعه على الطريق الصحيح صوب صوت القلعة الحقيقي. ولكن اقرب ما وصل اليه ك الى كلَم هو حين اخذته اولغا الى الحانة التي قابل فيها ساقية تدعى فريدا، حيث اخبرته هذه الأخيرة بأنها عشيقة كلَم، وتركته يسترق النظر اليه عبر ثقب صغير في حائط الغرفة التي ينزل فيها. بعد ذلك يقف ك خارج الحانة بانتظار خروج كلَم على امل ان يحظى برؤيته، لكن كلَم كان يتجنبه دومًا.

خلال محاولات ك لشق طريقه اعلى تسلسل السلطة الهرمي في القلعة، يتضح انه في الحقيقة يهبط الى أسفل حيث المزيد والمزيد من الموظفين الصغار. ففي البداية كانت مقابلته للسيد موموس مبشرة، فقد قدم نفسه بوصفه سكرتير كلَم في القرية؛ لكن كالعادة ما حصل تاليًا هو ان اتضح ان موموس هذا ما هو الا واحد من عدة أمناء سر تابعين لكلَم وبالتالي يُضعف ذلك من أهمية أي منهم بمفرده.

يبدأ هبوط ك الى مراتب السلطة الدنيا حين تطلعه اولغا على شكوك برنابس حيال كلَم، فهو يتساءل الآن فيما لو كان الشخص الذي يُقال انه كلَم هو كلَم حقًا. وهذا الشك الذي طرأ هو تحديدًا ما يقلق ك لأن رسالة كلَم التي اتى بها برنابس اول الامر هي التي أعطته-أي ك- الامل بوجود امر واضح ورسمي بتوظيفه صادر عن القلعة. لكن لدى اولغا شكوك حول برنابس ذاته، فبحسب قولها هو يذهب الى المكاتب لكن هل هذه المكاتب تمثل القلعة الحقيقية؟ ان شكوك ك الخاصة حول علاقة برنابس الحقيقية بالقلعة تدخله في دوامة من الأفكار ومما يزيد الأمور سوءًا ان كل حل يتوصل اليه لا بد ان يكون متبوعًا بما ينقضه، فيضطرب ك أكثر فأكثر: “يجوز له –أي برنابس- الدخول الى الدواوين، او اذا شئتِ إلى غرفة أمامية، ولكن هنالك أبواب تنفتح على شيء آخر…. مع من يتكلم برنابس هناك، لا أدري، ربما كان ذاك الكاتب خادمًا من الفئة الدنيا، ولكن حتى إنْ كان من أحط الخدم، فبإمكانه ان يوصِل للأعلى مرتبة، وإن لم يكن هذا بوسعه، فبإمكانه على الأقل أن يذكر اسمه، وإنْ لم يستطع ذكر اسمه، فبإمكانه أن يشير الى إلى من يستطيع ذكر اسمه. يُحتمل أن كلَم المزعوم لا يمت بأي صلة كانت إلى كلَم الحقيقي…. قد يكون أدنى الموظفين مرتبة وقد لا يكون موظفًا اصلًا، لكنه يقوم بمهمة ما عند منصة القراءة تلك وقوفًا، يقرأ شيئًا ما في كتابه الضخم، يهمس بشيء ما للكاتب…. وحتى إنْ كان هذا كله غير حقيقي، وهو وافعاله بلا أهمية، فهناك مَنْ عيَّنه هناك لغرض معينٍ ما.” 3

لقد انقلب مسعى ك رأسًا على عقب، إذ نتيجة لعجزه عن الوصول الى قمة هرم السلطة في القلعة، فهو يندفع باتجاه أسفل هذا الهرم وذلك لأن حتى أحط أجزاء القلعة مرتبة لا بد وان يكون مرتبطًا بطريقة او بأخرى بالهدف الاساسي من وجودها، وبالتالي فمن الضروري تسليط بعض الضوء على هذا الهدف.

يذكرنا كل ذلك بقصة الجحر ومحاولات الحيوان المحمومة للتفكير في مخبئه بصورة عقلانية، فـــ ك يشبهه اذ يرهق نفسه بمحاولاته المتواصلة لإيجاد جواب لسؤال لا نجد له جوابًا منطقيًا، وما ان يفشل ك او الحيوان بإيجاد جواب منطقي حتى يضاعفان جهودهما لإيجاد آخر جديد.

