مجلة حكمة
فعل المقاومة

أدب ما بعد النكبة الفلسطينية: فعل مقاومة

الكاتبسعاد العنزي

قبل النكبة، كان الأدبُ الفلسطينيُّ يتشابه كثيراً مع الأدب في أجزاء أخرى من العالم الناطق بالعربيَّة من حيث الموضوعات التي ركَّز عليها، التي عكست عناصر الثقافة والدِّين واللُّغة المشتركة. وبحسب الروائيِّ الفلسطينيِّ غسَّان كنفاني:

«إنَّ الأدبَ الفلسطينيَّ، وصولاً إلى هذه النكسة المأساويَّة قد كان جزءاً من التيَّار الرئيس للحركة الأدبيَّة العربيَّة التي ازدهرت إبَّان النصف الأوَّل من القرن. لقد حصل على مصادره من الكتَّاب المصريِّين والسوريِّين واللبنانيِّين، الذين قادوا الحركة الأدبيَّة آنذاك، بالإضافة إلى تأثُّره بهم»[1].

   إنَّما، بعد عام 1948، ولدت حركة جديدة في الأدب العربيِّ تأثَّرت بشدَّة بالكتَّاب الفلسطينيِّين وغيرهم. يسلِّط كنفاني الضوء أيضاً على المسألة الشائكة المتمثِّلة في المركز مقابل الهامش في الأدب العربيِّ، إذ يُنظر إلى الكتَّاب الذين ينتمون إلى ثقافات معيَّنة، ولا سيَّما مصرَ ولبنانَ، بأنَّهم متفوِّقون من الناحية الأدبيَّة.

   يقدِّم خالد مطاوع[2] الأسباب الداعية إلى حسبان الأدب الفلسطينيِّ أدباً ثانويّاً بالمعنى الإيجابيِّ الذي يتبنَّاه الفيلسوفان الفرنسيَّان دولوز وغوتاري Deleuze and Guattari. إنَّهما يجادلان في أنَّ أدبَ الأقليَّات المكتوب من الهوامش سياسيٌّ، بل هو ثوريٌّ حتَّى، ويتحدَّث مؤلِّفوه باسم الوعي القوميِّ، وهم أفراد يتحدَّثون بصوت جماعيٍّ أو حسب تعبيرهما: «يصبح الاهتمام الفرديُّ نتيجةً لذلك ضرورياً للغاية، لا غنى عنه، مضخَّماً، بسبب وجود قصَّة كاملة أخرى تتذبذب فيه»[3].

   ضمن هذا السياق، من المهمِّ تسليط الضوء على إسهامة سعيد القيِّمة في هذا المجال، بعنوان «النثر والرواية النثريَّة العربيَّة بعد عام 1948»[4] Arabic Prose and Prose Fiction After 1948. كان سعيد مهتمّاً في الأصل بتأثير كلٍّ من النكبة والنكسة في النثر العربيِّ، نظراً لأنَّ الحدثين كليهما قد حفَّزا ردَّ فعل يتمثَّل في المقاومة الثقافيَّة، والبحث عن هويَّة جماعيَّة جديدة، ونهج جديد للتاريخ العربيِّ. يلاحظ سعيد أنَّه بعد النكبة أصبح غالبيَّة الكتَّاب العرب منخرطين في استكشاف التأثيرين السياسيِّ والتاريخيِّ للنكبة في مشاريعهم الفكريَّة، على الرَّغم من وجود نسبة صغيرة لا يمكن إنكارها من العرب الذين أنتجوا أدباً رديء الجودة. يشير سعيد أيضاً إلى كيفيَّة امتداد تأثير النكبة إلى ما هو أبعد من الكتَّاب الفلسطينيِّين، وصولاً إلى العرب الآخرين، على الرَّغم من أنَّهم ربَّما كانوا بعيدين أيديولوجيّاً عن الأحداث السياسيَّة في فلسطين. إنَّه يناقش وجودَ ارتباطات ثقافيَّة وعرقيَّة ولغويَّة راسخة تربط العرب الآخرين بفلسطينَ، وقد تأثَّر هؤلاء بما عدُّوه نجاحاً للصهيونيَّة، وهزيمةً لإخوانهم العرب. يجادل سعيد في أنَّ النخبة الثقافيَّة كان لها دور رئيس تلعبه في أعقاب النكبة، وهو: «الإعراب عن الحاضر باستخدام المصطلحات التاريخيَّة والواقعيَّة الدقيقة التي […] هدَّدت الكارثة بالقضاء عليها»[5]، ويشير إلى كتاب المفكِّر السوريِّ قسطنطين زريق «معنى الكارثة» (1948) بأنَّه أنموذجٌ محوريٌّ لهذه الممارسة[6].

   حين تحليل تأثير النكبة في الأدب، يلاحظ سعيد أنَّ: «الموضوع الكبير لمعظم الروايات المصريَّة بعد عام 1948 كان، كما لاحظ شكري، يتمثَّل في الصراع شبه المأساويِّ بين الشخصيَّة الرئيسة وقوَّة خارجيَّة من نوع ما»[7]. علاوة على ذلك، يستشهد سعيد برسالة رجاء النقَّاش إلى الشَّاعرة العراقيَّة المعروفة نازك الملائكة، «لم تكن الكتابة مجانيَّة ولا يمكن لها أن تكون على هذا النحو: كان يتعيَّن عليها أن تضعَ نفسها في خدمة الحياة»[8]، بغية عكس مفهوم دور الكتابة في ذلك الوقت. وبحسب الناقد المصريِّ، غالي شكري، فقد أُقرَّ بأنَّ الكتابة في حدِّ ذاتها هي بمنزلة عمل مقاومة، ولا سيَّما بعد نكسة 1967[9].

   من خلال التركيز على تقنيات السرد التي اعتمدها الكتَّاب العرب، يرى سعيد أنَّ الوضع الوجوديَّ للعرب قد انعكس في الفصل بين المشاهد التي شُكِّلت على نحو متحفِّظ لرواية جبرا القصيرة، «صراخ في ليل طويل»، مناقشاً أنَّ كلَّ مدخل وظهور لشخصيَّة في العمل يؤدِّي دوراً إيجابيّاً ومهمّاً من الناحية الوجوديَّة، في حين أنَّ الوجود في حدِّ ذاته يعني الموت أو الانقراض[10]. وفاقاً لتحليل سعيد لرواية جبرا القصيرة، فإنَّ فعل الكلام، أو سرد الروايات في حدِّ ذاتها، هو دليل على الوجود.

