مجلة حكمة
عتبة الحداثة فوكو

محاولة لفك لغز “عتبة” الحداثة كما هي عند المفكر الفرنسي ميشيل فوكو – عبدالرحمن أحمد الخطيب


مقدمة

“كانت هذه الحالة قسرية لزمنٍ طويل؛ وفي نهاية القرن التاسع عشر، جعلها نيتشه تومض مرةً أخيرة بإشعال النار فيها. لقد تناول ثانية نهاية الأزمنة ليجعل منها موت الله وملحمة الإنسان الأخير*؛ وتناول ثانية التناهي الأنثروبولوجي، إنما ليبرز القفزة الخارقة للإنسان الأسمى؛ وتناول ثانية سلسلة التاريخ الكبيرة المتصلة، إنما ليحنيها في أبدية العود. وبنور قد يكون إما – لا نعرف حتى الآن – شعلة إحياء آخر حريق عظيم أو إشارة إلى الفجر، نرى ظهور ما قد يكون فضاء الفكر المعاصر. لقد كان نيتشه، على أي حال، هو الذي أحرق لنا، حتى قبل أن نولد، مزيج الوعود للديالكتيك والأنثروبولوجيا”.

هذه أحد العبارات الدسمة لكتاب فوكوالكلمات والأشياء” كما هو مترجم للعربية من الأصل الفرنسي، أو “نظام الأشياء” كما هو باللغة الإنجليزية، الذي حلل فيه فوكو جذور الفكر الغربي أو “ابيستيمولوجياته” كما وصفها بأنها من عصر النهضة ثم العصر الكلاسيكي ثم العصر الحديث أو الحداثة والذي “لا نزال نرزح تحت نيره” بحسب تعبير فوكو.

في مقدمة فوكو المهمة جداً الخاصة بالطبعة الإنجليزية، والتي لم تترجم للعربية، ذكر فوكو أن هناك عدة فجوات أو مشاكل لم يتم حلها بعد، أو لم يتم بدايت حلها من الأساس، واذكر منها مشكلتين وهي: أولاً: مشكلة التغيير، والذي قال بأن ابيستيمولوجيا الحداثة ظهرت بشكل مفاجئ في حدود العام 1800 م، وليست بشكل متصل مع ما سبقها ابستيمولوجياً، بل هي ناتجة عن قطيعة، حيث سماها “عتبة” القرن التاسع عشر. ثانياً: مشكلة السببية، حيث قال بأن سبب حدوث هذا التغير خارج عن حدود إمكاناته وكل ما سيفعله هو أن يقوم “بوصف” التحولات التي حصلت ممهداً ليوم لمن سيأتي ويبني نظرية السببية للايبستيمولوجية الحداثية.

وفي البداية أنا أدعي، بكل ثقة وتواضع، بأن فوكو في كتابه الكلمات والأشياء لم يتم قراءته بشكل وافي بعد في السياق العربي تحديداً، بل وربما في السياق العالمي حيث قال عنه أستاذنا المثقف الكبير مطاع صفدي في مقدمته لترجمة كتاب الكلمات والأشياء بأنه “أخطر ما يكشف لعبة العقل الغربي”. فمن هذا المنطلق، ومن منطلق المشكلتين الذين ذكرهما فوكو في مقدمة الطبعة الإنجليزية، أكتب هذه المقالة كمحاولة، التي أتمنى أن يتبعها محاولات، لفك لغز عتبة الحداثة كما هي عند الفيلسوف والمفكر الفرنسي الشهير ميشيل فوكو،

عرض لأهم أفكار كتاب فوكو الكلمات والأشياء

هذه المقالة ستهتم بكتاب فوكو الكلمات والأشياء الذي هو المرجع الأساسي لمعظم الأفكار ومن ثم كتاب فوكو ولادة الطب السريري الذي هو مرجع آخر لا يقل أهمية عن الأول والذي تُرجم حديثاً من قبل الدكتور إياس حسن ترجمة رائعة جداً ومبهرة (كتبت مقالة تلخيصية عنه لأهم أفكاره في جريدة الجزيرة الثقافية السعودية قبل عام بعنوان “ولادة الطب السريري: حفريات معرفية في المنظور الطبي” بالإمكان الرجوع إليها بالبحث عنها في قوقل)، وفي كل حال أرى بأنه لابد للرجوع للكتابين وقراءتهما بتمعن لفهم مقصود ما أرمي إليه بوضوح.

