مجلة حكمة
عقلانية غير بشرية

عقلانية غير بشرية

الذكاء الاصطناعي بصفته ممهداً لشكل جديد من السلطة غير مرتكز إلى العقلانية

كتابة د. جوزيف عوض
قنبلة أوبنهايمر واسعة الأثر

يبدو فيلم أوبنهايمر تعبيراً سينمائياً عن لحظة من التاريخ تمحورت فيها كل أفعال مجموعة من البشر حول قنبلة، لكن ليس بصفتها أداة تدمير، بل بصفتها عملية اختراع وشيئاً قيد التحقق. فهذا المشروع الذي لم يكن قد تحقق بعد، غيّر توزيع القوى وخلق صداقات وعداوات وشكل موازين ومصالح ممتدة على نطاق واسع وصل في لحظة معينة إلى أن يكون بؤرة اهتمام للجمهور والدولة على حد سواء.

الملفت في الفيلم أن كل ما هو مهم ويستحق الذكر قد حدث قبل تفجير القنبلة، الصراعات والعلاقات والأفكار وتكون الشخصيات، كلها حدثت في تلك المرحلة التي كانت تتم فيها صناعة القنبلة. أي أنها نشأت مع نشوء (مشروع) الاختراع الجديد.

لكن كيف يمكن لاختراع ما أن يحوز كل تلك المكانة ويترك كل ذلك الأثر قبل حتى أن يحدث فعلاً ؟ كيف يمكن لمجرد السعي إلى إنتاج علمي أن يشكل المجتمع بشكل جديد؟ ربما نبرر الأثر الممتد لقنبلة أوبنهايمر على السياسة العالمية بقدرتها التدميرية، لكن الأثر الاجتماعي كان قد تحقق فعلاً قبل إنجاز الاختراع وقبل التأكد من إمكاناته ورؤية قدرته التدميرية. أما الأثر الذي حدث بعد تحقق التدمير فقد بدى أنه كان النتيجة لكل التغير أو إعادة التشكل الذي كابده المجتمع ليقوم بالعمل الذي أدى في النهاية إلى انتصار عسكري، كان ذا أثر بالغ في التاريخ بلا شك، إلا أنه بدى عرضياً تماماً في سياق الفيلم. 

الاختراع بصفته عنصر تغيير

لا يمكن أن ندعي أن الأثر الاجتماعي للتطور العلمي أمر مستغرب، بل هو ربما من أكثر الأمور وضوحاً في عالمنا المعاصر الذي سيطر على جزء كبير من تاريخه صراع مدرستين فكريتين هما الرأسمالية والماركسية متحاربتين أساساً على طريقة إدارة وسائل الإنتاج، إحداهما أرادت أن تكون وسائل الإنتاج مملوكة للجميع فجعلتها مملوكة للدولة والأخرى أرادتها مملوكة للأفراد، لكنهما كلتاهما آمنتا أن لوسائل الإنتاج هذه أثراً كبيراً على المجتمع.

والتفكير بوسائل الإنتاج يعني التفكير بالمشروع وبطريقة إدارة العمل وتوجيه الموارد والتعامل مع الطبيعة. كما يعني التفكير في العمل كنشاط بشري يسيطر على الأشخاص ويتحكم بوقتهم وجهدهم ويتداخل مع نظم معاييرهم الأخلاقية والفلسفية والسياسية، الشخصية والاجتماعية.

