مجلة حكمة
كيف تعيش مثل الأبيقوريين؟ اتبع هذهِ الفلسفة للحصول على أفراح عجيبة وغير متوقعة ومرونة في مواجهة المحن التي لا مفر منها.

كيف تعيش مثل الأبيقوريين

الكاتبايميلي أوستن
ترجمةخالد تركي آل تركي

كيف تعيش مثل الأبيقوريين؟
اتبع هذهِ الفلسفة للحصول على أفراح عجيبة وغير متوقعة ومرونة في مواجهة المحن التي لا مفر منها.
ما يجب أن تعرفه خذ لحظة لتسترجع في ذهنك بعضاً من أعز ذكرياتك، تلك الذاكرة المفعمة بالحياة التي يمكنك تصورها ووصفها بتفاصيل غنية. قد تتذكر مثلاً إجازة مع الأصدقاء أو حفلة موسيقية أو ولادة أطفالك أو تساقط شهب في إحدى ليالي الصيف أو عرض زواج أو ذلك العناق الذي ساعدك على تجاوز الأزمة.
ربما؛ ورغم ذلك وجدت نفسك في البداية تكافح من أجل تحديد التجارب ذات العلاقة، أو ربما أدركت أنك لم تصنع ذكرى كهذهِ منذ وقت طويل، لا يوجد شيء يضاهي استرجاع متع الحياة الغنية ليجعلنا نتساءل لماذا تبدو الذكريات التي تستحق الاستمتاع بها وكأنها مصدر نادر في عالم يهدد بإرباكنا عند كل منعطف، يعتقد أبيقور (341-270 قبل الميلاد) وهو فيلسوف يوناني قديم عاش هو نفسه في أوقات مضطربة أن الحياة يمكن أن تقدم لنا منجم ذهب من البهجة على الأقل إذا تعلمنا كيفية البحث عنها وتذوقها.
يكتب أبيقور أن”اللذة هي نقطة البداية والنهاية للعيش في سعادة” وأنه لا يستطيع حتى تصور الخير البشري دون السعي إلى اللذة. الأبيقوريون إذا استخدمنا المصطلح التقني هم أصحاب مذهب اللذة، فهم يعتقدون أن اللذة تجعل الحياة جيدة، أي شيء آخر غير اللذة لا يكون جيداً إلا بقدر ما ينتج عنه من لذة، إما على الفور أو على المدى البعيد. الآن؛ أظن أنك تقوم بالفعل بتصنيف المخاطر الحقيقية للذة، وتذكير نفسك بأن السعي بشكل قهري نحو اللذة هو الطريق القصير إلى الحياة في الحضيض.

قبل أن نفكر في مخاطر اللذة، دعونا نتوقف لحظة لنلاحظ مدى قوة التحرر عندما نسمع أن اللذة أمر جيد، وأننا يجب أن نهدف إلى الاستمتاع بحياتنا. كثير من الناس يخجلون من الرغبات الإنسانية الطبيعية تماماً، والبعض الآخر يريد ببساطة أن يأكل قطعة من الكعك دون الشعور بأنهم مجبرون على استرضاء جوقة النقاد. اسأل أحد الأشخاص في إحدى دور الرعاية عما إذا كان يشعر بالندم، وأشك في أنه سيصرح برغبته في قضاء وقت أطول في العمل ووقت أقل مع الأصدقاء
والعائلة، اسألهم عن أبرز معالم الحياة، وسوف ينتجون كاتالوجاً لمتعهم المفعمة بالحيوية(أوراق الشجر النابضة بالحياة في الخريف، عشاء صاخب مع الأصدقاء، حب حياتهم، ولادة أطفالهم، روعة الكمان…إلخ).
تشجعنا الأبيقورية على إعطاء الاهتمام المحوري لاستحضار وتذوق الملذات التي لا تُنسى في الوقت المحدود المتاح لدينا.