أهم فكرة، باعتقادي، في كتاب فوكو هي قوله بأن عتبة الحداثة، وأنا هنا أتعمد تكرار كلمة عتبة لأهميتها، أدت لنشوء علوم إنسانية ومنها ظهرت الفلسفات والنظريات الحداثية الكبرى اللاحقة لها مثل علم الاقتصاد السياسي ومنه ظهرت االرأسمالية والماركسية (حيث يرى فوكو أن كلا النظامين ينتميان لذات الأساس الحداثي ولكن لهما وجهان مختلفان)، وعلم البيولوجيا ومنه ظهرت الداروينية التي فرق بينها وبين اللاماركية (نسبة إلى جان لامارك) حيث أن اللاماركية تنتمي إلى ابستيمية مختلفة (للعصر الكلاسيكي وليس للحداثة بخلاف الداروينية)، وعلم الفيلولوجيا ومنه ظهرت نظريات التأويل والأدب المختلفة. ويقول فوكو أيضاً، ويكررها أكثر من مرة، بأننا نظن أننا أصبحنا أكثر عقلانية وعلمية مع نشوء الحداثة وبداية القرن التاسع عشر، غير أنه في الحقيقة هناك شيء ما دخل على الثقافة الغربية وأدى لنشوء هذا التغيير.

أكثر ما يهمني في كتاب فوكو ليس وصفه للقطائع المعرفية التي أدت لنشوء العصور السابقة للحداثة، ولكن الذي يهمني هو تحليله لعصر الحداثة الذي لا زلنا نعيشه ولم نخرج منه بعد. وأرى أن فلسفات مابعد الحداثة ومابعدها ماهي إلا امتداد للحداثة لأنها لم تتحرر بعد من هذا العصر الذي وصفه فوكو باننا نرزح تحت نيره والذي نشأ في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي.

محاولة لفك لغز عتبة الحداثة

في هذه المقالة أنطلق من عدة مقدمات، وهي كالتالي: أولاً، باعتقادي أن هناك لغز لـ عتبة الحداثة ونشوئها في مطلع القرن التاسع عشر، كما يُقر بذلك فوكو، والتي لا زال الفكر الغربي لم يستطع تجاوزها بعد. ثانياً، أن لحل هذا اللغز ومعرفة جذوره لابد أن يأتي شخص من الخارج ويحلله حتى يفهم كيف نشأ ولا يكون منغمساً فيه لأن الانغماس فيه يُعمي عن إمكانية معرفة جذوره، وذلك مثل البناء الذي يمنع ساكنه من النظر إلى أساساته إلا أن يأتي شخص من الخارج ويحلله ويعرف أساساته. قال فوكو في آخر الكتاب “إن هولدرلن وهيغل وفيورباخ وماركس كانوا جميعاً يمتلكون هذه الثقة من كون فكراً، وربما ثقافة معينة، كان مشرفاً على الإنتهاء معهم، وأن ثقافة أخرى ربما كانت تقترب، آتية من مسافة قد لا يستحيل التغلب عليها، قادمة في تحفُّظ الفجر، في وضح الظهيرة أو في انسلاخ النهار المحتضر. لكن هذا الاقتراب، هذا الاستحقاق الوشيك الخطر الذي نخاف اليوم وعده ونستقبل خطره، ليس، ولا شك، من ذات النظام”.

