مجلة حكمة
قضية آيخمان (١٩٦٣) - جورج ليتشم / ترجمة: سارة اللحيدان

قضية آيخمان (١٩٦٣) – جورج ليتشم / ترجمة: سارة اللحيدان


غدت محاكمة آيخمان محور جدل يتجاوز الحدود الوطنية والدينية‫.‬ وقد مُنحت القضية مؤخرًا بُعدًا آخر في ألمانيا، وذلك عقب استهجان لحق بمسرحية هوتشوث ‫(‬الكاهن‫)‬، والتي كانت اتهاما متقدا ضد سياسة الصمت التي انتهجها الفاتيكان في زمن الحرب، خاصة من البابا بيوس الثاني عشر، إذ لم يبال بالمذبحة اليهودية، واكتفى بالقلق حول تهديد المدّ الشيوعي‫. وحالما أشهر أ‬سقف ألماني سلاحه ضد هذه المسرحية، دوت عاصفة أخرى من الوعيد‫، في حال وصول هذه المسرحية إلى لندن و نيويورك، وهذا ماسيحصل قريبا. لذا، على النقاد والعامة أن يفكروا بأعظم من ذلك، بدلا من النزاع حول إخفاق مزعوم للمنظمات اليهودية بمقاومتها أو تدميرها “الحل النهائي” لهتلر، أعقب كل ذلك نشر كتاب (آيخمان في القدس) لحنة آرندت في نيويورك‬.

‎من دون شك، علم الكاردينال مونتيني ‫(‬حيث كان لايزال‫)‬ بما هو فاعل في يونيو الماضي، وذلك عندما تدخل في أعمدة الصحيفة اللندنية الكاثوليكية ‫(‬التابلت‫)‬ مدافعا بألم وغضب عن سلفه البابا بيوس، بعدما علم أن ذلك هو آخر نشاط عامي له قبل أن يعتلي العرش البابوي‫.‬ صادف أن هوتشوث مؤلف هذه المسرحية كان لوثريا، لكن العبء الذي كان على عاتقه‫-‬ بأن اليهود مستهلكين بالنسبة لعشيرته‫-‬ قد أثار الحرج بين المثقفين الألمان الكاثوليك‫.‬ من المتفق عليه أن الرأي الألماني العام بكامله كان مصدوما، لكن معظم الألمان مازالوا يتذكرون أيام الحرب ومواعظ الكاثوليك والبروتستانت المنادية بمكافحة الخطر الأحمر الشيوعي‫.‬ أما وقد امتدت الديمقراطية المسيحية الآن على أرجاء الغرب الأوروبي، غدت هذه الذكريات محرجة وغير واقعية، وربما كان ذلك مدعاة لتفاجؤا عامة البريطانيين، وبلا شك للأمريكيين أيضا بأخبار النزاع القائمة.