   يستعرض سعيد مثالاً آخرَ على النثر الأدبيِّ العربيِّ، أقصوصة «رجال في الشمس» لغسَّان كنفاني، بحثاً عن دليل على تحوّل المشاهد الأدبيَّة من كونها محدودة في تصوير المشكلة أو إثبات الوجود التاريخيِّ إلى تحقيق المعاصرة في أكثر بُناها إشكاليَّةً. ويشير سعيد إلى أنَّه، ومن سخرية القدر، بينما سعى الرِّجال الثلاثة إلى مغادرة فلسطين للعيش في الكويت، فقد تُركوا في نهاية الرواية القصيرة ليموتوا. يمكن قراءة المشهد، في هذه الحالة، كعمل تحريضيٍّ:

«إنَّ المشهد بالنسبة إلى كنفاني، على نحو أساس، هو المواءمة التي يتمُّ منحها للكاتب من قِبل التقليد الروائيِّ العامّ، إنَّ ما يستخدمه هو من أجل تقديم هذا الفعل، كنتيجة لذلك، هو أداة، بمعزل عن التقليد الذي يمكن أن يعدَّها من المسلَّمات، تعلّق على نحو ساخر على النضال البدائيِّ الذي يواجه الفلسطينيَّ»[11].

   من خلال تتبُّع التغيُّرات المختلفة في موضوعات النثر العربيِّ من خلال تحليله النصيِّ الدقيق للعديد من الأمثلة من أدب الفترة، يخلص سعيد إلى أنَّ ما يميِّز كتابات ما بعد نكسة عام 1967 هو شعور عميق بخيبة الأمل والإحباط.

   عبر التركيز على أدب المقاومة، أصبح مصطلح أدب المقاومة مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالإنتاج الأدبيِّ الفلسطينيِّ بعد النكبة، لأنَّ المقاومة أصبحت هي الشكل الأساس للوجود لدى الفلسطينيِّين ككلٍّ، إذ يسعى جميع المواطنين في المجتمع إلى الدفاع عن وطنهم بأيِّ طريقة هي في استطاعتهم. بينما من الشائع أن تصوِّرَ وسائلُ الإعلام المقاومة من زاوية الصور الدراميَّة للكفاح المسلَّح، فإنَّ المقاومة في الحالة الفلسطينيَّة يُنظَر إليها بأنَّها شيءٌ يشمل الأمَّة بأسرها، من النشطاء السياسيِّين إلى الأكاديميِّين والكتَّاب الأدبيِّين.

   على الرَّغم من أنَّ الفلسطينيِّين العاديِّين قاوموا تقليديّاً من خلال إلقاء الحجارة (ما أدَّى إلى تسميتهم الشائعة بـ«أمَّة الحجارة»)، إلَّا أنَّ فعل المقاومة، لدى الشعراء والعلماء، مثل درويش وسعيد، ينطوي على الكتابة كأداة تُستخدم للدفاع عن وطنهم. يشير حمدي إلى أنَّ، وفاقاً للشاعر الأيرلنديِّ شيموس هيني Seamus Heaney، كلَّ قصيدة هي عمل مقاومة، «بيان تضامن مع المنكوبين والمحرومين والضحايا والمهمَّشين»[12]، بينما، في هذا السياق، فإنَّ الشاهد هو «أيُّ شخصيَّة تصبح فيها الرغبة في قول الحقيقة، والإكراه على التماهي مع المظلوم، بالضرورة جزءاً لا يتجزَّأ من فنِّ الكتابة في حدِّ ذاته»[13].

   كما توضِّح نجاد[14]، في السياق الفلسطينيِّ، فإنَّ المقاومة هي نوع من ردِّ الفعل ضدَّ الواقع السياسيِّ والاجتماعيِّ والثقافيِّ السائد للأمَّة التي ترى نفسها تحت الهجوم. إنَّ عنصراً أساساً من فعل المقاومة الفلسطينيَّة هذا ينطوي على البحث في السياقين الثقافيِّ والتاريخيِّ من أجل الكشف عن الواقع الخفيِّ، من خلال الإشارة إلى تاريخ فلسطين وثقافتها غير المعلَنَين والمهمَلَين. يمكن عدُّ هذا النوع من الإبداع الأدبيِّ بمنزلة «إعادة كتابة في التاريخ لما تمَّ محوه عمداً»[15].

   وعليه، فقد أوضح الأكاديميُّون والكتَّاب المبدعون أنَّ أدب المقاومة الفلسطينيَّ يرفض المحاولات الصهيونيَّة لمحو وجود فلسطين وثقافتها الإسلاميَّة من التاريخ[16]. نظر كتَّاب المقاومة الفلسطينيُّون مرَّة أخرى إلى كيفيَّة تمثيل وتفكيك تاريخهم الخاصِّ كشعب من أجل إثبات وجودهم في فلسطينَ قبل وجود المحتلِّين، مطالبين بحقِّ أجدادهم في الانتماء إلى الأراضي الفلسطينيَّة. وفي هذا السياق، فإنَّ الإشارة إلى انتشار سوء التمثيل الإسرائيليِّ للفلسطينيِّين بوصفهم إرهابيِّين في وسائل الإعلام العالميَّة هو أمرٌ ذو صلة أيضاً، في حين يحاول الكتَّاب الفلسطينيُّون الكشفَ عن حقيقة الاحتلال الإسرائيليِّ[17]. طوَّر سعيد القراءة الطِباقيَّة كأسلوب لإعادة التفكير في ما هو غير معلَن، وما لم يُقَل في ما يتعلَّق بالسرد المهيمن للمستشرقين والمستعمرين الغربيِّين، وقد قدَّم أمثلةً كثيرة على ذلك في تحليله للنصوص المختلفة التي كتبها المستشرقون الأدبيُّون، التي تظهر في «الاستشراق» (1978)، وفي «الثقافة والإمبرياليَّة» (1994).

   يتمثَّل الهدف الرئيس الثاني لأدب المقاومة الفلسطينيِّ في توثيق الحياة اليوميَّة للفلسطينيين وأن يكون بمنزلة شاهد على المعاناة التي سبَّبها فقدان منازلهم، وتجربة نفيهم المطوَّل. كما توضِّح تحرير حمدي، يمكن عدُّ «أن تكونَ شاهداً» نوعاً فرعيّاً أدبيّاً، ما يوفِّر انعكاساً لما تمَّ قمعه من قِبل السرد السائد للمجموعة الأكثر قوَّة[18].

   ثالثاً، يُحيي هذا النمط من الكتابة تاريخ المأساة وينبِّه القرَّاء إلى أصول النضال. وفي إشارة خاصَّة إلى صفات شعر المقاومة الفلسطينيِّ، يؤكِّد كنفاني أنَّه يمتلك «روحاً ثوريَّة مذهلة خالية تماماً من النزعة الحزينة والبكَّاءة»[19]. وعليه، يؤكِّد أنَّ هذا النوع من الكتابة ليس تعبيراً عن الشفقة على الذات في مواجهة المحنة والبليَّة، بل هو بالأحرى دليل على القوَّة والعزيمة في الشدائد.

