مجلة حكمة
غابريل غارسيا ماركيز

غابريل غارسيا ماركيز / ترجمة : سعيد بوخليط 


     

مع بداية ظهيرة،يوم17 ابريل 2014،أعلن الرئيس الكولومبي”خوان مانويل سانتوس”،إلى مواطنيه،خبر موت غابريل غارسيا ماركيز :((ألف عام من العزلة والحزن،بسبب رحيل أحد أعظم الشخصيات الكولومبية على امتداد العصور)).في المساء،خلصت كلمته التلفزيونية إلى مايلي : ((المجد الأبدي لمن منحنا المجد)) ،وأمر بحداد وطني لمدة ثلاثة أيام،مع تنكيس للأعلام داخل البلد،هاته المرة ليس بعرف،بل أقر المبدأ جميع الكولومبيين.

يتذكر الأجداد يوم 21اكتوبر1982،حينما توج غارسيا ماركيز بجائزة نوبل،فصار رمزا لشهامة وطن :((منذ السادسة صباحا،تردد الخبر على أثير كل الإذاعات،في إطار بهجة وطنية غير مسبوقة.على امتداد شاطئ الكاريبي،المنطقة التي ينحدر منها ماركيز،تدوي أصوات منبهات السيارات كما يقع إبان أمسيات الانتصارات الكروية الكبرى. أبدا،لم تخلق جائزة لنوبل حماسة كتلك،لدى العالم)) ،يشير الناقد الأدبي”كونرادو رولواغا” المختص في أدب ماركيز،مستعيدا حيثيات اللحظة.

كولومبيا،الممزقة بالحرب،وتعيش على هامش العالم،اكتشفت جزءا من الواقعية الساحرة،وهي فخورة بذلك.منبهرة، لأنها منحت البشرية أحد نوابغ الأدب العالمي،بالتالي،ستجعل من “غابو” صرحا،ورمزا،ومبررا كي تؤمن بذاتها :((حتى ولو رفض ارتداء الكسوة الديماغوجية للوطنية السهلة،فلقد استطاع غابريل غارسيا ماركيز،التعريف باسم كولومبيا،أكثرمن أي مواطن آخر،معيدا لنا الكبرياء الوطني)) ،تكتب يومية “El tiempo”.

من جهته،يظن الكاتب “أوسكار كولاروس”، بأن :((غارسيا ماركيز،يصنع حوله الإجماع أكثر ككاتب،مقارنة مع ماركيز الشخص)). لم يغفر له اليمين علاقاته السابقة مع الشيوعيين،وصداقته الطويلة مع فيديل كاسترو،بحيث أعلن ماركيز دائما  انحيازه لصالح مخرج تفاوضي مع التنظيم المسلح اليساري المتطرف،الذي يعاقب بقسوة كولومبيا،لكن ليلة وفاته انمحت الايديولوجيا.على أمواج الراديو،امتدح الصحفي “بيلنيو أبيليو ميندوزا” :((الراوي الكبير)).

في صفوف اليسار،لا أحد تهكم من انبهار “غابو”،برموز السلطة ودأبه على لقار الكبار،فحتى سنة2013،لم يتردد المتوج بنوبل، صاحب دماغ أقعدته الشيخوخة،عن استقبال بيل كلينتون. كل شيء مسموح به، للعبقرية الأدبية أو على الأقل كذلك.

ألسنة السوء الشوفينية،تعاتب على ماركيز،اختياره الإقامة منذ منتصف قرن في المكسيك،فيدحض رأيهم بقوله :((لم أدون قط سطرا واحدا، لم يتطرق إلى كولومبيا)).لقد قرأه،جميع أبناء وطنه وشغفوا به،لكن في المقابل، لايتم الإنصات  إليه إلا قليلا.

بقي غابريل غارسيا ماركيز،على الرغم من الثروة والمجد،رجلا ذا تواصل جذاب”مبتسما على الدوام”،يحكي عن جيرانه الهنود في قرطاجين،المدينة الاستعمارية الرائعة حيث إقاماته الكولومبية.عندما سئل عن  مايدفعه إلى الكتابة،أجاب :((كي يعشقني زملائي أكثر)). مهمة، تحققت على الوجه الأكمل.

