مجلة حكمة
رسالة إلى ابن أخي - جيمس بالدوين

رسالة إلى ابن أخي – جيمس بالدوين / ترجمة: العنود سعد


 

عزيزي جيمس:

     شَرَعْتُ في كتابة هذه الرسالة خمس مرّات، ومزّقتُها خمس مرّات. لا ينفك وجهك يتراءى لي، والذي أرى فيه وجه أبيك وأخي أيضًا. لقد عرفتكما طوال حياتكما. حَمَلْتُ أباك بين ذراعيّ وعلى كتفي، قَبّلتُه وضربته، وشاهدته يتعلّم المشيّ. لا أدري لو عَرِفْتَ أحداً منذ هذا القِدَم، لو أحْبَبْتَ أحدًا لمثل هذه المدّة الطويلة، من يومِ كان رضيعاً فصبياً فرجلاً. تراك تكتسب نظرةً غريبة حول الزمن وآلامِ الإنسان ومتاعبه.

     لا تسع الناس رؤية ما أبصره كلّما نظرت إلى وجه أبيك، فخلف وجهه كما هو اليوم تختبئ جميع الوجوه التي سايرته. يَضْحَكُ فأرى قبوًا لا يتذكره أبوك، وبيتًا نسيه، وأسمع في ضحكته الآنية ضحكات طفولته، ويشتم فأتذكر سقوطه من سلّم القبو وعويله، وأتذكر بألمٍ دموعه التي كانت تمسحها يدي أو يد جدّتك بكل يُسرٍ، ولكن ما من يدٍ يمكنها أن تمسح ما يذرفه اليومَ من دمعٍ خفيٍ يسمعه المرء في ضحكته وكلامه وأغانيه.

     أعلم ما صَنَع العالَم بأخي، وكيف نجا منه بصعوبة، كما أعلَمُ الجريرةَ التي تفوق ما اقترفه في حقّه سوءًا، وهي ما أتّهم به بلدي وأبناءه، والتي لن أغفرها، ولن يعفو عليها الزمن ولا التاريخ أبدًا، ذلك أنّهم دمّروا وما زالوا يدمرون حياة مئات الآلاف بغير علمٍ وبلا رغبةٍ في معرفة الأمر. قد يكون المرءُ قويًا ومتأملًا في ما يتعلق بالخراب والموت، بل عليه أن يجتهد ليكون كذلك، فهذان ما يُجيدهما معظم البشر، ومشاهدتنا للحروب خير مثال، وتذكّر أنني قلت معظم البشر لا جميعهم، إنّما ليس من الجائز وصف صانعي الخراب بالبراءة، إنّها البراءة التي تخلق الجريمة.

     لقد جعلك هؤلاء الناس الأبرياء الذين لا يضمرون سوءًا، أبناءُ بلدك يا سميّي العزيز، تولد في ظروفٍ لا تختلف عمّا وصفه لنا تشارلز ديكنز عن حالِ لندن قبل ما ينيف عن مئة عام. أكاد أَسْمَعُ الأبرياء يصرخون بصوتٍ واحدٍ: “لا! ليس صحيحًا! يا لقسوتك!”، لكنني أكتب إليك هذه الرسالة لأريك كيف تتصرّف معهم، فما زال معظمهم في حقيقة الأمر يجهل وجودك. أعرف في أيّ ظروفٍ ولدتَ لأنني كنت حاضرًا فيمَا كان أبناء بلدك غائبين، والذين لم يحضروا حتّى اليوم. كما كانت جدّتك حاضرةً كذلك، وهي التي لم يتّهمها أحدٌ بالقسوة قط، لذا أقترح أن يراجعها الأبرياء، فليس صعبًا العثور عليها، لكنّ أبناء بلدك يجهلون وجودها أيضًا مع أنّها عملت لهم طوال حياتهم.

     وُلدتَ، وبزغتَ إلى الحياة، قبل نحو خمسة عشر عامًا، ومع أنّه كان لأبيك وأمك وجدّتك وهم يطالعون الشوارع التي حملوك فيها، ويطيلون النظر في الجدران التي ربّوك بينها، كلّ العذر لأن تقسى قلوبهم، لكنها لم تقسُ. فهَا أنت هنا يا جيمس الضخم، سُمّيت باسمي، وكنت طفلًا جَسِيمًا على خلافي. أنتَ هنا لتُحَبّ، لتُغمر يا عزيزي بحبٍ شديدٍ أبدي يحصنّك من العالم الذي يعدم الحبّ. تذكّر ذلك. أعلم كم يبدو اليومُ أسودًا في نظرك، لقد كان أسودًا حينذاك أيضًا. نعم كنّا نرتعد، وما زلنا نرتعد، ولكن لولا أن أحببنا بعضنا البعض لما نجا أحدٌ منّا، والآن لا بدّ أن تنجو لأننا نحبّك، ومن أجلِ أبنائك وأحفادك.

     لقد زجّ بك هذا البلد البريء في مَعْزِلٍ لأنّه، في واقع الأمر، يقصد أن تختفي فيه. دعني أبيّن لك ما أعنيه بدقّة لأنّ هذا هو جوهر المسألة وأصل خلافي مع أبناء بلدي. لقد وُلدتَ حيث وُلدتَ ومررت بالمستقبل الذي مررت به لأنّك أسودٌ لا غير، فقد سلف تحديد سقف طموحك، وُلدتَ في مجتمعٍ يوضّح بجلاءٍ مرّ وبشتّى الوسائل الممكنة أنّك إنسان بلا قيمة، لا يجوز لك أن تصبو إلى المعالي، بل عليك أن تَقْنع بالبسيط. كما لُقِّنتَ، حيثما وليّت وجهك في حياتك القصيرة على وجه الأرض يا جيمس، أين يمكنك أن تذهب، وما تستطيع فعله، وكيف تفعله، وأين تعيش، وبمن تتزوج.