حسنًا، دعونا الآن نسمح للاعتراض الطبيعي بإعادة تأكيد نفسه، مذهب اللذة يبدو وكأنه وصفة للاعتماد مدى الحياة على الكحول، وسلسلة من العلاقات الفاشلة، والجسد الذي أضعفه الكسل. يعترف أبيقور بسهولة بأننا كثيراً ما نكافح من أجل السعي وراء اللذة دون أن نتسبب في إفسادها، قد يقودنا فشلنا إلى الاعتقاد بأنه خطأ اللذة. مع ذلك، يعتقد أبيقور أننا نمارس اللذة بطريقة خاطئة، نحن نبحر في مشهد اللذة والألم دون قصد أو اهتمام، وفي بعض الأحيان دون أي خطة على الإطلاق. تهدف الأبيقورية إلى توجيهنا في الاتجاه الصحيح ومساعدتنا في العثور على الأمان والفرح وممارسة اللذة بشكل صحيح. أولاً، دعونا نستكشف بإيجاز سبب تأييد أبيقور لمذهب اللذة، ثم ننتقل إلى منهجه المميز في التعامل مع اللذة.
فكر بالأمر
البشر كائنات ممتعة ذات أدمغة متطورة
إن التزام أبيقور بمذهب المتعة ينبع من علمه الطبيعي الحديث المثير للصدمة. قبل تشارلز داروين بآلاف السنين يجادل أبيقور بأن البشر كائنات متطورة تتقاسم العالم مع الكائنات الأخرى التي أثبتت حتى الآن أنها أكثر قدرة على البقاء، أيضًا قبل عصره ينكر أبيقور أن الكون قد خُلق بواسطة كائن إلهي لصالح البشر؛ وبدلاً من ذلك، فقد نتجت عن تفاعلات سببية محددة للذرات جنبًا إلى جنب مع الحركة الذرية التلقائية العرضية من النوع المفترض في فيزياء الجسيمات وعلوم الدماغ الحديثة. بالنسبة لأبيقور نحن كائنات تعيش في عالم مادي غير متعلق بالعناية الإلهية.
تتجنب الحيوانات الألم وتسعى إلى اللذة بطبيعتها(أي أنها من محبي اللذة)، ومذهب اللذة لدينا يشبه مذهب اللذة لدى كل حيوان واعي آخر في كثير من النواحي. مثل الحيوانات الأخرى نحن نستكشف العالم ونعالجه من خلال التجربة الحسية وخاصةً مشاعر اللذة والألم. مثل الحيوانات الأخرى نريد بشكل أساسي أن نشعر بالأمان من التهديد الخارجي ونختبر اللذة.
بخلاف الحيوانات الأخرى يتمتع البشر بأدمغة متطورة بشكل مميز، لدينا إحساس بأنفسنا في الوقت المناسب حتى نتمكن من التخطيط للمستقبل في ضوء الماضي، يمكننا أن نختبر اللذة من خلال استدعاء متع الماضي إلى أذهاننا، ويمكننا تذوق المتع الحالية من خلال إعطائها اهتمامًا خاصًا، نحن ننقل أفكارنا باستخدام اللغة والرموز، لدينا أيضاً وعي بموتنا، هذهِ القدرات العقلية العليا تزيد من متعنا النفسية المتاحة، ولكنها يمكن أن تسبب أيضاً مخاوف مثل الخوف من الموت أو العقاب الإلهي.
ومع ذلك، مرة أخرى نحن نرغب بشكل أساسي في الأمان واللذة لأننا كائنات، يسمي أبيقور النسخة البشرية المميزة من الشعور بالأمان ب”الطمأنينة”، والتي تُترجم عادةً باسم “الهدوء”، وهي حالة مستقرة تتميز بغياب القلق ووجود اللذة، تنشأ الطمأنينة من تقدير أننا اكتسبنا الموارد المادية والنظرية والشخصية اللازمة للصحة النفسية، على الرغم من أن مذهب اللذة الأبيقوري يركز في البداية على تلبية الاحتياجات وإزالة مصادر القلق غير الضرورية، إلا أن الطمأنينة تفتح أيضاً فرصاً جديدة لأفراح خالية من القلق.