*غارسيا ماركيز أو “غابو” :

على امتداد كل أمريكا اللاتينية،يلقبونه ب”غابو”،إنه غابريل غارسيا ماركيز،الحاصل على جائزة نوبل في الآداب سنة1982،الذي يعتبر أحد كبار كتاب القرن العشرين.رحل، عن هذا العالم  في منزله بمكسيكو،بعد بلوغه من العمر سبعة وثمانين سنة.ترجمت كتاباته إلى مختلف اللغات أو تقريبا، وبيع منها 50مليون نسخة.

سنة 1999،أشيع خبر اقتراب نهايته، نتيجة إصابته بالسرطان اللمفاوي، فأدخل معه قراءه وعشاقه في دوامة الخوف.كل جرائد العالم،دونت وقتها على وجه السرعة،حتمية موته،غير أنه سيتم فورا الاحتفاظ بها فوق الرفوف.حظ ثان بالنسبة إليه والجميع،لأن ذلك سيخول ل”جيرالد مارتن” أستاذ الأدب الانجليزي كي يصدر بيوغرافيا شاملة،تحت عنوان: “غابريل غارسيا ماركيز،حياة”(غراسي 2009).استعاد عافيته،بيد أن ذاكرته عانت شيئا من الوهن.لذلك، فكاتب “مائة عام من العزلة”،كان قد اختفى من الحياة العمومية،طيلة هاته السنوات الأخيرة.

هو أكبر إخوته الإحدى عشرة. ولد “غابريل جوزي دو لاكونكورديا غارسيا ماركيز”،يوم 6مارس1927،بقرية “أركتكا”القابعة بين المستنقعات وكذا السهول المهجورة،لشاطئ الكارايبي الكولومبي.كان أبوه يشتغل في البريد.بين طيات نصوص غابو، صارت “أركتكا” “ماكوندو”،فضاء أسطوريا لكنه واقعيا، بخلاف “يوك نباتوفا”yoknapatawpha،ل “وليام فولكنر”،أو المدينة المتخيلة “سانتا ماريا ل”خوان كارلوس أونيتي”.لقد جعل إسباني أمريكا الجنوبية من “ماكونديانو”، موضوعا كي يصف لاعقلانية اليومي عبر خطوط عرضه.

يفسر “جيرالد مارتن”،الأهمية التي ستشكلها بالنسبة لمستقبل الكاتب،قريته وبشكل خاص منزله :((الممتلئ بالناس،الأجداد،ضيوف عابرون،خدم،هنود،لكنه أيضا ممتلئ بالأشباح))(بما في ذلك شبح أمه الغائبة).

مباشرة بعد ولادة غابريل،قرر والده أن يصبح صيدلانيا بطريقة عصامية،هكذا سيغادر سنة 1929،”أركتكا”برفقة زوجته.الطفل ماركيز،سيتكفل ويعتني به جده وجدته،داخل منزل تحول اليوم إلى متحف.لذلك فتكوينه الذهني وكذا نوع من المغالاة،فقد تأتيا له من جده الكولونيل ماركيز،صاحب تفكير حر والذي كي يؤثث ضجر الزمن الجامد،فقد اجتر الكلام بلا كلل،عن ذكرياته خلال حرب الألف يوم،وهي حرب أهلية مدمرة اندلعت بين سنوات 1899 و1902،خاضها فريق ليبرالي(كان الجد واحدا منهم) ،ضد “المحافظين”،التي انتهت المعركة بفوزهم.

إذن،إلى “باباليلو” مثلما كان يلقب ماركيز جده،يدين كاتب المستقبل بأسس وعيه السياسي والاجتماعي.بحيث،يعتبر الكولونيل  واحدا من الشخصيات الكولومبية التي احتجت على : ((جريمة بساتين الموز)): في شهر دجنبر 1928،قتل مئات العمال الزراعيين المضربين،وبالضبط مايقارب 1500شخص،حسب بعض المصادر من طرف الجيش الكولومبي،تحت ضغط الولايات المتحدة الأمريكية،التي هددت باجتياح البلد بقوات المارينز،إذا لم تبادر الحكومة، كي تحمي مصالح الشركة الأمريكيةunited fruit :المسماة  . في روايته”مائة عام من العزلة”،عمله الأساس،سيعرض ماركيز ثانية، في صيغة خيالية، تلك الفترة الدموية.

فيما يخص جدته “ترانكلينا”،فقد كانت تحيا داخل عالم ساحر زاخر بالأشباح والأطياف والكائنات الخارقة،بالتالي، هي من ستلهم ميل ماركيز للسحر الكامن في باطن الواقع نفسه.بعدها،حينما صار راشدا وكاتبا،ثم حصوله على جائزة نوبل،سيصرح أمام ملك السويد قائلا :((لم أعش شيئا مهما بعد مرحلة طفولتي)).