   يشير الناقدان الأدبيَّان الفلسطينيَّان، عادل الأسطة وحسين مروة[20] إلى أنَّ الأعمال المبكرة لشعر المقاومة ما بعد النكبة، تشترك في مجموعة من الخصائص المشتركة، إذ يلاحظان أنَّ:

«يمكن تمييز علاقة خاصَّة مع الوطن، وكذلك شعور بالتضامن مع شعبهم في هذا الشعر على نحو خاصّ. وعلى الرَّغم من ذلك، فإنَّه لا يُظهر دليلاً على وجود أيِّ توجُّهات معادية للساميَّة تجاه الإسرائيليِّين ودينهم».

   بالإضافة إلى ذلك، فقد لاحظا أنَّ الأعمالَ التي أنتجها شعراء المقاومة تميل إلى الارتباط ارتباطاً وثيقاً بالحياة الخاصَّة لمؤلِّفيها. إنَّ الاتِّجاه الثالث هو أنَّهم أيضاً دليلٌ على التأثيرات السياسيَّة الخارجيَّة، ولا سيَّما القوميَّة العربيَّة والناصريَّة: «تبنَّى معظم شعراء المقاومة الفلسطينيِّين المبادئ الماركسيَّة التي غذَّت حماسهم وأثارت مشاعرهم تجاه الإجراءات الإمبرياليَّة الإسرائيليَّة»[21].

   فيما يتعلَّق بالقوميَّة، استخدم جميع الكتَّاب الفلسطينيِّين، أمثال فدوى طوقان، راشد حسين، سميح القاسم، وبالطبع درويش نفسه، كتاباتهم الإبداعيَّة من أجل التعبير علانيةً عن شعورهم بالخسارة تجاه وطنهم، وبغية التأكيد على هويَّتهم الفلسطينيَّة. إنَّ طوقان، في سبيل المثال، التي كانت تنتمي إلى الحركة الأولى لشعراء المقاومة، هي شخصيَّة رئيسة في الشِّعر الفلسطينيِّ، وتثير في عملها قضايا مثل بيع الأراضي الفلسطينيَّة لليهود، قلَّة الوعي في أماكن أخرى من العالم العربيِّ بشأن التهديدات التي تشكِّلها الصهيونيَّة، القلق من صراعات الفصائل بين الفلسطينيِّين أنفسهم، والرجال الفلسطينيِّين المتآخين مع النساء اليهوديَّات[22]. كما أنَّها تصف أفراح المناسبات الاحتفاليَّة بين الفلسطينيِّين.

   في مذكّراته شديدة الوضوح، «رأيتُ رام الله»[23] (1997)، ينقل مريد البرغوثي مرارة وألم كونه فلسطينيّاً في المنفى من خلال الكشف عن تفاصيل الحيوات السياسيَّة والاجتماعيَّة والنفسيَّة والاقتصاديَّة لأبناء وطنه في أثناء كتابته عن تجاربه الخاصَّة من وجهة نظره الشخصيَّة. كما يسلِّط الضوء على مشكلات أخرى نتجت عن أن تكون فلسطينيّاً، بما في ذلك الإزاحة، ونفي الشتات، والانفصال عن أحبائهم. يشير العنوان إلى رغبة البرغوثي السابقة في زيارة رام الله، قبل زيارته لرام الله بعد ثلاثين عاماً، وهو ما يمثِّل رمزاً لـ «تحقيق المستحيل»، لأنَّ هذا في الواقع لن يحدث نظراً لكون منح الإذن من قِبل السلطات الإسرائيليَّة أمراً نادرَ الحدوث. ويوضِّح هذا أيضاً خصوصيَّة الوضع الفلسطينيِّ الذي تتَّخذ فيه زيارة مدينة تقع على مسافة جغرافيَّة قصيرة فقط أهميَّة رمزيَّة لرحلة ملحميَّة إلى موقع أسطوريِّ ممتلئ بالرغبة والتوق.

القوميَّة العربيَّة وناصر

   اعتنق الكتَّاب الفلسطينيُّون أيضاً اتِّجاه القوميَّة العربيَّة أو الناصريَّة التي تعدُّ نسختها الأكثر تحديداً، ما أظهر أنَّه، وعلى الرَّغم من عزلتهم على أحد المستويات، إلَّا أنَّهم كانوا يتشاركون بعض الاهتمامات المشتركة مع زملائهم العرب. إنَّ من المفيد في هذه المرحلة أن نناقش بإيجاز تأثير الرئيس المصريِّ جمال عبد الناصر (1918-1970)، الذي كان شخصيَّة رئيسة في العالم العربيِّ، إذ لا يزال تأثيره وأفكاره واضحين حتَّى اليوم بسبب فهمه العميق للاحتياجات الحقيقيَّة للعرب فيما يتعلَّق بالمسائل السياسيَّة والاجتماعيَّة. كما أنَّه عمل بنشاط على تعزيز الوحدة السياسيَّة بين جميع العرب، ونجح في إنشاء الجمهوريَّة العربيَّة المتَّحدة المكوَّنة من سورية ومصر، التي استمرَّت مدَّة ثلاث سنوات تقريباً (1958-1961)[24]. من وجهة نظر ناصر السياسيَّة، كانت وحدة القوميَّة العربيَّة هي الدولة المثاليَّة، وتالياً ظلَّت على رأس جدول أعماله السياسيِّ لدول العالم العربيِّ.

   كان لدى العديد من العرب إيمانٌ قويٌّ بقدرة عبد الناصر على التصرُّف كوصيٍّ على المصالح العربيَّة، فقد كان الرئيس المصريُّ داعماً ملتزماً التزاماً عميقاً بوحدة القوميَّة العربيَّة. على نحو أكثر تحديداً، كان ناصر مؤيّداً قويّاً لتحرير فلسطين، ونظراً لأنَّه كان يفضِّل تمتُّع الفلسطينيِّين بالتقرير الذاتيِّ للمصير، فقد كان له دورٌ أساس في تشكيل منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة في عام 1964.

   في تقييم للعوامل اللازمة للانتعاش العامِّ والتحديث في المجتمعات العربيَّة إبَّان الخمسينيَّات والستينيَّات، حدَّد رياض نور الله الحاجة إلى:

«رؤية جماعيَّة مدعومة بوساطة الإرادة والجهد، بالإضافة إلى المؤسَّسات والأدوات التعليميَّة والقانونيَّة والمدنيَّة والديمقراطيَّة والاقتصاديَّة والعلميَّة وغيرها من المؤسَّسات والأدوات التي تعدُّ ضروريَّة لتحقيق هذا الانتعاش»[25].