ثالثاً، باعتقادي أيضاً، أن الإنسان الأخير الذي بشر به نيتشه، والذي هو “العبثي النموذجي”، والذي بشر بقرب موته فوكو، لن يظهر ولن يموت أيضاً إلا باكتشاف هذا اللغز للإنسان الحداثي حتى يظهر الإنسان الأخير وحتى يتم موته النهائي والتبشير بمستقبل جديد للبشرية. “فالإنسان اختراع تظهر أركيولوجيا فكرنا بسهولة حداثة عهده، وربما نهايته القريبة…عندئذٍ يمكن الرهان أن الإنسان سوف يندثر، مثل وجه من الرمل مرسوم على حد البحر…كل ذلك يدل ولا شك على أن الإنسان مشرف على الموت” فوكو – الكلمات والأشياء. فبهذا يقول فوكو بأن الإنسان “الحداثي” الذي قتل الإله هو في طور الأفول القريب.

ونظريتي لمحاولة فك لغز الحداثة هي كما يلي:

الطفرة الثقافية والتغير المفاجئ الذي أدى لنشوء الحداثة كنظام ثقافي له فلسفاته ونظرياته المختلفة، هو ظهور الإنسان كعلم وضعي لأول مرة وذلك عن طريق الطب الحديث، حيث تحول النظر إلى المرض من شيء ما ورائي إلى تحليل علمي وبالتالي خضع الإنسان لأول مرة لأن يصبح موضوع علم “وضعي” فيما يتعلق بالمرض، حيث قال فوكو في كتابه ولادة الطب السريري عند نهاية القرن الثامن عشر “غادر الموت سماءه التراجيدية القديمة، وها هو قد صار نواة الإنسان الغنائية. لقد بات حقيقته المخفية وسره المكشوف”، وأيضاً أشار في نهاية الكتاب بأنه في الثقافة الغربية كان سبب نشوء الطب الحديث هو تحطيم حياة الإنسان وذلك من خلال الموت والكشف عن حقيقة المرض بعد موت الإنسان (تشريح الجثة)، وفي هذا يقول “سوف يبقى بلا شك من الأمور الحاسمة في شأن ثقافتنا، أن الخطاب العلمي الأول الذي يخص الفرد كان عليه أن يمر من لحظة الموت هذه. ذلك أن الإنسان الغربي لم يتمكن من أن يجعل من نفسه أمام ناظريه موضوعاً للعلم، ولم يفهم نفسه داخل لغته، ولم يقدم بنفسه، لنفسه وعن طريقها، وجوداً خطابياً إلا بالرجوع إلى تحطيم نفسه”. وأضيف اقتباس مهم من نفس الكتاب قبل أن أُفصل أكثر في فكرتي وهو “فالمرض ينفصل عن ميتافيزيقا الداء/الشر الذي بقي مقترناً به منذ قرون ورأى في وضوح الموت الشكل الممتلئ، حيث يبدو محتواه بتعبيرات وضعية” هنا يقول بأن المرض أصبح يُنظر له كعلم وضعي.

حدثت هذه الطفرة تحديداً على يد عالم الأمراض والتشريح الذي مات شاباً (30 عاماً) وهو زافير بيشا (1771-1802 م) فقد قام بتشريح العديد من الجثث واكتشف النسيج الذي داخل بدن الميت بعد تشريح الجثة وأن هذا النسيج مرتبط بالعلامات والأعراض التي يبديها المريض عندما كان حيَّاً (بالطبع هذا كما نشأ الفكر الطبي في حينه وليس كما تطور لاحقاً ومن غير وجود أجهزة كشف وغيرها). طور بيشا في كتبه منظومة فكرية منطقية متكاملة، وهي مشروحة بكثافة في كتاب ولادة الطب السريري في الفصل التاسع “المرئي غير المرئي”، وتحدثت عن علاقة الأنسجة المختلفة داخل الجسم فيما بينها البين وعلاقتها أيضاً بمختلف الأعراض والعلامات التي تظهر على جسد الإنسان، وكيف يتطور المرض بمرور الوقت حتى حصول الموت، وسمات وقوانين الأنسجة نفسها. اضافة إلى ذلك فإن بيشا هذا وضع تعريفاً للحياة بأنه “هو كل ما يقاوم الموت” وكأنَّ الموت يهاجم الإنسان من كل جانب ووظيفة الحياة في جسد الإنسان هي فقط مقاومة الموت هذا وعلى هذا الأساس كان التصور العام للحياة مع نشوء الطب الحديث.