يغضب أبيقور من النقاد الذين يصورون(بقصد أو بدون قصد) مذهب اللذة بشكل كاريكاتوري على أنه تأييد لـ “نوبات الشرب والحفلات المستمرة”. وهو يصر على أنه يؤيد «الحصافة» التي تُفهم على أنها فن «الحساب الرصين» بشأن «الاختيار والتجنب». يساعدنا الحذر في تحديد ما يسبب اللذة على المدى البعيد، ويشجعنا على اختيار الآلام التي تُنتج لذة أكبر، على سبيل المثال: ممارسة التمارين الرياضية لزيادة الصحة، وتجنب الملذات إذا أدت إلى المزيد من الألم(مثلاً:
ديون بطاقة الائتمان، الإفراط في تناول الكحول). بعبارة أخرى تخبرنا الحكمة أن(نوبات الشرب والحفلات المستمرة) ليست استراتيجية حياة عظيمة، إن الحكمة تبقينا خارج الحضيض وتساعدنا على تحقيق الطمأنينة أو الاقتراب منها.
ومع ذلك، فإن الطمأنينة ليست اللذة الوحيدة التي تستحق الاستمتاع بها حتى لو كان كل ما نحتاجه بشدة للرضا في أوقات الشح أو الشدة. لم يكن أبيقور مسرفاً ولم يكن مروجاً للزهد المتطرف أو مذهباً للذة بالاسم فقط، في حين يعتقد أبيقور أننا نستطيع بسهولة الحفاظ على الطمأنينة عندما تقيدنا الظروف بالضروريات، فإنه يشجعنا على متابعة وتذوق فرص اللذة
المبهجة عندما تسمح الظروف بذلك. في الواقع هو يعتقد أن التقدير الأساسي لامتلاك كل ما نحتاجه يسمح لنا بتقدير البذخ أكثر من الآخرين. وعلى حد تعبيره: “أولئك الذين لا يحتاجون إلى الإسراف هم أكثر من يستمتعون به”.
إذاً فإن فن الحكمة الأبيقورية يتضمن اكتساب ما نحتاج إليه من أجل الطمأنينة والحفاظ عليه، والتمتع بالإسراف الذي يثري الطمأنينة دون تقويضها، وتجنب كل ما يقوض الطمأنينة. يقدم أبيقور تصنيفًا للرغبات لمساعدتنا في التمييز بين ما نحتاج إليه وما هو ممتع وما يجب أن نرفضه بكل إخلاص: الرغبات الطبيعية والضرورية، والرغبات الطبيعية وغير الضرورية، والرغبات غير الطبيعية وغير الضرورية.
ركز على ما هو ضروري على عكس أقدم وأعظم منافسيهم(الرواقيون) يعتقد الأبيقوريون أن لدينا احتياجات مادية وعلائقية، والتي إذا تُركت دون تلبية تجعلنا قلقين وغير آمنين.
يؤكد الرواقيون على أن الفضيلة وحدها ضرورية وكافية لتحقيق السعادة، يجب أن يكون لدينا فضيلة، والفضيلة هي كل ما نحتاجه، وعلى النقيض من ذلك يعتقد الأبيقوريون أننا نحتاج أيضاً إلى الطعام وبعض السلع المتنوعة الأخرى. وبينما يطور الأبيقوريون استراتيجيات للتعامل مع الشدائد، فإنهم لن ينكروا أبداً أن الألم الذي لا يمكن علاجه هو أمر سيء حقًا.
البشر كائنات ضعيفة بطبيعتها، ويجب علينا دعم نقاط الضعف هذه بأفضل ما نستطيع للبقاء على قيد الحياة والشعور بالأمان.
العديد من الأشياء ذات الرغبات الضرورية بديهية. نحن بحاجة إلى الغذاء والماء والمأوى، الجوع والعطش مؤلمان، وإذا تُركنا بدون طعام وشراب لفترة كافية نموت. إذا كان حصولنا على الماء والغذاء يتطلب المال، فإننا بحاجة إلى ما يكفي من المال لتناول الطعام والشراب بشكل موثوق. عندما يفتقر الآخرون إلى الثقة في امتلاك مثل هذه الموارد، فلا ينبغي لنا أن نتظاهر بأنهم لا يزال لديهم ما يحتاجون إليه لتحقيق السعادة كما قد يفعل الرواقي. ومع ذلك، فإن تلبية هذه الاحتياجات الجسدية الأساسية لا تكفي لتحقيق الطمأنينة، يعتقد أبيقور أن البشر لديهم احتياجات قليلة نسبيًا لكنها ليست كلها مادية.