   حاول ناصر خلق هذه الظروف في مصرَ والعالم العربيِّ، على أمل أن يكونَ هذا بمنزلة أنموذج عمليٍّ للآخرين. كما حاول، من جرَّاء قلقه من المحنة التي يعيشها الفقراء على نحو خاصٍّ، خلق فرص عمل متزايدة للمصريِّين، بالإضافة إلى توفير وصول غير مسبوق إلى العديد من المزايا الاجتماعيَّة والتعليميَّة الأخرى.

   بالانتقال إلى سياسة عبد الناصر الخارجيَّة، فقد قادته نزعة القوميَّة العربيَّة، إلى جانب العديد من السياسيِّين العرب الآخرين إبَّان الفترة عينها، إلى عدِّ القضيَّة الفلسطينيَّة خطوة حاسمة نحو السلام في الدول العربيَّة، الأمر الذي أدَّى بدوره إلى حلم الفلسطينيِّين في استعادة وطنهم كنتيجة للقوَّة المشتركة لقوَّة عبد الناصر العسكريَّة مع تلك التي تتمتَّع بها الجيوش الوطنيَّة في الأردن وسورية. وعلى الرَّغم من ذلك، في حرب الأيَّام الستَّة أو النكسة في عام 1967، هُزمت القوَّات العربيَّة وأصيبت بخيبة أمل مريرة. انعكست هذه المشاعر في الأدب العربيِّ على نحوٍ عامّ، وفي الشِّعر على نحو خاصٍّ، الذي يُشار إليه بأدب النكسة، وهو أدب الهزيمة، الذي تصارع بلا هوادة مع أسباب الانهيار العربيِّ. إنَّ الكاتبَ المصريَّ صلاح جاهين قد كتب عن هذه اللحظة المحبطة للعرب وتأمَّل فيها ضمن قصائده بعد النكبة كما فعل درويش. منذ تلك اللحظة، جرى تمرير مفهوم القوميَّة العربيَّة على نحو أساس من خلال مسألة الصلاحية الحقيقيَّة لتحرير فلسطين بنجاح، وتحقيق توحيد قويٍّ في العالم العربيِّ.

   وفي حين أُعجب غالبيَّة العرب بعبد الناصر، عدَّته جماعة الإخوان المسلمين والجماعات المحافظة الأخرى عدوّاً للإسلام، وأساءت تصويره على أنَّه شيوعيٌّ[26] بسبب أفكاره المستنيرة وآرائه الاشتراكيَّة التي أدَّت إلى الحداثة في العالم العربيِّ.

   تناقش الجيوسي أنَّ هناك وحدة أساسيَّة للثقافة والروح بين العرب، التي نشأت من تراثهم المشترك. وينعكس هذا، على نحو خاصٍّ، في الإنجازات الأدبيَّة العربيَّة، إذ إنَّ «الآمال والأحلام والمحن والإخفاقات التي يعاني منها بلد عربيٌّ ما، هي أمور تشاركه فيها بقيَّة العالم العربيّ الذي يمتدُّ من الخليج العربيِّ إلى المحيط الأطلسيِّ»[27]. كان هذا الاتِّجاه ذاتَ مرَّة راسخاً بقوَّة في الأدب المكتوب باللُّغة العربيَّة نظراً لكون النكبة الفلسطينيَّة عام 1948، ونكسة عام 1967، وما تلاهما من خسارة للأراضي الفلسطينيَّة، هي أمور أدَّت إلى توحيد العرب حول القضيَّة الفلسطينيَّة. وعلى الرَّغم من ذلك، في العقد الأخير من القرن العشرين، أصيب العديد من الكتَّاب العرب بخيبة أمل عميقة من تداعيات الصراع الذي شارك فيه «الإخوة» العرب في قتال بعضهم بعضاً في أعقاب الغزو العراقيِّ للكويت. كان لخيبة الأمل هذه تأثيرٌ سلبيٌّ في الكتَّاب العرب، ما أسهم في تقليل النزعة القوميَّة العربيَّة في عملهم[28]. كتب كلٌّ من درويش وسعيد بإسهاب عن العديد من القضايا التي تحدث في أماكنَ أخرى من العالم العربيِّ، وتطرَّقا، على نحو خاصّ، إلى قضيَّة الهويَّة العربيَّة والوعي المشترك.

   إنَّ النهجَ الثالثَ لأدب المقاومة الفلسطينيِّ، الذي تطوَّر لاحقاً، هو العالميَّة، الذي يعني بأبسط معانيه تبنِّي موقف تجاه قضيَّة فلسطين، الذي لا يرى هذا الشأن من الناحية السياسيَّة أو الدينيَّة، بأنَّه صراع بين المسلمين واليهود، أو العرب وغير العرب، بل بأنَّه صراع على السلطة بين الظالم والمظلوم.

   تُظهر طوقان، في سبيل المثال، نهجها العالميَّ من خلال اتِّباع استراتيجيَّة مماثلة لدرويش ورسم أوجه تشابه بين الاضطهاد الذي عانى منه الشعب الفلسطينيُّ وذاك الذي عانت منه الجماعات والأمم الأخرى عبر التاريخ. وكنتيجة لذلك، فقد اختارت هي وشعراء آخرون تصويرَ مفهوم أكثر تجريداً للاضطهاد من أجل التعليق على السلوك غير الإنسانيِّ والظالم بالمعنى العامّ. إنَّ تعبير سعيد الشهير، الذي صاغه من باب الاحترام للفلسطينيِّين بأنَّهم «ضحايا الضحايا»، يعبِّر عن هذا النوع من العالميَّة، في إشارة إلى تمرير سلاسل الاضطهاد من أمَّة إلى أخرى، مع كون الرواية نفسها عن الأمَّة المضطهدة التي تنطبق الآن على الفلسطينيِّين، وكانت منطبقة في السابق على اليهود أنفسهم إبَّان الحرب العالميَّة الثانية. ووفاقاً لدرَّاج، فقد صاغ درويش أيضاً قصائد مختلفة تتبنَّى رؤية عالميَّة مميَّزة عبر استخدام صور تجريديَّة لأدوار مثل الضحيَّة والقاتل والأفراد المهمَّشين[29].

   يُظهر كتاب كاتيا غارلوف Katja Garloff «كلمات من الخارج: الصدمة والتهجير لدى الكتَّاب اليهود الألمان في فترة ما بعد الحرب» Words from Abroad: Trauma and Displacement in Postwar German Jewish Writers أنَّ هناك أوجه تشابه مثيرة للاهتمام يمكن استخلاصها بين دور الكتَّاب الفلسطينيِّين والدور الذي لعبه المؤلِّفون اليهود في الشهادة على تاريخ اضطهاد وقمع أمَّتهم من قِبل النازيٍّين. في مواجهة المحرقة، لعب الكتَّاب اليهودُ دورَ صوت شعب مضطهد تمَّ تهجيره جغرافيّاً وثقافيّاً[30]. ترى غارلوف أيضاً الأدبَ بأنَّه وسيلة للتصالح مع تجربة منفى الشتات[31]. وعليه، فقد استفاد الكتَّاب الفلسطينيُّون من تبنِّي أفكار كتابة الشهادة اليهوديَّة فيما يتعلَّق بكون المرء شاهداً، ردّاً على النكبة.