     أعلم أنّ أبناء بلدك لا يوافقونني الرأي على هذا، وأسمعهم يقولون: “إنّك تبالغ.” يجهلون هارلم وأعرفها وتعرفها. لا تُقِمْ وزنًا لكلام الناس، ولا حتّى لكلماتي، ولكن ثِقْ بخبرتك. اعْلَمْ من أين أتيت، لأنّك إذا علمت أصلك فلن يحدّ مبلغك أيّ حد. لقد رُسِمَت تفاصيل حياتك ورمزياتها بعنايةٍ لينطلي عليك ما يقوله البيض عنك، أرجوك حاول ألّا تنسى أنّ ما يؤمنون به، وما يصنعونه، وما يجرونه عليك من ويلات لا يدل على دونيّتك بل يشهد على انعدام إنسانيتهم وجبنهم.

     عزيزي جيمس، أرجو أن تحافظ على نفسك في خضمّ هذه العاصفة التي تمور اليوم حول رأسك الشابّ عن الحقيقة وراء كلمتي “قبول” و”دمج”. ما من سببٍ تحاول من أجله التشبّه بالرجال البيض، ولا يقوم ادعائهم الصّلْف بأنّ عليهم القبول بك على أساسٍ. لكن الأمر المرير يا صاحبي هو أنّ عليك أن تقبل بهم، وأعني ذلك بمنتهى الجديّة. عليك أن تقبل بهم، وأن تقبل بهم حُبًا، فلا أملَ آخر في هؤلاء الناس الأبرياء. فهم ما زالوا أسرى تاريخٍ لا يعونه أصْلًا، ولا يسعهم الخلاص منه حتّى يفعلوا، فقد كان عليهم التصديق لسنين طويلة ولأسبابٍ لا تحصى أنّ السود أدنى من البيض مقامًا.

     يعرف الكثير منهم الوضعَ بصورةٍ أفضل، ولكن، كما ستبيّن لك الأيام، يشقّ على الناس العملُ بما يعلمونه. فالعمل يعني الالتزام، والالتزام يعني الانكشاف إلى الخطر، والخطر الذي يقلق عقول معظم الأمريكيين ويشغل قلوبهم في هذه الحال هو خسارة هويتهم. حاول أن تتخيل إحساسك لو استيقظت ذات صباحٍ فوجدت الشمس تَرْجُف والنجوم تلتهب، سينالك الهلع لخروج الوضع عن طبيعته. فكلّ اضطرابٍ يطرأ على الكون يبعث على الخوف لأنّه يُصيب المرءَ في تصوّره لواقعه أيّما إصابة، والرجل الأسود في عالم الرجل الأبيض في منزلة النجم الثابت، عمودٌ راسخ، لو تحرّك من محلّه لاهتزّت السماء وزلزلت الأرض من أصلها.

     لا تخف. قلت إنّه لمن المقصود أن تختفي في المَعْزِل، أن تتلاشى بمنعك من تجاوز تعريف الرجل الأبيض، وبحرمانك من تهجّي مُسمّاك. لقد قمت وقام الكثير منّا بإحباط هذه النيّة، ثمّ جُعِلَ بقانونٍ جائرٍ، وبمفارقةٍ عجيبة، هؤلاء الأبرياء الذين يرون في سَجْنك أمانًا لهم يضلون عن الواقع. لكن هؤلاء الناس إخوتك، إخوتك الصغار الضائعون، ولوعنت كلمة “دمج” شيئًا لكان هذا معناها. علينا أن نجبر إخوتنا بالحبّ على رؤية أنفسهم كما هي، أن يتوقفوا عن التهرّب من الواقع، وأن يبدؤوا في تغييره. فهذا وطنك يا صاحبي، لا تسمح لأحدٍ أن يضطرك لمغادرته. لقد قام رجالٌ أجلّاءٌ بأمورٍ عظيمةٍ هنا، وسيقومون بها من جديد، فنحن نستطيع أن نجعل أمريكا ما يجب أن تكون عليه.

     سيكون الأمر عسيرًا يا جيمس، لكنك تقدم من بيئة ريفية شديدة، رجالٌ يجمعون القطن، ويشيدون السدود على الأنهار، ويبنون سكك الحديد، وحققوا مجدًا خالدًا لا غبار عليه في مجابهة خطوب الزمن. وتنحدرُ من سلالةٍ عريقةٍ من الشعراء العظماء، من أجَلِّ الشعراء منذ هوميروس، والذي قال أحدهم: “ولحظةَ شعرتُ بالضياع، انهارت زنزانتي وانحلّت القيود.”

     تعلم وأعلم أنّ البلد يحتفلُ بمضيّ مئة عامٍ من الحرية قبل أوانها بمئة عام، لا يمكن أن ننعم بالحرية حتّى يتحرروا. ليباركك الربّ يا جيمس، وبالتوفيق.

                                                                                                                                          عمّك جيمس

 

 


نُشرت هذه الرسالة في الذكرى المئوية لإعلان تحرير العبيد في  مجلة The Progressive  ديسمبر 1962.