لكن خلف التفريق الحاد في شكل ملكية وسائل الإنتاج تقبع فكرة أكثر أسياسية تدور حول القيمة بمعنييها الاقتصادي والأيديولوجي، ففي النظام الرأسمالي تتحد قيمة المنتج بسعره، وآلية الأسعار هذه تخلق منظومة متكاملة قائمة على مبدأ العرض والطلب والمنافسة والربح والملكية الخاصة والتراكم، وتمتد الفكرة بعيداً عن الاقتصاد إلى ماهية الدولة والمواطنة، وفكرة الفرصة والنجاح والمبادرة والفرد وأثر كل ذلك على الفلسفة والأخلاق والسياسة. أما في الفكر الماركسي، حيث تتحدد قيمة المنتجات بالمنفعة المتأتية للمجتمع وتهدف العملية الاقتصادية إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المنافع للجميع ويكون مفهوم العدالة محورياً، فإن منظومة مختلفة تنشأ تكون فيها الدولة مالكة وراعية ومنظمة للمجتمع الذي يراد له أن يتحرك بانسجام تام لا يقتصر على الإنتاج والاقتصاد.

ربما تذكر العبارة الأخيرة القارئ المطلع على خلاف ماكس فيبر مع كارل ماركس حول حق الأولوية بين الاقتصاد والثقافة، وهو نقاش بعيد بلا شك عن أهداف هذه المقالة، فالتعريج على الفكر الماركسي جاء هنا عرضياً تماماً ولن يؤثر على الطرح الذي سوف نقدمه فيما يلي، إلا أن طرح غريمه في الفكرة ماكس فيبر والمتعلق به تاريخياً وفكرياً بلا شك، هو الذي سوف نقيم عليه فكرتنا في هذا المقال، وتحديداً فكرة فيبر حول مفهوم العقلانية كمحدد لشكل النشاط الاقتصادي الرأسمالي.

فبحسب ماكس فيبر، فإن العقلانية هي سمة المجتمع الرأسمالي، حيث تفرض العقلانية نفسها ليس فقط عند اختيار نمط الفعل الغائي للوسائل والبدائل في الاقتصاد بل أيضاً في شكل العلاقات القانونية والسيادة البيروقراطية. فماكس فيبر يرى أن العقلنة تعني توسيع المجالات الاجتماعية التي تخضع لمقاييس القرار العقلاني، ابتداءً من تنظيم الوسائل والاختيار بين البدائل، مروراً بالتخطيط ومأسسة التقدم العلمي كشكل من أشكال ضمان استمرار أنظمة الفعل العقلاني عن كطريق مأسستها، وصولاً إلى تغيير الموروث الثقافي للمجتمع ككل، فيهدم المشروعات القديمة ويبعده عن زمن الخرافة.

يعترض هبربرت ماركيوز على مفهوم العقلنة لدى ماكس فيبر بأن العقلانية الرأسمالية بهذا المفهوم ليست العقلانية بذاتها بل هي شكل مضمر من السيادة لا يكتفي بأن يغير المجتمع ويعيد تشكيله، بل يضع له أيضاً حدوداً بقدر ما يشكله، وبذلك فإنه بعد حد معين يمنع المجتمع من التغير أو -بمعنى آخر- يحرمه منه. واعتراض ماركيوز -كما لكم أن تلاحظوا- لا يقلل من أهمية الفكرة، بل يزيد من إدراكنا لأثرها في تشكيل المجتمع.

فالعقلانية العلمية هي إذاً ممارسة للإشراف والرقابة تُمأسس السيادة وتحتفظ بالمحتوى السياسي مما يجعل “العقل التقني هو نفسه أيديولوجيا، وليس استخدامه أولاً، إنما التقنية سلفاً هي السيادة (على الطبيعة والإنسان) سيادة منهجية منظمة، علمية، محسوبة ومدروسة الأغراض” بحسب كلام ماركيوز الذي يتابع “ولا يتم إملاء بعض الغايات والمصالح المحددة للسيادة “متأخراً” ومن خارج التقنية -فهي تدخل سلفاً في بناء الجهاز التقني ذاته، فالتقنية هي في كل مرة مشروع اجتماعي-تاريخي، ويتم التخطيط فيها للمجتمع والمصالح المسيطرة عليه، بحيث تملي عليهما ما يتوجب فعله مع البشر ومع الأشياء، مثل هذه الغاية للسيادة (مادية) وتنتمي من حيث ذلك إلى الشكل نفسه للعقل التقني” قد تبدو الفقرة السابقة من كلام ماركيوز أعلاه شديدة التكثيف، إلا أن ما يهمنا منها هو أن العقلانية بوصفها شكل السيادة المضمر في الرأسمالية هي أساساً ذات أثر أبعد بكثير من مجرد أن تكون خياراً يمكن الأخذ به أو تركه. فهي شيء بهذا المعنى
تستحق صفة المضمر لأنها تشكل النظام ككل وشكل السطلة التي يمارسها، كما تبين لنا أن أحد معاني العقلانية بوصفها في أحد أشكالها العقل التقني المتمثل بالجهاز التقني والاختيار بين البدائل التقنية والتخطيط للتقدم العلمي، هو معنى ينسحب على كامل المجتمع.

