مجلة حكمة
ضيافة الغريب

ضيافة الغريب – محمد الضامن

إلى أحمد القطان نديما جميلا لحكاياتي


يروي لنا أبو علي الحسن التنوخي في كتابه:( المستجاد من فعلات الأجواد) حكاية عن معن بن زائدة مع أسرى كان هاما بقتلهم حيث ( عرضهم على السيف) كما يعبر التنوخي في روايته. لما رأى الأسرى الموت اقترح بعضهم على معن قائلا له:( نحن أسراك أيها الأمير ونحن نحتاج إلى شيء من الطعام، فأمر لهم بذلك، فأتي بأنطاع فبسطت وأُتي بالطعام. فقال لأصحابه: أمعنوا في الأكل ومعن ينظر إليهم ويتعجب منهم، فلما فرغوا من أكلهم قام فقال: أيها الأمير قد كنا قبل أسراك ونحن الآن أضيافك، فانظر ماذا تصنع بأضيافك. فعفى عنهم وخلى سبيلهم). هذه الضيافة التي قدمها معن لأسراه جعلت من حضر الحادثة يقول له مستغربا:( ماندري أيها الأمير أي يومك أشرف يوم ظفرك أو يوم عفوك)!. كيف حول الطعام الأسرى من حد السيف إلى الحياة؟!. كيف يتسنى لشخص يعفو عن أعدائه لمجرد أنه استضافهم على طعام؟!.

 تحيلنا هذه الحكاية إلى طقس ضيافة الغريب. هذا الطقس العريق الذي عرف به العرب، يمكن النظر له كطقس تضحية لاتقاء شرور الضيف الغريب في بعده الرمزي. إنه يطقسن العلاقة الغامضة مع الغريب، وما يصاحبها من مخاوف، ومحاذير عبر هذه الضيافة الإضحية؛ ليحولها إلى أخوة، ومودة يكون الطعام وسيطا رمزيا لهذا التحول. فمعنى ( التضييف) كما يقول ابن منظور في لسانه:( الإطعام). وعبر الطعام يتم تأنيس العلاقات مع الغرباء!. فتصبح الضيافة، والكرم بديلا رمزيا عن الطقس البدائي المرتبط بعمل التعاويذ، والأعمال السحرية لتطهير الغريب القادم من الشرور التي قد يحملها معه!. ولعل سؤالا يتبادر هنا: كيف افتدى معن بن زائدة نفسه وهو كان مقبلا على التخلص من أعدائه!؟. كان يفترض أن يكون الأسرى من يفتدي نفسه!. لقد تخلص معن عبر الضيافة من مشكلة الثأر، والعداوة التي قد تبقى تلاحقه بقية حياته لو أقدم على القتل!. وللأحنف بن قيس سيد تميم وحكيمها كلام يدل على مايؤديه الكرم من إزالة للمحرمات، والمحاذير التي تكون بين المضيف، والغريب، وذلك حين يقول:( إن الكرم منع الحرم). كان الزواج، أو إهداء النساء لزعماء القبائل قديما يندرج تحت هذا الطقس. فقد كانت القبيلة تهدي زعيم القبيلة المناوئة إحدى نساء القبيلة لتشاركها التمتع بنسائها، وتصهرهما معها في الدم عبر النسل المشترك الذي سيكون وسيطا في الدم، والثقافة بين القبيلتين، حيث ستؤدي المرأة الهدية دور الأضحية المروضة لكل احتقان قد تفرزه الأحداث في المستقبل مما يضمن عدم انفجار الصراعات القديمة بواسطة حماية تقدمة الجسد الهدية!. في المعنى ذاته يندرج طقس ( العقيقة) الذبيحة التي تذبح للمولود الجديد. إن تقديم الذبيحة للضيوف الغرباء للمشاركة في أكل الطعام الدم هو فداء للطفل من كل أذى، وشر قد يصيبه في تالي أيامه بحيث يتحول الغرباء إلى أخوة بعد تناول الطعام، فوظيفة (العقيقة) الرمزية هي حماية الطفل، وتقديم الأمان لحياته المستقبلية من شرور عين الغرباء، وهي تتقاطع مع الأضحية المقدمة للآلهة الغريبة لاتقاء شرها، وطلب حمايتها!. وفي إشارة رمزية وملفتة في تقاليد القبائل العربية أنه حين يأتي الضيف كغريم، ويطالب بحق؛ فإنه يمتنع عن تناول قهوة الضيافة، ويعرف المضيف حين يضع الضيف قهوته على الأرض أن هناك شرا ما جاء به، لذلك يطمئنه بنيله مطالبه، ويحضه على شرب القهوة، حينها تطمئن القلوب وتهدأ. هذا السلوك الطقسي كما سنرى يمتد في تقاليده حتى القدم، وإحدى شواهد حضوره في حكاية إبراهيم مع ضيوفه التي يرويها القرآن الكريم!.

طقس الضيافة كما يتضح يعمل على تذويب العلاقات مع الآخر الغريب، فيصبح الكريم شخصا محببا للقلوب لا عدوا، ومالكا لقلوب الآخرين، وقريبا من الناس، لذلك يتحول الإنسان إلى غريب حين يكون بخيلا في أهله كما تخبرنا حكمة تائهة منسوبة لأرسطو يرويها ابن عبد ربه في  (العقد الفريد) يقول فيها:( قال أرسطوطاليس: الغنى في الغربة وطن، والمقل في أهله غريب). وفي رواية عن التوحيدي تصوغ الفكرة في مثل لا يُعرف قائله، إذ يرويه أبو حيان بلا نسب حيث يقول في الليلة السادسة والعشرين من كتاب ( إمتاعه ومؤانسته) جوابا لطلب الوزير أن يسرد له أمثلة عن الكلمات القصار:( إذا أيسرتَ فكلُّ أهلٍ أهلُك، وإن أعسرت فأنت غريبٌ في قومك).

إن الامتناع عن الضيافة، وعدم قبولها أيضا، يعني إبقاء التوتر مع كل غريب قائما، وهو يجعل الشر غير المنظور يحوم حول أهله مما يجعل شحنة الحذر تزداد بينهم كما تحكي لنا سورة الذاريات حكاية إبراهيم مع ضيوفه، فهي تبين التقاليد التي مازالت معروفة من إعلان الشر حين يمتنع الضيف عن تناول الطعام. تقول الآيات:( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المُكرمين(٢٤) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون(٢٥) فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين(٢٦) فقربه إليهم قال ألا تأكلون(٢٧) فأوجس منهم خِيفةََ قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم). ولذلك يكون المُقل غريبا بين أهله أي بعيدا عنهم، فيما يجعل الكرم كما تقول المقولة السابقة( كل أهل أهلك). فالسحر الذي يضفيه الكرم على الآخر الغريب هو ما يمارسه فعلا طقس سقاية الحجيج، وإطعامهم. فمن المعروف أن الأمان أحد مكتسبات مكة، وذلك لكون مكة مكان محرم  جرت تقاليد العرب العريقة على منع الإقتتال فيه، وفي صلب طقوس الحج التي كان يتنافس عليها بنو قصي من قريش، وفروع قريش كان طقس السقاية، وإطعام الحجيج. ففي رواية لمحمد بن إسحاق في سيرته يصرح أبو الحكم بن هشام بن المغيرة المعروف بأبي جهل_ بعد الإسلام _ في حديث دار بينه، وبين المغيرة بن شعبة بعد أن التقيا بالرسول، فعقب أبو الحكم قائلا للمغيرة:( لكن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم. قالوا: فينا الندوة، قلنا: نعم. قالوا: فينا اللواء، قلنا: نعم. قالوا: فينا السقاية، قلنا: نعم. ثم أطعموا وأطعمنا..). وداخل هذا التنافس علت مكانة هاشم بن عبدالمناف حتى ليقال أنه سمي هاشما لأنه كان يهشم الخبز للحجيج، فاسمه كان عمرو. يروي لنا ابن حبيب البغدادي في كتاب (المنمق في أخبار قريش) حكاية عن علو مكانة هاشم بين العرب لكرمه، في هذه الرواية يبرز لنا هاشم كبطل منقذ لقومه من الموت جوعا. تقول الرواية:( كان هاشم قد أتى الشام فأقام به حينا ثم أقبل منه يريد مكة ومعه الغرائر مملوءة خبزا قد هشمته، ومعه الإبل تحمل الغرائر حتى قدم مكة، وذلك في سنة شديدة قد جاع فيها الناس وهلكت فيها أموالهم وأنفسهم فعمد هاشم إلى الإبل التي كانت تحمل الغرائر فنحرها وأقام الطهاة فطبخوا، ثم أخرج الخبز الهشيم فملأ منه الجفان ثم أمر بالقدور فكفئت عليها، فأطعم الناس أهل مكة وغيرهم فكان ذلك أول خصبهم، فقال في ذلك رجل من قريش، وهو حذافة بن غانم العدوي:

عمرو العلى هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون  عجاف). يرتبط جود هاشم بالمكان المقدس مما يدعونا لتأمل فعل كرمه بعلاقته بالمقدس، كما يدعونا للتذكير بلقب عريق كانت العرب تطلقه على قريش وهو( آل البيت). فقد كانوا يقولون عن أنفسهم أيضا( نحن أهل الله)، وهي أولى الكلمات المضافة التي يشرحها الثعالبي في كتابه( ثمار القلوب في المضاف والمنسوب). إن حكاية إنقاذ هاشم لقومه من المجاعة تعيد إنتاج أسطورة البطل الذي يخوض الصعاب من أجل إنقاذ وتخليص جماعته من الهلاك. كان هاشم يمارس طقس السفر بكل مافيه من مشقات، ومتاعب من أجل أن يأتي لمكة بحمولات من المآكل والمشارب، مما تضفي عليه مشقات الترحل هذه صفات البطل، المنقذ، كما تخبرنا الحكاية لقومه من المجاعة!. لقد وضع ابن حبيب هاشم كأول الأجواد في الجاهلية من قريش في كتابه( المحبر)، وذلك تخليدا لذكرى لم ينافسه عليها أحد. وتحت هذه الذكرى بنت سلالته شعورها بالتميز والشرف!. فالشرف، والسيادة مرتبطان بالجود. فقد وصف أبو الفرج الأصفهاني في ( الأغاني ج ٨ ) عبدالله بن جدعان وهو أحد تجار مكة، وساداتها بقوله:( وكان ابن جدعان سيدا جوادا ). وكانت مفاخر جوده تطير على لسان أمية بن أبي الصلت منها قوله:

كريم    لا يُغيِّره     صباحٌ       عن الخُلُق السَّني ولا مساء

تباري الريح مكرُمةََ وجودا       إذا ما الكلب أحجره الشتاء

فأرضك  كلُ   مكرمة  بناها       بنو  تيمٍ  وأنت  لهم  سماءُ

وينسب لأمية في مدحه بيت شهير:

قوم إذا نزل الغريب بدارهم     ردوه رب صواهل وقيان

حتى ليروي الأصفهاني أنه أول من أطعم الفالوذ بمكة. وهي من مآكل الملوك حيث جاء به من فارس مع غلام كي يطبخه، وكان قد أكله حين وفد على كسرى!.

و تظهر ملامح هذا الشرف في المشاركة في طقس الميسر قبل الإسلام، فالأيسار كما يخبر ابن حبيب في المصدر ذاته:( القوم الذين يدخلون في الميسر)، وهؤلاء:( هم أشراف القوم). كان صعود قصي بن كلاب السياسي، والاجتماعي في مكة مرتكزا على القيام بطقوس الضيافة للغرباء القادمين لحج البيت الحرام حيث قام كما يخبرنا الأزرقي في ( أخبار مكة) بدعوة قبيلة قريش؛ ليقموا بواجب الضيافة. يقول الأزرقي:( أن قصي بن كلاب بن مرة قال لقريش: يامعشر قريش، إنكم جيران الله وأهل الحرم، وإن الحاج ضيفان الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام هذا الحج، حتى يصدروا عنكم). لقد وافقت قريش قصي:( فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالهم، فيدفعونه إلى قصي، فيصنعه طعاما للحاج أيام الموسم بمكة ومنى). سار هذا الطقس الذي كان يُعرف بالرفادة، والسقاية حتى ظهور الإسلام حيث كان الخلفاء يُطعمون الحجاج، ويقول الأزرقي عنه:( هو الطعام الذي يصنعه السلطان بمكة ومنى للناس حتى ينقضي الحاج). اتبع هاشم سيرة جده. وكان يكرر مع مجيء الموسم دعوة قصي إلى القيام بواجب الضيافة، فيخاطب قريش كما يروي الأزرقي في أخباره:( يامعشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته خصكم الله بذلك وأكرمكم به، ثم حفظ منكم أفضل ماحفظ جار عن جاره، فأكرموا ضيافة زوار بيته يأتونكم شعثا غبرا من كل بلد، فكانت قريش ترافد على ذلك حتى أن كان أهل البيت ليرسلون بالشيء اليسير رغبة في ذلك فيقبل منهم لما يرجى لهم من منفعته).

