مجلة حكمة

رأي في الترجمة – جون درايدن / ترجمة: مبارك إبراهيم

john_dryden_by_john_michael_wright_1668_ رأي في الترجمة
جون درايدن

رأي في الترجمة

 الترجمة لون من ألوان الرسم منقولًا عن الحياة، بحيث يستطيع كل واحد أن يسلم بأن هناك نوعين من المشابهة: مشابهة مليحة حسناء، ومشابهة قبيحة شوهاء.

وعمل المترجم ينقسم قسمين: أولهما أن يجيد رسم الخطوط الرئيسية، وأن يتقن تصوير الملامح، وأن يجعل التناسب بين أجزاء الصورة تامًا، وأن يعمل على أن تكون الألوان منسجمة متناسقة.

وثانيهما أن يُلبس تلك الأشياء الجافة الجامدة سترًا رقيقًا يشف عما تحته من الرقة والظرف، وذلك في القعدة أو الوقفة، وفي رسم الظلال التي تحيط بالصورة وأن يُضفي على تلك الأشياء كلها روحًا تبعث فيها الحياة.

وإني لتعروني هزة من الاشمئزاز والسكر إذا نظرت صورة شوهاء منقولة عن صورة رسمها مصور صناع اليدين فأجاد في تصويرها وأبدع. وكذلك ينتابني الهول والفزع كلما ألفيت (ڤرجيل) و (هومير) ومن لف لفهما يبصق في وجوههم أحد المترجمين المثقفين، و (ڤرجيل) و (هومير) وأمثالهما هم أولئك السادة الأفذاذ النوابغ الذين قضيت حياتي كلها في محاكاتهم والنقل عنهم.

وكيف يصدقني القراء أو يصدقون أمثالي إذا قلنا لهم إن أولئك النوابغ هم الذين اغترفنا من منابعهم كل رائع من النثر، وكل بئر من الشعر، إذا قرأوا من نقله عنهم أولئك المترجمون الجهّال الذين أشبههم بالوالغين في أمراض الناس.

ومن الناس كثيرون يعرفون اليونانية واللاتينية، ولكنهم يجهلون لسان قومهم، وخصائص اللغة الإنجليزية ودقائقها لا يعرفها إلا القليلون، وإنه لمن المستحيل حتى على من كان ذكيًا أن يحسن فهم تلك الخصائص والدقائق، ولا أقول أن يحسن استعمالها، إلا إذا أوتي حظًا عظيمًا من التعليم والتثقيف، وإلا إذا أدمن القراءة، وتمثل ما يقرؤه من آثار المجيدين القلائل، وإلا إذا درس طبائع الناس وأخلاقهم وعاداتهم، وإلا إذا قصر التحدث على النوابغ من الرجال والنساء، وإلا إذا أزال عن نفسه صدأ ما علِق بذهنه من علم قد أصابه الركود.

وليس مطلوبًا من الدارس للغة أن يعرف ما بتلك اللغة من أساليب صافية مجدية، ولا أن يعرف مَن مِن الكتاب قد برع أسلوبه، ومن منهم كان أسلوبه غثًا رديئًا، ولكن المفروض على دارس اللغة أن يعرف محاسن كل كاتب ومعايبه.

وإني لأرى الكثرة من الدارسين قد غفلوا عن هذا، بل إني لأرى كثيرًا من أذكياء الشباب يتخذون بعض الكتاب والشعراء قدوةً لهم وإمامًا، وهم يُغدقون عليهم فيوضًا من الإعجاب والتقديس، ويأخذون في محاكاتهم، غير ملقين بالهم إلى ما في نثر أولئك الكتاب أو شعر أولئك الكتاب من مآخذ وعيوب.

من أجل ذلك أرى لزامًا على كل دارس أن يتخذ من نفسه ناقدًا لكل ما يقرأ في لسان قومه، قبل أن يحاول النقل من لغة من اللغات إلى لغة قومه. وعلى الدارس أن يجيد معرفة لسان الكاتب الذي ينقل عنه، كما أن عليه أن يعرف لسان قومه هو معرفة تامة شاملة، فإن حاول ترجمة قصيد شاعر مجيد كان لزامًا عليه أن يكون هو شاعرًا مجيدًا.