في هذا السياق لدينا فكرتان نرغب في طرحهما تطبيقاً للمفهوم الذي ناقشناه فيما يتعلق بشكل السلطة المترافق مع التقنية تطبيقاً على ظاهرة انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل واسع مؤخراً. الفكرة الأولى، هي مركزية العقلنة بصفتها سمة بشرية ضرورية للتكنولوجيا وبالتلازم ضرورية لمركزية دور الإنسان بصفته محتكر الفعل العقلاني اللازم لفهم العالم، أما الفكرة الثانية، فهي شكل العالم الجديد الذي يمكن له أن ينشأ من هذا التغير. أما في النهاية، فنختم مع استطرادٍ سريع خاص بالدول النامية كحالة خاصة من هذا الطرح وتعنينا مباشرة.

إغواء المستقبل المريح

كما فهمنا مما سبق، فإنه مع التقدم التقني لم تعد وسائل الإنتاج مجرد أدوات عمل بل غدت أساساً لأنواع المشروعية، وبما أننا النوع الوحيد المفكر، فإن هذا العقل الذي ينتج التفكير العلمي والعقلانية يغدو هو أساس مشروعية سيطرتنا البشرية على الحياة باعتبار عقلنا هو أساس التقدم العلمي الذي هو شرط حدوث التقنية واستمرارها.

فالتقنية تفرض سيطرتها علينا كبشر بينما نحاول نحن استخدامها للسيطرة على الطبيعة، إلا أن التفكير البشري بصفته المحتكر للتفكير العلمي يبقى ذا مكانة جوهرية في عملية الإنتاج وبالتالي في عملية السيطرة بكل ما يستتبعه ذلك من مركزية إنسانية فلسفية وأخلاقية. وبالرغم من أن هذه السيادة المضمرة لا تمنح سيادة متساوية لجميع البشر، إلاّ أنها هي التي تهبنا الشكل السياسي والسيادي الذي يمتلك فيه الأشخاص حقوقهم بصفتهم أشخاصاً.

لكن مع تصاعد دور الذكاء الاصطناعي، فإن سؤالاً يطرح نفسه فيما يتعلق باستمرارية حضور المركزية الإنسانية كفكرة أساسية، متأتية من تفرد التفكير البشري، وكأساس للسيطرة البشرية على الطبيعة وبالتالي مكانتهم المركزية كأشخاص في هذا النظام السياسي الحالي بما فيه من حقوق ومنظومة قيم.

ففي الوقت الذي تحال فيه الكثير من الوظائف إلى الذكاء الاصطناعي فإن الخوف الأساسي لا يجب أن ينحصر في انتزاع عمل البشر منهم لصالح الذكاء الاصطناعي، فالتاريخ يبين أن الأعمال التي يلغيها التطور يمكن أن تعوض بأنواع أعمال جديدة. لكن الخوف الأساسي يجب أن يكون من تراجع دور العقلانية والتفكير العلمي في أداء البشر لأعمالهم وبالتالي تراجع دور العقلانية المحوري كأساس للمبدأ الإنساني وانعكاساته السياسية.