من الخطأ الاعتقاد ان رواية القلعة هي في حقيقتها سخرية من البيروقراطية، ذلك أن هذا النوع من السخرية كُتب مرات عديدة بالفعل وهو ليس من اهتمامات كافكا. ففي هذه الكتابات يكون التركيز عادة منصبًا على مواضيع مألوفة هي السبب في معارضة النظام البيروقراطي مثل: انعدام الكفاءة، ومستوى القدرات العادي، واهتمام الموظفين بمصالحهم الشخصية على حساب المواطنين، وقصر نظرها، وبطء سير العمل، واخيرًا انعدام الحس بالمسؤولية لإنهاء المهام والاقتصار على ساعات العمل المحددة. اما رواية القلعة فهي عن موضوع آخر تمامًا وهو: التصادم الحاصل بين تقبلنا لوجود المؤسسات كجزء من حياتنا وبين حقيقة انها أشياء غريبة تستلزم منا التصرف إزاءها بطريقة لا تتناسب مع حقيقتها. فنحن نؤمن بها بالرغم من اننا لم نرها او نسمعها او نلمسها؛ ونحن ايضًا نعزو لها أمور كالدوافع والشخصية والرغبات بل حتى الصفات الأخلاقية. كما نمزج بين الصفات الرمزية للمؤسسة وبين تجسيدها المادي في الواقع فنخلط هذا بذاك كالخلط الذي حدث بين القلعة المبنى والقلعة المؤسسة فقد أُعتقد خطأ ان القلعة المؤسسة هي قلعة من ناحية الشكل ايضًا. وحتى ابسط سؤال من قبيل: من يتحدث باسم القلعة؟ يوقعنا في ورطة، فالمؤسسات تتكون من مجموعات من الافراد ومع ذلك لا يُشكل أي منهم جزء أساسي لا غنى عنه بالنسبة لبقية الافراد. ونحن مجبرون على التعامل مع هذه المجموعات كما لو كنا نتعامل مع فرد واحد فقط، ولكن هذه مجرد صورة خيالية لا يمكن تطبيقها عمليًا وهي ما اوقعنا وك في مأزق لا مخرج منه.

قد تبدو قلعة كافكا مجرد صورة كاريكاتورية لحال المؤسسة، لكن أي أحد يحاول ان يكتب رسالة غاضبة لإحدى المؤسسات الكبيرة سيدرك الأمر عاجلًا ام آجلًا، وهو أنه في الواقع لا يخاطب شخصًا محددًا. وفي العالم الحديث توضح تقنية الردود الآلية على الرسائل هذه النقطة بشكل أكبر ولا تغيرها في الحقيقة. تحاول عائلة أماليا التوسل الى القلعة لتغفر لإبنتهم الإهانة التي تسببت بها للقلعة، لكن لو غُفر لأماليا فعلتها فلن يكون ذلك من عمل القلعة ككيان بل قام بها شخص واحد في مكان ما.    

يمكن القول ان المؤسسة تشبه الى حد ما مخلوق اسطوري نسلّم جميعًا بوجوده. رفض مفكرو التنوير الايمان بالأساطير، لكن المخلوقات الاسطورية غير المرئية او المسموعة التي كانوا يقصدونها لم يكن لها تأثير حقيقي على حياتنا، على عكس قلعة كافكا فقد كان لها سلطة كاسحة.

على الرغم من أن (في المعرض Auf Der Galerie) قصة قصيرة جدًا لا يتعدى طولها الصفحة إلا انها مع هذا هي القصة الوحيدة من بين قصص كافكا التي استعرضت بوضوح شديد موقفه الفريد تجاه الفرق ما بين العالم الذي تصورته الحركة التنويرية أكثر سماحةً وعطفًا وبين ما هو أكثر قدمًا ورسوخًا من هذه الحركة والذي لا يزال كامنًا بداخلنا وهو التكوين العاطفي للبشر. تتكون القصة من روايتين متناقضتين لحدث واحد يجري في سيرك، حيث تمتطي شابة الحصان بمساعدة قائد الحلبة وبحضور عدد كبير من المتفرجين المتابعين لما يحدث. في الرواية الأولى تصوّر الفتاة على انها ضعيفة ومريضة، ويصوّر قائد الحلبة على انه شخص عديم الرحمة قاسي القلب فهو يلوح بسوطه لتخويف الفتاة وإبقائها تدور في الحلبة الى ما لا نهاية؛ ويوصف الجمهور بأنه جشع وغير عابئ بالمشهد الفظيع الماثل امامه. أما الرواية الثانية فتصف الفتاة بأنها جميلة ومتألقة والقائد بأنه شخص لطيف ويحاول حماية الفتاة، كما وتصف الجمهور بأنه مفتون بهذه الشابة.