لدينا أيضًا احتياجات شخصية وفكرية تنشأ من طبيعتنا المميزة، مما يعني أنه حتى الأشخاص ذوي الثروات الكبيرة يمكن أن يجدوا أنفسهم مع رغبات ضرورية غير مُرضية. وعلى وجه التحديد، نحن بحاجة إلى الأصدقاء لأننا لا نملك الاكتفاء الذاتي لإنتاج ما نحتاج إليه للبقاء على قيد الحياة، ونسعى إلى الحصول على الثقة في أن شخصا ما سوف ينقذنا من خطر مادي جسيم أو تهديد خارجي. نحتاج أيضًا إلى مرشدين جديرين بالثقة لمساعدتنا في فهم أنفسنا والعالم. ذكرياتنا الأكثر
بهجة عادة ما تكون مع الأصدقاء، لذا فإن الأصدقاء هم أيضاً مصدر كبير للمتعة. باختصار، يجب علينا أن نجد الأشخاص الذين يمكننا الوثوق بهم.

وأخيراً، تتطلب الطمأنينة فهماً وتقديراً أساسيين للعلم لأن الخرافات تمثل تهديداً خطيراً لرفاهيتنا المجتمعية والنفسية، يساعدنا العلم الجيد على التنبؤ بالعالم الطبيعي وفهمه والتنقل فيه، فهو يجعلنا أكثر قابلية لتأمين ما نحتاجه للبقاء على قيد الحياة، ويعتقد أبيقور أنه يزيل أيضاً خوفنا من أن يحدد إله متقلب مصيرنا(في ديننا وعقيدتنا الإسلامية نؤمن أن الله عزيز حكيم، وكثيراً ما يرتبط اسم الله الحكيم بالعديد من أسماءه الأخرى وخصوصاً اسمه العزيز لدلالات متعددة يمكن
الرجوع إليها في كتب التفاسير القرآنية، قد لا نفهم الحكمة خلف بعض الأمور السيئة لكننا نثق أن الله له حكمة تغيب عن عقولنا القاصرة والمحدودة”المترجم”). كما أنه يساعدنا، كما يقول على إدراك أنه ليس لدينا ما نخافه من الموت. ومن ناحية أخرى، فإن الفهم العلمي الضعيف يتركنا فريسة للمشعوذين ومروجي الخوف الذين يشجعوننا على اتخاذ قرارات سيئة بشأن صحتنا وسلامتنا العقلية.
إن تلبية هذه الاحتياجات مُجتمِعةً تُنتج حياة كريمة جداً: الطعام والشراب والمأوى والأصدقاء الداعمين، والقدرة على التنقل وفهم العالم دون أن يخدعهم أحد أو تخيفهم الخرافات. يعتقد أبيقور أنه يمكننا أن نعيش حياة آمنة وراضية ومبهجة بصحبة الأصدقاء إذا أعطينا الأولوية لإشباع رغباتنا الضرورية واستطعنا أن نرى ذلك كافياً.
ولسوء الحظ، فإننا غالباً ما نفشل في تأمين ما نحتاج إليه لأننا نضع أولوياتنا في غير محلها، نحن نضيع الوقت في مطاردة الحُلي غير الضرورية على حساب تنمية العلاقات الشخصية والتفاهم الذي نحتاجه.
إن الشخص الذي يعلن “لا أريد أصدقاء جيدين” قد يبدو لنا منحرفاً، لكن سيلًا لا هوادة فيه من الدراسات يشير إلى أن الكثير من الناس يجدون أنفسهم بدون أصدقاء جيدين، يبدو الشخص الذي يعلن “أنا أستمتع بكوني جاهلًا بكيفية حماية نفسي من العلوم السيئة” غريبًا كذلك، ومع ذلك أفرغ الناس الرفوف لشراء مزيل ديدان الخيول لحماية أنفسهم من كوفيد-19.