فالقدرة البشرية على العمل والإنجاز والمشروطة حالياً بالعقلنة والتفكير العلمي قد تتعرض لفك هذا الشرط عندما يقوم الذكاء الاصطناعي بأداء المهام داخل (صندوقه المغلق) بينما البشر يتحولون للثقة بنتائج تفكير الآلة ذاتية التعلم أكثر مما يثقون بنتائج تفكيرهم المنطقي. وحيث أن الآلة غدت اليوم تتعلم ذاتياً بطرق غير مدركة للبشر -وهو شرط الذكاء الاصطناعي- فإننا عند العمل معها نتحول إلى نوع من الإيمان الغيبي والذي يتميز عن كل الإيمانات الغيبية السابقة بأنه دائم التحقق على عكس نتائج الصلوات ونبوءات الأبراج وقراءات فناجين القهوة المقلوبة، مما بجعله إيماناً أشد قوة ومتانة.

إلا أن هذا الإيمان الفعال والمتحقق يشكل خطراً على مركزية الإنسان الفلسفية والأخلاقية والسياسية، فهو يعني تراجع سيطرة الإنسان على وسائل الإنتاج والذي يعني سياسياً تراجع أساس سيادته، ويعني أيضاً تراجع المركزية الفكرية للإنسان بصفته ناظراً إلى الطبيعة في سبيل فهمها أو مفكراً بالكون، مما يعني تراجع دور العقلنة، فالفهم لم يعد ذا ضرورة لأن ذكاء الآلة يقوم بهذه المهمة على أتم وجه، بينما فهمنا لهذه الآلة (الفاهمة) للطبيعة ليس فقط غير ضروري لفهم الطبيعة وإتمام المهام واستمرار عمل الجهاز -أياً يكن مستوى الجهاز من الدولة إلى الآلة- بما أن الآلة سوف تقوم بكل شيء أفضل منا، بل ربما يكون غير ممكن من الأساس.

ولأجل أن يحافظ البشر على مكانتهم في نظمهم الفلسفية والسياسية فإنه قد لا يكفيهم أن يعتمدوا على غريزة البقاء البسيطة باعتبارها متأصلة فيهم ككائنات حية لتمكنهم من مقاومة تراجع مكانتهم أمام اختراعاتهم الخاصة، بل يتوجب عليهم أن يسعوا بكل جهدهم لإبقاء الذكاء الاصطناعي ضمن إطار المفهوم والمدرك -وليس المُقيَد والمحارَب الذي تبدو الدعوات له الأكثر
مدعاة للراحة مع أنها الأقل قابلية للتحقق. ولأجل فعل ذلك لابد من النظر إلى ما بعد الذكاء الاصطناعي والعمل على تجاوزه، فكما كان الأمر دائماً، يبدو أن التقدم هو شرط بشري جوهري حتى لو أدى التطور إلى نقطة تاريخية يبدو فيها أن هنالك إغراء بأن نركن إلى الراحة ونعطي قيادة العقل والتفكير إلى كائن آخر يريحنا مما طالما شكل أكبر تحدياتنا ومغامراتنا البشرية وهو الاكتشاف والتقدم. فتلك اللحظة التي نستسلم فيها للراحة من عبء التفكير بالمستقبل سوف تكون لحظة انحدارنا.

شكل المستقبل: السلطة أم الرفاه

في كتابات يوفال هاراري عالية الانتشار مثل العاقل (Sapiens) و(Homo Deus) تبدو دعوته الأساسية هي تقبل أنه من الممكن تقنياً أن تتطور كيانات تقنية قائمة على التطورات العلمية التي أتى بها البشر لتتجاوز البشر أنفسهم وتكون هي النوع المسيطر في المستقبل، وسواء حدث ذلك أم لا، فإن هنالك مرحلة من الانتقال لن نعود نحن فيها نفس البشر الحاليين. وقد تبين أن كتابات هراري هذه أثارت اهتماماً كبيراً حول العالم.

