مجلة حكمة
صورة أمنا البيضاء عند الصينيين

صورة أمُنا البيضاء تجلس على طاولة رجال صينين – جنيفر تسينج / ترجمة: يحيى الشريف


إنه الليل . الستائر منسدلة، مما منحت الغرفة منظرا ً خانقا ً. يرتدي جميع الرجال ملابس باللون البني أو الأسود، مع الأبيض. وترتدي أمُنا اللون الأزرق، وكلاٍ منهما مكملا ً لفاكهة البرتقال على الطاولة واللون الذي اعتقدت كطفلة بأنه اللون مخصص للأشخاص ذوي البشرة البيضاء. فعندما سُئلت ما اللون المفضل، قال معظم الأطفال ذوي البشرة البيضاء “اللون الأزرق”. فاللون المفضل لأمُنا أيضاً.  لوني المفضل الأحمر، لون السعادة الصيني.

يطابق الرجال الغرفة ومظهرها الدائم وديكورها، فبينما تبرز أمُنا والبرتقال مثل أشياء أتت من الخارج ; أشياء مثل الواردات أو المهاجرين، جاءت من مكان آخر.  بالرغم أن إنسجام البرتقالات مع الكراسي البرتقالية، وإحدى ياقات قمصان الرجال، والدهان على الجدران، إلا أن أمُنا كانت الوحيدة باللون الأزرق.

ألتُقطت هذه الصورة عندما كان عمري  ثلاثة عشر عاماً، تعتريني دوما ً مشاعر مختلطة. قضيت معظم طفولتي أراقب الطرق حيث عشنا في مدينة البيض الذين يتحدثون اللغة الإنجليزية في الغالب والتي لا ينتمي لها أبانا الصيني. فكانت الحفلات الصينية (تحت رعاية جمعية صينية صغيرة حيث كان والدنا رئيساً لها )، المكان الوحيد حيث يمكن أبانا يتحدث لغته الأم والمكان الذي  يُصيب أمُنا عادة  بالبؤس. كانت خجولة . وترهبها تلك الحفلات.  ما يعني أنهم يتخطون منطقة راحتها .

يتخطى أبانا منطقة راحته كل يوم. كان يتحرك  من خلال شوارع مدينتنا كاليفورنيا بسبب أنه ينبغي عليه أن ينجو. تتحدث أمُنا نسبياً، وكان لديها خيار مترف عندما (أو سواء ) كي تخطو خارجاً  منطقة راحتها إلى داخل كل- الأوضاع الصينية . ولكن منزلنا – حيث منطقة الراحة الأساسية لأغلب للناس – كان المكان حيث شعرت بعدم الراحة بوضوح. تحت مظلة قاعدة أبانا الصارمة، عاشت في قلق دائم . إذ كان الوضع معقداً.

كان بيدها كأساً. فعندما يتعلق الأمر بالشرب، كان آباؤنا فُضَلاءُ. بقدر ما هذه الفضيلة بالنسبة أبانا أن توفر المال كما هي المحافظة على الرزانة . في مناسباتنا الخاصة، يتقاسمن الجعة. كانت أمُنا دوماً محبة للنبيذ وبعد طلاقهما، أضحت شخصاً لديها كأساً من النبيذ أو الجعة في العشاء. ففي الصورة، عندما أرى يدها تلمس الكأس، أتساءل لو هي سعيدة للحصول على قليل من شئ ما لتخفف من وطأة المساء. فقد تكون فرصتها للحصول على كأس من النبيذ أو ربما جعة كاملة لنفسها. لا أحد من الرجال ينظر إليها . ينصب اهتمامهم بمكان أخر. الكرسي بجانبها فارغ، الشئ الحي الأقرب لها هي النبتة، . النباتات إحدى أعظم الأشياء التي تحبها . كانت تحلم بدراسة تخصص  فن زراعة نباتات الزينة ولكن أقنعها أبانا بتخصص علم الأحياء المجهري. فهو الوحيد الذي أرسلها إلى الكلية، إذ لست متأكدة بأن كان لها خيار .

ولقد جُعل مني وجود الوالدين بأن أكون حذرة تماماً من التداخل في فترات العمر المبكرة. بحثت على كتب لا تحصى عن التمثيل الديناميكي للسلطة المعقدة بينهم، لم أجد واحدة حتى صادفت كتاب العاشق لمارغريت دوراس. ففي مشهد المطعم الصيني في كتاب العاشق واحدة من عدة مشاهد التي لاحظتها بسهولة. فمثل صورة أمنا في الحفل الصيني، المشهد هوعبارة عن عدة مشاهد قولبت إلى واحدة، كحالة تحدث مرارا وتكرارا. ففي رواية دوراس العاشق الصيني الذي  جلس على المائدة مع أسرتها البيضاء التي” يبدون متشابهين بشكل لافت، وخصوصاً  الوجه “. لا أحد ينظر إليه أو يتحدث معه.  المرة الوحيد التي التفتوا اتجاهه هي اللحظة التي يدفع فيها الفاتورة  .