في سن الثامنة من عمره،ذهب  كي يلتحق بوالديه اللذين سيرسلانه إلى مدرسة داخلية في بلدة “باركلينا”،يشرف عليها اليسوعيون،ثم فيما بعد بوغوتا،وقتها كتب ماركيز أولى محاولاته على صفحات مجلة المدرسة.سنة1946،حصل على شهادة الباكلوريا،وتوجهه إلى دراسة القانون،لكنه سرعان ماتخلى عن هذا المسار،ثم بداية تعاونه مع الصحافة.هكذا،فماركيز كصحفي،تمكن من ولوج الحياة العمومية،وانكبابه على قراءة النصوص الكلاسيكية:  كافكا، جويس، فيرجينا وولف،فولكنر،هيمنغواي… ،غير أنها تأثيرات لم تشتغل سوى سطحيا،أما جوهريا فيتعلق الأمر بشيء غير محسوس ودقيق جدا،يشير إلى ولعه بما هو مفارق للطبيعة،كالأشباح وكذا التحذيرات السابقة التي استلهمها من جدته المنحدرة من منطقة  غاليسيا الاسبانية، التي كانت تستيقظ ليلا كي تروي له حكايات مثيرة عن الأشباح والجنيات ومناجاة الأرواح.

هكذا ارتبط ماركيز طبيعيا، بتيار أدبي إسباني وأمريكي لاتيني،مثّله كل من “ألفارو كونكيرو”alvaro cunqueiro و”ميغيل أنجيل أستورياس”Asturias و “أليجو كاربونتيي”Carpentier  ،إنه تيار الواقعية السحرية أو الواقع المدهش.

سنة1955،سيكتشف الصحفي الشاب  حقيقة كارثة “كالداس”،تلك السفينة البحرية الكولومبية،والجسر المكتظ بالسلع المهربة،التي فقدت ثمانية من أعضاء فريقها وسط بحر الكاريبي،عندما تم تقطيع حبال هذه السفينة غير القانونية،بينما ادعى الضباط أنهم واجهوا عاصفة رهيبة.

بعد لقاءات ناهزت لأكثر من مائة وعشرين ساعة ،مع الشخص الوحيد الذي نجا من الحادث،أصدر غابريل غارسيا ماركيز سلسلة تضم أربعة عشر مقالة، كتبها بصيغة المتكلم ثم وقعها البحري،وصدرت  ثانية سنة1970،بين صفحات كتاب حمل عنوان : مذكرات غريق.

اكتشف قراء صحيفة”El Espectador ” ، تلك الوقائع،لذلك وخشية من بطش النظام العسكري الماسك بالسلطة، اضطرت إدارة الجريدة كي ترسل ماركيز نحو أوروبا.

وصل إلى باريس،في أوج حرب الجزائر،خالط أعضاء جبهة التحرير الوطنية،وتعرض إلى الحملات التأديبية الشرسة التي كان يمارسها البوليس الفرنسي،فجريمة تشابه ملامحه مع هؤلاء حتمت عليه ذلك.

يبادر الشاب اليساري القريب من الشيوعيين،إلى زيارة بلدان المعسكر الشرقي.بالرغم من كونها المفضلة السياسية لديه،فقد تركت بالأحرى أسفاره إليها،انطباعا سيئا،استثمره في مؤلفه : تسعون يوما وراء الستار الحديدي(1959).

عندما أصدر الديكتاتور”روجاس بنيلا”،قراره بحظر جريدة”El Espectador ،وجد ماركيز نفسه بدون عمل.يكتب ويعيش،مترقبا المجد والمال.بينما كانت رفيقته تعمل منظفة للبيوت،كان هو يجمع الأوراق والجرائد والقنينات الفارغة،بهدف بيعها.سنوات الإفلاس هاته،انعكس صداها سنة1961بين صفحات عمله:”ليس للكولونيل من يكاتبه”.خلال السنة الموالية،سينشر عملا آخر تحت عنوان :”لامالا أورا ومراسيم جنازة الجدة.”وهو مجموعة شكلتها ثمانية قصص،على طريقة أفلام تتراوح مدتها بين30و59 دقيقة،مثلت إذا صح القول،تصاميم تقديمية لمائة عام من العزلة، الصادرة خمس سنوات بعد ذلك.