حتى عندما يكون لدينا ما نحتاجه يمكننا مع ذلك أن نجد أنفسنا غير راضين، يعتقد أبيقور أننا نفشل في الحصول على ما نحتاج إليه أو نظل غير راضين على الرغم من حصولنا عليه لأننا نستثمر أنفسنا في رغبات يصعب بل من المستحيل إشباعها، وعلى وجه الخصوص فإننا نبالغ في تقدير الإسراف، والأسوأ من ذلك أننا نطارد أهداف الرغبات المسببة للتآكل، إن الرغبات المسببة للتآكل تقوض إشباعنا بمجرد وجودها، مثل التنين الذي ينفث النار والذي يهدد دائمًا القرويين في أرواحنا.

استئصال الرغبات المسببة للتدهور

الرغبات المسببة للتدهور عبارة عن مجموعة متنوعة، لكنها تشترك في التشابه العائلي، تميل أهدافها إلى إكمال الجملة “لا يمكنك أبداً الحصول على الكثير…” لا يمكنك أبداً الحصول على الكثير من المال، أو الكثير من القوة، أو الكثير من الأرباح، أو الكثير من النقرات، أو الكثير من “الإعجابات”، أو الحياة الطويلة، وما إلى ذلك. يُطلق على مثل هذه الرغبات اسم “غير محدودة” لأنها تحتوي على فكرة أن هناك دائماً المزيد مما يستحق المتابعة، إن الطبيعة غير المحدودة للرغبات المسببة للتدهور تعني أننا لا نستطيع إشباعها أبداً، هناك دائماً المزيد، الوصول إلى غاية بعيدة المنال، والرضا على الأقل بتحقيق خطوة واحدة نحو الأمام، الطمأنينة نوع من الرضا، والرغبات المتآكلة لا تُشبع أبداً، وإذا كان الشخص يرغب في المزيد فإن ما لديه لا يكفي أبداً.
والأسوأ من ذلك، لأن موضوعات الرغبات المسببة للتدهور تنافسية وتأتي بدرجات، فهي تدعونا لمقارنة أنفسنا بالآخرين، فقد نحسد أولئك الذين لديهم المزيد أو يشعرون بالتفوق على أولئك الذين لديهم حظوظ أقل، إذا سيطرت رغبة معينة على رصيدنا العقلي والعاطفي فمن الممكن أن تطغى حتى على القيم الأخلاقية وتغرينا بالغش أو السرقة أو الدهس على الآخرين للحصول على المزيد مما نريد، إن الرغبة في الحصول على أكبر عدد ممكن من “الإعجابات” تغرينا بتحويل
أنفسنا إلى ما يرغب ملايين الأشخاص في مشاهدته على الإنترنت، مثل هذهِ الرغبات تسحبنا بعيداً عن الأصالة والعلاقات ذات المغزى في سعينا للحصول على إعجاب الأشخاص الذين لا نعرفهم حتى، إن السعي لتحقيق أقصى قدر من الربح يجعل سحق الضعفاء أمراً حكيماً لإنتاج تقرير أرباح أعلى قليلاً.
إن الرغبات المسببة للتدهور تتركنا غير راضين وتثير مشاعر مؤلمة مثل الحسد والاستياء وتبعدنا عن الآخرين وتحفزنا على التصرف بطرق غير أخلاقية تورث تأنيب الضمير. دعونا نستكشف الفئة المتوسطة المتبقية(الرغبات الباهظة).

استمتع بالبذخ غير الضار

الرغبات الباهظة عادة ما تكون لنماذج أكثر تحديدًا وتعقيداً من الرغبات الضرورية، على سبيل المثال بدلًا من تناول وجبة بسيطة جداً يمكنك التنزه في الحديقة مع زجاجة من النبيذ، قد تستمتع بالمحادثة مع صديق مقرب في المقهى، أو ليلة في السينما، أو حفلة موسيقية، أو رحلة إلى محل الآيس كريم. قد تكون بعض المناسبات الفاخرة أكبر مثل إجازة في الخارج
أو تناول العشاء في مطعم فاخر، ما يهم في البذخ هو كيف نختار ونقدر.