‎من هذا المنطلق، أصبحت كارثة اليهود فصلا نموذجيا في التاريخ الأوروبي الحالي، مع الأخذ بالحسبان أن ممارسات المحاكمة شابهت مجزرة الأتراك مع الأرمينيين خلال وبعد الحرب العالمية الأولى‫.‬ على هذه الخلفية، سقطت قضية اليهود ومإذا كان بوسعهم أن يفعلوا لحماية أنفسهم كمشكلة من الدرجة الثانية‫،‬ أو هكذا بدت لسكان أوروبا ‫(‬ أقصد البريطانيين في هذا النقاش، وكونها جزءا من أوروبا‫).‬ إلا أن القضية مختلفة بشكل واضح عند الأمريكيين، ومن باب أولى اليهود الأمريكيين الذين يكافئون حتى هذه اللحظة على مشاعر الذنب، وربطهم الحازم لهذه القضية بالأساطير البطولية‫.‬ لن يفاجأ المرء أن يقابله في جوهر تلك الأساطير معتقدٌ مسلّ له، بأن قتل حوالي خمسة أو ستة ملايين يهودي‫-‬ معظمهم في الشرق الأوروبي‫-‬ قد حُملت على أنها جريمة مروعة من قبل المحيطين، بينما الحقيقة أن معظمهم رحبوا بها ولم يفعلوا شيئا لمساعدة الضحايا‫.‬ ينطوي على الجزء المركزي من صناعة الأسطورة أجزاء وقطع أخرى‫، مثل ‬مفهوم تعلمناه أن الحقيقة هي مابقى في النهاية، وأن الألمان آسفون حقا‫، بينما الحقيقة المبتذلة أنهم آسفون فقط على أنفسهم. ويعود لحنة أرندت الفضل بتعاملها القاسي مع هذه الأوهام العاطفية وغيرها. مع أنها خلال العملية استسلمت لإغراء إفراغ الطفل إلى جانب تحميمه(١). ومع ذلك، ليس هذا بموضع خلاف، حتى على الرغم من تمسكها بما يمكن تسميته رسالتها- خصوصا وثائقها الضخمة المقدمة في كتاب راؤول هيلبيرغ ( تدمير يهود أوروبا) والذي أحدث ضجة من دون شك، تبقى‬ الحقيقة أنه حتى من دون مبالغاتها، فالأمر لايحتمل التفكير، وربما هذا بالضبط مايستحث على التفكير، فمثل هذا النقاش المعين يلزمه أن يستمر لبعض الوقت‫.‬

‎ لايخول الدخلاء مثل مراجعيّ اليوم للتعليق على توبيخ السيد موزمانو للآنسة أرندت في صحيفة نيويورك تايمز، وماتبع ذلك من مراسلات‫.‬ ومن الصعب تفويت مغزى كتابها بأكثر مما أنجزه القاضي موزمانو، لكنه يملك شركة جيدة على أي حال أو شركات متعددة‫.‬ قد يشك المرء أن bien-pensant لن تتخلى في مقالاتها عن صورتها التقليدية بأن العالم تحدث فيه أشياء مروعة بالفعل من زمن لآخر، لكن بصورة خروج عن المألوف فقط، وهذا مايتعذر تفسيره‫.‬ ففي نظرهم، أن جريمة الآنسة أرندت الحقيقية هو تلميحها بأن آيخمان ربما كان بالفعل قاتل متمرس بمستوى متوسط، وهذا التضمين هو عيّنة منصفة ممثلة لجيله‫.‬ شحبت تعاستها الثانوية مقارنة بتلك الفكرة التخريبية‫-‬ حيث علم ملايين الناس تحت الحكم الألماني‫(‬ ناهيك عن الألمان أنفسهم‫)‬ بصحة ذلك‫.‬ حتى معاملتها للصهاينة على سبيل المثال، كصورة عرضية من الخبث ‫(‬ والتي اتخذها بعض النقاد إدانة خاصة‫)‬ أصبحت أيضا مسألة ثانوية‫.‬ فهناك بعد كل شيء، قضية العدالة، أو ظلم الأفراد والمجالس اليهودية في أوروبا المحتلة، وهو أهم من قضيتها‫.‬ على أساس أن سؤالها حول ما إذا كان تفسير الكارثة العظيمة يطابق إلى حد كبير حقائق التاريخ الأوروبي كما خبرها ملايين البشر من قبل ١٩٣٣ و ١٩٤٥، وبدا للمراجع أنها مخطئة فقط بعدم قسوتها على الحلفاء والمحايدين.

