مجلة حكمة
طرح السر

السارد في قصة طرح السر لأحمد بوزفور – بديعة الطاهري

طرح السر أحمد بوزفور
أحمد بوزفور، روائي مغربي، وكاتب قى (طرح السر)

“صياد النعام”(1)، هي المجموعة القصصية الثالثة لأحمد بوزفور، وتشتمل هذه المجموعة على إحدى عشرة قصة، يتراوح طولها بين أربع واثني عشرة صفحة، ويلاحظ القارئ أن بناءها يتمرد على الشكل القصصي الكلاسيكي من خلال مجموعة من التقنيات منها: التقطيع-التداخل enchassement خلخلة البناء الزمني- الحلم، الفانطستيك ثم اللغة، لأن الكلمة عند بوزفور ترقى إلى مستوى الشعر، والرمز في أحيان كثيرة، كما تحضر متمردة على وضعها التركيبي والتبوغرافي. بالإضافة إلى هذه التقنيات، يكون القارئ، الذي يتعرض لصدمة الهدم، علامة على التجديد الذي يتوخاه الكاتب، لأنه مطالب بإعادة تفكيك وبناء رموز الكتابة وتقصيها، وتلك دعوة غالبا ما نجدها متضمنة في نصوص بوزفور القصصية “أرجو أن يعيد القارئ على ضوء هذه الملاحظة قراءة النص السابق”(2).

يتم السرد في هذه المجموعة تارة بضمير المتكلم، وأخرى بضمير الغائب، أحيانا يتم الحفاظ على صفاء الضمير، وأخرى تتوالى المستويات السردية وتتداخل.

تتابع القصص الأنا في لحظات ومراحل مختلفة، كما تعلن نفسها عاشقة لموضوع آخر هو الكتابة، لكن لا يأتي الحديث عنها كموضوع مستقل ومباشر إلا في قصة بعنوان “صدر حديثا” إذ تركز هذه الأخيرة على الكتابة النقدية، التي تعكس بدورها مفهوم الكتابة/ الإبداع. الحديث عن الكتابة يتخلل مجموعة من القصص، وتتحدد الكتابة آنذاك كالصوت الوحيد المسموع في عالم مغلق، فالكتابة هي الاستمرار، والحل الوحيد للخروج من حالة الهذيان التي يعيشها الفرد في العالم، أثناء لحظات الخوف والفراغ “الحل الوحيد أن تكتب، فاكتب”(3).

تقديم قصة طرح السر:

تشتمل هذه قصة (طرح السر) على ثلاثة مقاطع يحمل كل منهما رقما، وتشتغل هذه المقاطع كمتتاليات(4) تندرج ضمن علاقتي الانفصال والاتصال.

تتحدد العلاقة الأولى، من خلال الشخصيات. ذلك أن كل مقطع يركز على شخصية معينة.

-فالمقطع الأول يعمل على تبئير امرأة حاملة لنظارة سوداء.

-بينما المقطع الثاني، يتمحور حول السارد،

-أما المقطع الأخير، فإنه يدرج مجموعة من الشخصيات الجديدة، والتي لا تحضر في المقطعين الأولين (هناك معايير أخرى تحدد هذه العلاقة، منها الزمان والمكان).

أما علاقة الاتصال التي تحقق اشتغال القصة ككل منسجم، فتتبين لنا من خلال استمرار حضور السارد في جميع مقاطع القصة، تارة كسارد، وأخرى ذاتا وموضوعا للسرد معا.

ينزاح بناء قصة (طرح السر) عن بناء الشكل الكلاسيكي وقوانينه، إنه بناء مفكك، ومتقطع يعتمد تصوير، ونقل لحظات منفصلة في الزمان والمكان.

إن هذا التفكك لا ينبع فقط من رغبة الكاتب في التجديد، وإنما يرتبط بتيمة النص القصصي، وهي هذا الاهتزاز والانقطاع على مستوى الذاكرة التي لا تسعف السارد على استرجاع ماض/ معاناة بشكل مفصل، ومسترسل.