من حين إلى آخر،يعود غارسيا ماركيز إلى أمريكا اللاتينية.سنة1958،تزوج ب”مرسيدس باشا”،عشيقته فترة المراهقة،ولم يفترقا أبدا.زواج، أثمر طفلين :رودريغو،المخرج السينمائي بعد دراسات في جامعة هارفارد انصبت على تاريخ القرون الوسطى.ثم غونزالو،الذي صار مدرسا في باريس.

سنة1961،نسج ماركيز الصحفي في وكالة الصحافة الكوبية،بدايات سبيل صداقته مع نظام كاسترو،بعد أول زيارة له لذلك البلد.ثم انتقل إلى نيويورك،في انتظار تأشيرة زيارة كندا،حيث كلفته الوكالة بفتح مكتب هناك،غير أن المهمة تأخرت بل لم تتم،لذا فالصحفي -الكاتب، وقد انتابه السأم،سيشذ الرحيل وأسرته الصغيرة بواسطة الحافلة،صوب المكسيك، الدولة التي قضى فيها قسطا كبيرا من حياته.

سنوات قليلة فيما بعد،ارتقى ماركيز دفعة واحدة إلى بوابة الشهرة العالمية،بإصداره سنة1967 ،في بوينس أيرس ،لروايته”مائة عام من العزلة”،التي ستحدث ولعا رائعا.كل قراء أمريكا اللاتينية،تردد ذاكراتهم تلك الجملة الأولى:((بعد سنوات طويلة،وأمام فصيلة الإعدام،سيذكر الكولونيل أوريليانو بوينديا،ذلك المساء البعيد الذي أخذه أبوه للتعرف على الجليد)).

هي في الآن ذاته،ملحمة أسروية،رواية سياسية وسرد رائع، إنها:((أكبر رواية كتبت باللغة الاسبانية، منذ دون كيشوت)) ،يؤكد الشاعر الشيلي بابلو نيرودا،بحيث استعرض الكاتب ذلك بين طيات “مائة عام من العزلة”، دون أن يتورط ثانية أو يتسلى.لغة ماركيزمتينة، خصبة في الوقت عينه،لكن مسيطر عليها بشكل كامل.

منذ ظهور قرية ماكوندو المتخيلة،حيث امتد تاريخ أسرة بوينديا،عبر ستة أجيال،ونوع من السلالة تعلق مصيرها بالوضع الأسطوري للقارة،على الفور ستتمثل  كل أمريكا اللاتينية، من خلال هاته الحكاية الميثولوجية،البطولية والباروكية.

بعد خمس سنوات،من تداول أيادي القراء لها،صدرت أيضا رواية “مائة عام من العزلة” على امتداد ثلاث وعشرين بلدا، وبيع منها أكثر من مليون نسخة فقط على مستوى اللغة الاسبانية.نعلم بأن غارسيا ماركيز،صرح بصدق عن اندهاشه للنجاح الذي صادفه عمله. يعزو ذلك،إلى كون مائة عام من العزلة،سهلة القراءة مع اتساق مغامراتها الفانتاستيكية.فهل يساهم دائما مفعولها الحاسم في شهرة كتاب آخرين ومعهم قارة أمريكا اللاتينية،من خوان رولفو إلى ماريو فارغاس ليوسا،مرورا بخورخي لويس بورخيس وخوليو كورتزار ثم كارلوس فوينتس؟.

سنة 1967،استقر غارسيا ماركيز بمدينة برشلونة،لمدة سبع سنوات وشرع في كتابة روايته خريف البطريرك الصادرة سنة1975،فرسمت قطيعة مع العالم الأسطوري الأصلي لماكوندو،وطدت شهرة الكاتب.إنها تأمل في السلطة،التي تخدمها آلية جذابة، حيث يجتمع ضمير المتكلم الجمعي،والمونولوغات ثم الحوارات المباشرة وكذا هيمنة مناجاة النفس.

يصف غارسيا ماركيز،ديكتاتورا كهلا جدا وفي غاية العفونة، لايجرؤ أحد على لمسه خوفا من رؤيته يسقط غبارا،ديكتاتور بالمعنى الحقيقي،يخلد داخل قصره الغريب.لقد تجلى الوعي السياسي للكاتب دون أن يؤثر ذلك سلبا على فنه:لم تعمل قط الإيديولوجية على تثقيل السرد،بحيث قد يستأنس القارئ بهذا الحاكم المترف والمكروه.

