مجلة حكمة
كتاب الميتافيزيقا ابن رشد

ابن رشد أمام النص الميتافيزيقي – محمد مزوز


هناك مشكلة متداولة بين دارسي المتن الأرسطي تتعلق بطبيعة الكتابة الفلسفية ذاتها، إذ من المعروف أن أرسطو كان يكتب بلغة مزدوجة: بعضها مخصص للعامة، يسيرة الفهم، يسهل تداولها على نطاق واسع؛ وبعضها موجه للخاصة، مكتوبة بلغة تقنية صارمة، سبل إدراكها غير ميسرة للجميع. النوع الأول يسمى بالكتابة الظاهرية Exotérique، بينما يسمى النوع الثاني بالكتابة الباطنية Esotérique أو Acromatique.

كتاب الميتافيزيقا

يدخل كتاب الميتافيزيقا أو ما بعد الطبيعة ضمن كتابات أرسطو الباطنية، لذا سيظل مجرد “دروس” محفوظة في كراسات التلامذة على شكل أفكار ورؤوس أقلام وتوجيهات وإحالات.. الخ. إنها دروس يطغى عليها الطابع الشفوي، مما سيفقدها تماسكها الداخلي ووحدتها العضوية المفترضة في كل مؤلف لا يخرج إلى النشر إلا بعد مراجعات وتدقيقات وتنقيحات سواء على مستوى المعنى أو على مستوى التعبير.

نقلت لنا روايات قديمة بعضها يجنح إلى الخيال وبعضها إلى الواقع المشاكل التي اعترضت مقالات ما بعد الطبيعة، وكيف انتقلت من يد إلى يد قبل أن ترى النور أخيرا. يعود مؤرخو الفكر الأرسطي إلى استرابون Strabon وبلوتارك Plutarque لبيان مسار الميتافيزيقا، حيث بدأت رحلة مقالاتها مع تاوفراسطس Théophraste -أحد تلامذه أرسطو- الذي تولى مهمة تسيير شؤون الليسي Lycée، بعد وفاة أستاذه. وتاوفراسطس هذا هو الذي سلم مخطوطاته ومخطوطات أستاذه إلى شخص يدعى نيلوس Nélus، فحملها هذا الأخير إلى طروادة وتركها لورثته. ولما خاف هؤلاء الورثة من جشع ملوك برغام Pergame الذين أرادوا تكوين خزانة تنافس خزانة الإسكندرية، عمدوا إلى إخفاء تلك المخطوطات بطريقة عشوائية في قبو، مما ألحق بها أضرارا بفعل الرطوبة وبعض الحشرات. وفي عهد سيلا Sylla تم اكتشاف تلك المخطوطات، ومن بينها مقالات ما بعد الطبيعة التي وجدت بها إضافات في غير محلها وقراءات خاطئة للمتن الميتافيزيقي. بعد الاستيلاء على أثينا عام 86 ق.م من طرف سيلا Sylla، نقلت هذه المخطوطات إلى روما ووقعت بين يدي النحوي تيرانيون Tyrannion -صديق شيشرون- الذي عمل على ترتيبها وتبويبها ونسخها، ثم سلمها إلى المشائي أندوونيكوس الروديسي Andronicus de Rhodes (الخليفة الحادي عشر لأرسطو على رأس الليسي). وهذا الأخير هو الذي أخرج النشرة النهائية لمقالات ما بعد الطبيعة بأخطائها وإضافاتها حوالي سنة 60 ق.م. ومن هذه النشرة الأولى، انحدرت كل النشرات اللاحقة حسب قول استرابون Strabon.