‎في معظم النواح الأخرى تتوجه التهمة إلى قضية عدم نجاة معظم اليهود، وأبسط جواب على ذلك لأنه مامن أحد اهتم بشكل كاف، ولأن عددا لا بأس به ممن لايستحقون احتراما، شعروا في عمقهم أن هتلر كان يؤدي عملهم القذر عنهم‫.‬ كل ذلك ليس من أجل إنكار أن كتاب الآنسة أرندت قد أظهر عيوبا مميزة في أسلوبه ومضمونه‫.‬ وقد فُهم كما ينبغي من قبل نقادها، خاصة ليونيل آبل الذي كتب مقالا طويلا وحاد اللهجة في صحفية Partisan Riview‫.‬. إضافة لظلمها المنهجي للصهاينة، الذين كانوا يحاولون ببساطة حفظ أرواحهم ‫(‬ والحصول على قليل من مساعدات الحلفاء‫)‬، وفشلت أرندت في الإشارة إلى أن اليهود في الجنوب الروسي كانوا يعيشون فوضى تامة، وكانت الكارثة على نطاق مقارن في بولندا فقط‫.‬ ولهذا، بدا من الإسراف أن تلمح بأن يهود شرق أوروبا كان بوسعهم فعل الأفضل، إذ لم يكن لهم تنظيم مجتمعي على الإطلاق‫.‬ لاتلام أرندت على مابينته حول بعض المجالس اليهودية في غرب أوروبا‫،‬ من دون شك أنهم ظنوا بأن لاخيار لهم سوى التعاون‫.‬ ولكن، لو فكرنا على سبيل المثال، بأن عشرين ألفا من اليهود نجوا في هولندا وذلك بـ ‫”‬الاختباء تحت الأرض‫”‬، سيتساءل المرء لم لم يفعل هؤلاء العشرون ألفا أو مسؤولي المجتمع اليهودي الشيء نفسه عندما أغلقت مكاتبهم ودمرت سجلاتهم، بدلا من وضع أنفسهم كحاجز عازل بين الألمان واتهاماتهم‫.‬ ساعد كتاب ‫(‬فشل القوة‫)‬ على استحضار كارثة المجتمعات اليهودية في تاريخ أوروبا وأنها يجب ألا تمر بصمت، وربما يقال على نحو لطيف أن انهيار عام ١٩٤٠ حوّل معظم الأوروبيين وبشكل مؤقت إلى ‫”‬متعاونين‫”. استغرق الأمر سنوات من الوحشية النازية لينتج اشمئزاز شعبي، وفي ذلك الوقت رُحّلت آنا فرانك ووالديها منذ فترة طويلة‬.

‎لنتحول عن هذه الاعتبارات إلى ما استحضره السيد بيرلمان بإنزال المأساة منزلة مهزلة‫.‬ السيد بيرلمان صحفي مثابر وضابط علاقات عامة إسرائيلي، وقد صنع قصة رسمية مدعومة لمحاكمة آيخمان والتي كانت خليطا بين التفاهة والابتذال، تخللها رحلات عرضية إلى مايشبه التاريخ‫.‬ كان نهجه في هذا الموضوع مألوف لمتذوقي الخيال الرديء، رغم أن المرء يفترض أن أسلوبه قد شُكّل بإدراك منه على نماذج أكثر إلهاما، مثل رومانسية‫ ا‬لسيد ليون يورس المرعبة، والتي قدمت للقارئ في وقت مبكر عينة قد تغني عن البقية.

‎‫”‬ أدولف آيخمان ‫-‬ ذاك هو الرجل‫!‬ يجب أن يقدم للعدالة مادام على قيد الحياة‫”،‬ الرجل الذي أرعد وأزبد بهذه الكلمات كان يؤكد كل كلمة وأخرى بضرب قبضته على الطاولة، كان زعيما بلا دولة، ورئيسا لليهود في فلسطين وعالم الحركة الصهيونية، هو ديفيد بن غورين الذي نصّب كأول رئيس وزراء إسرائيلي‫.‬ كانت تلك سنة ١٩٤٥، بعد فترة قصيرة من الحرب‫.‬ وهكذا بدأت رحلة البحث عن آيخمان، والتي انتهت بعد خمسة عشر عاما في حي فقير في الجنوب الأمريكي‫.‬ استمر الحال على ذلك، حيث كان هناك بضع مئات من الصفحات على هذه الشاكلة، تحتوي على مقتطفات من التاريخ وأجزاء مختارة بعناية من محاكمة القدس‫.‬ إن القول بأن السيد بيرلمان قد نجح في مهمة مستحيلة بالتقليص من كارثة اليهود إلى درجة وضعها في سيناريو هوليوودي، هو اعتراف بمواهبه الهامة في هذا الجانب، والمساعدة التي تلقاها بشكل غير مباشر من منظمي المحاكمة.