نحن نخطئ بشكل رئيسي عندما نتعامل مع الإسراف على أنه احتياجات، ونرى فشلنا في امتلاكها كسبب وجيه لعدم الرضا عن الحياة، ولأن التبذير قد يكون نادراً نسبياً ويمكن أن يختفي في لمح البصر، فإن التعامل معه باعتباره أي شيء آخر غير المصادر المشروطة للبهجة يجعلنا متقلبين نفسياً وعرضة للقلق وخيبة الأمل غير الضروريين، إن اتباع نظام غذائي ثابت من الإسراف أيضاً كما ذكرنا أعلاه يمكن أن يستنزف متعة البذخ نفسها، نحن نستمتع بشيء أكثر عندما نختبره على
أنه غير ضروري وغير متوقع ورائع.
ويعتقد أبيقور أن لدينا أيضاً موقفاً خاطئاً تجاه الإسراف عندما يقودنا إلى إهمال إشباع رغباتنا الضرورية، على سبيل المثال إذا أصررنا على تناول طعام فاخر عندما لا يستطيع أصدقاؤنا الطيبون تحمل تكاليفه فإننا نعطي الإسراف الأولوية على الصداقة. إذا كان ذوقنا الراقي في الموسيقى أو أجهزة الاستريو يجعلنا نسخر من الأشخاص الذين يفضلون الراديو الشعبي، فهذا يعني أننا ننفر الآخرين بسبب شيء لا أهمية له بالنسبة لرفاهيتنا، الصداقة ضرورية، والطعام الجيد أو
الآراء المستنيرة حول السينما الفرنسية ليست كذلك.
إن الإسراف إذا تم اختياره جيداً يعزز أو يعمق الطمأنينة، لكن ليس هناك إسراف معين ضروري تمامًا لحياة راضية، وعلى حد تعبير أبيقور فإن الإسراف “يتنوع” بدلاً من “زيادة” الطمأنينة. نحن لا نصبح أكثر سعادة لأن إسرافنا أكبر أو أكثر عدداً أو أكثر تكلفة، سيجد الأبيقوريون أفراحاً في حياتهم اليومية ويغتنم الفرص لمزيد من البذخ المتقن في حالة حضورها مع الحفاظ على الاتزان الأساسي. والبحث عن هذه الأفراح خاصة مع الأصدقاء يساعدنا أيضاً على الاستعداد
لمواجهة سوء الحظ والتعامل معه.
قد تسأل نفسك إذاً: هل لدي كل ما أحتاجه لتحقيق الرضا والاستقرار، بما في ذلك ليس فقط السلع المادية الأساسية، ولكن أيضاً الضروريات العلائقية والفكرية، إذا اكتشفت أنك تفتقر إلى بعض الأشياء الجيدة المهمة على سبيل المثال الأصدقاء الداعمين، فإن أبيقور يعتقد أن فرص الرضا لديك تنمو بشكل كبير إذا ركزت طاقاتك وتخلصت من الرغبات غير الضرورية
التي تضيع الوقت وتولد عدم الرضا.
إذا وجدت نفسك بدلاً من ذلك مع كل ما يعتبره أبيقور ضروريًا لتحقيق الرضا، فهل تعتبره كافياً لحياة جيدة ومبهجة؟
الكثير منا لديه ما يحتاج إليه، لكننا نفشل في تقديره أو رؤيته على أنه كاف. نحن نقنع أنفسنا بأننا بحاجة إلى المزيد والمزيد، وتحمل رغباتنا اللامحدودة عدم الرضا والقلق طوال الرحلة، يعتقد أبيقور أنه بمجرد حصولك على ما تحتاجه
وبمجرد أن تتمكن من تقديره باعتباره كل ما تحتاجه، فإن الشعور بالرضا يتيح الوقت والطاقة للاستمتاع بالبذخ الممتع الذي يعطي الشكل واللون لحياتنا.

سبب أهميتها

إن كتابة كتاب يمكن أن تمنح الشخص شيئاً يشبه العقل ذو المسار الواحد، ولسوء الحظ بالنسبة للآخرين، فإن هذا يعني أن الموضوع يشق طريقه بطريقة سحرية إلى كل مناقشة تقريباً. تشير محادثاتي مع الأصدقاء والعائلة والأشخاص القادرين على التكيف مع مختلف الظروف إلى أن الناس يجدون الأبيقورية أكثر جاذبية عندما يفكرون في الصداقة والامتنان وسوء الحظ، في الواقع يربط أبيقور هذه الجوانب المهمة من الحياة معاً، حيث تعتبر الصداقة الخيط المركزي.