هذا الزمن الطويل الذي مر على مقالات ما بعد الطبيعة قبل إخراجها إلى النشر، جعلها تتداخل على غير ترتيب نتيجة تدخل أياد عديدة. يضاف إلى ذلك أن أرسطو كتب تلك المقالات على فترات طويلة من حياته الفكرية، مما كان سببا رئيسيا في عدم تجانسها من حيث المحتوى المعرفي. ويجمع المتخصصون في المتن الأرسطي على أن مقالات ما بعد الطبيعة متناقضة وأحيانا يظهر أن المقالات يكرر البعض الآخر. وأهم الاجتهادات التي قلبت الدراسات الأرسطية راسا على عقب هو الذي قدمه الفيلولوجي الألماني فيرنر ياجر W. Jaeger الذي يرى أن الترتيب الحالي لمقالات ما بعد الطبيعة تم وضعه من طرف الناشرين القدامى لـ كتاب الميتافيزيقا، فهم “وضعوا حاشية مقدمة الكتاب المعروفة بألف الصغرى (a ) مباشرة بعد ألف الكبرى (A) فقط لأنهم لم يتعرفوا على مكانها، وهي في الأصل ليست سوى ملاحظات دونها باسيكلس Pasicles -حفيد أوديموس الروديسي أحد تلامذة أرسطو- على هامش قراءته للكتاب. أما مقالات ألف الكبرى والباء والجيم (G AB) فهي تشكل كلا موحدا، في حين أن مقالة الدال (D ) كانت معروفة في العهد الإسكندراني كعمل مستقل كما تخبرنا إحدى الترجمات القديمة. أما مقالة الهاء (E) فهي مجرد فقرة تنقلنا إلى مقالات الزاي والحاء والطاء (q ZH)، وهذه المقالات الثلاث تشكل وحدة عضوية، إلا أن ارتباطها بما سبقها يثير إشكالا. مقالة الياء (I) هي نقاش لمسالة الوجود والوحدة، وبعدها مباشرة تنقطع كل رابطة بين ما سبق وما لحق من المقالات. أما مقالة الكاف فليست سوى صورة أخرى لمقالات الباء والجيم والهاء (E G B) أضيفت إليها بعض الاقتباسات من كتاب الفيزياء، فقط لأنها أرسطية في حد ذاتها وجزء من مجموع المخطوط رغم أنها ليست ذات صلة بما يجاورها. كذلك يوجد جزء منتزع من كتاب الفيزياء وتم حشره في مقالة الدال (D ). أما مقالة اللام (L ) فهي مستقلة بنفسها وتعطينا نظرة شمولية عن النسق الميتافيزيقي ككل، ولا نعثر فيها على اي ارتباط ببقية المقالات. المقالتان الختميتان ميم ونون (MN) لا ترتبطان بما سبقهما، وقد لوحظ ذلك منذ القديم مما أدى إلى ترتيبهما قبل مقالتي الكاف واللام (L K) في عدد كثير من المخطوطات، ورغم ذلك لم يؤد هذا الترتيب إلى أي تسلسل للتفكير”(1).

أ ـ عدم التجانس في الزمان وفي المحتوى:

إذا عدنا إلى تاريخ تأليف هذه المقالات، سنجد بينها هوة شاسعة. فمقالة ألف الكبرى مثلا (A) تعود إلى مرحلة آسوس Assos، وحينها كان أرسطو أفلاطونيا. تأليف هذه المقالة -وكذا مقالة الباء (B)- في تلك المرحلة جعل أرسطو يتكلم بضمير المتكلم “نحن” ويقصد بذلك “نحن الأفلاطونيين”، بينما يغيب هذا الضمير تماما ابتداء من مقالة الزاي (Z)، وهذا يعني أنه حدث انفصال بين مذهب أرسطو ومذهب أفلاطون، ومن المعقول أن يحصل ذلك في نفس الكتاب أي الدفاع عن مذهب ما في بداية الكتاب ورفضه في وسطه أو خاتمته. إذن لا يمكن حل هذا التناقض إلا باللجوء إلى التاريخ الفكري لأرسطو، حيث كان في مرحلة الشباب يتكلم بلسان أستاذه أما في شيخوخته فقد نضجت أفكاره وتبنى موقفا خاصا به.