ومن هذا المناخ نجد في حكاية عبادة (اللات) عند قبيلة ثقيف في الطائف التي ترد في الأخبار العربية الكثيرة، والمختلفة من رواية إلى إخرى بغية تأويل عبادة ( اللات) التي تقول معضم الروايات بأن ( اللات) صخرة لثقيف بني عليها بيتا كالكعبة، وعبدتها ثقيف بحسب رواية ابن الكلبي في كتابه( الأصنام). أما المغزى الذي تلمح له بعض الروايات، وله صلة بضيافة الغريب، فهي الروايات التي تقول _ عن المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام لجواد علي _ بأن اللات:( صخرة كان يجلس عليها رجل يبيع السمن واللبن للحجاج في الزمن الأول). ورواية أخرى تقول:( أنها سميت باللات لأن عمرو بن لحي كان يلت عندها السَّوِيق للحجيج على تلك الصخرة). وقيل في رواية أخرى:( أن حجر اللات كان على صورة ذلك الرجل الذي قبر تحت، هو الذي كان يلت السَّوِيق، فلما مات، عكفوا على قبره فعبدوه). وقيل أيضا:( أن اللات الذي يقوم على آلهتهم ويلت لهم السَّويق). يتضح من هذه الروايات المختلفة أنها تعمل على تشويه طقس العبادة أكثر مما تعمل على تبيين واقعه؛ وذلك ربما خاضع للرؤية الإسلامية التي عملت على استحقار ماقبلها من طقوس ليست مرتبطة بمكة على الخصوص. ويؤول جواد علي في مفصله هذا الأمر على أنه ناتج عن كراهية أهل العراق، والحجاز بعد الإسلام للحجاج بن يوسف الثقفي التي جعلتهم يروون عبادة ثقيف وطقوس كعبتها بشكل فيه استخاف، واحتقار!. ولتفهم هذا الإحتقار نلحظ في أحد معاني كلمة ( السَّوِيق) الإشارة إلى هذا الاحتقار، فهو يدل على البخل كما يقول ابن منظور في لسانه:( السّوِيق مايتخذ من الحنطة والشعير. ويقال: السَّوِيقُ المُقل الحتيّ). يتضح من هذين المعنيين تلاعب الرواية في دلالتها بين الإطعام، وقلته، الذي يدل على بخل، مما يعني الاستخفاف بأمر إطعام الحجيج. والإشارة الأخرى على هذا الاحتقار قيام شخص ببيع الطعام للحجاج بدل تقديمه هبة لهم مما يحيل في دلالته على البخل، ونفي الكرم الذي هو رمز عبادي للإله. فكيف يبيع الإله الطعام على عباده وعلى الأخص للغرباء الذين يتكفل بهم؟!. وعلى الرغم من هذا الأمر؛ فإن ورود إشارات لإطعام الحجيج في كعبة ثقيف دلالة على انتشار طقس ضيافة الغريب في المعابد في أنحاء الجزيرة العربية عند كل قبيلة من القبائل العربية حيث يشكل أساس الزعامة، والشرف الذي تتمتع به القبيلة. وهذا مايدل على أسباب النزاعات والحروب بين القبايل على الاستفراد بخدمة الإله، وحيازة القبيلة لرموزه من الأصنام. لهذا نلحظ التنافس بين القبائل العربية على امتلاك معبودات خاصة بها ترفعها بين القبائل؛ فشرف القبيلة، وسمعتها، وقوتها من علو مقام آلهتها بين القبائل، لذلك تروي الروايات أن القبائل التي تهزم في الحروب يؤسر إلاهها ويُذل. لقد كان المسلمون في بدايات الإسلام وأثناء حروبها مع القبائل تعمل على تعزيز إله مكة، كما جرى مع ( رحمن اليمامة) إله مسلمة الحنفي المشهور في مدونة التاريخ الإسلامي بالكذاب. تروي الروايات التي ينقلها جواد علي في ( المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام ج٦) أن مسلمة بعث للرسول برسالة بعد عودته من مكة يقول فيها:( من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد، فإني قد أشركت معك في الأمر، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشا قوما يعتدون). ولكي يكون الأمر كله لقريش قامت بهدم كل الرموز الدينية للقبائل التي حولها بدءا من مناة على ساحل البحر قرب المدينة الذي تعبدت له الأوس والخزرج، وقريش أيضا حتى شمال، وجنوب الجزيرة العربية حيث كعبة نجران الذي يقول عنها الثعالبي في ( ثمار القلوب في المضاف والمنسوب):( كعبة نجران: نجران: أقدم بلاد اليمن، وكانت لها كعبة تُحجُّ فخُرِّبت وبطلت وضُرِب بها المثل في الخراب وزوال الدولة). ومابينها، وبين مكة تم هدم ذي الخلصة، واللات المنافس لإله مكة التي كانت إلهة ثقيف في الطائف، والذي رويت عنها الروايات التي تحدثنا عنها. وقد كانت قريش تعبدت كما يذكر جواد علي للات، والعزى، ومناة، وعرفت الرحمن الذي ذكرت به الرسول أثناء دعوته مستنكرة من أنه يتبع رحمن اليمامة!. هذا ما يلفت انتباهنا إلى التسابق، والتنافس حول الشرف، والزعامة بين القبائل العربية الذي يكون الكرم، وضيافة الغريب أحد دواعيها، ومسبباتها، وبدونها يبطل الشرف، وتضعف المكانة بين العرب. وهذا المغزى كان وراء اسخدام الروايات الإسلامية عن اللات، وكعبة ثقيف حين تشير إلى تقديمهم السّوِيق للحجيج بينما القرشيون كانوا يطعمون الأنطاع. فالذبائح هي التي تعبر عن الكرم الكبير في التقاليد العربية!.

 يرتبط طقس الضيافة المقدس هذا بالمعابد منذ القدم حيث يُعد الإله الحامي لكل لاجئ إليه؛ ولأنه كذلك يتم تكريس هذا الفعل في طقس عبادي احتفالا بالإله، وتمثيلا لواجب الضيافة. ويتضح من طقوس التلبية فعل طلب اللجوء للإله عبر التذلل وتقديم الطاعة؛ فترد في معضم التلبيات التي يذكرها اليعقوبي في تاريخه، أو قطرب في كتابه( الأزمنة وتلبية الجاهلية)، فتذكر القبيلة اسمها أثناء أدائها للتلبية، والمشاق التي قد واجهتها، وقلة زادها. فتلبية بني أسد بحسب رواية اليعقوبي:( لبيك اللهم لبيك! يارب أقبلت بنو أسد أهل التواني والوفاء والجلد إليك). أما تلبية ثقيف:( لبيك اللهم! إن ثقيفا قد أتوك وأخلفوا المال، وقد رجوك) وهذيل تقول في تلبيتها:( لبيك عن هذيل قد أدلجوا بليل في إبل وخيل)  . وفي تلبية هُذيل دلالة على كرم الإله حيث تقول في رواية أخرى أكثر تفصيلا يرويها قطرب في أزمنته:( لبيك اللهم لبيك. لبيك عن هذيل. قد أدلجت بليل، تعدو بها ركائب إبل وخيل. خلّفت أوثانها في عرض الجُبَيْل. وخلفوا من يحفظ الأصنام والطّفَيل. في جبل كأنه في عارض مُخيل. تهوي إلى رب كريم ماجد جميل). هنا نلمح الإشارة إلى كرم الإله الذي يحاكيه العربي حين يسلك مسلك الإله، ويطعم الأضياف، ويتحلى بالكرم. ومن تقاليد طقوس الحج تقديم القرابين، والنذور للألهة. وللعرب في قرابينهم التي تقدم نذورا للإله حق للضيوف؛ فمنها ما يعرف من الإبل ب( السائبة ) وهي بحسب إشارة جواد علي في ( المفصل ج٦):( الناقة إذا ولدت عشرة أبطن، كلهن إناث: سيبت فلم تركب، ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف حتى تموت). وكانوا يعلمونها بعلامة كي تعرف بكونها نذرا للإله ويحرم الإنتفاع بها إلا لضيوفه الغرباء!.

لقد كان الطقس ماثلا في جنوب الجزيرة العربية في موسم جني البخور حيث تأتي القوافل لمعبد الإله سابيس؛ ليأخذ منها الكهنة العشور المخصصة لطقوس العبادة، ولا يباع منها شيئا قبل القيام بالطقوس المخصصة للإله حيث يتم تخصيص أيام محددة ليقوم الإله بواجب الضيافة لحجيجه. هذا مايرويه الكاتب الروماني بلينيوس الذي عاش في بدايات القرن الأول الميلادي عن تجارة البخور في حضرموت، فبعد أن يجمع يُنقل إلى شبوة مركز عبادة الإله سابيس حينها كما يقول بلينيوس :( يأخذ الكهنة العشر بالمقدار وليس بالوزن لمعبودهم الذي يسمونه سابيس( sabis). ومن غير المسموح أن يُعرض البخور في السوق قبل أداء ذلك الإجراء، ويوجه هذا العشر لتغطية النفقات العامة، إذ إنه في عدد محدد من الأيام يُكرِمُ المعبود وفادة الضيوف الآتين إلى هناك بسخاء). عن كتاب ( بلينيوس والجزيرة العربية ت: علي عبدالجيد). كما يذكر ربرت هيلند في( تاريخ العرب في جزيرة العرب) إشارة بلينيوس هذه، ويضيف عليها:( هذا يبدو مشابها لمرسوم صدر من طريق نقش إلى قبيلة سمعاي من قبل إلههم الحارس تعلب/ ثعلب، يرسم أنه من بين أشياء أخرى ” سيقدم ولائم من عائدات الأعشار”. يتساءل هيلند عن سبب تقديم الإله لهذا السخاء مرجحا أنه قد يكون لإتمام فريضة الحج، لكنه يرجع ويؤكد لنا عمق ارتباط الضيافة بالطقوس الدينية أي بكونه واجبا دينيا حين يقول:( لقد حدث هذا، على سبيل المثال، في مأرب، كما يشهد على ذلك عدد من المذابح القربانية المحفورة باسم شهر الحج السبئي أبحي( Abhay)). لكن إشارة في سفر التثنية تؤكد حق الغريب من العشور التي تقدم إلى الإله كما يرد في الإصحاح السادس والعشرين:( تقول في حضرة الرب إلهك: قد أفرزتُ من بيتي العشور المقدسة وأعطيتها للّاوي والغريب واليتيم والأرملة طاعة لوصيتك التي أمرتني بها فلم أتجاوز وصاياك ولا نسيتها). هكذا تؤكد الآيات على أن جزءا من العشور المقدسة حق للغريب بتوصية من الرب. ويتضح من آيات أخرى في التوراة أن العبرانيين حين يحجون لأماكن العبادة يكون للغريب موقعا أساسيا ليس فقط؛ لأن وصية الرب تنص على ذلك بل لأن الغريب له دور كبير في إشاعة سمعة الرب، وبحسب ما يعرف في الثقافة العربية يشيد الذكر كما سنعرف من أحد تسميات الكلب الذي يدعو الأضياف. فقد جاء في سفر أخبار الأيام الثاني في الإصحاح السادس بعد أن بنى سليمان بيتا للرب، وصلى فيه وخطب خطبته في شعبه قال مخاطبا الرب:( ومتى جاء الغريب الذي لا ينتمي إلى شعبك…، والذي قدم من أرضٍ بعيدة من أجل اسمك العظيم، ولأجل ما أجرته يدك القوية وذراعك المقتدرة، وصلى في الهيكل، فاستجب أنت من السماء مقر سكناك، وافعل كل ما يناشدك به الغريب لِيُذاع اسمك بين كل أمم الأرض، فيخافوك كما يخافك شعبك…وليدركوا أن اسمك قد دُعي على هذا البيت الذي بنيته). فهل لهذا السبب قيل في سفر الأمثال:( ليمدحك الغريب لا شفتاك)!؟.