يتحدث أبيقور بصورة شعرية غير معهودة عن الصداقة، فيكتب أنها “ترقص حول العالم لتعلن لنا جميعاً أننا يجب أن نستيقظ على السعادة”، وبقدر أقل من الذوق البلاغي يزعم أن من بين الأشياء التي توفرها الحكمة لسعادة المرء في الحياة بأكملها أعظمها على الإطلاق هو امتلاك الصداقة. ويعتقد أبيقور أننا لا نحتاج إلى الأصدقاء فحسب، بل إن الأصدقاء يساهمون أكثر في خير الحياة. تمنحنا مجموعات الأصدقاء الثقة في الدعم في أوقات الشدة المادية والعاطفية، وتساعدنا
في التعرف على أنفسنا والعالم. في بعض الأحيان، يمكن للأصدقاء فقط إيصال الحقائق الصعبة بشكل فعال. بالنسبة لأبيقور، تتويج نعمة الأصدقاء الجيدين هو دورهم في بناء مكتبة الذكريات المبهجة التي نعتمد عليها في أوقات الشدة أو الملل أو سوء الحظ.
ومع ذلك، تكشف مجموعة كبيرة من الأدلة أن الكثير منا يفشلون في إشباع الرغبة الضرورية في الحصول على أصدقاء، على الرغم من أننا نقدِّر الصداقة ونحتفل بها، إلا أن نسبة عالية من الناس أفادوا بأن لديهم عدداً قليلاً من الأصدقاء المقربين والداعمين إن وُجدوا. تكشف الدراسات الطولية أن الوحدة لا تدمر صحتنا النفسية فحسب، بل تدمر صحتنا الجسدية كذلك، حتى أن المملكة المتحدة عينت وزيرًا للوحدة في عام 2018 لمعالجة هذه القضية. فلماذا نفشل في تحقيق شيء يبدو أننا جميعاً نريده وينتج عنه مثل هذه الفوائد الكبيرة؟
يعتقد أبيقور أننا في بعض الأحيان نختار ونبقى في صداقات غير صحية، وفي أحيان أخرى نفشل في تحديد الأولويات وتعميق صداقاتنا الصحية، حسنًا، في بعض الأحيان مع الأسف لسنا بأنفسنا أصدقاء رائعين.
ترتكز الصداقات الأبيقورية على سمتين: الثقة والاعتراف المشترك بما يهم في الحياة.
من خلال الثقة يعني أبيقور أن الأصدقاء يمكنهم الاعتماد على الدعم المتبادل في أوقات الحاجة أو سوء الحظ، وليس أننا نستطيع أن نثق في صديق لن يبالغ في طهي الطعام مثلاً، يمنحنا الأصدقاء الثقة بشأن مستقبلنا ويسهلون علينا الوصول إلى الطمأنينة. باختصار، الأصدقاء لا يجعلون الأصدقاء قلقين، إذا كان لدينا سبب وجيه للاعتقاد بأن صديقاً سيتخلى عنا في وقت الخطر، فإن أبيقور يعتقد أن الصداقة مجرد علاقة وربما مضيعة للوقت. وعلى نفس المنوال، لدى أصدقائنا سبب لتوقع الثقة والدعم منا، الصداقة هي مصدر للفرح، ولكنها تبدأ بالاعتراف المتبادل بالحاجة الإنسانية.
والسمة الثانية للصداقة الآمنة ـالمفهوم المشترك لما يهم تعمل على تعزيز الثقة. يعتقد أبيقور أنه عندما ندخل في علاقة أو نحافظ عليها لأسباب متقلبة، فإن صداقتنا أيضاً تكون غير آمنة، فكر مثلاً في رفاق الشرب، في حين أن أصدقاء الشرب قد يستمتعون بأشياء كثيرة أثناء الشرب، إلا أن الصداقة تنهار إذا توقف أحد الأصدقاء عن الشرب، الصداقات التي تحركها وتدعمها الرغبات المسببة للتدهور في الجمال أو المكانة أو الثروة تكون غير مستقرة لأن الجمال والمكانة والثروة هي في حد ذاتها غير مستقرة.