‎من غير المفاجئ أن أحد أبطاله، هو المدعي العام الإسرائيلي السيد هاوزنر، والذي أُوردت خطابته الحمقاء بنوع من التبجيل المتوقع من قبل فنان صديق‫.‬ وفيما بينهما نجح هذين الاثنين بإفراغ محاكمة آيخمان من أي معنى للكرامة‫.‬ إن القول بأن هتلر قد تفرّع من أصل فرعون، والمصادقة على الرأي الصهيوني القائل بأن التاريخ اليهودي سجل متواصل من الكوارث قد انتهى بقيام دولة إسرائيل، وغدت تلك عقائد يصعب التحري عنها‫.‬ كان ذلك متوقعا، حيث أن ما قدمناه كان تضخيما مصطنعا لآيخمان كجزء من تاريخ العالم، وخليفة لـ‫”‬ تلك الشخصيات الكلاسيكية البربرية، نيرو أتيلا، جنكيز خان‫..”‬ ‫(‬بيرلمان‫).‬ لكن حالما أرخى المدعي العام زمام هذا الموضوع لم يكن هناك بد، إذ تلا ذلك سخافات جماهيرية من أنحاء العالم ممتنين للفرصة التي أتيحت لتفريغ مشاعر الذنب على وحش في قفص الاتهام‫:‬ كما صاغها السيد هاوزنر ‫”‬هو العقل المدبر، المبادر والمنظم، الذي أمر الآخرين بإراقة الدماء في هذا المحيط‫..” بالنسبة للألمان خاصة، كان هذا الجانب من الاتهام تسلية من السماء عن موضوع المسؤولية الجماعية.‬ ولبقية العالم كان آيخمان شخصية مألوفة، قائد إجرامي يمكن التفكير فيه برهبة ممتزجة باشمئزاز‫.‬ باختصار،لم يكن هناك تنفيس، مجرد ذهول أو لا مبالاة.

‎جاءت مادة هذا المقال للتأمل في أخلاق عصر خُدّر بمخاوف متعاقبة، ليقدم أكبر من مجرد طقوس تبجيل للمعايير المعمول بها‫.‬ وبشكل عام، ساعدت المحاكمة الكثير من الناس للتخلص بما علق بهم من مشاعر سيئة‫.‬ و عُوقب مُعين الشيطان على نحو يليق، وبذا تستمر الحياة‫.‬ لأجل ذلك، كان من المهم أن تُحمل قضية آيخمان على محمل جدي ليعترف بها كمسؤولية جماعية‫.‬ ومهما عنت المحاكمة للإسرائيليين، فقد فشل معناها بالوصول لبقية العالم ‫-‬خارج نطاق الدول اليهودية، المسيحية، الإسلامية‫-.‬ يجب أن يسدل الستار في مسرحية الأخلاق على تدمير للشر، وتسقط المقصلة على عنق المجرم‫.‬ هنا فقط تتصاعد طمأنينة الجمهور، حتى مع علمهم بأن نظام الأخلاق لايزال قائما‫.‬ ليس من داع للتأكيد على أن هذا الاطمئنان كان ولا زال له أهمية خاصة للحضارات الواعية بجذورها الدينية على نحو غامض، كعلاقة المسيحية الغامضة بدينها الأم‫.‬ كاد أن يكون محالا ألا تحكم محكمة القدس بغير إعدام آيخمان‫.‬ وبفعلها هذا، قد أضاعت فرصة لتجاوز ضيق أفقها، والذي يجب أن يحسب من بين الفرص الضائعة العظيمة لهذا العصر.

المصدر

قضية آيخمان : صدرت هذه المقالة في عدد ٢٦‫-‬سبتمبر ‫- ‬١٩٦٣ 


هامش‫:‬

‎ربما قصد الكاتب الأطفال الناجين من المحرقة، وذلك في كتابها

The limits of total domination; the holocaust, plurality