أما إذا عدنا إلى المحتوى المعرفي لمقالات ما بعد الطبيعة، فسنجد وراء عدم تجانسه عاملين أساسيين: أحدهما يرجع إلى أرسطو ذاته، وثانيهما يرجع إلى الطابع الشفوي لتلك المقالات. أما العامل الأول فيظهر من خلال انتقال أرسطو بين موضوعات متنوعة الأغراض، ويلخص ليون روبان Léon Robin ذلك الانتقال كما يلي:

“يحدث لأرسطو أن يعالج أمام تلامذته بعض القضايا الخاصة في الفلسفة: القوة والفعل، الواحد والكثير وهي الدروس التي تحولت فيما بعد إلى مقالتي الطاء (q ) والياء (I) في كتاب الميتافيزيقا، أما مقالة الباء (B) ومقالة الجيم (G ) ومقالة الهاء (E) فهو يطور فيها الجزء الأول من مقالة الكاف (K)؛ أما مقالة الميم (M) فهو يقدم فيها صياغة جديدة لألف الكبرى (A) ولمقالة النون (N). إن الفقرة الثامنة من مقالة اللام (L ) مثلا هي تعديل مهم للعلم الإلهي الأرسطي: إنه تأمل فلسفي خالص يبدأ من الفقرة التاسعة، ثم ينقطع فجأة باستطرادات من طبيعة فلكية”(2).

يظهر عدم التجانس في كتاب ما بعد الطبيعة إذا نحن قارنا بين التصميم الذي ورد في مقالة الباء (B)، وبين الإنجاز الفعلي لذلك التصميم في المقالات اللاحقة. ولو تتبعنا ترتيب الإشكالات التي جاءت على شكل فهرست والتي وعد أرسطو بمناقشتها في صلب الكتاب، لقادنا ذلك الترتيب بنوع من التدريج إلى العالم المعقول في مقالة الزاي (Z). لكن عوض ذلك “تواجهنا مقالة الزاي بطريقة غير منتظرة بنظرية الجوهر بشكل عام”؛ وهذا يعني أن “أرسطو تخلى في نصف الطريق عن التصميم الأصلي الذي تصوره في مقالة الباء”. ومن ثم فإن “مقالات الزاي (Z) والحاء (H) والطاء (q ) ليست إنجازا للتصميم الأصلي بتاتا، بل هي شيء جديد أضيف لاحقا، أو حشر حشرا”(3).

هناك مظهر آخر لعدم التجانس في المحتوى يتعلق هذه المرة بالتكرار، فبعض الفقرات نعثر عليها في أكثر من مقالة. فمثلا الفقرة الأولى من مقالة الهاء (E1) تعادل الفقرة السابعة من مقالة الكاف (7K)، وبداية مقالة الجيم (G ) تعادل الفقرة الثالثة من مقالة الكاف (3K).. وهكذا(4). إن عدم التجانس بين هذه المقالات سيضع القارئ في حيرة من أمره, لأن الخيط الناظم للكتاب مفقود، فالموضوعات تظهر وتختفي حسب المزاج، والمقالات لا تفي بما تعد به، وبعض الفقرات حشرت في النص عسفا، وبعضها يحيل على مضامين نفتقر إلى مصادرها.. أما المسافات الفاصلة بين الوعد والإنجاز، فإنها تظهر كاستطرادات.. إلى غير ذلك من الثغرات والعوائق التي تقف كسد مانع أمام قارئ كتاب ما بعد الطبيعة. وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل الفلاسفة اللاحقين على أرسطو لا يتقيدون بالتفسير الحرفي للكتاب، فحملوه ما ارادوا وجعلوه مطية لتأويلات خاصة. وفي التقليد الفلسفي الإسلامي لا نجد سوى حالة يتيمة بخصوص هذا الكتاب وتفسيره على الحرف: إنها حالة ابن رشد. فابن رشد هو الذي تجشم عناء الوقوف على دقائق الكتاب، فراح يقرأ الترجمات، ويقارن بين النسخ، ويملأ البياض، ويقدم التريرات..