يقوم بالدفع . يحسب المال.يضعها على صحن الفنجان. الكل يشاهد، أتذكر في أول مرة، أنه وضع سبعة وسبعون قرشاً. دوت صرخة عالية من أمي مع ضحكة .همّمنا بالمغادرة.  لا أحد يقول شكراً لك. لا أحد يقول في أي وقت مضى  شكراً  لك على العشاء اللذيذ. أو مرحباً ، أو مع السلامة ، أو كيف حالك، لم يقل أحد في أي وقت مضى أي شئ إلى أي شخص.

يدفع العاشق للأشقاء دوراس  من أجل ” اتخام أنفسهم،” يدفع لأجل أن يكون مهاناً. أنه فاحش الثراء. تسمح أمواله بأن تزدهر علاقتهما، كي تحدث في المقام الأول. فلو  كان فقيراً، وقد لا تؤهله صينيته.  وقد لا يكون  هناك أبداً في سيارته السوداء عند العّبارة .

قد لا يعرف الفرنسية، وقد لا يمكن التحدث إليها. فبدون ماله،قد لا تتحمله أسرتها. “هذا لانه صيني، ولأنه ليس رجلاً أبيضاً “وبالرغم كراهيتهم لصينيته، إذ مُنح وضعهم المالي غير مستقر، وبماله ما يجعل طرده صعباً إن لم يكن مستحيلاً.

في الصورة، أمُنا إنعكاس لرواية دوراس العاشق. أنها بيضاء ولكن  دون مال.  ضربة أخرى ضدها: أنها إمراة. كان أبانا يحتقر “النساء الأمريكيات “خصوصا ً الذي يعنيه النساء البيض. كان يتذمر بأنهن سمينات، وكسولات، وقذرات، واصواتهن عالية- لم يذكر أبدا في نفس الوقت بأنه متزوج إمراة أمريكية التي كانت نحيفة ،ومجتهدة ، ونظيفة ، وهادئة .

نتكهّن أنا وأختي على هوية المصور . الذي تمرنت عيناه على أمُنا، إذا لم تكن على أعين الرجال في الطاولة؟ فمن يستنبط تلك الابتسامة الباهتة ؟ تخترق هذه الابتسامة كشئ هام في محيط تعاستها المألوفة في الحفل الصيني. هل هي ابتسامة صادقة  أو تلك الابتسامة التي تحجب مشاعرها الحقيقية؟

تتساءل مي لو ألُتقط أبانا الصورة . إذا كانت الابتسامة الباهتة له، والمقعد الفارغ بجانبها، يكون له. تجرني هذه الإحتمالات، بالرغم أن من العسير أن أتخيل أمُنا تبتسم حتى ابتسامة باهتة له. جزئيا ًبسبب هذا، وجزيئاً بسبب التاريخ المدموغ بشكل غريب في خلف الصورة. أتخيل شخصا ً ما آخر مقارنة بأبانا . تبدو أنها من المرجح  تبتسم للغرباء من باب الكياسة، بالنسبة لي، أعظم بكثير.

عندما تكون المرأة غير سعيدة في علاقتها، أحيانا ملاذها الوحيد قوتها لكبح ابتسامتها. يعول الضعفاء غالباً على الغياب أو الإحتياج كنماذج من العنف الكامن أو السلوك. تعتبر رفض الابتسامة يمثل المقاومة السلبية. ومع ذلك، ربما كان أبانا هو المصور. فهذا يترك المجال للإحتمال، ففي اللحظة التي تُفتح أو تُغلق مصراع النافذة، مازال إثارة الحب موجودة بينهم، إنها جزء مني وهذا ما ترغب طفلتهم أن تؤمن به. لا يرغب طفل أن يعتقد أنه أنُجب للكراهية. أن تلد للحب هي الولادة مع القدرة على الحب. إنه الإرث الوحيد فهذا ما يُهم. مهما يكن من ينظر إليها، مهما يكن من تبتسم إليه أمُنا، تشير الصورة أنها مثل الغريب. الصورة أحد الدلائل، أنها اجتازت عالمها إلى داخل عالم أبانا .كلا، كما في حالة أبانا ،كان عليها – أن تنشأ في الجهة الجنوبية من شيكاغو، وكانت محاطة بناس مثلها: ذوو البشرة البيضاء ( والسوداء)،الطبقة العاملة، الناطقين باللغة الإنجليزية .فلم يكن أبانا ثريا ً. شئ ما أكثر من ضرورة إجبارها. وكان يمكنها أن تتزوج عامل محطة الوقود الذي تحدثت عنه  بولع (شخص ما لم تعد تتذكره). انغمسنا  أنا وأختي حلما ً في رجل محطة الوقود، وكذلك الحلم بأب أبيض البشرة لكلينا، زوج أبيض لها. شخص ما فقير لكنه محب، معسول اللسان، شخص ما نقيض لأبانا. قلّما نتوقف كأطفال لنتأمل في رجل أحلامنا الأبيض وقد يكون أبانا، لأضحينا منقطعين عن الوجود .أنه كان اتحاد تمييزي من قِبل آبائنا -بقوة المتباينة ومحيّرة، و بثقافة سائدة، و حساسة، وكثير من سوء الفهم اللغوي، نُقحم في أي عالم، فقبل سنة فقط كان الممكن أن يكون الزواج غير قانوني- ولقد ولدنا من رحم حبهم المعقد والعسير وسوف لا نكون غير ذلك.