كل هذه المتغيرات السَّابقة الذِّكر شكَّلت المنظومة الفكرية لعلم وضعي طبي وضعه عالم التشريح والأمراض بيشا في نهاية القرن الثامن عشر. ولأُدلِّل على أن المتغيرات هذه تسلَّلت إلى العلوم الإنسانية الأخرى، سأورد اقتباس من نص فوكو بعد تحليله لبروز الاقتصاد السياسي كعلم انساني حديث عند ريكاردو وماركس ثم سأربطها بتلك المتغيرات الطبية، حيث قال “بمفارقة يلاحظ أن التاريخية التي أدخلها ريكاردو في الإقتصاد هي التي تسمح بالتفكير في هذا التجميد للتاريخ…في المقابل، كان زمن السكان والإنتاج التراكمي، وتاريخ الندرة المتواصل هو الذي سمح، منذ القرن التاسع عشر، بالتفكير في إفتقار التاريخ، وركوده التدريجي، وتحجره، وبعد قليل في جموده الصخري. كلما استقر الإنسان في قلب العالم فقد تقدم في السيطرة على الطبيعة، وكلما اشتد عليه ضغط التناهي فقد اقترب من موته الذاتي. فالتاريخ لا يسمح للإنسان بالإفلات من حدوده الأصلية إلا ظاهرياً؛ أما إذا أخذنا في الإعتبار تناهي الإنسان الجوهري، فسنلاحظ أن وضعه الأنثروبولوجي يستمر في اضفاء المزيد من المأساوية على تاريخه، وفي جعله محفوفاً بمزيد من المخاطر، وفي تقريبه من استحالته الخاصة. حين يبلغ التاريخ مثل هذه الحدود، لا يسعه غير أن يتوقف ويهتز لحظة حول محوره ويتجمد إلى الأبد”. عندما تقرأ كلمة “تاريخ” في الإقتباس السابق (وهي أهم كلمة حيث يكتبها فوكو بالحرف الكبير في نسخته الإنجليزية) تَذَكَّر التاريخية في ظهور الأعراض في جسد المريض إلى الموت وهي التي اقتبسها ريكاردو، وهي التي تقوم عليها النظرية الهيجلية والرأسمالية والشيوعية والداروينية في فلسفاتهم التاريخية. أما زمن السكان والإنتاج التراكمي، تَذَكَّر المتغيرات الأخرى الخاصة بالأعراض والعلامات وتفاعلها مع النسيج في بدن الإنسان حين يتبدَّى بكل وضوح بعد الموت في تشريح الجثة. وأخيراً، فإن قوله “مزيد من المخاطر” هي زيادة اشتداد المرض عليه، أما قوله “لا يسعه، أي التاريخ، غير أن يتوقف ويهتز لحظة حول محوره ويتجمد إلى الأبد” فهي تمثل النهاية المتمثلة في الموت والتي أصبحت تمثل توقف تراكم رأس المال كما هي عند ريكاردو، أو الشيوعية كما هي عند ماركس، أو الإنسان الأسمى ثم الأخير كما هي عند نيتشه، أو تحقق الروح كما هي عند هيغل، وهكذا.