  •  كيف قرأ ابن رشد كتاب ما بعد الطبيعة؟ هل شعر بالعوائق السالف ذكرها؟ وعلى فرض أنه شعر بها، فكيف عمل على تجاوزها؟

  •  لكن هل من حقنا أن نطرح مثل هذه التساؤلات الحديثة على فيلسوف تفصلنا عنه ثمانية قرون؟ أليس في ذلك نوع من “الإسقاط”؟ ألا يعني ذلك أننا نخلط بين العصور وبين الإبستميات؟

ب – الترتيب الأفضل:

حين نستمع إلى رأي ابن رشد في كتاب الميتافيزيقا، وفي كيفية ترتيب مقالاته، نصاب بنوع من الإعجاب والاندهاش في نفس الوقت. فهو يصرح باطمئنان أن “ما احتوت عليه مقالة مقالة من مقالات هذا العلم المنسوبة إلى أرسطو طاليس.. جارية على النظام الأفضل في الترتيب، وأنه ليس فيها شيء وقع على غير ترتيب ولا نظام كما نجد نيقولاوش الدمشقي يزعم ذلك في كتابه، وأنه لمكان هذا اختار فيما زعم -ليعلم هذا العلم- ترتيبا أفضل”(5).

أما سبب الإعجاب فيكمن في أن ابن رشد لم يكن جاهلا بأشكال الاختلاف والتضارب والطعون التي كانت توجه لمقالات ما بعد الطبيعة، وأما سبب الاندهاش فهو إيمانه الراسخ بأن الترتيب الذي وصل إليه يشكل النظام الأفضل لمقالات أرسطو الميتافيزيقية. إن ما يظهر للناس تكرارا في مقالات ما بعد الطبيعة، لا يلزم فهمه “على جهة التكرار بل على جهة التذكار”. لأن طريقة أرسطو في التأليف تعتمد على “تذكير” القارئ بما تبين في علوم أخرى (كالرياضيات والفيزياء مثلا)، لكي يضعه في المناخ العام للنقاش، ولتسهيل المقارنة بين نتائج تلك العلوم ونتائج هذا العلم (أي علم ما بعد الطبيعة). وقد يكون التذكير متعلقا بما ورد في مقالات سابقة، من أجل تهييئ القارئ لاستئناف النظر في المقالات اللاحقة.

إذا اعتمدنا على معيار “التذكار” بدل معيار “التكرار”، سوف تتبدد كل الشكوك السابقة بصدد هذه المقالات؛ سواء من حيث الترتيب المنطقي أو من حيث المضمون المعرفي. فكل مقالة تنتهي إما بالإحالة على لاحقتها، وإما لأن الموضوعات التي تعالجها تكون بمثابة توطئة لموضوعات المقالة اللاحقة. وهذا كله يجعلنا نخلص إلى رؤية حول كتاب ما بعد الطبيعة باعتباره مؤلفا منسجما، وليس مجموعا غير منظم وغير مرتب كما ذهب إلى ذلك جل الدارسين القدامى منهم والمحدثون. ومن هذه الزاوية، لا يمكن للمرء إلا أن يقدر الجهد الذي بذله ابن رشد من أجل الوصول إلى هذه الرؤية المنسجمة. وهذا التقدير لا يحس به إلا رجل الفيلولوجيا، كما هو الشأن لدى أوبير مارتان Aubert Martin الذي يعتبر ابن رشد في هذا المجال مضاهيا لبعض الدارسين المعاصرين(6).