 لموسم الحج علاقة بالتجارة كما يتضح من طقس عبادة الإله سابيس في شبوة. فحج مكة كان كذلك مرتبطا بسوق ( ذي المجاز). فبحسب رواية بن حبيب في ( المحبر)، والذي يبدأ كما يقول في:( أول يوم من ذي الحجة إلى يوم التروية. ثم يصيرون إلى منى). وهو التحديد نفسه الذي التزم به قصي بين مكة ومنى. مع كل سوق يأتي الغرباء الذين ينشرون التوجس في نفوس، وخيالات مستقبليهم. من هنا الرمزية الطقوسية التي تؤديها مكة بوصفها بيتا للأمن لكل داخل فيها، لذلك نفهم إشارة القرآن الكريم لمنع الجدال في الحج؛ لأنه قد يبعث على إثارة النعرات بين القبائل وتحريك الثارات تقول الآية(١٩٧) من سورة البقرة:( الحج أشهر معلومت فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج). وما يتم هذا الأمن الإ عبر طقس الضيافة حيث الإطعام يعمل رمزيا على تقاسم الدم ومن ثم الدخول في القرابة، لذلك نجد في طقس عبادة الإله سابيس يشترط التوقف عن بيع البخور حتى يتم قيام الإله بطقوس ضيافة الغريب، وهو أيضا ما يقوم به حجاج مكة حيث يمتنعون عن البيع كما يخبرنا اليعقوبي في تاريخه:( فإذا دخلوا مكة، بعد فراغهم، نزعوا ثيابهم التي كانت عليهم، فإن قدروا على أن يلبسوا ثياب الحمس كراء أو عارية فعلوا وإلا طافوا بالبيت عُراة، وكانوا لا يشترون في حجهم، ولا يبيعون..) هكذا كان حج من يُعرفون بالحلة، وهم قبائل العرب من غير قريش. فالامتناع عن البيع، والشراء قبل أداء طقوس الحج، وأثناءه، وفرض تبديل، أو نزع الملابس أثناء أداء فريضة الحج هي بمثابة طقوس تطهير من الشرور التي يُحتمل أن يحملها الغرباء،.وهذا ماتقوم به طقوس الرفادة في مكة للحجيج بوصفهم ضيوف الرحمن؛ فعبرها يقوم الإله بمباركتهم، والعفو عنهم وإكرامهم!. يروي اليعقوبي في تأريخه مايؤكد ماقلناه حول ارتباط الضيافة بطقوس الحج في مكة، وأنه أحد طقوسه الأساسية؛ فهو يقول في حديثه عن أديان العرب:( كانت قريش، وعامة ولد معد بن عدنان، على بعض دين إبراهيم، يحجون البيت، ويقيمون المناسك، ويقرون الضيف، ويعظمون الأشهر الحرم..). هذا الارتباط الوثيق لضيافة الغريب بالمقدس الوثني لا يجد صدى كبيرا في تحليل أوليفا ريمي كونستابل في كتابها:( إسكان الغريب في العالم المتوسطي) حيث ينصب تركيزها على اللحضة المسيحية حين تبنت الإمبراطورية الرومانية الديانة المسيحية، وكيف عملت على نشر، وتعزيز ما كان يعرف في فلسطين ونواحي بلاد الشام حتى غرب الأناضول في نواحي أنطاكيا: ببيوت الغرباء الملاصقة لدور العبادة. فهي تراها من الأعمال الخيرية المسيحية التي تقدمها دور العبادة للغرباء. تقول كونستابل:( كانت بيوت الغرباء ( التي يُعبر عنها بكسينودوكيون أو كسينون) معالم معروفة في المدن وعلى الطرقات الطويلة في العالمين الروماني المتأخر، والبيزنطي. في الواقع، بحلول القرنين السادس والسابع( الميلادي) كانت بيوت الغرباء معروفة أكثر كثيرا من البندوكيونات _ يقصد بها الفنادق وهي لفظة من اليونانية القديمة ”pandocheion” وتعني الفندق _ بحيث إن الباحثين كثيرا ماتجاهلوا الأخيرة، أو أخذوا كلمة بندوكيون كمرادف لكسينودوكيون ( بيت الغرباء). وكما يدل اسمها عليها فهي بيوت خاصة بإيواء الغرباء والأجانب، وعلى عكس البندكيون فهي توفر الغذاء والملجأ مجانا لنزلائها من حجيج ورهبان وغيرهم من رجال الدين المسافرين( وكذلك المسافرون من غير رجال رجال الدين). وهو ماجعل هذه الفنادق مرتبطة بالعمل الخيري في الثقافتين المسيحية واليهودية. تشير نقيشة يونانية عُثر عليها في بيعة يهودية بمدينة القدس وهي مؤرخة من القرن الأول الميلادي، إلى وجود بيت للغرباء فيه غرف وفيه الماء لفائدة ” الغرباء المحتاجين”). وتضيف :( فقد أصبحت هذه الفنادق وثيقة الارتباط بالعمل الخيري المسيحي وبإقراء الضيف خصوصا بعد التنصر الرسمي للإمبراطورية في عهد قسطنطين الأول. وقد شرع الأباطرة التالون والأساقفة والقديسون والأعيان في تأسيس بيوت للغرباء بمحاذاة الأديرة والكنائس والمواقع المقدسة وغيرها من المواقع الأخرى لإيواء المسيحيين بصورة حصرية). هكذا تستبعد من تحليلها لارتباط ( بيوت الغرباء) ببيوت العبادة بجذوره الدينية الوثنية، وهي من الطقوس الأساسية في الديانة السامية كما حاول توضيحها روبوتسن سميث في ( الديانة السامية). غير أن ماتفتقده المرويات سواء العربية، أو الإغريقية هي تفاصيل هذا الطقس حيث أغلب الروايات تربط الحج بتقديم الضيافة للحجيج دون إشارة إلى ما إذا كانت تُقدم لهم السُكنى مع أننا سنجد إشارات في الشعر العربي لتقديم الإيواء للضيوف. لكن مايفترضه هذا التجذر الطقسي للضيافة مع طقس العبادة أن ما عُرف مع اللحضة المسيحية يرجع بجذوره إلى تلك الطقوس الوثنية قبل الميلاد. فالإشارات المتواترة في الموارد الإغريقية التي تصف العرب بأنهم كرماء مع الغرباء تخبر عن طقس وثني قديم، وذلك لارتباطه بالأسطورة. فقد كتب أجاثارخيديس الكنيدي في كتابه عن ( البحر الإرثيري ) قبل القرن الأول  قبل الميلاد يصف من يسميهم بقبائل الديباي العربية، وبحسب الشارح _ انظر أجاثارخيديس والجزيرة العربية تر: د. الحسين عبدالله _ فهم سكنة المنطقة الواقعة بين القنفذة على ساحل البحر الأحمر للمملكة العربية السعودية، ووادي بيش، وهي منطقة تقع شال غربي نجران، يقول أجاثارخيديس:( وتعيش قبائل الديباي.. في الإقليم المتاخم للمنطقة الجبلية. بعضهم بدو وبعضهم مزارعون…وسكان هذا الاقليم لا يملكون مهارة التعدين أو التعامل مع هذا النوع من المعادن. ولكنهم كرماء للغاية مع الغرباء خصوصا مع الآتين من شبه جزيرة البيلوبونيسوس(peloponnesus) أو بويوتيا(boeotia)، وذلك بسبب إحدى الأساطير المنسوبة لهيراكليس ( Heracles) ). فمن هذه الرواية لا يمكن أن يفهم منها أنه أمر تمارسه مجموعة أشخاص فقط، بل تعطينا دلالة انتشاره بكونه ظاهرة عميقة لدى القبائل العربية. ومما له دلالته هنا فيما يخص ( كعبة نجران) يروي لنا جواد علي في ( المفصل ج٦) عن ابن الكلبي يقول عنها:( كان إذا جاءها الخائف أمِن، أو طالب حاجة قضيت، أو مسترفدا رفد). تصف هذه الرواية طقوس ( كعبة نجران ) بذات الطقوس التي تُروى عن كعبة مكة، إلا أن روايات تربط تأسيسها بتنصر أصحابها، فهي كما يقول جواد علي:( كانت بيعة أسسها النصارى في مركز النصرانية في اليمن، وهو نجران وأنه لا علاقة له بالوثنية). فإذا سلمنا بصحة هذه الأخبار من ارتباط كعبة نجران بلحظة الدخول في المسيحية، فهذا لا يعني ارتباط وظهور طقس الضيافة بأماكن العبادة المسيحية. فبعض الروايات تقول بأن:( بني عبدالمدان ابن الديان الحارثي أقاموها هناك، مضاهاة للكعبة). هذا التنافس على المكانة يتم وفق قواعد متعارف عليها من الطقوس، فلا يمكن أن تنافس القبيلة القبيلة الأخرى بطقوس مختلفة حتى لو عبدت معبودا آخر مختلف، وهذا واضح من تنافس ثقيف لقريش؛ لكنها تعبدت للات، فلا يمكن للقبيلة أن تزيح عن كاهل مخيلة ثقافتها طقوسها القديمة بمجرد الدخول في ديانة أخرى، وهذا ماتدل عليه الرواية من أن ( كعبة نجران) ضلت محافضة على طقوس العبادة الوثنية كالحج والضيافة، وكون الضيف في حماية الإله. فهل تعجز هذه الطقوس عن تأمين السكن للضيوف؟!. كيف يعطي الإله الأمن لضيوفه إذا كان لا يقدم لهم مأوى يأويهم؟!. أما مسألة تحول مسكن الغريب من المجانية، إلى الأجرة هذا التحول الذي وجدت فيه الباحثة تطورا لفكرة مسكن الغرباء الجديد:( الفندق) الذي سيتوسع مع الامبراطورية الرومانية، فلا يمكن القطع فيما إذا كانت العرب في حجهم حين كانوا يحلون ضيوفا على الإله كانوا يستأجرون سكناهم. فالمرويات تصمت عن هذه التفاصيل، لكننا نفهم من تقديم بيوت العبادة المسيحية الخدمات المجانية للغرباء من كونها نابعة من الطقوس الدينية الأقدم التي يكون فيها الحجاج الغرباء ضيوف الإله!. ونملك شواهد شعرية على أن ضيافة الغريب عند العرب كانت تتضمن تقديم السكن، والإيواء، وإن كانت الفترة الزمنية فيما قبل الإسلام، وداخلة في الزمن الميلادي إلا أن تقديم الإيواء في شكله البدائي يحيل إلى عمقه الديني المرتبط بوجوب إكرام الضيف، وتقديم الأمن له. فنقرأ على لسان أحد الشعراء يخاطب زوجته بأن البيت لها ماعدا الوقت الذي ينزل عليه الضيف، فيكون للضيف ( عن رواية محمود الألوسي في بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب):

لكِ البيتُ إلا فَيْنةََ تُحسنينها     إذا حان من ضيفٍ عليّ نزول

ويقول شاعر آخر:

ومستنبح    بعد   الهدوء    دعوته     بشقراء مثل الفجر ذاك وقودها

فقلت له:   أهلا   وسهلا    ومرحبا     بمُوقِد نارٍ مُحْمدٍ   من   يرودها

نصبنا له     جوفاء    ذات ضبابة     من الدهم مبطانا طويلا رُكُودها

فإن شئت أثويناك في الحي مكرما     وإن شئت بلغناك أرضا تريدها

 

يخير الشاعر هنا ضيفه بين أن يسكنه حيه مكرما، أو يوصله إلى وجهته سالما متمثلا عمل الإله كحامي لضيوفه حتى يرجعوا إلى أهلهم سالمين.

ولمرة بن محكان التميمي السعدي يروي الألوسي له قوله مستشيرا زوجته في كيفية اسضافته لضيوفه بين أن يكونوا ملاصقين لداره، أو يبني لهم:

ياربة البيت قومي غير صاغرةٍ        ضُمّي  إليكِ  رحال   القوم  والقربا

في ليلة من جمادى ذات  أندية        لا يُبصر الكلب من  ظلمائها الطنُبا

لا ينبح الكلب فيها غير واحدة         حتى يلفّ  على  خيشومه   الذنبا

ماذا ترين     أنُدْنيهم   لأرحُلِنا        في  جانب البيت أم نبني لهم قببا

 

تسمح لنا هذه الإشارات تفهم أصول طقوس الضيافة التي أصبحت من التقاليد الإجتماعية التي تقدم للضيف الإيواء.

وما يبدو مما تقوله كونستابل من استثمار الامبراطورية لهذه الطقوس وتوسيعها أنها كانت تستثمر طقوسا ماثلة في شمال الجزيرة العربية وأنها كانت تزاحم العرب، وتنافسهم على السيطرة على التجارة، وعلى الخصوص تجارة البخور، والتوابل؛ فصراعها مع العرب كان مثلا في جنوب الجزيرة العربية عبر الحبشة المسيحية التي كانت خاضعة للامبراطورية الرومانية، وفي شمال الجزيرة العربية كانت أسست حواضر تجارية تسبب في كساد تجارة الأنباط في مدائن صالح من هنا كانت معرفتهم الكبيرة بطقوس العرب، والتي ترجع لما قبل الميلاد حيث ارتبط البلاطمة الذين حكموا مصر أكثر من مئتي سنة بالعرب عبر التجارة حيث نافسوهم وحاربوهم!. فأحد الذين تروي الروايات العربية أنه قام ببناء الكعبة بعد احتراقها _ الفصل ج٦ _ تاجر رومي تهدمت سفينته على ساحل جدة، وقد جيء به إلى مكة، وطُلب منه أن يبني الكعبة، ويشرف على هندستها، وأن يكون بناءها كالكنائس. فبعد المداولات قال باقوم الرومي كما تسميه الروايات لقريش:( هل لكم أن تجروا عيري في عيركم، يعني التجارة). كان هذا التاجر كما يروي جواد علي :(ذاهبا إلى المندب فانكسرت سفينته بالشعيبية)، وأخذت قريش أخشابها لبناء الكعبة!. لقد روى ديودوروس الصقلي الخبر الذي رواه أجاثارخيديس عن ( العرب المعروفون باسم الديباي) والديباي بحسب رواية ديودوروس تنسب إلى إحدى الجزر في خليج العقبة _ انظر ديودوروس الصقلي والجزيرة العربية ت د. أحمد غانم _ لكنه يورد الخبر بعد أن انتهى أجاثارخيديس من تدوين رحلته حيث بدأ بكتابة تأريخه من ٥٦ق م حتى ٣٦ ق م. يقول ديودوروس:(  يفتقر سكان المنطقة تماما إلى الخبرة في العمل في مجال تعدين الذهب غير أنهم يتمتعون بكرم ضيافة الغرباء) هنا سيخص بحسب رواية ديودوروس الكرم بغرباء مخصوصين كما يقول:( لكن بطبيعة الحال ليس كل الغرباء الذين يأتون إليهم، بل من يصل من أهل بويوتيا( boeotians) وسكان شبه جزيرة البليبونيسوس ( peloponnesus ) ). هذه الضيافة المخصوصة جدا يرجعها ديودورس إلى أساس علاقة صداقة قديمة ذات أصول أسطورية:( ويرجع ذلك بالأساس إلى مايربط بينهم وبين أولئك الناس من أواصر قديمة للصداقة التي عبر عنها هيراكليس ( heracles ) للقبيلة، وهي صداقة كما يروون وصلت إليهم في أسطورة يتوارثونها من أجدادهم ). هذه العلاقة المتينة ذات الحضور الأسطوري في سبب الصداقة، وضيافة القبائل العربية لليونانيين، جعلت الرومان من خلال تنافسهم على التجارة يتفهمون سحر العرب مع الغرباء الذين يقدسون ضيافتهم والذي عرفنا أنه موضوع تنازع بين القبائل العربية للحظوة بالزعامة والشرف.                ربما تفهم الأغريق هذا الإحتفاء بالغرباء كصداقة، وبما أنهم أكثر الشعوب ارتبطت بتجارة العرب؛ فقد فهمت هذه العلاقة كصداقة أسطورية. إن أمر إرجاعها إلى أسطورة عن الأجداد في رواية ديودوروس يحيلنا إلى أصول ارتباطاتها الدينية، وبالمعابد العربية كما سنجد في رواية بلينيوس عن عبادة الاله سابيس في شبوة وهي رواية متأخرة عن رواية ديودوروس لكنها تصف الطقس في صيغته الوثنية.