بعد هذا النجاح الجديد،غضب ماركيز ،بسبب ارتقاء نظام ديكتاتوري لكرسي السلطة في الشيلي منذ الانقلاب العسكري للجنرال بينوشي سنة1973،رافضا لفترة من الفترات، كتابة روايات جديدة ومفضلا الانخراط فيما سماه ب”حرب المعلومة”،فساهم داخل بلده في إصدار مجلة مستقلة تجلد الرأسمالية والامبريالية،منحازة للدفاع عن العالم الثالث،وتدعم بشكل صريح، نظام فيديل كاسترو.

سنة1982،سلمته لجنة ستوكهولم جائزة نوبل،أزقة القرية التي ترعرع فيها ماركيز، ترفرف فوقها رايات صغيرة :((أركتكا، عاصمة عالمية للأدب)). حضر الروائي إلى الحفل،مرتديا الزي الرسمي التقليدي لشاطئ الكاريبي المسمى “ليكي-ليكي”،بدل لباس السموكن البروتوكولي.

مثّل خطابه،مرافعة قوية من أجل أمريكا اللاتينية،بينما كان عدد الديكتاتوريين يتضاعف على امتداد القارة، متطرقا إلى “العزلة” في مواجهة :((الاضطهاد والنهب والتهميش)).استحضاره،لذلك :((العدد الهائل من رجال حالمين ونساء مشهورات، تداخل عنادهم الخالد بالأسطورة)) ،دوى صداه على امتداد كل القارة.

بعد نوبل،أشاح غارسيا بوجهه كليا عن ماكوندو، وكذا العالم المذهل لطفولته،لأن إنتاجه سيتموضع أساسا في منتصف الطريق بين الصحافة والتاريخ والرواية الشعبية.توجه، دشنه قبل سنة من تتويجه بنوبل،عبرمؤلفه: وقائع موت معلن (1981) ،في كولومبيا ثم طبع خلال السنة ذاتها،في فرنسا لدى دار النشر”غراسي”، وقد صدر أصلا من هذا العمل،مليون ونصف نسخة،رقم لم نصادفه أبدا في العالم الذي يتحدث اللغة الاسبانية.وإذا لم نعثر ثانية،بين صفحاته على العالم التوراثي لماكوندو، أو الغرابة المجنونة لما ميز خريف البطريرك، فقد بقيت التيمة المركزية راسخة.

الموت، حاضر منذ الكلمات الأولى للحكي:((في اليوم الذي سيقتل فيه سانتياغو نازار،استيقظ مع الخامسة ونصف صباحا،كي ينتظر السفينة التي تقل على متنها الأسقف)).قام الراوي بتحقيق حول تراجيدية حدثت فجأة،قبل ثلاث وعشرين سنة،غداة حفلة للزواج :لاحظ الزوج بأن العروس ليست عذراء،غير أن إخوتها سيوجهون له تهمة الاعتداء على “شرف” أختهم الصغيرة،فطعنوه بضربات سكين قاتلة.

 فكك غارسيا ماركيز،خيوط الحادثة بتمكن رائع،سواء من خلال سرده الدقيق، مثل فيلم بوليسي مشوق،أو عبر تتابع تطورات الاعترافات التي تقادمت،بحكم مر السنين.

بعد ذلك،لم تحقق أعماله اللاحقة،ك : الحب في زمن الكوليرا(1985) الجنرال في متاهته(1989) ،ولا نصه الأخير : ذاكرة غانياتي الحزينات،نفس نجاح نتاجه السابق.لكن لايهم، فقد صار غابو مرجعية، يتم الالتجاء إليه،لاسيما في مناسبات عديدة ليقوم بوساطة لحظة مفاوضات السلام مع الجماعات المسلحة الكولومبية،أو استشارته حول مجموعة من القضايا.

غارسيا ماركيز،ليس بشخص غرّ،  يقول :((أنا روائي،ونحن الروائيين لسنا بمفكرين،بل انفعاليين وعاطفيين.سنعاني نحن اللاتينيين، داخل بلداننا شقاء كبيرا،لأننا صرنا إذا صح القول،وعي مجتمعنا،ثم انظروا إلى المصائب التي نحدثها،هذا لايقع في الولايات المتحدة الأمريكية،من حسن حظها،فلا أتخيل قط لقاء سيتكلم خلاله دانتي عن اقتصاد السوق)).