طاولة الرجال في حفل الصيني متكافئة للطاولة قبطان على متن سفينة سياحية. عندما أفكر فيها بهذه الطريقة يمكنني ببساطة أن أتخيل أبانا يلتقط الصورة . كان لديه حس فكاهي ومن المؤكد سوف يجد حضور أمُنا على هذه الطاولة مضحكاً وساخراً. كما تعلمت من رواية طاولة القطة لمايكل أونداتجي، الذي يعد نفسه نتيجة اتحاد آسيوي أوروبي (هولندي،سنهالي،تاميل)، على السفينة وطاولة القطة هي الأكثر بعداً عن طاولة القبطان. ففي المنزل، جلسنا نحن الأربعة حول مائدة العشاء. تناولنا العشاء على طاولة النزهة، قُمنا بجلبها إلى الخارج عندما كان الطقس دافئاً. منحت الغرفة مظهراً ريفياً، و مؤقتا ً. مثل طاولة تملكها عائلة بدوية، كانت تتحرك باستمرار ذهاباً وإياباً بين غرفة العائلة وفناء الخلفي. في حال كان البيت سفينة، إذ كانت الطاولة مائدة القبطان عندما يكون أبانا حاضراً، ففي حالة غيابه، أضحت طاولة القطة. كانت القطط شئ ُُ أخر عن أمريكا التي يكرهها.

واجه أبانا التلفزيون; وتلفت انتباهه خلال كل وجبة. ففي بعض المناسبات جلسنا أنا وأختي وظهورنا مقابلها. نستدير للوهلة  لنشاهدها، ولكن كان البرنامج دوماً عن الأخبار عالمية، والتي نجدها مملة. عوضا ً عن ذلك، كنا نراقبه  يُتخم نفسه بالطعام الصيني، حيث قامت بطبخه أمُنا له. أجُبرنا أن نشاهد ذلك أكثر بكثير، شئ لم نتمكن مشاهدتها مرة أخرى في أي مكان، ولكن على طاولة عشاءنا ولا حتى على شاشات التلفزيون .

جلست أمُنا مقابل صف من النوافذ في الفناء الخلفي. كان يغطي عتبات النوافذ نباتاتها بأعشاب البغونية، وأزهار البنفسج، ونباتات عُصارية – التي تُسقيها كل صباح بينما نحن نيام. إذا لم نجلس أنا وأختي أمامها فمن الممكن أن يكون لها رؤية واضحة لنشرة الأخبار العالمية. كما كان، قضت معظم وقتها تنظر من النوافذ، كما لو كانت تنتظر نهاية نشرة الأخبار، والعشاء، والمساء، و حياتها. بالرغم أنه أتخم نفسه بجانبها، لم تنظر إلى أبانا أو تتحدث معه.

بقدر ما تعود بنا الذاكرة إلى الوراء، يمكنني أن اتذكر، أنها كرهته، من المحتمل ذلك و لماذا هذه الصورة تجول في ذاكرتي  كثيراً جداً. فلا يمكنني أن أنظر إلى الصورة ولا أعتقد أنها أحبته أبدا. فتاة بيضاء وخجولة، وعذبة اللسان من الجهة الجنوبية من شيكاغو، ولدت عام 1947 م، فلم ترتبك بالذات في مثل هذه صوره. لا تختلف المسافة بين المكانين عن المسافة بين الولايات المتحدة والصين، عبرت ذلك البحر دون معرفة كم مدة التي تستغرقها الرحلة، أو كم تبدو الرحلة شاقة.


 جنيفر تسينج كاتبة خيالية وشاعرة حاصلة على جائزة، تؤمن بقوة كونديمان* إلى الأبد .تعيش في مارثا فينيارد. 

كونديمان هي منظمة غير ربحية وطنية مكرسة لرعاية الأجيال من كتاب وقراء الأدب الأمريكي الآسيوي.

المصدر