يتمحور النص حول السارد، وإن كانت بدايته لا توحي بذلك، لأنه وكما أشرنا سابقا ينطلق من لحظة معاينة السارد لامرأة حاملة لنظارة سوداء والمقطع/ البداية يجعلنا نعتقد أن الأمر يتعلق بسارد غائب، لأن القرائن التي تؤشر على وجوده تغيب، ويعلن النص نفسه وكأنه يقدم ذاته بذاته. ولا يتحقق وجود السارد كشخصية فاعلة إلا في المقطع الثاني، وإن كان هذا الحضور يأتي بشكل سريع في المقطع الأول “وأنا وراءها قلبي دق – دق – دق”(5).

تتوسل قصة (طرح السر) الحكي بضمير المتكلم، وهذا الضمير هو المهيمن على السرد، رغم أن هناك شخصيات أخرى تكون العالم القصصي.

إن هيمنة السارد، راجعة إلى أنه يحكي عن نفسه، وعن ذاته، وأن الشخصيات الأخرى التي يلتفت إليها تأتي لملء مساحة الحديث عن هذه الذات. فالمرأة حاملة النظارة السوداء التي يصفها السارد في البداية تشتغل كحافز يساعده على تذكر ما وقع له “ما الذي تخفيه النظارتان السوداوان، أنف المخبر الشمام، مكر الذئب “ثم” أين يمكن أن أكون قد كنت”(6).

أما المسؤولون، وأم المعتقل، فإنهم مشهد من مشاهد تذكرها السارد وهو في السجن، مشهد يرسم مشروع تساؤلات الذات وهمومها ومعاناتها تساؤلات ترتفع من مستوى الذات لتعانق الآخر، الجماعة.

ويعمل السارد أثناء حكيه على الاختزال والتركيز، والانتقاء ورغم أنه يحضر كسارد متماثل، حكائيا، فإن معرفته مختلة وغير تامة شأن ذاكرته الموشومة بلحظات الفراغ.

ويتولد النص كسرد، معتمدا أسلوبين:

1 – التبئير:

إذ أن السارد في أغلب الأحيان يسرد ما يراه “فيصبح ما يرى موضوعا للقول”(7).

2 – السرد الاسترجاعي:

إذ تحضر الذاكرة كمصدر للقول وينتج عن هاتين التقنيتين توازي مكانين باعتبارهما مسرحا للحدث وهما: الطريق بالنسبة للمستوى الأول وتتحدد من خلال دلالتها المرجعية، كمكان مفتوح.

ثم السجن بالنسبة للمستوى الثاني ويحضر كمكان منغلق.

لكن، رغم انفتاح المكان الأول، فإن السارد يحضر محاصرا بمجموعة من الأسئلة، تعلن انغلاق الذاكرة/الجواب. في حين، يضيق السجن، ويفجر صورا، وإن كانت متقطعة، فإنها توافينا بالجواب عن سؤال السارد “أين كنت” فتصبح القصة رغم صغرها قادرة على الإحاطة بمشاكل الذات والآخر، وترقى لكي تسائل الاجتماعي والسياسي في نبرة ساخرة “أجد دائما علاقة ما بين سقوط جدار برلين، وبناء كومسيرية جديدة في الحي، ودخول الأمريكان جزيرة العرب، وبطالة الخريجين”(8) إن السارد هو الصوت المهيمن على القصة، أما الآخر فإنه لا يتكلم (باستثناء بعض التدخلات المقتضبة في شكل خطاب منقول) ولكنه في العمق صوت مسموع، مشحون بدلالات متعددة، تقترن بالذات لإضاءاتها، وذلك عبر علاقتين تربط السارد بباقي الشخصيات.