إن الأزمنة القديمة، كما وصفها ماكس فيبر، والتي كانت أزمنة خرافة والتي تجاوزها التفكير العقلاني، لم تكن كذلك لأن الإنسان كان غير قادر على التفكير، بل لأن نظم السيطرة المضمرة في تلك الفترات كانت قائمة على نظم إنتاج لا تحتاج إلى العقلانية فحَكمتها الأفكار الخرافية التي كانت متوافقة مع نظم السيطرة المضمرة في أدوات الإنتاج وقتها ورافقتها مكانة للإنسان ونظام حقوق متوافق مع شكل السيطرة المضمر هذا. أما وقد أتاح التقدم العلمي عصراً جديداً من العقلانية فإن نظام السيادة المضمر في النظام قد تغير وتغير معه النظام الاقتصادي والسياسي.

سؤالنا إذا أنه مع تغير شكل التقنية المستخدمة، والتي قد تؤدي إلى تغير شكل السلطة المضمرة، ما هو شكل السيادة البشرية التي نرغب في أن نراها في المستقبل، وما هو توزيع القوى بين البشر والآلة الذي نريده؟ هل نريد مجتمعاً تحكمه الآلة أم الإنسان، ليس بالمعنى المباشر لمفهوم كلمة حكم أو بالمعنى العسكري كما تصوره الأعمال الدستورية، بل بمعنى السؤال عن دور العقل البشري؟ فنحن بلا شك نريد من وراء التقدم العلمي تطوير مجتمع يدعم رفاه الإنسان أكثر من ذي قبل، لكن السؤال، هل نريده مجتمعاً يدعم رفاه الإنسان على حساب التضحية بسيطرته وسيادته كإنسان على فهم الطبيعة وبالتالي على العقلانية، أم بالإبقاء على هذه السيطرة والسيادة من خلال المحافظة على دور الإنسان كمفكر بالطبيعة وفاهم للكون. إذ أن هذه الاختيارات تبدو ممكنة بنسب متفاوتة، فالتركيز عل رفاهية الإنسان يمكن أن يكون الهدف الأساسي لكن طريقة الوصول إليه يمكن لها أن تكون من خلال تسليم (نظام آلي ما) زمام العمل كله وتخلي الإنسان عن كل دور له، ليس في العمل فقط، فهو تخل حدث كثيراً على مر التاريخ، بل في فهم العالم، وهو الفهم الذي ما لبث يزداد بوتيرة متسارعة على مر العصور.

ولأن غاية المقال ليست افتراض عالم دستوبي بل التركيز على أهمية التحول الحاصل في دور العقلانية والتفكير البشري، فإنني أرغب في نقاش فرضية السيناريو الذي مفاده إمكان إيجاد صيغة تقوم فيها الآلة الذكية بكل العمل نيابة عن البشر بطيب خاطر بحيث لا تقوم بالسيطرة علينا، وإن كانت هذه الفرضية غير مرجحة بالضرورة، إلاّ أنها مفيدة في سياق نقاشنا حول دور الإنسان وسيادته.

ففي عالم كهذا، تقوم فيه الآلات بكل العمل، يمكن أن تكون رفاهية الإنسان في أعلى مستوى ممكن ضمن التقنية المتاحة. فيغدو البشر غير محتاجين للقيام بأي عمل بما في ذلك العمل الأكثر قيمة واحتراماً في عصرنا الحالي، وهو ما أسميناه فهم العالم أي استخدام العقل للسيطرة على الطبيعة والإنسان. فتمكين الآلة من القيام بالعمل، سوف ينتج عنه تخلي الإنسان عن دوره في فهم العالم، سواء باختياره لانتفاء الحاجة حين تقوم الآلة بهذه المهمة، أو مجبراً حيث يصل تفكير الآلة إلى مستوى لا يمكن للإنسان مجاراته. وبالتالي فهو يفقد كل سيادة على العالم ناتجة عن هذا الفهم.