ثمت إشارة لدى مايسميه جيمس فرايزر في ( الغصن الذهبي ت نايف الخوص) بالفيلسوف الصقلي الذي عد نفسه إلاها بشريا في مقطع شعري له يقول فيه بأنه سيقدم المأوى للغرباء حيث يرد المقطع عند فرايزر:

( يا أصحابي، في هذه المدينة التي تتسلق على المنحدر الأصفر

لقلعة أغريجنتم، التي تمنحكم العمل الصالح،

والتي تؤمن للغرباء المأوى الهادئ والجميل…)

عاش الفيلسوف الصقلي بحسب فرايزر في العصر القديم السابق على العصور الوسطى. وهي التي تبدأ بعد القرن الخامس للميلاد. هذا يعني أنه قد يكون عاصر القرون الأولى الميلادية، وربما استعار هذا الطقس من المسيحية، والتي بدورها اعتمدت في نسختها الإمبراطورية باستعارة عدة رموز دينية، وطقوسية من البلاد التي احتضنتها. وهذا ما أعطاها القوة في الإنتشار والإستمرار كما يشير المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي في ( تاريخ العالم ت نقولا زيادة). ودون الدخول في تفاصيل علاقة صقلية بالعرب عبر التجارة نتفهم بأن هذا الظقس هو أحد الرموز الدينية التي استعارتها المسيحية الإمبراطورية من العرب!. هذه الإستعارة هي مسلك تاريخي، وثقافي قديم عرف به الإغريق والرومان. فقد استعاروا الكثير من الرموز الدينية من حضارات الشرق. فبحسب مايرويه لنا فرايزر في ( غصنه الذهبي ) أخذ الإغريق عبادة الإله تموز عبر لقبه أدونيس الذي عرف عندهم منذ القرن السابع قبل الميلاد، وعرفت عشتار عشيقة تموز بأفروديت. وستحافظ المسيحية في فكرتها عن موت المسيح وعودته على تقاليد إله الخصب تموز، أو أدونيس الذي يعود من رقدته في العالم السفلي ليبشر بالرخاء، والخضرة!.

لقد غير انتشار الأديرة، والكنائس بين العرب شكل الضيافة الدينية. إن فكرة كونتستابل عن معنى الضيافة التي تقدمها الكنايس بوصفها الخير المسيحي كانت نتيجة، أو وسيلة من وسائل التبشير التي دعمتها الامبراطورية البيزنطية لاستمالة، وتنصير القبائل العربية وفق التصورات الكنسية التي اعتمدها مجمع نيقية لتوحيد الكنايس، وإخضاعها للكنيسة الكاثوليكية. فهي تدرك الأثر السحري لمعنى الضيافة عند العرب حيث المدونات الكلاسيكية كما مر زاخرة بتسجيل هذه الطقوس الدينية عند العرب. هذا ما جعلها تدعم الكنائس ،والأديرة بالمال لتقديم كرم الإله المسيحي في أبهى صورة. وهو المعنى الكامن خلف عبارة كونستابل عن ( الخير المسيحي)!.

لذلك فبدلا من تقاليد استضافة الحجيج في الموسم المخصص مرة واحدة في العام، أو شهور متفرقة، ويكون الشرف، والصيت، والمكانة للقبيلة التي ترعى حرم الإله، ويكون هذا الإله هو صاحب المجد والسلطة صارت الكنائس، والأديرة تقدم الضيافة بشكل مفتوح على الزمن دون موسم محدد بحيث صار الأعراب كما يذكر جواد علي في ( المفصل ج٦ ) تزور البيع، والأديرة :( للاحتماء بها من الحر والبرد وللاستعانة برجالها لتزويدهم بما عندهم من ماء أو زاد أو للتنزه بها واحتساء الشراب ). لقد حلت مكان الآبار التي تحفر على طرق القوافل؛ لأن الأديرة بحسب مايرويه جواد علي، وتحت سلطة الدعاة والمبشرين المدعومين من الامبراطورية انتشرت في القرى، والبراري والمدن. من هنا صار الإله المسيحي ينافس بكرمه الامبراطوري الآلهة الأخرى التي تعبدها القبائل العربية وعلى رأسها آلهة مكة.

لذا نجد الزبرقان بن بدر التميمي يفاخر بكرم قبيلته التي لها بيع دينية مسيحية تقام لتقديم واجب الضيافة فيما يُنسب إليه من شعر ( عن جواد علي المفصل ج٦ ) يقول فيه:

نحن الكرام، فلا حيٌ يعادلنا       منا الكرام، وفينا تُنْصَبُ البيع

ومما يجب التنبه له هنا أن هذه البيع، والأديرة ليست كلها خاضعة للإمبراطورية البيزنطية. فقد حافظت المسيحية العربية على توجهها الديني على الرغم من كل الضغوطات التي مورست عليها، لذلك وصمتها الكنيسة الرسمية للامبراطورية بالهراطقة سواء الكنيسة اليعقوبية التي دان بها الغساسنة، أم النسطورية التي انتمى لها المناذرة في الحيرة، وحضيت بدعم الفرس، وحمايتهم لمنافستهم للبيزنطيين، فيما الغساسنة أقاموا علاقات صداقة وتعاون مع البزنطيين على الرغم من الضغوط التي مورست على كنيستهم. ومما يلفت هنا أن المسيحية العربية هي التي سمتها الكنيسة الغربية ب( حنفا) ( حنفو ) من السريانية بمعنى الهراطقة، أوالضلالة كما يشير فاضل الربيعي في ( المسيح العربي ). وهي اللفظ التي عُرفت في الإسلام بالحنيفية!. ولكي يحافظ العرب المسيحيين على مكانتهم مارسوا التبشير أيضا، ونصبوا بيعهم بين القبائل العربية وعلى طرق القوافل، وهناك: ( أمثلة عديدة تشير إلى دخول تجار مكة الصوامع في بلاد الشام وفي وادي القرى، للحصول على ملجأ أو عون) بحسب ما يذكره جواد علي في ( المفصل ج٦ ). إن استمرار تقديم الكنائس العربية الضيافة للغرباء هو دلالة على محافظتها على طقوس قديمة كانت شواهدها الكتابية ماثلة في العهد القديم قبل الميلاد الذي يمثل سجلا مشتركا لثقافات الشعوب السامية، وأنها حافظت عليها لما لها من قيم اجتماعية، واقتصادية كبيرة في التقاليد الثقافية العربية. فالمسيحية جزء من الديانات العربية في جزيرة العرب بحسب أطروحة المؤرخ كمال الصليبي في كتابه ( البحث عن يسوع ) والتي طورها الباحث العراقي فاضل الربيعي في كتابه ( المسيح العربي )، وذلك على الرغم من التطورات الدينية التي مثلتها، وعاصرتها في شمال الجزيرة مع قدوم الامبراطورية البيزنطية. لذلك استمرت هذه الخدمات التي تقدمها الأديرة، والكنائس في العراق، والشام بعد الإسلام وهي ماثلة في مرويات الشابشتي في كتابه ( الديارات )، كما استمرت في الإسلام مع طقوس الحج حيث مازال الحجاج هم ضيوف الرحمن!.

إن الكرم المرتبط بالمجاعة، أو الذي يكون في أثر مشاق السفر الذي يستتبع الشعور القريب بالهلاك تجعل من المُكرِم عالي الشأن، وبالتالي رمزا للخلاص كمنقذ قد يلجأ إليه كل مفتقر، وصاحب حاجة. وثمت الكثير في الأخبار في مدونة التاريخ العربي حول هذا المسلك. ولعل حكاية أبي حيان التوحيدي بليغة في هذا الشأن. إذ تشهد حكايته بعد ثلاثة قرون من الإسلام على الاستمرارية الثقافية لعلاقة الإله بضيوفه الغرباء الملتجئين إليه، وبالتالي التمثيل الرمزي للأجواد لدور الإله. فقد كان كثير البحث إلى درجة الاستجداء عن كريم يمنع عنه فقره، ويحول بينه، وبين الهلاك حتى توسط له أبو الوفاء عند الوزير ابن سعدان بما في جبته من علم ليسامره في لياليه، وهكذا ولِد( الإمتاع والمؤانسة) الذي سيضمن فيه مدائحه للوزير عن (غرائب كرمه)، لكن غصته، ويأسه من البشر الذين سيشتكي من ضياع فضيلة الكرم بينهم في زمانه ستلجئه إلى كريم أعلى هو حامي الغرباء، ليكتب تحفته:( الإشارات الإلهية)، ويخاطب الله:( اللهم إنا قد أصبحنا غرباء بين خلقك، فأنسنا في فنائك)، وفي معرض حديثه يوجه خطابه طالبا من الله:( إلهنا: كن لنا فوق مانتمناه لأنفسنا…وفي الجملة ارحمنا، وفي التفصيل أكرمنا. يا ذا الجلال والإكرام). ليقول لقارئه ممتدحا هذه المرة غرائب كرم الإله عبر تذكير مُخاطَبه بنعم الله التي بين يديه:( اشهد يا هذا غرائب نعمه عندك، وكن له من الشاكرين). لقد عرفت جماعة من الحجيج قبل الإسلام كما يذكر جواد عل في ( المفصل ج٦ ) ب( المتوكلة) وهم الذين يحجون بلا زاد يقطعون المسافات معتمدين، ومتوكلين على أنهم سيحلون، ويقدمون على إله كريم لن يخيبهم!. ولقد عُرف عن الأعشى الكبير الذي عاش قبل الإسلام أنه كان جوابا للآفاق مترحلا. فقد زار بلاد فارس، وقطع جزيرة العرب من جنوبها حتى شمالها عارفا العراق، والشام ومصر، وفي لحظات تغربه هذا يتذكر كرم إلهه عليه، بأن أظهر عليه كريما يكفيه عسر غربته، وعدم أمنه ممن جاورهم؛ فيمتدحه بقوله ( ديوان الأعشى ت محمود الرضواني ):

ومن آجنٍ أولجته الجَنُو      بُ دمنة أعطانه فاندفن

وجارٍ  أجاوره  إذ  شتو      تُ غير أمينٍ ولا مُؤتَمنْ

ولكن ربي كفى  غربتي      بحمد  الإله  فقد  بلّغن

أخا ثقة   عاليا    كعبه      جزيل العطاء كريم المِنن

كريما شمائله  من بني      معاوية  الأكرمين السُّنن

من هنا دلالة وصف هاشم لضيوف مكة في الرواية السابقة فهم يأتون:( شعثا غبرا من كل بلد) حيث تدل كلمتا (شعثا، مغبرا) على التلوث بغيار الصحاري، والقفار، وتلبد الشعر في إيحاء على الجفاف، وهي اشارات كما تبين التلبيات السابقة أن القبائل التي تفد على الحج كانت تذكر الإله بما عانته في أسفارها، وما خلفته وراءها. لذلك حين يصل الغريب ضيفا بعد هذا السفر، والترحال ويتناول طعام الإله هو إحالة رمزية على كرم الإله حين يخرج القبيلة من الهلاك إلى نجاة الخير، والوفرة، والى نعيم الأطعمة، والملذات. لقد ارتبطت علاقة الغريب بالترحال، والسفر لدى العرب بشكل وثيق بالأرض بحيث يُكنى عنه في العربية ( بابن الأرض)، و( يقصدون به الغريب) كما يشير لذلك ابن فارس في (مقاييس اللغة). من هنا فهو ملازم للأرض الواسعة التي يترحل عبرها؛ فهو ابنها، وهي منبته أينما رحل، لذلك يُحنى عليه، وهو في ترحاله، وذلك بوصف الإرض( بلاد الله). وفي هذا الترحال اشتهر عند العرب رجال عرفوا ب( أزواد الركب)؛ لأنهم إذا سافروا لم يتزود أحد معهم فكانوا يطعمونهم طوال الطريق. ويحيلنا هذا المسلك إلى واحدة من وصايا الحكيم البابلي أحيقار في القرن السابع قبل الميلاد _ أحيقار حكيم نينوى لسهيل قاشا _ حين قال لابنه:( يابني، إذا ما قمت بسفر، فلا تعتمد على خبز الغريب، ولكن خذ معك خبزك الشخصي، وإن لم تستطع وأخذت طريقك مع ذلك، فسوف تتعرض للوم ). لا توضح وصية أحيقار مقصده باللوم الذي سيتعرض له ابنه!. هل كان يشير إلى حرمة الغريب الذي يجب عدم التعرض لها، أم لأن ابن الحكيم من أهل يسر!؟. فقد كان أحيقار وزيرا للملك الأشوري سنحاريب، فعيب عليه الإعتماد على زاد الغرباء، بل هو من يجب عليه ضيافتهم كي لا يتعرض للوم، والعتاب، وكي يساهم في التخفيف على المسافرين الغرباء عسرهم، وجوعهم!. ومن هذه الإشارة؛ فهل تمتد طقوس الضيافة إلى حضارة مابين النهرين!؟.