إلا ان وصف الرواية الأولى كان مصاغًا على أسلوب الشرط أي إن كان الحال على كما هو موصوف في هذه الرواية عندئذٍ ربما ان شابًا سيخرج من بين الجمهور مندفعًا نحو الحلبة وهو يبكي مطالبًا الجميع أن يتوقفوا! لكننا نُخبر بعد برهة ان الحال في الواقع ليس كذلك بل تنطبق عليه الرواية الثانية و” لأن الأمر كذلك، يضع الزائر إلى المعرض وجهه على السياج الحديدي أمامه، غارقًا في المسيرة الختامية وكأنه كابوس، وينتحب من دون أن يفقه كنهه” 4.

وعلى عكس ما هو متوقع فإن المشهد الثاني هو الذي يتسبب بالحزن وليس الأول. فهو يصوّر العالم المثالي الذي تخيّله التنويريون حيث الجميع ودودون ومراعون، في عالم كهذا لا مكان للأبطال لأن لا حاجة إليهم. بل يبدو أن لا مكان حتى لصعوبات ومعاناة الحياة العادية كما نعرفها، فلا يوجد سوى الجمال والنور اللذان يغمران العالم بأكمله. ويؤكد كافكا على هذه النقطة فيصفها بالتفصيل بخلاف ما فعل في المشهد الأول كما يلي: يرفع قائد الحلبة الفتاة بعناية كبيرة لتركب على الحصان الأبيض، ويبقي نفسه بجوار الحصان ليتتبع حركات الفتاة، ويحمل نفسه بصعوبة على استخدام السوط، ولا يكاد يصدق مدى روعة فنها. وحين تبدأ بالتحضير للحركة البهلوانية يعطي القائد إشارة للفرقة الموسيقية كي تصمت.

لكن المشكلة هي أن في عالم كهذا لا مكان للدراما او للتأكيد البطولي على الخطأ والصواب، فلا أحد مدعو لفعل أي شيء سوى مشاهدة جمال العرض. لكن الى أي مدى سيستمر البشر بفعل ذلك؟ هنا يوضح كافكا توجهه باختصار، بأن البشر مصممون للمشهد الأول وليس للثاني. إن انعدام مثالية البشر هو ما يجعل الحياة ممكنة كما نعرفها وذات قيمة. يحاول زائر المعرض ان يجد لنفسه دورًا ذا معنى فيما يحدث أمامه، لكن الحدث الجميل والخالي من أي عيب الذي يجري في الحلبة يُبعده عن المشهد دون ان يفعل شيئًا، ففي الحقيقة لسنا مهيئين لحياة مكونة من مشاهد كهذه.  

يمكن أن نقسم اعمال كافكا التي تناولناها في الجزء الأول هذا الى نوعين أساسيين: نجد في النوع الأول (قصة الجحر ورواية القلعة)، أن هنالك جوانب في الحياة يُشكل فيها التفكير العقلي المنطقي في أفضل أحواله سيف ذا حدين. أما في النوع الثاني (رواية التحول وقصة في المعرض)، فنجد أن العالم الأكثر لطفًا وعطفًا كما تصوره مفكرو عصر التنوير سيُقلب رأسًا على عقب حين يفرض النظام الأقدم من القيم الإنسانية نفسه على المشهد. وأفضل مثال على النوع الثاني نجده في واحدة من أكثر قصص كافكا شهرة وهي (الحكم- Das Urteil)، والتي سنتناولها في الجزء الثاني من هذه المقالة.


 

مصادر الاقتباسات:

  1. فرانتز كافكا، الأعمال القصصية الكاملة، ترجمة د. رمضان مهلهل، دار الرافدين، الطبعة الثانية-2022، القصص الطوال (الجحر)، الصفحات 306-344-305.
  2. كافكا، التحول، ترجمة د. نبيل الحفار، منشورات تكوين-دار الرافدين-دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة-2021، الصفحات 78-79.
  3. كافكا، القلعة، ترجمة د. نبيل الحفار، منشورات تكوين-دار الرافدين-دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية-2021، الصفحات 21-16-86-285-233-246-247.
  4. فرانتز كافكا، الأعمال القصصية الكاملة، ترجمة د. رمضان مهلهل، دار الرافدين، الطبعة الثانية-2022، القصص القصار (في المعرض)، ص 390.

المعلومات المرفقة

1- عنوان المقالة واسم كاتبها: How to read Kafka: part I, by John M. Ellis

2- اسم المترجمة: بان خليل-Ban Kh.

3- رابط المقالة:   

https://newcriterion.com/issues/2018/10/how-to-read-kafka-part-i