من الممكن أن نفقد الثروة بسبب سوء الحظ، ويختفي جمال الشباب حتماً. وبما أن هذه الصفات تأتي بدرجات، فإن الصديق الذي تأسره الرغبات المسببة للتدهور قد ينتقل إلى شخص آخر عندما يظهر خيار أكثر ثراء أو شعبية أو أجمل، على النقيض من ذلك، فإن الصداقات الأبيقورية متجذرة في أشياء تقع تحت سيطرتنا إلى حد كبير وليست عرضة للمنافسة، الدعم والموثوقية ورفض الرغبات المسببة للتدهور كسبب وجيه للدخول في صداقة أو الحفاظ عليها.
يلعب الأصدقاء الموثوق بهم دوراً حاسماً في النهج الأبيقوري للتحضير للشدة وإدارتها، تذكر أن الأبيقوريين على عكس الرواقيين يرفضون العناية الإلهية، لذا فإن موت الطفل لا يتناسب مع الخطة الإلهية المنظمة جيداً والتي تقع خارج نطاق الفهم البشري. المصائب لا تحدث من أجل الخير لأنها لا تحدث من أجل أي شيء، وكما قال الفيلسوف جوليان باجيني في صحيفة الغارديان هذا العام: “كان أبيقور واقعياً بالدرجة الكافية لتقبل حقيقة مفادها أن الظروف الخارجية من الممكن أن تجعل الحياة لا تطاق، وأن الحزن أمر طبيعي وحقيقي، وأن الأشياء تحدث”. وعندما يحدث ذلك، فأنت بحاجة إلى صديق يظهر لك عند عتبة بابك ولا يهرب إذا بدأت بالبكاء بشكل غير متوقع، ويأخذ أطفالك إلى السينما حتى تتمكن من قضاء بعض الوقت بمفردك. في حين اعتبر الرواقيون مثل سينيكا أنه من المخزي أن نحتاج إلى الأصدقاء صدقاء في الأزمات، اعتبر الأبيقوريون أنه من الخطأ أن ننكر حاجتنا إلى الأصدقاء.
يساعدنا الأصدقاء أيضاً في الاستعداد لمواجهة سوء الحظ بطريقة أكثر غرابة في مذهب اللذة الأبيقوري. يوصي بعض معارضي الأبيقورية بالتدرب مسبقاً على الشرور المحتملة وإجراء نوع من التدريب الذهني على المحن التي قد لا تحدث أبداً، مما يجعلك لا تعتقد أن مثل هذه الأحداث ضارة. لكن الأبيقوريين يفضلون عدم اقتراض المتاعب، حيث يعتقدون أننا نستعد بشكل أفضل لسوء الحظ من خلال العيش بسعادة مع الأصدقاء وتنمية الامتنان لتلك الفرحة من خلال تذكرها
ووضعها في الاعتبار.
إذا استخلصت أي شيء من هذا الاعتبار للأبيقورية، فيجب أن يكون هذا أفضل شيء يمكنك القيام به لنفسك هو تكوين صداقات داعمة تستحق الثقة، والتأكد من أنك تستحق ثقة أصدقائك، ثم عيشوا معاً بسعادة وشاركوا متعكم الخاصة واصنعوا متعاً مشتركة. إذا أصابك سوء الحظ وسيحدث ذلك بشكل عام خلال حياتك، فيمكنك الاعتماد على تلك الموارد الوفيرة(أصدقائك الداعمين ومكتبة ذكرياتك الغنية) لتسليتك عن الألم والمساعدة في تذكيرك بروعة الحياة.

وأخيراً عليك أن تضحك! يكتب أبيقور أن”على المرء أن يتفلسف وفي نفس الوقت يضحك…وأن يستخدم بقية ممتلكاته الشخصية، وألا يتوقف أبداً عن التصريح بأقوال الفلسفة الصحيحة”. الفلسفة الصحيحة يجب أن تكون ممتعة تماماً مثل الحياة.