 لقد توطد ترحال العرب بمعرفتهم بأحوال النجوم، والكواكب يأخذونها دليلا، وهاديا من وحشة الطريق، وطوارق الليل. ومن هذا الترحال انولدت أسطورة نجم سهيل التي تقول أنه لا يوجد أحن على الغريب من نجم سهيل فهو:( أشفق الكوكب على الغرباء، وأبناء السبيل) كما يقول المرزوقي في كتابه( الأزمنة والأمكنة). ويقول ابن منظور في لسانه بأن سهيلا يظهر في جميع نواحي بلاد العرب، وبين ظهوره في العراق من الحجاز عشرون يوما، والمرزوقي يحدد ظهوره ببضع عشرة ليلة. فهل شفقته على الغرباء هو بسبب ظهوره لهم كهاد في طرقهم ولياليهم الموحشة، أم لأنه كان مرتبطا بطقس الضيافة؟!. يخبرنا ابن منظور، وكذلك المرزوقي بأن:( سهيلا كان عشارا على طريق اليمن ظلوما فمسخه الله كوكبا). لقد اقترف سهيل محرما؛ فالظلم الذي اقترفه كان مرتبطا بحقوق الغرباء. فقد مس ضيوف الإله، والملتجئين بحماه من خلال ظلمه في الأعشار التي هي حق الإله لواجب ضيافة الغرباء!.

 ونعرف من معاني الضيافة عند العرب أن مايجري على الضيف يجري على مُضيفه حين يدخل في حماه. من هنا يتحول اعتداء سهيل في ظلمه للأغراب حيث كان عشارا في طريق اليمن كما تقول الرواية إلى ظلم، واعتداء على الإله. فوظيفة سهيل كعشار تحيلنا لطقس الضيافة الذي كان يقام للاله سابيس بعد أن يأخذ الكهنة الأعشار على البخور لإقامة الضيافة للأغراب. فهل كان سهيل كاهنا لكن ( ظلوما) كما يشير ابن منظور والمرزوقي؛ ليتم مسخه إلى نجم، ويتحول إلى اسطورة مرتبطة بالغرباء، وكمعبود أيضا؟!. فقد عبدته قبائل طيء كما يشير جواد علي في ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج٦)، لكنه تحول من الظلم، والإعتداء على الغرباء إلى نجم هاد بنوره لهم من علوه في السماء، وشفوقا عليهم من وحشة الطريق، وحر الشمس حيث بظهوره تبرد الأرض وتهب النسائم البارة؟!. بهذا الإنقلاب، والتحول الذي أصاب فكرة الغريب في أسطورة سهيل كمعتدٍ على الغرباء، يمكن القول بأن العرب واجهوا مشكلة الغريب كعدو؛ ليكون مُحتفى به ومقدس، ومن أهل الدار؛ ولتستمر حياتهم منعمة، وهانئة وعالية الشأن، وتجارتهم سارية في الآفاق، من منطلق مقدس الذي بات يحدد شروط العلاقة بالغريب. فيعبر هذا التحول عن فعل تكفير عن ذلك الظلم الذي كان يمارسه سهيل. هكذا تحول العنف نحو الغريب إلى سلوك مقدس بوصفه ضيفا للإله. وربما هذه الإسطورة هي التي يشير لها أجاثارخيديس، وديودورس الصقلي التي كانت أساس كرم الضيافة التي يحصل عليها البولبونزيون!. أسطورة الإله الشفوق على الغرباء والسخي معهم!.

يتضح من حكاية سهيل، وعلاقته بالعشور لصرفها على ضيافة الغرباء أن هذا السلوك ذاته الذي كان يقوم به قصي، وهاشم في مكة. فبحسب روايات الأزرقي في (أخبار مكة)؛ فإن القرشيين كانوا يدفعون من أموالهم لهما مع قرب كل موسم؛ ليقوما بواجب الضيافة ل( ضيوف الرحمن). إن الإله الغريب يستضيف الملتجئين بحماه؛ فيجيرهم من الهلاك، لذلك يكمن كرم هاشم في مغزاه الطقوسي المرتبط بطقس الحج في إحالة معناه الرمزي على الكرم الإلهي في إنقاذ عباده من مجاعة، وهلاك الطريق. من هنا يحضى هاشم، وغيره بسبب هذا الكرم، وبسبب أدائه الطقوسي بالهيبة، والتقديس، والشرف. من هذا المنطلق يمكن التفكير بأن الكرم كطقس توصل العربي إليه من أجل لجم العنف، والكراهية _ لنتذكر الصفة المشهور التي تتمتع به مكة كبيت الأمان؛ فقد وردت الكثير من الآيات في القرآن الكريم تؤكد الفكرة منها الآية ﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا ﴾.  لذلك نجد خطاب الكراهية المتمثل مثلا في الشتائم، أو المعايب تنهال على الشخص الذي يخيب آمالنا في ضيافته؛ لذا تأخذ صفة البخل في المجتمع العربي بعدا تحقيريا للشخص تلازمه طوال حياته، وكأن المجتمع يعلن عليه حربا غير منظورة، ولا يأمن جانبه، فمن حكم العرب كما يرويها أبو علي مسكوية في كتابه ( الحكمة الخالدة)؛ فإنها تعد:( الشح مسبة، والسخاء فخر). فالمسبة هنا هي علامة للنبذ، وبمثابة وشم على الشخص؛ لإعلان أنه غير داخل في الأمن الاجتماعي من ثم الرعاية المادية، لذلك نجد العرب في طقس الميسر مثلا يسمون الذي له حظ من يسر؛ لكنه يمتنع من الدخول في ( الميسر) بالبرم، وإضافة على ذلك فهو الأكول، فالمثل فيه كما تقول العرب:( أبرما قرونا). فالميسر يرتبط اجتماعيا بأحد طقوس العرب المهمة اجتماعيا، واقتصاديا، والذي يلعب دورا محوريا في توزيع الثروة داخل المجتمع، وهو مرتبط على الخصوص بوقت الشتاء حيث يمنعهم الفصل من البحث عن الأرزاق فتقل فيه المآكل، وتفتقر الناس، فتقيم العرب في هذا الفصل مايعرف بالميسر. الذي يمكن القول فيه أنه احتفال ضخم يجتمع فيه الأثرياء، ويضربون بالقداح، ويذبحون عليها، فيأكل الناس، ويشربون الشراب فيعم الفرح، وتزول المكاره. هذا الطقس يشترط على الناس المشاركة، لذلك من يمتنع عنه يوشم بالبخل، لكن التسمية المرتبطة بالطقس للشخص الذي يمتنع عن المشاركة كما ذكرت( البرم)؛ فيمنعون عنه الطعام، وتقوم نساء الحي بإرساله لزوجته فقط، فإذا أكل منه، سموه( أبرما قرونا) أي كما يشرح ابن قتيبة في كتابه( الميسر والقداح):( يأكل تمرتين تمرتين) فهو على بخله أكول!. وللدخول في شيء من التفاصيل يقول لنا ابن قتيبة في ( الميسر والقداح) عن منافع طقس الميسر اجتماعيا:( أما نفع الميسر فإن العرب كانوا في الشتاء عند شدة البرد وجذب الزمان وتعذر الأقوات على أهل الضر والمسكنة يتقامرون بالقداح على الأبل، ثم يجعلون لحومها لذي الحاجة منهم والفقراء. فإذا فعلوا ذلك اعتدلت أحوال الناس وأخصبوا، وعاشوا واستراشو). ويضرب لنا ابن قتيبة شاهدا شعريا بلسان الأعشى حين مدح قوما بقوله:

المطعمو الضيف إذا ما شتوا         والجاعلو القوت على الياسر

وقال لبيد بن مالك ( عن الألوسي في بلوغ الأرب ) في معلقته:

وجزور أيسارٍ  دعوت   لحتفها       بمغالقٍ   متشابهٍ   أجسامها

أدعو  بهن  لعاقر   أو    مُطْفل       بُذِلت لجيران الجميع لحِامُها

فالضيف والجارُ الجَنِيب كأنما       هبطا تبالة مُخصبا أهضاُها

 

هكذا إذن كما يشرح لنا ابن قتيبة يقدم أصحاب الثروة، والأجواد أموالهم للفقراء، والأضياف في طقس احتفالي عامر بالمرح، واللعب بالقداح _ للتفاصيل الخاصة بأصول اللعب وأسماء الاقداح ومواصفاتها راجع الميسر والقداح لابن قتيبة، أو كتاب الباحث التونسي محمد الحاج سالم (من الميسر الجاهلي إلى الزكاة) حيث يشرح بشكل واف طقوس الميسر، أو كتاب زكريا محمد ( الميسر والقداح ) _ مع التحفظ على الأحكام الأخلاقية التي أسبغت عليه بوصفه قمارا مع الإسلام. وهنا نشير إلى دراسة محمد الحاج سالم الضخمة التي يدرس فيها تطور، أو انتقال فكرة الميسر التي يعطي فيها الأثرياء من أموالهم للفقراء إلى الزكاة في الاسلام حيث تفرض حقوقا على أموال الموسرين للفقراء، وعلاقة الميسر بتشكل الدولة. لكن مايهمنا هنا هو معناه الاجتماعي حين يساهم في تجسير الهوة، وكبح الشرور من الانطلاق بين الناس بوصفه طقسا من طقوس الضيافة. وهنا نلحظ، وظيفة الطعام الطقوسية في تعاطي المودة. إذ الإطعام في الميسر سيلجم شرور الجوع لدى الفقراء من التحول الى ذئاب متحوشة قد تقضي على السلم الاجتماعي، وتشيع فيه القتل والفوضى. وهذا التحول الذئبي هو أحد التصورات الدينية المرتبطة بالجفاف في الجزيرة العربية. فقد روى روبرتسن سميث في ( ديانة الساميين) عن المقريزي قوله:( أن بعضا من أفراد قبيلة صيعر بحضرموت كانوا يمسخون في صورة ذئاب ضارية في وقت الجفاف).  هذا التحول هو تصور رمزي لما يمكن أن يحيل إليه الجفاف، والجوع الإنسان إلى قوة كاسرة؛ كي يحصل على قوته. أي في النتيجة أن يأكل كل شيء، ويقتل أي شخص ينافسه على طعام حيث في تلك اللحظات القاسية يصبح الكل غريبا عن الآخر في أقسى تصوراته الوقائعية.

  نتساءل حين نستحضر طقس الميسر: لم تبذل الأموال، وتذبح الذبائح في جو من اللعب؟!. كان بإمكان الموسرين مثلا ذبح الذبائح، وتوزيعها على الفقراء، والضيوف _ كما كان يُعرف عن أبي الجهل بن هشام بن المغيرة في مكة حيث كان يفتح منزله للضيوف الغرباء المعتمرين من خارج مكة بحسب رواية ابن حبيب في( المحبر) _ دون الحاجة لهذا المهرجان الإحتفالي السنوي. لذا يستثير في الذهن التساؤل حول المغزى من بذل الأموال للفقراء، وإكرام الضيوف وفق هذا الطقس الإحتفالي حيث تقدم فيه كؤوس الشراب أيضا؛ لتعمر القلوب بالفرح. ما نلمحه من معنى متوار وراءه كجواب على ذلك هو أنه يحافظ على ماء وجه الفقراء، فطبيعة الطقس تعطي الفقراء الحق في المشاركة في الأرزاق كنصيب من الرابحين. فالموسرون هنا يتبارون على الربح من أجل بذل العطاء فقد :( كانوا يمدحون بأخذ القداح، ويسبون بتركها). كما يوضح ابن قتيبة؛ فالموسر الذي لا يشاركهم في الميسر، و( لا يتحمل الغرم لصلاح أحوال الناس) كانو يسمونه كما مر بنا ( البَرَم). من هنا يتضح لنا المعنى الأخلاقي للطقس. إنه يعطي الموسرين الحق في التباري على المكانة الإجتماعية أيضا عبر البذل، والعطاء. وهي الوظيفة التي تشابه طقوس الهبات التي يدرسها مارسيل موس في كتابه ( الهبة) حيث يسمح العطاء بلا حدود للشخص بالصعود اجتماعيا؛ ليحضى بالهيبة والكلمة. إذن هذا البدل، والعطاء بطريقته الطقوسية هذه العامرة بالتنافس، والمرح يبدل الموسرون أموالهم للفقراء كهبات؛ فتحافظ على كرامة الفقراء من الاستجداء؛ فالإستجداء من المعايب لدى العرب. إذ تروي لنا مدونة التراث طقسا كان العرب يمارسونه قبل الإسلام. فإذا افتقروا _ للتفاصيل راجع كتاب خليل عبدالكريم قريش من القبيلة إلى الدولة _ حيث ينعزل الشخص الذي أصابه الفقر عن القبيلة مع أهله حتى يصيبهم الموت، فلا يضطر إلى طلب الحاجة!. هكذا عبر هذه الطقسنة يتم بث روح التعاون؛ ليجدوا أنفسهم وقد ( استراشوا ) بحسب عبارة ابن قتيبة!.