   حين التفكير في فكرة المقاومة، فيما يتعلَّق بدرويش وسعيد، فإنَّ محاولة الفصل بين كتابتيهما وموقفيهما السياسيَّين، هو أمرٌ مستحيلٌ، لأنَّهما كانا على القدر عينه من الالتزام بالمقاومة. من حيث النشاط السياسيُّ، فقد أظهرا معارضتهما للاحتلال من خلال الانخراط مع منظمة التحرير الفلسطينيَّة، بوصفهما عضوين في البرلمان الفلسطينيِّ، وإعلان آرائهما ومواقفهما السياسيَّة بوضوح[32]. أمَّا في نشاطاتهما الأدبيَّة والعلميَّة، فقد بذلا جهوداً كبيرة لإعادة كتابة ما تمَّ محوه عمداً في التاريخ ورواية القصَّة الفلسطينيَّة الحديثة على نحو فعَّال، التي تشكَّلت من خلال معاناة الفقد والإزاحة. تركَّز العديد من كتاباتهما على الصدمة الفلسطينيَّة، وقد أدَّى ذلك إلى إعلان درويش، على وجه الخصوص، شاعرَ المقاومة الفلسطينيَّة، من قِبل الجيوسي[33]، جبران[34]، مطاوع[35]، والعديد من الكتَّاب الآخرين. تشير الجيوسي إلى نقطة مهمَّة حين تؤكِّد على أنَّه:

«أصبح من المستحيل الآن التفكير في درويش من دون التفكير مباشرةً في فلسطين، وفي المأساة الرهيبة التي حلَّت بشعبها المتألِّم، وضمنهم الشاعر. إنَّ الاتِّساق عينه ينطبق على الكتابات عنه، إذ لا يمكن الفصل بين الشاعر ووطنه»[36].

   تلفت الجيوسي الانتباه أوَّلاً إلى الروابط التي لا تقبل الفصل، والموجودة بين درويش ووطنه وشعبه في الماضي والحاضر، وهي علاقة عدَّها الأخيرُ أساسيَّة، إلى درجة أنَّه تحدَّث عن «انصهار جسد الشَّاعر مع جسد أرضه»[37]. والنقطة المهمَّة الثانية التي أبرزتها الجيوسي هنا هي أنَّ الكتابة النقديَّة عن عمل درويش أنَّه يصوِّر الشاعر على الدوام بوصفه صوتَ فلسطين.

   كانت هذه العلاقة العميقة مع وطنه واضحة في أعمال درويش منذ البداية، وعلى الرَّغم من أنَّ العديد من جوانب شعره تطوَّرت على مدار حياته، إلَّا أنَّ أرض فلسطين ظلَّت متشابكة على نحو أساسيٍّ مع عمله، فقد كانت بمنزلة موضوع عاد إليه مراراً وتكراراً، سواء أكان ذلك على نحو صريح أم ضمنيٍّ.

   في قصائد درويش الشهيرة «يوميَّات جرح فلسطينيّ إلى فدوى طوقان»، يشرح دور شعر المقاومة على نحو دقيق:

نحنُ يا أُختاه من عشرينَ عاماً

نحن لا نكتبُ أشعاراً

ولكنَّا نقاتل[38]

ويكرِّر في هذه القصيدة موضوع توحيد الأمَّة وأرضها في أبيات مختلفة.

   وعليه، فإنَّ درويش وأقرانه لا يكتبون لأنفسهم فحسب، بل يرون الكتابة بوصفها وسيلةً للدفاع عن وطنهم. تنتمي هذه القصيدة إلى المرحلة الأولى من شعر درويش، إذ كان عمله خلالها، بحسب جبران، أقرب إلى الواقعيَّة، واصفاً الظروف الواقعيَّة القاسية للحياة اليوميَّة للفلسطينيِّين. يشير الناقد أيضاً إلى أنَّ درويش «كان متأثِّراً بالعقيدة الماركسيَّة التي ترى الشِّعرَ أداةً ثوريَّة»[39]. من وجهة نظرهم، فإنَّ كلَّ كلمة في الخطاب صاغها كتَّاب فلسطينيُّون يعكسون واقعهم اليوميَّ، هي مثل صاروخ يُلقى على العدوِّ أو رصاصة موجَّهة بعناية، تهدف إلى الدفاع عن حقِّهم في الوجود، فعل من أفعال المقاومة الجريئة.

أدبُ ما بعد النكبة: تعبيرٌ عن الحبِّ

   بينما قيل الكثير عن الأدب بوصفه فعلاً من أفعال المقاومة، فإنَّ من المفيد هنا حسبان الأدب تعبيراً عن الحبِّ أيضاً، إذ إنَّ أسلوب تمثيل الوطن من خلال استخدام رموز الأنوثة قد تمَّ اللجوءُ إليه على نطاق واسع في الأدب المكتوب باللُّغة العربيَّة، ولا سيَّما ما كتبه الفلسطينيُّون.

   كثيراً ما جسَّد الكتَّاب العرب الوطن بأنَّه أنثى، معبِّرينَ عن وطنيَّتهم من خلال استخدام الخصائص الأنثويَّة للجمال من أجل وصف وطنهم. غالباً ما يوصف إخلاصهم لبلدهم الأصليِّ بلغة وصور توحي بعلاقة حميمة مع المحبوب. لقد اختار درويش وشعراء عرب آخرون، مثل نزار قباني، تمثيل وطنهم بامرأة على نحو رمزيٍّ.

   وفاقاً لمحمَّد ناصر، فقد خاطب الشعراء العربُ تاريخيّاً الوطنَ مباشرةً في كتاباتهم باستخدام ضمير المخاطب الثاني (أنتَ)[40]. إنَّما، في الشِّعر الأكثر حداثةً تمَّ استبدال هذه الممارسة التقليديَّة بالميل إلى وصف الوطن باستخدام صفات مرتبطة عادةً بالمرأة في الثقافة العربيَّة[41]. قد تكون لهذه الممارسة أصول لغويَّة، إذ إنَّ الكلمة التي تستخدم على نحو شائع في الشِّعر للإشارة إلى الوطن تعني حرفيّاً الأرض، وتصنَّف بأنَّها اسم مؤنَّث. إذاً، من الناحية اللغويَّة، ليس أمام الشعراء الذين يكتبون باللُّغة العربيَّة خيار سوى توظيف أشكال أنثويَّة في الإشارة إلى هذه الكلمات. ويشير أحمد حيدروش إلى الممارسة المتَّبعة في مختلف الحضارات القديمة، والمتمثِّلة في تسمية المدن بأسماء الإناث، مثل أثينا، أو الحديث عنها باستخدام الصيغة الأنثويَّة. يناقش حيدروش في أنَّ هذا يوضِّح علاقة رمزيَّة بين الأرض والأنوثة، مع وجود العديد من الثقافات التي توظِّف مفهومَ الوطن الأمِّ[42].