1 – علاقة التشابه

يحضر التشابه بين أم المعتقل والسارد على مستوى المعاناة، فكلاهما مقهور محاصر بالآلام، بل إن معاناة السارد تصبح جزءا من معاناة الأم، لأنها من جهة تعاني من أجل ابنها، ويمكننا أن نضع السارد كمعادل له، ومن جهة أخرى لأن السارد ينقل هذه الشخصية (الأم) من الخاص إلى العام، فتصبح الأم معادلا للأمة وتصبح المعاناة شاملة لحقل أكبر من معاناة ذاتية “لم تكن أما كانت أمة تطرح أسرارها”(9).

2 – أما التعارض فيحضر بين السارد والمسؤولين ويتمظهر من خلال محور دلالي هو السلطة يحددهم كقطبين متعارضين، أما باقي الشخصيات التي يشير إليها السارد، فإنها تأتي لتعزز هذا التذمر الذي يشعر به السارد، كما تسعى إلى إبراز حالة المعاناة التي تثقله وهو يبحث عن الجواب “أين كنت”.

إن معاناة السارد لا تجعله ينعزل في كهف رومانسي منقطع عن العالم، كما أن قصة (طرح السر) لا تؤكد حدوث المواجهة مع العالم ولكنها تشير إلى إمكانيتها:

“حصان، حصان أدهم نبيل”(10).

يسرد السارد قصته في الحاضر، لكن هذا الأخير يحمل ثقوبا تتيح للماضي أن يتسرب ليبسط أمام القارئ أحداثه. يعود السارد إلى أناه الماضية، أنا غارقة في الغموض. عادة، تكون العودة إلى الماضي من أجل وعي لحظة معينة، ما كان بالإمكان الوعي بها لحظة حدوثها، لكن الذي يحدث في القصة، هو العكس، لأن العودة إلى الماضي، تكشف لنا عن تمزق الذاكرة، وهذا التمزق يحول دون انتظام أية معرفة عميقة بما يحدث، لأن الأحداث تأتي في شكل لمحات خاطفة، وكأننا أمام كميرا تلتقط مجموعة من الصور. وهكذا فإن المعرفة الحقيقية تكمن في الحكي. وعندما يعود الراوي إلى الماضي فإنه يتطابق معه، فلا نلمح أي تسام في التأويل أنه يظهر توافقا بين الذاتيتين(11).

إن الحاضر هو زمن للإدراك للحصول على معرفة تبدو في البداية مستحيلة، لكن سرعان ما تدخل دائرة الممكن حين تجود الذاكرة ببعض الصور المتقطعة، أما الماضي، فهو زمن السجن زمن العذاب يأتي لملء ثغرة في المسار السردي ولا يحدد السارد مداها Portée رغم أنه يخبرنا بسعتها amplitude غبت سبعة أيام “ولكنه لا يحكي بتفصيل كل ما وقع خلال هذه المدة، إنه يعتمد التلخيص والاختزال، ولكنه يتيح رغم ذلك للقارئ أن يجد جوابا لسؤال البداية ويجعله يعمل على تأثيت هذا الفضاء، وهذا الزمان/الثغرة، ويدرك أن الذاكرة لن تخضع أبدا للمسخ والإجهاض.

مجلة الجابري – العدد الثامن


الهوامش:

1 – أحمد بوزفور: صياد النعام، منشورات نجمة 1993.

2 – أحمد بوزفور: الهندي عن المجموعة القصصية صياد النعام، ص 39.

3 – المرجع نفسه، ص 42.

4 – A.J., Greimas: Du sens éd. Seuil 1970, p.268.

5 – أحمد بوزفور: طرح السر عن المجموعة القصصية صياد النعام، ص 65.

6 – المرجع نفسه، ص 60.

7 – Littérature, Fevrier 1985, Esapce regard et perspective, p.68.

8 – أحمد بوزفور: طرح السر،ص 68.

9 – المرجع نفسه، ص 69.

10 – المرجع نفسه، ص 70.

11 – Dorit Cohn: La transparence intérieure éd. Seuil 1981, p. 181.