ومن زاوية أخرى نلحظ أن طقس الضيافة وجيرة _ من استجار بفلان أي التجأ إليه واستغاث به، واستجار فلانا أي سأله أن يؤمنه، ويحفظه كما يرد في المعجم الوسيط _ الغريب في مجتمع الجزيرة العربية من العمق الحضاري، والتاريخي بحيث رأينا ارتباطه بالدين، لما له من حضور في حياتهم، فلا يستبعده مؤسس علم الأديان الحديث الإنثروبلوجي، ومؤرخ الأديان روبرتسن سميث في كتابه المرجعي( ديانة الساميين) من ملاحظته حين يدرس علاقة الألهة بالقبيلة، والمجتمع. إذ يقول عن ضيافة الغريب:( تعد حرمة الضيف من المبادئ التي كانت تخفف من قسوة الصحراء منذ بواكير حياة الساميين رغم إنهم كانوا يعتبرون كل غريب عدوا). لذا فكل غريب:( آمن وسط أعدائه بمجرد أن يحل في خيمة من خيامهم، بل بمجرد أن تلمس يده أحبالها). من هنا:( كان إيذاء الضيف أو إنكار حق الضيافة عليه يعد اعتداء على الشرف يلحق بالمعتدي عارا لا يمحى). هكذا جعلت قسوة الصحراء العربي يحول مبائ العداء التي كان يفرضها الجفاف، والجوع من العداء، إلى العطاء، والتقديس للغريب الذي صار يمثل رمز التيه، والجوع الناتج عن الترحل في أرض الله!. لذلك  نتفهم ذلك الشعور بالعار الذي أصاب حاتم الطائي ذو الكرم ذائع الشهرة في مدونة التراث العربي حين قام ابنه بقتل كلبه في حكاية يرويها لنا ابن عبد ربه في (العقد الفريد). مما حدا بحاتم بضرب ابنه؛ لأنه تسسب له بالإهانة أمام العرب، وذلك كما نعرف  بسبب ارتباط الكلب بطقوس الضيافة حيث كانوا يسمونه ( داعي الضمير)، والضمير هو الغريب هنا؛ فقتل الكلب يعني الامتناع عن قبول دعوة أي غريب، وهو ما لا يمكن أن تتصوره شخصية رويت عنها الأعاجيب في الكرم بحسب ما يرويه لنا صاحب كتاب( المستجاد من فعلات الأجواد). تقول رواية ابن عبدربه:( رُئي حاتم يوما يضرب ولده لما رآه يضرب كلبة كانت تدل عليه أضيافه وهو يقول:

أقول لابني  وقد سُطتُ   يديه         بكلب   لا يزال   يجلدها:

أوصيك   خيرا    فإن       لها         عندي يدا لا أزال أحمدها

تدل ضيفي علي في غلس ال         ليل إذا النار نام  موقدها

داعي الضمير هذا يتصدر أبرز تجارب الحيوان في تبين علاقتها بالغرباء، والتوجس منهم كما تتضح في سلوك الكلاب. فقد دربوا بحكم قربهم، وتدجينهم من قبل الإنسان على رفع حساسيتهم المفرطة تجاه كل غريب، لذلك حتى الوقت الراهن يعد الكلب الحيوان الأكثر ثقة لدى الإنسان عندما يتعلق الأمر بحمايته، ومراقبة سكناه، وحدوده من كل غريب قد يدخل أماكنه، وأملاكه، وذلك بفعل علاقة تاريخية عميقة ارتبطت بتطوير الإنسان لإجهزة دفاعاته، ومراقباته على أمنه التي حددتها شروط الشرور التي قد تأتي مع كل غريب!. فلدى قبائل ( الكواكيوتل) البدائية في الشمال الغربي الأمريكي يمثل الكلب الحيوان الأليف الوحيد حيث تعده ( بشرا مثلنا) والسبب في ذلك أنها ( تحفظ الأسرة، من السحر ومن هجمات الأعداء). وهذا مايقوله، وينقله عنهمم عالم الإناسة مارسيل موس في كتابه ( مقالة في الهبة ت محمد الحاج سالم). أما فيما يخص الثقافة العربية، فقد أطلقت عليه أسماء كثيرة هي بحسب أبي العلاء المعري ستين اسما، أما جلال الدين السيوطي فسيذكر له سبعين اسما في إرجوزته الغريبة التي يردُّ فيها على أبي العلاء المعري في حكاية تقول بأن المعري تعثر برجل أحدهم؛ فقال ذلك الشخص: من ذلك الكلب؟!. فرد عليه المعري قائلا: الكلب الذي لا يعرف بأن للكلب ستين اسما!. سينظم السيوطي بعد قرون من تلك الحادثة أرجوزة يتبرأ فيها من تهمة المعري هذه تحت عنوان:( التبري من معرة المعري). وسيذكر ضمن أسماء الكلب اسما موحيا، ولافتا وهو:( داعي الضمير) السابق الذكر. لهذا الاسم علاقة وثيقة بطقس الكرم في مواسم الشتاء. ومما يفهم منه أن العرب لم تستعمل الكلب كطارد لشرور الغرباء، بل استخدمته كداعٍ للضيوف الغرباء التائهين. وهذا مايرويه لنا في أبلغ توضيح ابن حمدون صاحب ( التذكرة الحمدونية) حين يقول في إحدى فقرات باب ( في السخاء والجود والبخل واللؤم) شارحا معنى ( داعي الضمير) وارتباطه بطقس اجتماعي يمارس في أوقات الشتاء حين يفقد الإنسان قدراته على الاهتداء، وتقل فيه الأطعمة، ولأن الرياح لا تبقي النار مشتعلة؛ فيهتدي على ضوئها الغرباء، لذا يحل مكانها:( داعي الضمير) الكلب الذي يقول عنه ابن حمدون:( كانت العرب تسمي الكلب داعي الضمير، وهادي الضمير، وداعي الكرم، ومتمم النعم، ومشيد الذكر، لِما يجلب من الأضياف بنباحه. والضمير: الضيف الغريب، من أضمرته البلاد إذا غيبته؛ وكانوا إذا اشتد البرد وهبت الرياح ولم تثبت النيران فرقوا الكلاب حوالي الحي وجعلوا لها مظال، وربطوها إلى العمد لتستوحش فتنبح فتهدي الضُلّال). ونجد ذات الخبر عند الإبشهي في كتابه( المستطرف في كل فن مستظرف في باب الجود والسخاء)؛ لكنه يختم الخبر بهذه العبارة:( وتأتي الأضياف على نباحه). هكذا يساهم الكلب في إتمام طقس الضيافة، فهنا تخبرنا وظيفته كداع للضمير بأن الكريم لا ينتظر قدوم الغرباء ليستضيفهم بل يعمل على دعوتهم، وإرشادهم إليه عبر داعي كرمه، الذي يتسبب بتشييد ذكره بين القبائل!. يحضر الكلب في مشهد الضيافة في كثير من شعر العرب، منها ما يرويه الألوسي في ( بلوغ الأرب ) لعتبة بن بجير المازني:

ومستنبحٍ بات الصدى يستتيهُهُ       إلى كل صوتٍ فهو في الرحل جانح

فقلت  لأهلي:   ما يُغام    مطيةٍ        وسارٍ    أضافته   الكلاب   النوابح

فقالوا: غريبٌ طارق  طوحت  به       متون الفيافي  والخطوبُ  الطوارح

فقمت ولم أجثِم مكاني ولم تقُم مع النفس عِلّاتُ البخيل الفواضح وناديت  شبلا فاستجاب  وربما       ضمنّا   قِرَى   عَشْر  لمن  لا  نصافح

فقام   أبو ضيفٍ   كريم     كأنه       وقد جَدّ  من   فرط   الفكاهة    مازح

 

 هذا الدور النبيل الذي يلعبه الكلب في طقس الضيافة يتبدل حين يصاب الكرام بالعسر، والضيق!. فيكون من طقوسهم في العسر ( نَقْب لَحْي الكلب ) بحسب رواية أبي سعيد الأندلسي في كتابه ( نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب ). فقد:( كانوا ينقبون لحي الكلب في السنة الصعبة لئلا يسمع الأضياف نُباحه ). هكذا كانوا يخجلون من ضيوف مشيد الذكر، فيمنعوه من النباح؛ لئلا يفضحهم عسرهم من عدم القيام بواجب الضيافة. ولحكاية العسر، والجدب حكاياته مع الكرم والضيافة. فعدا طقس الميسر الذي يقام في الشتاء؛ لأن الزاد يقل، فهناك كما تروي لنا التقاليد ( مطاعيم الريح ) كما تسميهم المدونة التراثية. فقد ارتبط جودهم بريح الصَّبا التي تدل على الجدب؛ فقد:( كانوا إذا هبت الصَّبا أطعموا الناس وخصوا الصبا لأنها لا تهب إلا في جدب )، كما يروي لنا الألوسي في ( بلوغ أربه).

وحين نتصفح أخبار العرب في المدونات نقع ضمن أخبار تقاليدهم الذائعة مايعرف بنيران العرب، منها نار الإياب، ونار الاستسقاء، ونار لها صلة بالضيافة، وهي أعظم النيران، وأجلها كما يصفها الرواة، حيث يسمونها:( نار القرى). والتسمية المرادفة عند بعض الرواة ( نار الضيافة ):( التي يوقدونها للإشعار بالعزة وجمع الأولياء.. ويوقدها الجواد الليل كله في ليالي الشتاء وغيرها ليستدل بها الأضياف ). كما يخبرنا أبو سعيد الأندلسي في ( نشوة طربه). لكن ماذا بشأن العميان في هذا الطقس؟. كيف يستدلون على منازل مضيفيهم؟!. مع ( نار القرى) لا يكتفي الأجواد بإشعالها بالخشب بل ( يوقدونها بالمندلى الرطب ) كما يروي الألوسي في ( بلوغ الأرب) :( وهو عطر ينسب إلى مندل وهو بلد من بلاد الهند ..مما يتبخر به؛ ليهتدي العميان ). هكذا على رائحة الطيوب يحل العميان ضيوفا. ومن هذا نتفهم إشارة هيرودوت في منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد في تاريخه ( تاريخ هيرودوت تر عبدالإله الملاح ) حين يصف بلاد العرب بقوله :( إن شذا البخور والطيب والعطور يفوح من بلاد العرب ). أنها روائح عطور ( نار الضيافة ) التي يشعلها العرب الأجواد في أنحاء الجزيرة، وعلى الأخص مرتفعاتها!.

 يدخل الإلتزام بحماية الغريب وضيافته في نطاق المقدس حيث يتم إبرام عقد اتفاق أمام الآلهة. فقد ( كان العرب القدماء يؤكدون عليه بحلف يمين في المعبد، ولا يتحلل المرء منه الإ بإجراء رسمي في نفس المكان المقدس حتى يتسنى للإله أن يسبغ حمايته على الغريب بنفسه). ( ديانة الساميين). وهذه الحماية لا تشترط تنازل الغريب عن ديانته كما يؤكد سميث؛ لكنه مع الأيام سيقبل بالاعتراف بإله الأرض التي قبل أهلها ان يعيش بينهم. فقد:( كان الإله أحيانا هو الحامي المباشر للغريب). وهذا ما تقوم به آلهة مكة، وإله شبوه سابيس حيث يحل الحجيج ضيوفا عليه، فيدخلون تحت حمايته بمجرد دخولهم حرمه، وتناولهم لطعامه. أما دوافع الحماية كما يؤكد سميث ماقلناه سابقا، فهو الخوف من الثأر لذلك فإن:( المعابد كانت تمنح حق اللجوء إليها طلبا للحماية). يستشهد سميث بشواهد نقشية لأحد المعابد الفينيقية بقوله:( في أحد النقوش الفينيقية التي تم اكتشافها قرب لارنكا نجد سجلا شهريا لأحوال معبد من المعابد ونعلم منه أن الغرباء كانوا يمثلون طبقة مستقلة ضمن طاقم خدام المعبد ). هذا الدخول في جيرة الإله يكتسب منه الغريب اسما يحمل في طياته قدسية لحرمته؛ كضيف كما يلاحظ سميث :(كانت العرب تطلق لقب ” جار الله” على من يقيم بجوار الكعبة). لقد احتفظ القرآن الكريم بهذا الإرث الخاص بإجارة الغريب الذي سيمثله بحسب لغة القرآن المشركين؛ فتقول الآية السادسة من سورة التوبة:( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون). وعلى الرغم من استنكار الآية التالية من أن يكون للمشركين عهدا عند الله بإجارتهم؛ إلا أنه يعطيهم ذلك الحق إذا تم عند البيت الحرام. تقول الآية السابعة:( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرم فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين). هذه الحماية التي تعهد الإله بتقديمها لضيوفه كانت الضرورة الإجتماعية التي استوجبتها هي منع التقاتل بين العرب، ووضع حد للثأر بينهم. فقد أخبرتنا المرويات العربية فيما يخص الثأر من أن العرب، وخصوصا فرسانها كانت من عادتها التقنع _ لبس القناع _ حين تحضر أسواق العرب المرتبطة بالطقوس، والمعابد الدينية؛ وذلك تخفيا من عيون من يتربص بثاراتها. وهذا مايرويه الجاحظ في بيانه على إثر دفاعه عن ارتداء العرب للقناع ضد السخرية الشعوبية من هذا السلوك. لذلك شُدد في التقاليد، وطقوس الحج على احترام التعهد بحماية الغريب!.