عندما يوجه سؤال إلى ماركيز،يتعلق بالقضايا الكبرى للعالم،فإنه لايتهرب،لكنه يفضل التمسك بمهنته المرتكزة على سرد الوقائع، بأفضل مايمكنه ذلك.لهذا،يعجبه الالتقاء بالأقوياء،مؤكدا أن علة انجذابه نحوهم ليس السلطة،بل المعلومة التي بوسعه استلهامها منهم.فكان لقاؤه بهنري كيسنجر، والجنرال البانامي عمر توريجوس والسويدي أولوف بالم  والكولومبي سيزار غافيريا والاسباني فيليب غونزاليس وميخائيل غورباتشوف وفرانسوا ميتران وبيل كلينتون وهيغو تشافيز،ثم باستمرار العزيز على قلبه فيديل كاسترو حتى اللحظة التي تباعدا فيها بسبب عامل شيخوختهما،الذي جمعته معه ،صداقة جوهرها عشقهما  المشترك للأدب.هناك جملة،منسوبة ل”جول سيزار” تلازمه،تقول :((يستحيل،أن لانكون، مثلما يظننا الناس)).

فيما وراء السياسة والأسطورة،لم يتوقف غارسيا ماركيز أبدا، عن إعداد خطاب ضخم حول الموت والعزلة،يمضي إلى نهاية السلالة والحضارة، سواء في عمله “جنازة الجدة ميمي وخريف البطريرك”،ثم”وقائع موت معلن”،وبالطبع”مائة عام من العزلة”،يقول :((أفكر حتما في الموت،لكن قليلا قدر ما يمكن،ولكي لا ينتابني الهلع كثيرا،تعودت أن أعيش وفق فكرة بسيطة جدا،وإلى حد ما فلسفية :فجأة سينتهي كل شيء ثم السواد المطلق وتتلاشى الذاكرة. وضع يمنحني السكينة كما يحزنني،لأن الأمر يتعلق بالتجربة الأولى،التي لايمكنني الحكي عنها)).

      *الطفولة :

مقتطف من سيرته الذاتية : ((عندما نروي حكاية للأطفال،وتعجبهم،سيرفضون الاستماع إلى حكاية أخرى، غيرها.أظن بأن هذا لا ينطبق على أطفال يعشقون حكي وقائع كما هو وضعي،لأني أتوق باستمرار إلى المزيد.تبقيني الحكايات نهما، طامحا، إلى أن تكون حكاية الغد جميلة أكثر.لاسيما،إذا كانت موصولة بألغاز التاريخ المقدس)) .

* القراءات :

 مقتطف من حوار أجري مع ماركيز، سنة :1996 ((هناك قراءات،وسمتني مدى الحياة.على سبيل الذكر،ذاك المجلد الذي عثرت عليه داخل صندوق،ولم أكن أعرف حتى عنوانه. إنه ألف ليلة وليلة،لقد قضيت السنوات الأولى من حياتي مهووسا بمشهد تلك السجادات ،المحلقة وكذا عفاريت ينبعثون من باطن قارورات.مدهش،وبالنسبة إلي فالأمر صحيح كليا ! أتساءل، إذن : الذين يؤمنون بسجادات تحلق في ألف ليلة وليلة،فلماذا لايؤمنون بأنها تطير كذلك في قريتي؟في قريتي،لاتوجد سجادات،لكن حصائر،إذن يتم التحليق بحصائر…،أعتقد أني اتخذت قرارا،لايتعلق بإبداع حقيقة جديدة، ولاخلقها،لكن العثور على الحقيقة التي أتماهى معها،بالتالي،أكون على دراية بها)).

*مهنة الكاتب :

 مقتطف من حوار مع ماركيز، سنة :1997 ((عندما أصل إلى نقطة،أشعر خلالها بالسأم،فإني ألاحق لحظتها عنصرا جذابا يمسك ثانية بالقارئ.أنا مقتنع، بأنه أن تكتب كما لو تمارس التنويم المغناطيسي.ينبغي الحرص على عدم تعثر القارئ،وأن ينتفض فجأة.لذلك،ألتجئ إلى بعض الحيل.عند نهاية فقرة،أتساءل كيف يمكنها الاستطراد،ثم أبحث عن شيء ما يحرض على قراءة السطور التالية)).


المصدر

le monde : samedi19 avril 2014