وليس يكفي المترجم من لغة إلى أخرى أن تكون كلماته منتقاة منتخلة، تجري على أنماط الشعر، ولها جرسٌ موسيقي، على ما في بلوغ هذا كله من صعوبة ومشقة، ذلك أن مثل هذا المترجم قد غاب عنه سر من أخفى الأسرار، وذلك السر هو مماشاة الكاتب أو الشاعر ومحاكاته في خصائصه ومميزاته، وبخاصة تلك التي تميزه عن سائر أنداده وزملائه.

ولتقريب هذا من الأذهان تقرر أن الفكرة عند (ڤرجيل) تختلف عن الفكرة عند (أوڤيد)، بل إن المذهب الشعري وطريقة قرض الشعر عند كليهما هي جدّ مختلفة؛ وعلى الرغم من ذلك فإني أرى بين أحسن شعرائنا وأقدرهم على الترجمة من يخلط- عند الترجمة- بين المذهبين، حتى ليلتبس الأمر عليّ- لولا معرفتي بأصول القصائد- أكان القائل (ڤرجيل) أم كان (أوڤيد).

ولقد قال النقاد باللوم الشديد مصورًا من أبرع المصورين، ذلك لأن صوره تكاد تكون كلها متشابهة؛ والباعث على هذا أن ذلك المصور كان يدرس نفسه أكثر من دراسته لأولئك الذين يجلسون إليه لتصويرهم.

وإني أستطيع إذا قرأت قصائد أولئك الشعراء، أو نظرت إلى صور أولئك المصورين أن أعرف اليد التي كتبت تلك القصائد أو صورت تلك الصور، ولكني لا أستطيع أن أعرف الشاعر الذي ترجموا عنه، أو المثال الذي احتذوه ونقلوا عنه.

وإني لأؤمن أن قد يكون هناك شاعران أوتيا حلاوة اللفظ وبراعة التعبير، ولكني أؤمن أيضًا أن هناك صنفين من الحلاوة: حلاوة السكر وحلاوة الشهد.

وأنا إذ أنظر إلى (ڤرجيل) أجده يعنى بالإيجاز، ويكاد يزن كل كلمة، بل كل مقطع، كما يزن الجوهري جواهره، وهو يلجأ كثيرًا إلى الاستعارة والمجاز، حتى ليجد القارئ نفسه في حاجة إلى معجم خاص يستعينه على تفسير ما يقرؤه.

وإنك لتحس في شعر (ڤرجيل)، بل في كل شطر من أبيات قصائده جرسًا موسيقيًا يقرب إلى أذنيك الإحساس الذي يمثله ويؤديه ذلك الشطر من البيت.

و (ڤرجيل) يلجأ دائمًا إلى التنويع في روى قصائده، وذلك مخافة الإملال، ويخافه في هذا الشاعران (أوڤيد) و (كلوديان)، وإن كان كلاهما يختلف عن زميله في الأسلوب، ولكنهما يتفقان في أن لكليهما لونًا موسيقيًا واحدًا، تتلقاه في كل قصيدة تقرؤها له.

والشاعر (أوڤيد) على ما أوتي من حلاوة في القول، وبراعة في النظم، قليل التنويع والتلوين، وهو في هذا كأنه جواد لا يعرف إلا الرمحة الوئيدة، وهو إذا جرى فكأنما يجري فوق بساط من الأبسطة، فشِعره ناعم بالغ النعومة، وقوله ليّن بالغ الليونة.

أما (ڤرجيل)، فهو وإن كان قوله سهلًا إذا احتاج المقام إلى السهولة، فهو لا يتكلف تلك السهولة ولا يتصنعها، بل إنه ليبدو عليه أنه يزدري الليَّن من القول.

وهو في كل حالاته ينأى بنفسه عن الإطناب الممل، وهو يتمسّك بالجمع بين فخامة القول ووضوحه.

وهو يضيء، ولكن ضوءه لا يبهر العين، ولا يُعشي البصر…


مجلة الثقافة، العدد رقم ٦٠٦ – ٧ أغسطس ١٩٥٠