   استخدمت بعض الكاتبات، بمن في ذلك سعاد الصباح ولميعة عبَّاس عمارة ونازك الملائكة، الاسم المذكَّر «الوطن» حين التعبير عن مفهوم الديار لأنَّ هذا يتيح لهنَّ ربط هذا الحبِّ بعلاقة حميمة بين الحبيب والمحبوب. وعلى الرَّغم من ذلك، لا يبدو أنَّ هناك أيَّ دليل ملموس على وجود اختلاف جنسانيٍّ ثابت في استخدام المصطلحات في الإشارة إلى الوطن في العالم العربيِّ، كما يوضِّح شعر درويش.

   حين معالجة هذه القضيَّة من منظور الاستعمار، عادةً ما يُشار إلى المستعمر بصفات ذكوريَّة، في حين تُوصَف الأرضُ المستعمرَة بمصطلحات أنثويَّة، الأمر الذي ينتج عنه ارتباط رمزيٌّ بين الوطن والمرأة. كما لاحظ أشكروفت وغريفيثس وتيفين Ashcroft, Griffiths and Tiffin ، فإنَّ النسويَّة تعدُّ ذات أهميَّة حاسمة لخطاب ما بعد الاستعمار على أساس:

«يمكن النظر إلى كلٍّ من النظام الأبويِّ والإمبرياليَّة بأنَّهما يمارسان أشكالاً مماثلة من السيطرة على أولئك الذين يظهرون الخضوع لهما. وعليه، فإنَّ تجربة النساء في النظام الأبويِّ، وتلك الخاصَّة بالرعايا الخاضعين للاستعمار، يمكن أن تحمل أوجه تشابه في عدد من النواحي، ويعارض كلٌّ من السياسات النسويَّة وما بعد الاستعمار على حدٍّ سواء هذه الهيمنة»[43].

  ثمَّ، فإنَّ كلّا ً ممَّا بعد الاستعمار والنسويَّة يشارك الآخر الهدف عينه، والمتمثّل في تقديم نقد لهيمنة السلطة، بالإضافة إلى تفكيك خطابها.

   لقد قيل إنَّ الصلة التكافليَّة بين الوطن والجنس الأنثويِّ ترتبط إلى حدٍّ كبير بما يسمِّيه روبرت يونغ Robert Young «الرغبة الاستعماريَّة». يشرح مؤلِّفو كتاب «دراسات ما بعد الاستعمار» Post-Colonial Studies كيف توصَّل يونغ إلى هذا الاستنتاج:

«إنَّ فكرة الاستعمار في حدِّ ذاتها ترتكز على خطاب جنسيٍّ عن الاغتصاب والإقحام والتلقيح، في حين أنَّ العلاقة اللاحقة بين المستعمِر والمستعمَر غالباً ما يتمُّ تقديمها في خطاب تفوح منه رائحة الغرابة الـمـُجنَّسة. وتالياً، فإنَّه حتَّى السِّمات الإيجابيَّة للمواقف الاستعماريَّة في الخطاب، مثل الاستشراق، تعكس رؤيةً ذات طابع جنسيٍّ مختزلة على نحو أساس»[44].

يفسِّر هذا سبب مقارنة الوطن المستعمَر أحياناً بالمرأة التي جرى انتهاكها، إذ يرى المستعمِر أنَّ المستعمرات مصدر متعة وإثارة جنسيَّة. لا يقتصر استخدام هذا النوع من التعبيرات على الكتَّاب الفلسطينيِّين فحسب، بل من قِبل العرب عموماً، الذين يعدُّون بلادَهم نساءً محبوبات تعرَّضنَ للإساءة من قبل حكوماتهم الديكتاتوريَّة، وهو موضوع شائع في العديد من قصائد نزار قبَّاني.

   فيما يتعلَّق بصورة النساء في أعمال درويش وسعيد، يلاحظ عبد الهادي أنَّ العديدَ من الإشارات تشير إلى النساء في شِعر درويش، بما في ذلك الأمّ، الحبيبة، الجدَّة والأخوات[45]. كانت العشيقة سمة مهمَّة في شعر درويش، حيث ينعكس فيه موقفه تجاه النساء. يلاحظ كريسويل أنَّ اسمَ امرأة على وجه الخصوص يتكرَّر في قصائد الحبِّ خاصَّته: «على مرِّ السنين، أصبحت ريتا فكرة مهيمنة متكرِّرة في شعر درويش. تعود مراراً وتكراراً، مثل … هوس»[46].

   يجادل كريسويل Creswell في أنَّه حينما يصف درويش ريتّا، وهي امرأة يهوديَّة من أصل بولنديٍّ روسيٍّ، فإنَّه يستخدم النوع عينه من السمات التي تُستخدم عادةً للإشارة إلى الحبيبة في الشعر العربيِّ: «عيناها بلون العسل، وتنام كثيراً (لأنَّ الكسل مثير)، شعرها كثيف وثقيل مثل ذيل الحصان، وهي دائماً في مكان آخر»[47]. إنَّ هذه السِّمات لا تسمح للقرَّاء بتعرُّف ريتّا أنَّها امرأة غير عربيَّة، حتَّى يعمد درويش إلى هذا التمييز بنفسه من خلال الإشارة إليها بأنَّها مقاتلة في الجيش الإسرائيليِّ. صوَّر درويش ريتّا، إذاً، في كلِّ النواحي، بأنَّها الأخرى.

   ربَّما يكون من الممكن التحدُّث عن شخصيَّتين باسم ريتّا: إحداهما رمزٌ شعريٌّ والأخرى امرأة حقيقيَّة. في الحالة الأولى، حينما يصف درويش ريتّا، فكثيراً ما يتمُّ استحضارها من حيث الخصائص الجسديَّة للجمال المنسوب تقليديّاً إلى المرأة العربيَّة في الأدب العربيِّ والثقافة العربيَّة. إنَّها بناءٌ أدبيٌّ جُعل مثاليّاً. وعلى الرَّغم من ذلك، حينما يصوِّر ريتّا في مكان آخرَ بأنَّها «أخرى»، فهذا يشير إلى هويَّتها الحقيقيَّة بحسبانها امرأةً يهوديَّةً ذاتَ سمات ثقافيَّة مختلفة، وقد كانت عشيقته و«الأخرى».