هذه المنظومة الفكرية التي وضعها بيشا بمتغيراتها المختلفة وبتصورها عن الحياة والموت تسربت إلى مختلف العلوم الإنسانية الأخرى (الاقتصاد والبيولوجيا والفيلولوجيا) ووفرت الأساس الذي قامت عليه علوم الحداثة الإنسانية هذه. وبإمكان الباحثين تتبع تأثير فكر وكتب بيشا على العلوم الأخرى وعلماءها المؤسسين وسيجدون التسرب واضحاً سواء بشكل مباشر عن طريق قراءة بيشا أو بشكل غير مباشر عن طريق التأثر بعلم آخر قد تأثر من بيشا أولاً. وأنا تتبعت تأثير بيشا سواء المباشر أو غير المباشر على كبار المفكرين في عصره فوجدت أثره ملموساً، وليس بالضرورة أن تكون أفكاره هي التي تسربت بشكل مباشر إلى غيره من الحقول، بل هي تسربت، باعتقادي، أولاً إلى البيولوجيا لقربه من الطب ومن تشريح الجثث ومن ثم حصل التداخل بين مختلف العلوم وانتشر هذا المنطق الطبي إلى مختلف العلوم الإنسانية الأخرى، حتى على الفكر الفلسفي عند هيغل وشوبنهاور حيث قال شوبنهاور بأنه “مُريد” عند بيشا. وباعتقادي فإن هذا مبحث هام وخطير جداً عن تأثير فكر بيشا في الفكر الغربي لم يتم التطرق له إلى الآن إلا بشكل بسيط جداً.

“يمكن إذاً تحديد مكانة العلوم الإنسانية في جوار وعلى الحدود المباشرة من تلك العلوم التي تبحث في الحياة والعمل واللغة. أوَلم تنشأ هذه العلوم لحظة خضع الإنسان لأول مرة لإمكانية معرفة وضعية؟”

في هذه العبارة لفوكو يُخبر أن الإنسان عندما أصبح مُمكناً لمعرفة وضعية، نشأت بقية العلوم الإنسانية في إطار الحداثة التي تبحث في الحياة والعمل واللغة والتي، كما أدعي أنا، بأن أساسها كان من نشوء الإنسان كمعرفة وضعية عن طريق نشوء الطب الحديث في السياق الثقافي الغربي.

دعوة لإعادة ترجمة كتاب فوكو “الكلمات والأشياء”

وأستغل هذه المناسبة بأن أوجه دعوة لإعادة ترجمة كتاب فوكو الكلمات والأشياء، حيث أن الترجمة الأولى التي صدرت عن مركز الإنماء القومي الذي كان يديره المرحوم مطاع صفدي هي ترجمة جيدة وأدت غرضها في الفترة الماضية. ولكنني أرى أن الترجمة، رغم المجهود الكبير الذي بذل فيها، تحتاج إلى إعادة نظر قوية وتجديدها لسبك العبارات بطريقة أكثر اشراقاً ووضوحاً وتُلامس وعي القارئ العربي بسهولة ويسر وعمق في آن واحد ونحتاج الآن أن نقوم بتطويرها استفادة من التقنيات الحديثة. فأنا عندما أعود للنسخة الإنجليزية أجد هناك فرق في بعض المعاني بل وفرق كبير في بعض الأحيان وهذا يحتاج إلى إعادة نظر جذرية، خصوصاً أن الكتاب، كما يبدو لي، قد تمت ترجمته من أصله الفرنسي ولكن هذا الاختلاف بين الترجمة الإنجليزية والعربية يسترعي إعادة تفكير ومقارنة لإعادة ترجمة الكتاب بطريقة تُفيد القارئ العربي. وخلافاً للترجمة الأولى التي كانت من الأصل الفرنسي، أقترح هنا أن تكون الترجمة القادمة، لمن سيضطلع بهذه المهمة، من الترجمة الإنجليزية التي قدم لها فوكو في بداية الكتاب مع تضمين هذه المقدمة الهامة في الترجمة القادمة. وأنوه هنا بأن ترجمة كتاب ولادة الطب السريري الصادرة قبل سنوات قليلة التي تمت من قبل الدكتور إياس حسن يُعتبر جهد كبير ومثري للثقافة العربية وهي بديعة جداً وتجعلك تحس كأنك تقرأ النسخة الأصلية من قوة سبك عباراتها وتوهجها.