ترسم لنا أسطورة سهيل كظالم يعتدي على حقوق الغرباء ثم تحوله إلى إله شفوق ( لقد عبدته قبيلة طيء)، ورحيم بهم، حكاية العرب مع الغريب من كونه عدوا إلى أن أصبح مقدسا، ويكرم من قبل إله القبيلة ويعتني به، ويعطيه الأمان حتى يرجع لأهله، حيث عرف في التقاليد الدينية العربية عن الإله ( الفلس) أنه:( لا يأتيه خائف إلا أمن عنده). فضمن التقاليد، والأعراف التي يلتزمون بها وهي بمثابة العهود التي يصادق عليها الإله بمجرد أن يدخل الشخص في ضيافته وحمايته، ويرمز لها بأغصان الشجر الذي في حرم الإله. فكما يروي جواد علي في مفصله(ج٦):( أنهم كانوا يتقلدون من لحاء شجر مكة، فيقيم الرجل بمكانه، حتى إذا انقضت الأشهر الحرم فأراد أن يرجع إلى أهله قلد نفسه وناقته من لحاء الشجر فيأمن حتى يأتي أهله). وفي روايات أخرى يقول:( أنهم إذا خرجوا من بيوتهم يريدون الحج، تقلدوا من لحاء السمر، وإذا أرادوا العودة إلى ديارهم تقلدوا قلادة شعر، فلم يعرض لهم أحد بسوء). وذكروا أيضا:( أن الرجل منهم، كان يتقلد قلادة من لحاء شجرة من شجر الحرم، ثم يذهب حيث يشاء، فيأمن بذلك. وأن أهل مكة كانوا يفعلون ذلك في تجارتهم، فيضعون القلائد في أعناقهم وفي أعناق بهائمهم، فلا يعرض لهم أحد بسوء). ويعلق جواد علي على ذلك:( إذ كانوا يرون الوفاء بالميثاق عهدا في أعناقهم ودينا يلزمهم بالوفاء في أحكامه). هذا الميثاق بحسب التقاليد التي أشار لها سميث هي مواثيق تبرم مع الإله حيث يلتزم بتقديم الأمن لأضيافه، وعباده المؤمنيين به. ومما له دلالة هنا في اتخاذ الحجاج من حرم الإله غصنا من الأشجار المقدسة التي تكون في حرم بيت الإله حيث ترمز له؛ ليدل الآخرين بأنه في حماية الإله الذي حج إليه، وتكون بمثابة التميمة، وبالتالي فهو أحد رعاياه الغرباء الذين تكفل بأمنهم. لقد تعبد أنباط مدائن صالح لإله يسمى ( شيع القوم). وهو إله القوافل كما يشير جواد علي في (المفصلج٦) حيث يقوم هذا الإله بحماية القوافل، وتأمين السلامة لها. لقد كانت المدائن قبل الميلاد مزدهرة، وغنية بسبب تجارتها. من هنا جاء الترميز الأسطوري الذي يشير إلى سبب امحائهم، وانقراضهم بكونهم ارتكبوا جرما بحق ( النبي صالح) حين عقروا ناقته. لكن حكاية التاريخ أمر آخر!. فقد كان سبب انهيار تجارتهم قيام الإمبراطورية الرومانية التي دشنت مدن تجارية منافسة لها مما أضعفها، وتسبب في دماهرها بحيث كما يقول يارسولاف ستيتكيفتش في كتابه( العرب والغصن الذهبي) الذي يحلل فيه أسطورة ناقة صالح:( وبهذا الإنتقال تعرض الأساس الإقتصادي لثمود، أي توفيرهم الإبل في خدمة تجارة القوافل، إلى ما اعتبر صفعة شديدة، وبالتالي مدمرة بالكامل). هذا الإعتماد العميق على الإبل في تجارة الأنباط ارتبط عميقا بعبادة الإله( شيع القوم) إلاها للقوافل. فقد كان التجار بعد خروجهم من المدائن يحملون معهم مجسمات صغيرة لإله القوافل (شيع القوم) لتأمين الحماية، وهو بديل عن أغصان الأشجار كما مر. ونجد هذا الأمن المرتبط بالضيافة مستخدما عند العرب في ترحالهم، وأسفارهم التي عُرِفوا بها على مر التاريخ. فكانوا إذا نزلوا بواد موحش، ولكي يأمنوا سكنة الوادي من الجن بحسب اعتقادهم في الليالي الترحال الموحشة؛ فإنهم يستعيذون بهم بوصفهم أضيافا عند سيد الوادي من الجن. فترد في المدونات بحسب رواية الألوسي في ( بلوغ الأرب ) قول أحدهم:

قد بت ضيفا لعظيم الوادي      المانعي من سطوة الأعادي

                    راحلتي في جاره وزادي

 

ولمسافر آخر يقول مخاطبا جنيا كسيد للجن:

هيا صاحب الشجراء هل أنت مانعي      فإني ضيفٌ نازل بفنائكا

وإنك للجنّان في الأرض سيد        ومثلك آوى في الظلام الصعالكا

 

وندرك استمرارية طقس الضيافة المقدس المرتبط بحماية الإله للغرباء من التعابير التي مازالت تطلق على حجاج بيت الله بوصفهم( ضيوف الرحمن). وكذلك زوار المراقد المقدسة الشيعية في النجف، وكربلاء حيثم هم في ( جيرة أبي عبدالله الحسين) حيث يسبغ علهم الأمان كما تقول بعض الأدعية الموجهة للأولياء ( ماخاب من التجأ إليك)، ونلحظ في زيارة الحسين الأربعينية حضور طقوس الحج، والضيافة حيث يأتي الناس من شتى المدن، والبقاع، وتقدم للذين يأتون مشيا الأطعمة طوال الطرقات فيما يعرف ب( المضايف ) حتى وإن سميت المضايف بأسماء الأولياء؛ فإنها تقدم راعيها عبر تقديمه الأطعمة، والمشروبات ببذخ، وتميز للزوار بفخر، وترفع من شأنه!. ويتضح أن هذه المراقد حلت بديلا عن أماكن العبادة، والكنائس المنتشرة حتى أيام المناذرة في الحيرة الأقرب عهدا بالإسلام. فهذه الاستمرارية الطقوسية ليست غريبة على المكان الجغرافي الذي توجد به المراقد المقدسة في الجنوب العراقي، وذلك لكونه يحمل عمقا تاريخيا لهذا الخطاب الطقوسي. يقول لنا مثلا روبرتسن سميث في المرجع ذاته عن ( شعيرة الحج إلى مزارات بعيدة) بكونها ( سمة سائدة من سمات الوثنية المتأخرة. فكانت كل الجزيرة العربية تقريبا تلتقي بمكة، وكان مزار الحيرة يجذب الكثير من الزوار من مختلف أركان العالم السامي. وكان هؤلاء الحجيج هم ضيوف الإله، وكان يقوم على خدمتهم سكان البقاع المقدسة. وكانوا يتقربون إلى الإله كغرباء لا بنفس الثقة القديمة في الديانة القومية، بل بالتكفير وكبح الشهوات، وكان المعلمون المؤهلون، وهم أشبه بالمطوفين الحاليين، يعلمونهم مراسم العبادة بدقة شديدة). توضح لنا إشارة سميث هذه المجال الحضاري القديم لبعض المزارات المقدسة فيما يسميه العالم السامي الذي يمثل نطاقه الحضاري من الجزيرة العربية، والشام، والعراق، والتي تدخل في  ضمنها الحيرة في جنوب العراق مما يعرفنا بالاستمرارية الحضارية لهذه الطقوس مع ملاحظة تحولاتها عبر الزمن، وتبدل الرموز المقدسة. حين نعود لمكة لنرى ممارسة طقس ضيافة الرحمن، أو الله الذي كان تحت عبادة قبيلة قريش سنجد كيف كان الغريب يتطهر من الشرور حين يدخل في ضيافة الحرم المكي!؟. يخبرنا بعض المؤرخين العرب القدماء أن أول من تسمى بالحمس هم قريش. وهي عبادة طقوسية خاصة بقريش، وكما يفصل لنا ابن حبيب في( المنمق في أخبار قريش). فقد كانت قريش تفرض على الغرباء الذين وفدوا للحرم أن يكون لكل منهم شخص من قريش يبادله ملابسه حيث كانوا يمنعون من الحج بملابسهم؛ فإن لم يجد الشخص الغريب من يبادله ملابسه من قريش كان عليه أن يرمي ملابسه في الحرم، ويحج عاريا. وكانت الملابس تداس حتى تبلى وتسمى (اللُقى). إن المبادلة هنا تحمل في دلالتها الطقوسية دخول الغريب حياة الأمن وينزع عنه حمولاته الشريرة بكونه عدوا. وهو طقس بدائي كانت القبائل البدائية بحسب جيمس فريزر في ( الغصن الذهبي) تمارسه إذا اضطرت لاستقبال الغرباء حيث كانت بعضها تفرض على الغرباء نزع ملابسهم؛ فيقومون بإحراقها. بحيث تعمل هذه الممارسة الرمزية على نزع الشرور من الغرباء عبر الحرق الرمزي لشرورهم المتمثل في أرواحهم ( ملابسهم) القديمة ليتطهروا؛ وليصبحوا في النهاية آمنين كأفراد القبيلة. إضافة لذلك؛ ولكي يكونوا من أهل المكان كانوا يُمنعون من تناول طعامهم الذي جاؤوا بل، وتناول الطعام الذي يقدم لهم. وهذا هو المعنى الذي يمكن التقاطه من تبادل الملابس الذي يفرضه القريشيون على الداخلين الغرباء الراغبين في الحج لمكة ماقبل الإسلام. بينما نجد هذه الوظيفة الطقوسية في التوراة تتم عبر الدم من خلال فرض الاختتان على الغريب إذا أراد الاحتفال بعيد الرب. يقول سفر الخروج في الإصحاح الرابع:( وإذا عزم غريب مقيم بينكم أن يحتفل بفصح الرب فليُختن كُل ذكر من أهل بيته ثم يحتفل به فيكون آنئذ كمولود الأرض).

    لقد دخل العربي في لعبة تقديس مع الضيف الغريب _ ومازلنا نرى أثر تلك القداسة في الثقة شبه العمياء بالغريب في الخليج فيما يخص إدارة الأموال على سبيل المثال وذلك بوصف الغريب متمم النعم وحامل للخير التي تمثلها أسطورة يوسف _ فالبذخ في الكرم نحو الغريب والذي، وصِم بعد الإسلام بالإسراف يرمز إلى الرغبة في إغراق عين الغريب الضيف عن استحلال المحارم، إعماء لشروره، ومطامعه بسحر فضيلة الضيافة كما رأينا في كلمة الأحنف، ولا علاقة له بالتقييم الأخلاقي الذي بات ينظر له في الثقافة الإسلامية التي قيدت استعمال الثروة، والمال، ونظرت للكرم المبالغ فيه كإسراف. ومن ثم دليلا على التعدي على نعم الله، وبالتالي كنتيجة على زوال النعم، بينما هي في الممارسة العربية الطقوسية للكرم مجلبة للنعم، ومعززة للسيادة كما يقول المسعودي بحسب رواية الجاحظ في ( البيان والتبيين):

إن  الكرام      مناهبو         ك المجد كلهم فناهب

أخلف وأتلف، كل شي       ءٍ زعزعته الرّيح ذاهب

 

مما يجعلنا القول أن فكرة الإسراف جاءت لضبط التنازع على الشرف والزعامة بعد الإسلام؛ لأنها صارت ممثلة بالنبي، وبني هاشم، والخلفاء!. وهذا ما يلحظ من شبه اختفاء لطقوس الكرم بعد الإسلام، والذي تمثل في شكوى أبو حيان التوحيدي في ( امتاعه ومؤانسته). وكذلك تذمرات أبو الطيب المتنبي على الرغم من مدائحه لكرم سيف الدولة الذي يقول في إحدى قصائده:

أما في هذه الدنيا كريم         تزول به عن القلب الهموم

 فقد كان يرى بقايا الكرم في نفسه بل هو المال الذي يملكه!:

كفاني الذم أنني رجل      أكرم مال ملكته الكرم

 لقد صعد خطاب الإقتصاد أثناء الدولة العباسية مع الصدمة الشعوبية الذي كما يذكر التوحيدي في ( إمتاعه ومؤانسته) صار الرجل يُمتَدح على اقتصاده في ماله!. وهنا نشير إلى مواجة خطاب الكرم بهذا الخطاب عبر رسالة سهل بن هارون الفارسي الأصل حول البخل كما يرويها الجاحظ في كتابه ( البخلاء) حيث يمتدحه بوصفه علامة على العقل والتدبر، بينما الكرم فيه استهتار بالمال مما يعني عدم التدبر في صرفه، وبالتالي نقصان العقل!.

 إن ارتباط العرب بالأضياف الغرباء العميق يدعونا للتساؤل حول مقصده الطقوسي، وبعده الاجتماعي. فمن الملاحظ أن هذا الارتباط، أو هذه العلاقة توسم بالتقديس للضيف، بحيث تحول الغريب العدو إلى مُحتفى به في الثقافة العربية، وإن كانت لم تلغه في العمق، فيؤتمن على المال بثقة أكثر من القريب، ويوثق به أكثر من كل قريب، ويُعد سببا في الزيادة، والسيادة مثلما سنرى. نجد في في أسطورة يوسف كما يناقشها الباحث العراقي فاضل الربيعي في كتابه ( يوسف والبئر) معنى مثيولوجيا للغريب الجالب للنعم. فقد حل يوسف كغريب بعد أن انتشله غرباء من البئر على أرض مصر، حيث سينقذ مصر من مجاعة محتملة. وبعيدا من تحليل الربيعي لأسطورة يوسف باعتباره إله الخصب ( يسف)؛ فإن حكايته المثيلوجية كغريب يحل ببلد مقبل على مجاعة ويقوم بإنقاذها، ومن ثم يتوجه الملك وزيرا، ومسؤولا عن الدولة توضح لنا السر العميق لتلك الأهمية المقدسة للغريب الضيف في الثقافة العربية بحيث نرى في إطلاق تسمية ( متمم النعم) على الكلب؛ لأنه يتسبب بدعوة الأضياف الغرباء؛ ليحلوا ضيوفا معنى رمزيا يرتبط بالاسطورة. فالعبارة هنا تشير إلى كون هذا الغريب الضيف سيتسبب في اتمام نعم المُضِيف بحيث سيشيد من ذكره، فالتسمية الأخرى للكلب بأنه( مشيد الذكر) هي إحالة على الضيف أيضا، فالضيف هو من سيتسبب بالنماء للمُكْرِم ويشيد بصنيعه بين الناس.