لكن الإنسان لن يختفي، فهو ما زال الكائن الأعلى والسيد المطاع، فبماذا سوف تتمثل سيادته حين لا تكون متمثلة في فهم العالم؟ ربما تتلخص سيادة الإنسان على العالم حينها بالتمادي بحاجاته لأبعد حد ممكن، حيث تكون الآلة كما افترضنا قائمة على إدارة العالم من أجله وتغطية كل حاجاته. وعالم كهذا لن تكون فيه ديمقراطية بالمعنى الحالي وهي النتيجة التي يبدو أن الكثير من
أعمال الخيال العلمي تتفق معنا حولها. إذ كما ناقش مارك-أوفه كلينغ ساخراً في روايته Qualityland على سبيل المثال، فإن عالماً كهذا يكمن إدارته بشكل أفضل من قبل الآلة الذكية مقارنة مع أي إنسان في مكان السطلة. وإن كان كلينغ قد نحى بعمله منحى ساخراً، إلا أنه يمكننا فعلا التخيل أن سلطة الآلة يمكنها أن تكون يوماً ما غير متحيزة وغير ذات مصلحة وأكثر فعالية
من أي مرشح بشري مما يجعلها الخيار الأفضل بشكل عملي.

بافتراض حدوث هذا العالم الذي لا يَحكم فيه البشر لكن تلبى جميع حاجاتهم بأعلى مستوى رفاه ممكن، كما لا نجبر فيه على شيء من قبل الآلة، فالافتراض هنا كما قلنا سابقاً أنه ليس عالم The Terminator أو The Matrix ولا أي سيناريو دستوبياً آخر تسيطر فيه الآلة على البشر. بافتراض هذا العالم لا نهائي الرفاهية ولا نهائي الموارد، وغير المتطلب لأي عمل بشري، فهل سيكون هذا العالم عالماً جميلاً للبشر؟

لاحظ أن هذا العالم المفترض يختلف عن عالم هكسلي في Brave New World فلا تمييز طبقي مفترض يجعل البشر مقيدين بحدود بيولوجية تفرض عليهم منذ الولادة، ولا هو عالم أرويل في رواية 1984 الذي تتضخم فيه شمولية الحكم لدرجة تشمل كل تفاصيل الحياة. بل هو عالم خال من كل المثالب التي كرهها البشر تاريخياً، فليس العالم الذي نتخيله محاولة للإسقاط الأدبي على العالم المعاصر، بل هو مناقشة لشكل العالم في المستقبل.

ولأن المقال ليس محاولة إسقاط على الحاضر من خلال تخيل مستقبلي، فلننأى بأنفسنا إذاً عن الافتراض البسيط -أخلاقي المسند بشكل واضح- بأن البشر لن يستطيعوا تحمل حياة لا عمل فيها، لنحل محله السؤال الأكثر أهمية حول مدى إمكان حدوث عالم كهذا يكون البشر فيه مسيطرين لكن دون أي مبرر للسيادة مرتبط بالعمل.

فعالم تكون فيه قدرة الفعل هي للآلة بالمطلق لكنها أيضاً لصالح الإنسان بالمطلق، هو عالم يفترض أن شكل السيادة المضمر هو شكل تاريخي ناتج عن إنتاج الإنسان للآلة في لحظة تاريخية لم تعد قائمة إلا في أثرها. سيادة مضمرة في فكرة الخلق أو الأولوية التي لا يمكن إعادة تكرارها لأن الإنسان لا يعود بعدها قادراً على إعادة تفوقه العقلي الذي سمح له سابقاً بتحقيق الاختراع الذي وصل مستويات لا يمكن بعد للعقل البشري مجاراتها.