   يشير كلٌّ من درويش وسعيد إلى حبِّهما الشديد لأُمَّيهما. ذكرها درويش في عدد من أبياته مثل «أحنُّ إلى خبز أمّي». وبحسب جبران، فإنَّ علاقة الشاعر بوالدته، كما صُوّرت في عمله، عكست تلك التي كانت تربطه بها في الحياة الواقعيَّة:

«لم تتغيَّر صورة والدته على مرِّ السنين، وظلَّت إلى حدٍّ ما الشخصيَّة الأنثويَّة الجميلة والمحبِّة عينها التي كانت تمتلكها دائماً»[48].

   يناقش سعيد أيضاً العلاقة المحبِّة التي تجمعه بوالدته في «خارج المكان»، مؤطِّراً إيَّاها على نحو صريح من حيث الارتباط الروحيُّ بينهما، حيث يعلن:

«كانت أوَّل شخص أحتاج إلى أن أحكي له قصَّتي. إنَّ الشعور الذي كان ينتابني في البداية، ومع والدتي، بوجودها الدائم، وكما أتخيَّل، فإنَّ قدرتها غير النهائيَّة على الاعتزاز بي، بهدوء، وبصورة غير محسوسة، قد وجَّهت حياتي لسنوات عدَّة»[49].

   في المقابل، أعرب كلا الكاتبين عن مشاعر سلبيَّة تجاه فكرة الأبوَّة. ينتقد سعيد صراحة والده الحقيقيَّ كونه شخصاً مارس سلطة أبويَّة على أسرته، وعلَّق قائلاً: «قد يكون هذا رمزيّاً للتشابه الرابط بين خطاب الاستعمار والنظام الأبويِّ»[50]. إنَّ تمثيل درويش للأبوَّة في شعره ليس ثابتاً تماماً، كما يبدو أنَّ علاقته بوالده تغيَّرت على مرِّ الزمن.

   لاحظ الناقدان عبد الهادي وخالد مطاوع أنَّ درويش يتنقَّل باستمرار بين صور المرأة التي يحبُّها ووطنه بطريقة تجعل من الصعب على القرَّاء التفريق بينهما بوضوح. في سبيل المثال، في قصيدته «النزول من الكرمل»، يخلط بحريَّة بين أوصاف الإناث اللاتي أحبَّهنَّ وأوصاف البلدان التي عرفها. إنَّ ترك الكرمل (منزله) والعيش بعد ذلك كغريب في المنفى الدائم قد عنى أنَّه التقى العديدَ من النساء والبلدان، ومُنع من الاستقرار في منزل واحد. يوضِّح درويش في عمله أنَّه، وعلى الرَّغم من حبِّه كلَّ أولئك النساء والأماكن، إلَّا أنَّ أيّاً منهنَّ لم تقترب من أن تجلب إليه المتعةَ التي اختبرها حين العيش في الكرمل. وهكذا، من الواضح أنَّ حبَّه لفلسطين سيظلُّ دائماً أعظم حبٍّ في الإطلاق[51].

   يُظهر تحليل «النزول من الكرمل»، أنَّها تفتقر إلى العديد من السمات الأسلوبيَّة للُّغة الأدبيَّة التي يشيع وجودها في شعره الآخر، ويستخدم الاستعارة على نحو ضئيل نسبيّاً. وعلى الرَّغم من ذلك، فهو يستخدم التكرار في هذه القصيدة على نحو فعَّال، كما يوضِّح المثال التالي:

تركتُ الحبيبة لم أنسَها

تركتُ الحبيبة

تركتُ[52]

   إنَّ هذا التكرار لجملة (تركت) يجسِّد بإيجاز عمليَّة انفصاله عن الحبيبة وعن الكرمل (وطنه). في البداية، ينصبُّ التركيز على متعة تذكُّر الحبيبة، ثمَّ على عذاب ترك الحبيبة، وفي النهاية يتحوَّل التركيز كلُّه على ألم إدراك أنَّه منفيٌّ. في نهاية القصيدة، يستخدم التكرار مرَّة أخرى مستخدماً جملة (خذيني) أربع مرَّات، إذ يتوسَّل إلى وطنه كما يتوسَّل المرء إلى الحبيب أن يستعيده:

خُذيني تحتَ عينيكِ

خذيني لوحةً زيتيّةً في كوخ حسراتِ

خذيني آيةً من سفر مأساتي

خذيني لعبةً… حجراً من البيت[53].

   يجسِّد هذا التكرار توقه إلى أن يكونَ في فلسطين، دون أن يهتمَّ بالمصير الذي ينتظره هناك. وبحسب ريغلوث Reigeluth، فإنَّ التكرار سمة مشتركة في الأدب الفلسطينيِّ على نحو عامّ، وفي أعمال درويش يكرِّر الشاعر الأفكارَ والرموزَ والمعاني بغية الدلالة على مشاعره العميقة بالحنين إلى الماضي[54].

   كما هو متوقَّع، نادراً ما يلجأ سعيد في نصوصه الأكاديميَّة إلى مخاطبة وطنه على نحو رمزيٍّ، بطريقة تراعي الجنسانيَّة عن قصد، هذا إن فعل ذلك. وعلى الرَّغم من ذلك، في سيرته الذاتيَّة والكتابات الأكثر شخصانيَّة، التي تحرَّرت من القيود الشكليَّة التي يفرضها الخطابان النقديُّ والنظريُّ، يشرح سعيد كيف ساعدت شخصيَّة خالته نبيهة، التي لا تُنسى، في خلق وعيه بوطنه، وساعدته في تعزيز علاقته بفلسطين. في «بعد السَّماء الأخيرة»، يتحدَّث سعيد عن دور نبيهة في المجتمع الفلسطينيِّ المقيم في المنفى:

«لقد تذكَّروا عمَّتي، والدة فلسطين، وقد تمَّ استدعاؤها، أكثر من شقيقها، على الرَّغم من أنَّ والدي لم يتخلَّ قطُّ، حسب علمي، بسبب أيِّ شيء»[55].

   من خلال استخدام الاستعارة القويَّة، وهي «أمّ فلسطين»، يشير سعيد إلى جهودها في تقديم مساعدات سخيَّة من مختلف الأنواع لإخوانها الفلسطينيِّين الذين يعيشون في مصرَ، ومساعدتهم في المشكلات التي واجهوها، في سبيل المثال، فيما يتعلَّق بتكاليف التعليم والعلاج الصحيِّ[56]. في «خارج المكان»، يعترف بأنَّ وعيه السياسيَّ، فيما يتعلَّق بمحنة اللاجئين الفلسطينيِّين، جاء في الأصل من معرفة المساعدة التي قدَّمتها لمواطنيها.


الهوامش

[1]  غسان كنفاني، «الأدب الفلسطينيُّ»، في «شعر المقاومة في الأرض المحتلَّة»، بغداد: وزارة الثقافة، 1968، 2009، الصفحات 3- 8، (ص 3). متوافر على الإنترنت على الموقع:

http://www.24grammata.com/wp-content/uploads/2014/07/PoetryOfResitance_Sulafa_Hijjaw-24grammata.comi_pdf، جرى الوصول إليه في: 10/10/2013.