يروي لنا الجاحظ في ( البيان والتبيين ) بيتا لابن هرمة يبين قوة العلاقة بين الكلب، والضيف حيث يتصوره يحادث الضيف من حبه له يقول ابن هرمة:

تراه إذا ما أبصر الضيف كلبُهُ         يكلِّمُهُ من حُبه وهو أعجمُ

نتساءل هنا : كيف يتسبب إكرام الضيف عبر إشراكه في الطعام باتمام النعم؟!. يعمل طقس الكرم على ازاحة شرور القتل، والنهب القسري لأموال، وخيرات المُكرِم كما تمت الإشارة، وكذلك وهنا الهدف الأعمق ربما منع عين الغريب من التمني، والرغبة بما لدى الآخر من خيرات. فقد جاء في الأثر كما يذكر الجاحظ في بيانه:( حصنوا أموالكم بالزكاة…).

 إن فعل التحصين يتسلل من الحذر بزواله بيد الغرباء الجياع من هنا يستبدل فعل العطاء الطقسي المرتبط بالضيافة، والميسر والقداح بضريبة الزكاة بعد الإسلام  كي يأمن الميسورون على أموالهم حيث اعتبرت الزكاة فعل مباركة للمال مما تعمل على زيادته ونمائه. لقد ترسخ في الذاكرة البشرية علاقة الغرباء بالنهب، والقتل والحرق، وسلب الخيرات، وهذا ما تلحظه الدراسة القصيرة التي قامت بها مارلين نصر حول ظهور مفردة الغريب والغرباء مع قيام الحرب الأهلية اللبنانية في القرن العشرين، ودورهم في اشعالها، والتي تعنونها: ( الغرباء: خطاب لبنانيين عن الحرب الأهلية). فقبل الحرب كما تقول الباحثة كان اللبنانيون يسمون العرب الذين يعيشون بينهم بانتماءاتهم كالفسطينيين، والسوريين. أما بعد الحرب، فظهرت كلمة ( الغرباء) حتى في خطاب السياسيين اللبنانيين بمختلف انتماءاتهم. فظهور مفردة ( الغرباء) تستحضر أسطورة الغريب الحامل للشر، فتحمله مسؤولية الشرور التي يتعرض لها. لذلك نجد من يدخل في الضيافة يصبح كالأهل حرام هتكه، وبالتالي يكون المُضيف مكتسبا للحرمة بل يتحول إلى شخص مهيب، ومبجل في عين الضيف. ولعل كلمة الأحنف بن قيس تعطي دلالتها الواضحة هنا حيث يقول:( إن الكرم منعُ الحُرَم) _ عن ديوان النثر العربي لأدونيس _ والحرم كما يشرح لسان العرب لابن منظور هم الأهل والأقرباء، فالذي يفهم من قول الأحنف أن الكرم كطقس يعمل على حماية الأهل من شرور الغرباء حيث يمنع عنهم عين الغريب المسمومة كما ترسخت في الذاكرة الثقافية، ويكسرها. وتتضح الفكرة أكثر فيما يرويه ابن حمدون في تذكرته عن علي بن أبي طالب حيث يقول:( الجود حارس الأعراض). من هنا تحمل حكاية بُكَير بن الأخنس مغزاها في تبين كيف يتحول الغريب واحدا من الأهل حين استظافه آل المهلب الذين كانوا مضرب المثل في الكرم. يقول بكير:

نزلت على   آل المهلب    شاتيا        فقيرا بعيدَ الدار في سنة مَحْلِ

فما زال بي إلطافهم وافتقادهم        وإكرامهم حتى حسبتهم أهلي

هكذا يعيد الكرم أنسنة الغربة بين الغريب، والمضيف، ويتحول الحذر والخوف فيما بينهما إلى قرابة سيتوجب على الغريب حفظها، وإشاعتها بين الناس. ويكون الكرم عاملا في تشييد الذكر، وتعزيز الهيبة بين الناس. فقد قيل لقيس بن عاصم بحسب رواية الجاحظ في ( البيان والتبيين)، وهو خبر يرد في( التذكرة الحمدونية) لابن حمدون أيضا: (بم سُدت قومك؟. قال: ببذل الندى،وكف الأذى، ونصر المولى). جاعلا أولى مراتب السيادة الكرم. وقد عبر بيت شعري لامرئ القيس عما يفعله الكرم بصاحبه حيث يسود ويقود، كما يقول بيت امرئ القيس الذي يرويه الجاحظ في ( البيان والتبيين) عن خلف الأحمر:

أفاد وجاد وساد وزاد        وقاد وذاد وعاد وأفضل

 

وتحتفظ المدونات التراثية بأدب عامر حول الجود، وإكرام الضيف، وأخبار من يعرف في التراث ب( أجواد العرب). ولما لهذه الظاهرة من مكانة اجتماعية تعمل على حفظ الأمن، و( منع الحُرم) كما يقول الأحنف بن قيس، وإكساب الشرف، وتشييد الذكر مثلما هي ماثلة في واحدة من مُسمّيات الكلب، فقد سُنَّت حقوق للغريب، يمنع هتكها والتفريط بها. ويُذكّر بها الولاة كما نقرأ في إحدى رسائل الخليفة عمر بن الخطاب إلى معاوية، ويقال كما يذكر المحقق لكتاب ( البيان والتبيين) عبدالسلام هارون أنها موجهة لأبي موسى الأشعري حين كان واليا على البصرة حيث يوصيه عمر بقوله:( وتعهد الغريب، فإنك إن لم تتعهده ترك حقه، ورجع إلى أهله؛ وإنما ضيع حقه من لم يرفُق به). واحترام الغريب ترد كوصية في التوراة حيث جاء في سفر اللاويين: ( وإذا نزل عندك غريب في أرضكم فلا تظلموه. كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم، وتحبه كنفسك، لأنكم كنتم غرباء). فمن حقوق الضيف كما تسجل لنا كتب التراث أن يستقبل بالبِشر، والإستئناس بالحديث، فهو أول القِرى حيث الحديث يزيل مؤونة الغُربة، ويدخل الغريب في راحة القلب، كما يخبرنا الجاحظ في بيانه وتبيينه من أن:( العرب تجعل الحديث، والبسط، والتأنيس والتلقي بالبِشر، من حقوق القِرى ومن تمام الإكرام به. وقالوا:” من تمام الضيافة الطلاقة عند أول وهلة، وإطالة الحديث عند المواكلة”). ونلمح هذه المعاني في قول عروة بن الورد:

سَلِي الجائع الغرثان يا أم منذر    إذا ما أتاني  بين ناري ومجزري

هل أبسط وجهي أنه أول القرى    وأبذل معروفي له دون    مُنكَري

ويقول في أبيات أخرى:

لحافي لحاف الضيف والبيت بيته      ولم يلهني   عنه  غزال  مقنّعُ

أحدثه   إن الحديث       من القرى      وتعلم نفسي أنه سوف يهجعُ

وفي أبيات للخريمي يوضح لنا أصول طقوس ضيافته يقول فيها:

أضاحك   ضيفي     قبل   إنزال رحله     ويخصب عندي والمحل جديبُ

وما الخِصب للأضياف أن يكثر القِرى     ولكنما  وجه  الكريم  خصيب

هذه الطقوس تجعل من تضييع حق الغريب في الضيافة، وعدم مساعدته على محنه أن يتبعه الإذلال للمضيف عبر ذاكرة الأحاديث التي تدون سوء فعلته، وتعييره بالبخل، وبالتالي قد تترك الشخص بلا حماية رمزية من العداء، والتي يضمنها طقس ( ضيافة الغريب). من هنا تختزن الثقافة العربية المحاذير من التلطخ بوصمة عار التمنع عن الضيافة. لذا تقول لنا حكاية عدي بن حاتم الطائي، وهو ابن من اشتهر بغرائب كرمه مع ابنه كما يرويها الجاحظ في بيانه:(قال عدي بن حاتم لابن له: قم بالباب فامنع من لا تعرف، وأذن لمن تعرف. فقال: لا والله، لا يكوننّ أول شيء وليته من أمر الدنيا منع قوم من طعام). وفي حكاية يرويها التنوخي في( المستجاد من فعلات الأجواد) عن حاتم الطائي أنه نزل على غلام من طيء، وكان يتيما؛ فقام بذبح رأس من غنمه، وقدمه لحاتم. وقد استطاب حاتم الدماغ، فعمل الغلام على ذبح كل ما لديه من غنم ليقدم أدمغتها لحاتم، وحين هم بالذهاب تنبه لكثرة الزماء حول البيت فقال له حاتم: (لم فعلت ذلك؟ فقال ياسبحان الله تستطيب شيئا أملكه فأبخل عليك به، إن ذلك لسبة على العرب قبيحة..). وفي أبيات ينسبها التبريزي في شرحه للحماسة، كما ينوه عبدالسلام هارون محقق ( البيان والتبيين) بينما يذكرها الجاحظ في بيانه بلا سند، حيث تشير لمخاوف الأحاديث، يقول الشاعر مخاطبا زوجته:

أيا ابنة عبدالله  وابنة    مالك       ويا ابنة  ذي البُردين    والفرس الورد

إذا ماعملت الزاد فالتمسي له       أكيلا   فإني    غير   آكله       وحدي

كريما قصيا أو قريبا   فإنني       أخاف مذمات الأحاديث  من     بعدي

وكيف يسيغ المرء زادا  وجاره       خفيف المِعي بادي الخصاصة والجهد

إن دور الكرم، والهبات كطقوس تطهير، وسلطة على الآخر كانت منذ القدم ماثلة في حياة الإنسان القديم التي ظهرت كنتيجة لتطور العلاقة مع الغريب المتمثل بالشر دائما. وهذا مايشير له مارسيل موس في ( مقالة في الهبة) عن دور الهبة في المجتمعات القديمة التي درس طقوس الهبات فيها مبينا كيف أن الذي يأخذ الهبة يصاب بالإذلال، بحيث يجد نفسه مطالبا بردها مضاعفة؛ ليسترد هيبته، ويعلو صيته ويكسر عين الذي أعطاه الهبة!. هكذا رمّز الإنسان منذ القدم الصراع على الخيرات مع الغرباء في حروب رمزية عبر التباري، والتنفاس طقسيا للحظوة بالمجد، والهيبة بين القبائل من خلال العطاء اللامحدود!. وهو ذاته مانجده في حكايات تبادل الهبات بين القبائل حيث يتلف ويهب المُهدي كل ما لديه من ممتلكات ثمينة، لتكون حديث الألسن، وكما يروي موس؛ فإن أفراد القبيلة يقومون بمساعدته في جمع مدخراتهم؛ لأنهم معنيون بالسمعة التي سيحققها عبر الهبة. وهذا ما كان قصي، وهاشم يقومان به حين تدفع قريش من أموالها في كل موسم لهما ليقوما بواجب الضيافة، فهما يمارسان وظيفة كهان معبد الإله سابيس حين يأخذون عشر البخور من أجل اتمام طقس ضيافة حجيج الإله. يستمر تبادل الهبات بين القبائل دون توقف؛ فالذي يأخذ الهبة عليه واجب الانتقام الرمزي بردها بأفضل منها؛ ليستعيد ماء قلبه بين القبائل، ويعلو شأنه بينهم. وهذي كانت المنافع التي يقول الأزرقي ان القرشيين ينتظرونها حين يقدمون الطعام لأضيافهم الغرباء، وعبر هذا كان هاشم وبنوه!. الذي ستروي المدونة العربية سيرة شرفه في بنيه بما لم ينله أحد قبله كما سنقرأ إحدى ذرى هذه المفاخر في رواية أبي منصور الثعالبي في كتابه ( ثمار القلوب ) حين يتحدث عن ( أهل الله ) : ( قريش روح وبنو هاشم سِرها ولبها، موضع غاية الدين والدنيا منها. وبنو هاشم ملح الأرض، وزينة الدنيا، وحلي العالم، والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كل جوهر كريم، وسرِّ كل عنصر شريف؛ والطينة البيضاء، والمَغرِسُ المبارك، والنِّصاب الوثيق، ومعدن الفهم، وينبوع العلم، وثهلان ذو الهضبات في الحلم، والسيف الحسام في العزم، مع الأناة والحزم، والصفح عن الجُرم، والقصد عند المعرفة، والعفو عند المقدرة، وهم الأنف المتقدم، والسنام الأكوم، والعزم المُشمَخِر، والصيانة والسر؛ وكالماء الذي لا يُنجسه شيء، وكالشمس لا تخفى بكل مكان، وكالنجم للحيران، والبارد للظمآن).