هذا العالم لا نهائي الرفاه ولا نهائي الموارد والخالي بالتالي من أي فصل طبقي من أي نوع، هو عالم يبدو ممكن التحقق فقط إذا تم نقض الفرضية الأساسية حول شكل السلطة المضمرة، أي إذا تقبل البشر حياتهم دون مسند سلطة من أي نوع. ففي حين يمكن لنا تقبل افتراض أن الآلة قد تعمل بالكامل لصالح البشر، إلا أنه يبقى أن افتراض أن البشر يمكن لهم ان يعيشوا في مجتمعات لا سلطوية يبدو، على الطرف الآخر، غير مرجح.

فهذا المجتمع القائم على السيادة المضمرة في لحظة تاريخية مكنت البشر من اختراع الآلة التي تمكنت من التطور لتلبي كل حاجات البشر، هذه السيادة المضمرة في التاريخ، هي نفسها سوف تشكل نوعاً من الارتداد لدى البشر إلى نوع من التفكير الخرافي الماورائي الذي يقدس اللحظة التاريخية تلك، ولأنها كما وصفناها لحظة غير قابلة للاستعادة، فإنه سيكون لابد من أسطرتها لألى تضيع ذاكرتها الجمعية كما يفعل أي دين مع لحظات بدايته، وهذه الأسطرة سوف تولد نظاماً اجتماعياً جديداً يتخلى عن الرفاه المطلق لصالح بناء نظام سيطرة بين البشر غير قائم على الصراع على الموارد بل الصراع على التاريخ المبرر للمكانة والسلطة في عالم موارده غير محدودة.

لابد هنا من الاعتذار عن العودة إلى شكل ما من أشكال الإسقاط عند الحديث عن الأسطورة والدين بعد أن اتفقنا على عدم تبني مثل هذه الإسقاطات، إلا أني أرجو أن الفرق بين شكلي الإسقاط واضح، فالإسقاط الذي رفضناه أعلاه في نموذجي هكسلي وأرويل هو إسقاط للحاضر على المستقبل لفهم الحاضر، أما الإسقاط الذي استخدمناه فيما يتعلق بفكرة الأسطورة والدين هو على العكس، استخدام لآليات التفكير البشري التي تبدو ممتدة عبر الزمن في فهم وضع مستقبلي.

معضلة الدول النامية

البشر إذاً يفاضلون طوال الوقت بين السلطة والرفاه، ولأن العقلانية التي أتت بالرفاه تضمنت سلطتَها المضمرة فقد تعارضت مع السلطة المطلقة، وهو ما يمكن أن يبرر لنا ترافق التقدم العلمي تاريخياً مع الديمقراطية وانخفاض سويات القمع الذي تمارسه الدول، الأمر الذي ناقشه ماركيوز أيضاً. فالعقلنة والتقدم التقني وشكل السيادة المضمر فيهما يتعارض مع السلطة المطلقة، فلا يمكن لهما أن يوجدا معاً. ولأن السلطة هي هدف أساسي للمجتمع البشري، كان لابد من صيغة تستبدل السلطة المطلقة، كأن يتم تداولها، لتنسجم مع شكل السلطة المضمر في العقلنة الناشئة التي تتيح المجال لاستمرار عمل الجهاز التقني في السيطرة على الطبيعة.

فإذا ما حاولنا مد هذه المحاجة لبناء استنتاجات تتعلق بالدول النامية، فإننا نتوصل أنه  للسبب نفسه تتخلى الدول المتخلفة أو النامية بسهولة عن أي مكتسبات تاريخية تحوزها في مجال التنمية، فهذه الدول المحكومة غالباً حكماً دكتاتورياً وشمولياً والمعزولة لحد ما عن العالم، هي في حل من المفاضلة بين التقنية والسلطة المطلقة فيتم التضحية بالتقنية لأنها التقنية تفترض
شكل سلطة مرتبطاً بالشعب لأنه مرتبط بالعمل والإنتاج والتطوير، لصالح شكل سلطة أكثر دكتاتورية وأقل رفاهاً لأن الشعب في هذه الدول غير ممثل في الحكم من جهة أو غير لازم للشرعية من جهة أخرى. فوجود الحكام في الحكم هو في الكثير من هذه الدول هو نتيجة توازنات لا علاقة لها بالانتخاب أو أي شرعية مستمدة من الشعب.