لكن هذا الترتيب الذي يعتبره ابن رشد بمثابة “النظام الأفضل” لبنية ما بعد الطبيعة، ستواجهه صعوبات أو على الأقل تساؤلات تستدعي حلا. وأول تساؤل يمكن أن يفرزه هذا الترتيب الرشدي يتعلق بغياب المقالتين الأخيرتين أعني ميم ونون (M N)! ذلك أن ابن رشد لم يقم بتفسيرهما على غرار ما فعله بالنسبة لباقي المقالات، باستثناء مقالة الكاف. والأمر لا يتعلق بعدم اطلاعه عليهما أو عدم توفره على ترجمتها، بل بالعكس من ذلك فهو يعلن في ديباجة مقالة اللام أن أرسطو “لما فرغ من رأيه في مبدأ الكل، عاد إلى معاندة ما قال من تقدم في مبادئ الجوهر، وذلك في المقالتين المرسوم عليهما حرف ميم وحرف نون”(7). كما أن هناك قاعدة تحكم الكتابة الرشدية هي التصريح بعدم اطلاعه على نص ما أو مقالة معينة، إذا تبين له أنها مفقودة من النسخة التي يملكها. وكمثال على ذلك يصرح ابن رشد أنه لم يفسر مقالة الكاف من ما بعد الطبيعة، يقول: “ولسنا نجد بحسب ترتيب الحروف مقالة الكاف ولا وقعت إلينا”(8).

من هنا نستنتج أن عزوف ابن رشد عن شرح مقالتي الميم والنون يرجع إلى سبب ما؛ فهل يعود الأمر إلى أن تينك المقالتين وقعتا في محظور ما كان ابن رشد ينبه عليه؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون تقليدا للإسكندر؟ حيث ينقل ابن رشد عن الإسكندر قوله:

“إن المقالتين اللتين بعد هذه المقالة، ليس يبين [يقصد أرسطو] فيهما شيئا على القصد الأول، ولا يصحح فيهما شيئا من رأيه الخاص به. وإنما تضمنت مناقضة أقوال الذين قالوا إن مبادئ الموجودات هي الصور والأعداد”(9).

وعلى فرض أن هذا التبرير هو الذي دفع الإسكندر إلى الإعراض عن تفسير المقالتين، فما الذي دفع ابن رشد إلى اقتفاء آثار الإسكندر؟ ألم يقل فيما سلف إن مقالات ما بعد الطبيعة مرتبة على “النظام الأفضل”؟! هل نتبع ما قاله أرسطو أم ما قاله الإسكندر؟! ثم هل صحيح أن الإسكندر هو الذي قدم هذا التبرير؟ نطرح مثل هذا السؤال، لأن الإسكندر لم يكن يملك النشرة الرابعة (الكاملة) لـ كتاب الميتافيزيقا، بل كانت بحوزته النشرة الثالثة فقط وهي التي تقف عند مقالة اللام كما يذهب إلى ذلك ميشله L.Michelet(10).

أما إذا لم يكن الأمر مجرد تقليد للإسكندر، فهذا يعني أننا أمام اجتهاد رشدي خالص يحاكي اجتهادا من نوع آخر ويتعلق بوضعه لمقالة ألف الصغرى في بداية التفسير بينما تأتي في المرتبة الثانية عند أرسطو. فهل رأى ابن رشد في مقالتي الميم والنون نشازا يفسد نظام المتن الميتافيزيقي؟ ومن مظاهر ذلك الإفساد: السجال والتكرار. فموضوع المقالتين هو “مناقضة” أقوال القدماء، وهو أيضا تكرار لما ورد في مقالة ألف الكبرى. يقول:

“وهذه المعاني قد كان تكلم فيها تكلما في المقالة المرسومة عليها ألف الكبرى وهي الثانية من مقالات هذا الكتاب، ثم استوفى القول في ذلك في هاتين المقالتين الأخيرتين”(11).

هذا الكلام ينقله ابن رشد عند الإسكندر، ولذلك لا نملك إلا أن نستغرب من التصريح الوارد فيه بخصوص وضع مقالة ألف الكبرى باعتبارها تأتي في المرتبة الثانية. لأن الإسكندر كان يملك الترتيب اليوناني لمقالات ما بعد الطبيعة، ومقالة ألف الكبرى تأتي في المرتبة الأولى وليس الثانية في ذلك الترتيب. فهل كان ابن رشد يقرأ في مخطوط الاسكندر حاشية مكتوبة بيده كما يذهب إلى ذلك أوبير مارتان A. Martin؟ بمعنى أن ابن رشد كان يقرأ كلامه هو منسوبا إلى الإسكندر!