الخاتمة

هذه المقالة هي محاولة مختصرة لإعادة قراءة فكر فوكو المهم الذي وضعه في كتابه الكلمات والأشياء والذي تتبع فيه تطور الثقافة الغربية مروراً بعصر النهضة ثم العصر الكلاسيكي وأخيراً الحداثة كما ظهرت في مطلع القرن التاسع عشر والتي أدت لظهور عدد من الفلسفات والأفكار والنظريات المختلفة والتي جاء نيتشه وأحرق وعودها جميعاً، كما وصفه فوكو، وبشر بموت الإله وبظهور الإنسان الأخير الذي هو، أي الإنسان الأخير، يمثل العبثية بشكل مثالي.

تتبعت في هذه المقالة أهم الأفكار في كتاب فوكو الكلمات والأشياء، ووضعت تفسيراً لمحاولة حل لغز “عتبة” الحداثة وظهور الإنسان كعلم وضعي بأنه بدأ بظهوره كعلم وضعي مع ظهور الطب الحديث في نهاية القرن الثامن عشر والتي أسست لمنطق طبي تسرب لبقية العلوم الإنسانية من اقتصاد وبيولوجيا ولغة وأدت لظهور النظريات والفلسفات الكبرى اللاحقة. وبهذا سيفسح المجال لمعرفة أرضية الحداثة لتحرير الإنسان الحديث من هذه القاعدة التي أسس عليها ثقافته ووعيه وحضوره وعلومه الإنسانية المختلفة. فعندما ظهر الإنسان كموضوع علمي في الحقل الطبي أولاً وتم إمكانية فهم المرض وتشخيصه فيه وذلك بتشريح جثته لرؤية النسيج المصاب، وتم انشاء منظومة منطقية طبية متكاملة، أعطت هذه المنظومة الأرضية المعرفية لنشوء العلوم الإنسانية الأخرى المتعلقة بالعمل واللغة والحياة كما حللها فوكو في كتاب الكلمات والأشياء في بداية القرن التاسع عشر.

وأختم بهذا الاقتباس من خاتمة كتاب فوكو الكلمات والأشياء “فليس غياب الله أو موته هو المؤكد بقدر ماهي نهاية الإنسان، يتكشف عندها أن موت الله والإنسان الأخير متلازمان، فلابد للإنسان من أن يزول. إن ما يبشر به فكر نيتشه، أكثر من موت الله – أو بالأحرى في أثر هذا الموت وبارتباط عميق معه – هو نهاية قاتله”.


الهوامش:

* تنبأ نيتشه بأن “الإنسان الأخير” هو “العبثي النموذجي”، والعبثية مرحلة متقدمة عن العدمية، ووفقًا لنيتشه فإن الإنسان الأخير هو الهدف الذي وضعه المجتمع الحديث والحضارة الغربية لأنفسهم.

المراجع:

  • كتاب: الكلمات والأشياء، ميشيل فوكو، مركز الإنماء القومي.
  • Book: The Order of Things: An archaeology of the human sciences, Michel Foucault, Routledge Classics.
  • كتاب: ولادة الطب السريري، ميشيل فوكو، ترجمة إياس حسن، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
  • Book: The Birth of the Clinic: An Archaeology of Medical Perception, Michel Foucault, Routledge.
  • مقالة: ولادة الطب السريري: حفريات معرفية في المنظور الطبي، عبدالرحمن أحمد الخطيب، جريدة الجزيرة الثقافية السعودية.