قد يخطر لنا في هذا السياق الاحتجاج بمثال الصين باعتبارها دولة غير ديمقراطية لكنها تمتلك زمام التقدم التقني في حين لا يبدو أن شكل السيادة المضمر في التقنية يغير من نظام الحُكم فيها، لكن ذلك غير صحيح تماماً. فبغض النظر عن التغير في طبيعة السلطة في الصين خلال مراحل تطورها التقني، والذي يبدو واضحاً للعيان وجذرياً من حيث تقبلها للنظام الرأسمالي في شكل المجتمع، إلا أن الأهم هو أن الصين ما تزال إلى الآن تقوم على الإنتاج للخارج، فهي بمعنى ما مصنع العالم، ولذلك فشكل السيادة المضمر في نظامها ليس التقنية بشكل مباشر بل هو التصدير، وهو شكل سيادة قائم على توازن مع العالم الخارجي القائم على الاقتصاد المعولم القائم على التقنية والذي لا تحتاج الصين نفسها للمحافظة على استمراره سوى بمعنى إمداده بالإنتاج. ربما يفسر ذلك على مستوى ما انخفاض نمو الناتج المحلي للصين مع تعمق رأسماليتها، فهي تدخل الآن في شكل السيادة المضمر للتقنية الذي يفرض عليها المساهمة السياسية في “عقلنة” العالم إذا جاز التعبير ودفع تكاليف هذه العقلنة، وإن كانت عقلنة العالم على صعيد العلاقات الدولية لا تبدو عقلانية تماماً إذا ما وسعنا معنى الكلمة.

وبالعودة إلى سيناريوهات تطور الآلة وسيطرتها، فإن ما رأيناه من أولوية السطلة على مواكبة شكل السيادة المضمر في العقلنة والتقنية وإن كانت الأخيرة أكثر جدوى من الناحية الاقتصادية، يؤدي بنا إلى افتراض أن الدول النامية لن تواكب بالضرورة أشكال التطور التقني في الذكاء الاصطناعي، لكن ذلك لن يحدث لأنها أكثر حرصاً من غيرها على مكانة الإنسان، وإن كان ليس هناك ما يمنع من تبنيها هذه الحجة في البروباغندا الخاصة بها، بل سيحدث لأن تكلفة التسلط تزداد على الحكومات الدكتاتورية مع ارتفاع سوية التقنية. وهو ما يعني أننا في العالم النامي ربما نواجه معضلة مزدوجة فيما يتعلق بتطور الذكاء الاصطناعي تتمثل -وفي تكرار ممل لأخطاء الماضي- بتفشي تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التي لم نساهم في صناعتها لأن الصناعة تتطلب حداً أدنى من الشرعية المتأتية من الشعب فيما يكون استيرادها خياراً أكثر منطقية للحكم التسلطي. وبذلك، تبدو المعضلة المزدوجة لتطور الذكاء الاصطناعي أنه إضافة إلى احتمال انفصال شكل السيادة المضمر في الذكاء الاصطناعي عن العقلنة كما وصفناه أعلاه واستبدالها بشكل سيادة مضمر في فكرة ماضوية جديدة من نوع ما مرتبطة بنقطة أصل كان البشر فيها مصدر العقل الوحيد، فإن الشعوب التي لا تساهم في التطوير لن يتسنى لها أن تلجأ لأي شكل سيادة مضمر يمكن تبريره بما في ذلك شكل السيادة التاريخي الهش هذا لأنها لم تساهم في تلك اللحظة من الإنتاج التي سوف تمثل خلق الذكاء الصناعي، مما يجعلها عرضة مرة أخرى لأسوأ أشكال الأيديولوجيا القائم على الهوية المنغلقة وغير القادرة على الحياة في العالم.