أخيرا نضيف إلى هذا كله خصوصية رشدية ثالثة في تفسيره لـ كتاب الميتافيزيقا، وتتعلق بمقالة اللام. عندما وصل ابن رشد إلى هذه المقالة ترك النص الأرسطي جانبا، وبدأ يشتغل على تفسير الإسكندر لهذه المقالة أو الجزء الأعظم منها. فما الداعي إلى تلخيص تفسير الإسكندر، بينما نحن أمام تفسير للنص الأرسطي؟ لماذا إقحام تلخيص في تفسير؟ هل اصطدم ابن رشد بأرسطو في هذه المقالة، فوجد في الإسكندر مخلصه الأمثل؟ لأن المقالة تثير مشكلة جد حساسة تتعلق بمسالة الألوهية: المشكلة الثيولوجية التي يثيرها المحرك الأول.

وبعد هذا كله، ماذا يبقى من “النظام الأفضل في الترتيب”؟ كيف نتصور أن مقالات أرسطو الميتافيزيقية مرتبة بطريقة مثالية ونموذجية، في الوقت الذي يضطر فيه ابن رشد إلى حذف مقالات أو تغيير وضع بعضها أو التخلي عن البعض الآخر وتعويضه بتفسير أو تلخيص..الخ؟ هل “النظام الأفضل في الترتيب” هو الذي اختاره أرسطو؟ أم هو الذي اختاره الإسكندر؟ أم هو الذي اختاره ابن رشد؟ ما المقصود بالنظام الأفضل هنا؟

أما أن يكون أرسطو هو الذي اختار هذا “النظام” فهذا قول لا معنى له، لأن مقالات ما بعد الطبيعة لم تنشر إلا بعد وفاة أرسطو. أما أن يكون الإسكندر هو صاحب الترتيب، فهذا الأخير كان يتبع ترتيب الناشرين القدامى الذي لا يتماشى مع ترتيب ابن رشد. يبقى أن “النظام” الذي يتحدث عنه ابن رشد هو نظام متخيل، أي أنه تصور كتاب الميتافيزيقا في ذهنه. فأرسطو الحقيقي لا وجود له سوى في ذهن الفلاسفة، كل يتصوره على شاكلته أو كخصم له. إن “النظام الأفضل” في ترتيب كتاب الميتافيزيقا لا يوجد في ما بعد الطبيعة، بل هو موجود في تفسير ما بعد الطبيعة. وبعبارة وجيزة -وفيها الكثير من المجاز- إن أرسطو الحقيقي هو ابن رشد وليس أرسطو!


نص المداخلة التي شاركنا بها في الندوة التي نظمتها الجمعية المغربي لمدرسي الفلسفة (فرع فاس) بتنسيق مع المجلس البلدي أكدال ومندوبية وزارة الشؤون الثقافية، يومي 21-22 فبراير 1998. (مجلة الجابري – العدد السادس عشر)


هوامش (كتاب الميتافيزيقا):

1 – W.JeagerAristotle, Fundamentals of the history of this developmentOxford University, Press 1962, p.169-170.

2 – Léon RobinAristotePUF 1944, p.25.

3 – W.JeagerAristotlep.196-197.

4 – Ibid, p.214.

5 – ابن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، ص1405.

6 – Aubert MartinAverroès, Grand commentaire de la Métaphysique d’AristoteLivre Lam ed. Les belles Lettres 1984, p.10-11.

7 – ابن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، ص1405.

8 – ابن رشد: نفس المصدر، ص1404.

9 – ابن رشد: نفس المصدر، ص1395.

10 – Ch.L.MicheletExamen critique de l’ouvrage d’Aristote intitulé MétaphysiqueVrin 1836, p.236.

11 – ابن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، ص1395.