[2] Kh. Mattawa, When the Poet Is a Stranger, p. 221.

[3] G. Deleuze and F. Guattari, Kafka: Towards a Minor Literature (1975; 1986) trans. D. Polan, Minneapolis; London: University of Minnesota Press, p. 17.

[4] E. Said, ‘Arabic Prose and Prose Fiction After 1948’, in Reflections on Exile and Other Literary and Cultural Essays, E. Book, London: Granta, 2000.

[5]  المرجع نفسه.

[6]  المرجع نفسه.

[7]  المرجع نفسه.

[8]  المرجع نفسه.

[9]  المرجع نفسه.

[10]  المرجع نفسه.

[11] E. Said, Reflections on Exile

[12] A. Galder et al., Literature in the Modern World: Literature and History, Milton Keynes: Open University Press, 2005, p. 14.

[13]  المرجع نفسه، ص 14.

[14]  رقية مهري نجاد، «المقاومة في شعر فدوى طوقان وسماتها»، مجلّة جامعة آزاد، 2010. متوافر على الإنترنت على الموقع: cls.iranjournals.ir/pdf_184_50f1cd0ee568c00b590425aeb312cd92.html، جرى الوصول إليه في: 12/6/2014.

[15]  عبد الرحيم حمدان، «البنية السرديَّة».

[16]  رقية مهري نجاد، «المقاومة في شعر فدوى طوقان وسماتها».

[17] E. Said, After the Last Sky.

[18] T. Hamdi, “Bearing Witness in Palestinian Literature”, Race and Class, 52(3), 2011, pp. 21-42.

[19]  غسَّان كنفاني، «الأدب الفلسطينيّ». ص7

[20] Al-‘Ustah and Marwah, cited in Barahmeh, The Poetry of Mahmoud Darwish, p.13.

[21] Y. Barahmeh, The Poetry of Mahmoud Darwish, p.14.

[22] رقيَّة مهري نجاد، «المقاومة في شعر فدوى طوقان وسماتها».

[23]  مروان البرغوثي، «رأيت رام الله»، القاهرة: دار الشروق، 1997.

[24] J. P. Jankowski, Nasser’s Egypt, Arab Nationalism, and the United Arab Republic, Boulder: Lynne Rienner Publishers, 2001.

[25] R. Nourallah, Beyond the Arab Disease: New Perspectives in Politics and Culture, London: Routledge, 2006, p. 7.

[26]  في العالم العربيّ، حُرِّفت الشيوعيَّة على أنَّها مرادفة للإلحاد، ما دفع الإخوان المسلمين إلى استخدام هذه التسمية من أجل تدمير صورة عبد الناصر المشرِّفة في العالم العربيِّ. انظر C. Nedelcu, “The Legitimacy of Nasser’s Ideology during the Eisenhower Administration”, Euro-Atlantic Studies, 7, 2002. متوافر على الإنترنت على الموقع: http://ebooks.unibuc.ro/StiintePOL/euro-atlanticstudies7-2004/cuprins.htm، جرى الوصول إليه في: 05/06/2014.

[27] S. K. Jayyusi, Modern Arabic Poetry: An Anthology, New York: Columbia University Press, 1978, p. 39.

[28]  أحمد المعداوي، «ظاهرة الشعر الحديث»، الطبعة الثانية، الدار البيضاء: المدارس، 2007.

[29] F. Darraj, “Transfiguration in the Image of Palestine” in H. K. Nassar and N Rahman (ed.) Mahmoud Darwish: Exile’s Poet Critical essays, Northampton: Olive Branch Press, 2008, pp. 57-78.

[30] K. Garloff , Words from Abroad: Trauma and Displacement in Postwar German Jewish Writers, Detroit: Wayne State University Press, 2005, p.1.

[31]  المرجع نفسه، ص 5.

[32] E. Said, After the Last Sky; Barahmeh, The poetry of Mahmoud Darwish.

[33] S. K. Jayyusi, “Foreword” in H. K. Nassar and N Rahman, Mahmoud Darwish: Exile’s Poet Critical essays, pp. vii-viii.

[34] S. Jubran, “The Image of the Father in the Poetry of Mahmoud Darwish”, in Ibid., pp. 79-94.

[35] Kh. Mattawa , When the Poet is a Stranger.

[36] S. K. Jayyusi, Mahmoud Darwish: Exile’s Poet Critical essays, p. viii.

[37]  المرجع نفسه.

[38] محمود درويش، «حبيبتي تنهض من نومها»، الصفحتان 40-41..

[39] S. Jubran, “The Image of the Father in the Poetry of Mahmoud Darwish”, p.80.

[40]  جرى الاستشهاد بمحمّد ناصر في مقالة محمد عبد الهادي، «تجليّات رمز المرأة في شعر محمود درويش»، متوافر على الإنترنت على الموقع، http://www.univbiskra.dz/lab/Labreception/images/labreception/doc_pdf/seminaire_tajaliat_ramz_el_maraa_fi_chiir_mahmoud_darwich.pdf، جرى الوصول إليه في: 02/08/2013.

[41]  جرى الاستشهاد بأحمد حيدروش في المرجع نفسه.

[42]  المرجع نفسه.

[43] Ashcroft, Griffiths, and Tiffin, Post-Colonial Studies, p. 87.

[44]  المرجع نفسه، ص 89.

[45]  محمد عبد الهادي، «تجليّات رمز المرأة في شعر محمود درويش».

[46] Creswell cited in M. Marrouchi, “Cry No More for Me, Palestine: Mahmoud Darwish”. College Literature, 38 (4), 2011, 1-43, pp. 19-20.

[47]  المرجع نفسه، الصفحتان 18-19.

[48] S. Jubran, “The Image of the Father in the Poetry of Mahmoud Darwish”, p. 84.

[49] E. Said, Out of Place, p. 292.

[50]  المرجع نفسه، ص 12.

[51]  محمد عبد الهادي، «تجليّات رمز المرأة في شعر محمود درويش».

[52]  محمود درويش، «محاولة رقم 7»، متوافر على الإنترنت على الموقع، http://www.darwishfoundation.org/atemplate.php?id=854، جرى الوصول إليه في: 04/05/2013.

[53]  محمود درويش، «عاشق من فلسطين»، بيروت: دار العودة، 1966. متوافر على الإنترنت على الموقع:

http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=64762، جرى الوصول إليه في: 04/06/2013.

[54] S. Reigeluth, “The Art of Repetition: The Poetic Prose of Mahmoud Darwish and Mourid Barghouti”, in H. K. Nassar and N Rahman, Mahmoud Darwish: Exile’s Poet Critical essays, pp.293-318.

[55] E. Said, After the Last Sky, p. 119

[56]  المرجع نفسه، ص 118.